“لقد كان القمع والاستغلال والاستعمار بمثابة أركان أساسية من تاريخ القارة الإفريقية؛ ولكن ليس هذا كل شيء”… انطلاقًا من هذه العبارة استعرَض المؤرخ الألماني “كريستوف ماركس/ Christoph Marx”(*)، خلال مقاله المطول المنشور بمجلة “NZZ Geschichte” السويسرية المتخصصة في تاريخ الحضارات، كيف لم تكن إفريقيا معزولة عن العالم في الماضي، ولم تكن بحاجة لوسيط، بل إنه قبل وقت طويل من “اكتشاف” الأوروبيين للقارة السمراء، اتصلت بأجزاء كبيرة من العالم عبر شبكات التجارة الممتدة عبر مسافات بعيدة.
يستعرض الكاتب تاريخ ممالك إفريقيا القديمة والجنوب الإفريقي، كاشفًا عن ثرائها الحضاري الذي لم يُنْسَب إليها بذريعة كونها ظلت تحت نير الاستعمار الأوروبي لعقود طويلة. كما يستشهد الكاتب بأدلة تاريخية حول إرث القارة، ساردًا بعض القصص والتحليلات، التي يقدم من خلالها تصنيفًا لأحداث الماضي في سياقات أوسع تربُطها بالحاضر، وتعكس الوجه الخفي للحضارة الإفريقية الذي أراد الغرب طمسه، غير مُكتفٍ بحقبة الاستعمار.
بقلم: كريستوف ماركس
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
هكذا انتصر المُستكشِف وعالم الجغرافيا الألماني، كارل ماوخ، وحقَّق حلمه… لقد تحدَّى مُعلِّم المرحلة الابتدائية، البالغ من العمر 34 عامًا، القادم من مدينة لودفيجسبورج الألمانية، كل الصعوبات المالية ليُصبح باحثًا إفريقيًّا. لم يكن لديه ما يُؤهّله لذلك، لكنه امتلك التعطش لروح المغامرة وقدرًا لا بأس به من الفضول والفطرة. وبعد سنوات من البحث، توصَّل ماوخ إلى اكتشاف مثير للاهتمام في أدغال القارة الإفريقية؛ ففي 5 سبتمبر 1871م، أصبح “ماوخ” أول أوروبي تقع عيناه على الموقع الأسطوري المُشيَّد في قلب مدينة زيمبابوي العظمى في إفريقيا الجنوبية.
لقد سبق له أن أمضى عدة سنوات في جنوب إفريقيا؛ أقدم مستعمرة مترامية الأطراف في القارة، وسمع كافة أنواع الشائعات والأساطير حول الآثار الغامضة الواقعة شمال نهر ليمبوبو.
وانطلاقًا من اقتناع “ماوخ” بالنظريات الأوروبية السائدة في القرن التاسع عشر، والتي تتحدث عن عدم امتلاك الشعوب الإفريقية لحضارة خاصة بهم، راح يربط بين اكتشافه وقصص الكتاب المقدَّس، وتحدث عن امتلاك ملكة سبأ لمدينة زيمبابوي العظمى. وهذا الربط مُفاده: أن الموقع الذي اكتشفه لم يكن إفريقيًّا على الإطلاق.
لقد لاقت هذه الفكرة قبولًا في ألمانيا، ولفتت الانتباه إلى “ماوخ”، وجعلته يحظى بالاهتمام العام والدعم المالي. ولكن بالنسبة لإفريقيا، انطوت مثل هذه “النظريات” على عواقب وخيمة.
لقد قدَّم “ماوخ”، والعديد من الأوروبيين الآخرين، إفريقيا باعتبارها قارة لا تمتلك تاريخًا ولا حضارة خاصة بها. وإذا كان من الصعب إنكار هذا التاريخ، خاصةً وأن المباني المُكتشَفة تشهد على الطراز المختلف والمُمَيِّز للحضارة الإفريقية؛ فقد ادعى البعض أنها ذات مرجعية أوروبية، نظرًا لبقاء إفريقيا مُستعمَرة للأوروبيين لعقود طويلة. هذا الاعتقاد بأن الأفارقة لم يصنعوا حضارتهم، ولم يكونوا حتى قادرين على القيام بذلك، ظل سائدًا لفترة طويلة -وفي بعض الأحيان– استمر حتى يومنا هذا.
الذهب مقابل البضائع من آسيا:
رغم هذه الروايات إلا أن الواقع التاريخي مختلف؛ فلم تكن إفريقيا بحاجة إلى الأوروبيين لتطوير حضاراتها والدخول في علاقات تبادلية مع العالم. قبل فترة طويلة من الاستعمار، كانت هناك تجارة واسعة النطاق لم تمُرّ عبر القارة بأكملها فحسب، بل وامتدت أيضًا إلى أبعد من ذلك، وصولًا إلى الشرق الأدنى والأقصى. كما لم تكن هذه التجارة ذات أهمية اقتصادية فحسب، بل وأيضًا اجتماعية وسياسية؛ لأنها أدت إلى ظهور إمبراطوريات وممالك موازية للإمبراطوريات الأوروبية، وفي نفس الوقت مختلفة عنها وتتمتع بسمات مغايرة. لقد ضمنت مواقع دول شرق إفريقيا المختلفة على المحيطات خلق روابط مختلفة بالعالم مقارنةً بالغرب.
لقد شَكَّل هذا التاريخ التجاري أيضًا هوية وتاريخ الثقافة الإفريقية، وقد نشر التجار، في الأغلب، وليس الغُزاة، الإسلام عبر القارة، بدءًا من القرن السابع في شمال إفريقيا، ثم انتشر الإسلام في جنوب الصحراء الكبرى في القرن الحادي عشر. ما يعني أنه قبل وقت طويل من وصول الأوروبيين في العصر الحديث المبكر، شكَّل التأثير الإسلامي تَطوُّر المدن والفن والمعرفة.
وفي ذلك السياق، ينبغي النظر إلى المُجمَّع التاريخي المُشيَّد في قلب مدينة زيمبابوي العظمى الذي “اكتشفه” كارل ماوخ في جنوب القارة في عام 1871م. ويُطلَق على هذا الموقع اليوم اسم النصب التذكاري الوطني العظيم لزيمبابوي، وهو جزء من موقع التراث العالمي لليونسكو. ويُعدّ أكبر مبنى حجري في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ إذ يتألف من نحو مليون كتلة من الجرانيت منحوتة بعناية. ويبلغ وزنها الإجمالي نحو 15 ألف طن، وقد تم تكديس الكتل لتشكل جدرانًا يصل ارتفاعها إلى عشرة أمتار وسُمكها عدة أمتار. وبات من المعروف الآن أن المُجمع كان عاصمة لإمبراطورية إفريقية قديمة يعود عصر ازدهارها إلى الفترة بين عامي 1200 و1470 ميلاديًّا.
كان الذهب المُستخرَج محليًّا من مملكة زيمبابوي يتم جَلبه إلى الساحل الشرقي؛ حيث قام التُّجار المسلمون بمبادلته بالسلع المستوردة من آسيا: كالملابس الفاخرة، والخزف من الصين وإيران، والسلع الفاخرة التي استخدمها الحُكام الأفارقة لدعم هيبتهم وسلطتهم. لقد عاش هؤلاء التُجار في مدن متناثرة على طول الساحل الشرقي مثل اللآلئ المنثورة على شريط ممتد، من مقديشو (عاصمة الصومال اليوم) في الشمال إلى سوفالا (فيما يُعرَف الآن بموزمبيق). وكان سكان المناطق الداخلية يجلبون الذهب إلى هناك، ويتحكمون في طرق العرض والأسعار. وبعد تراجُع إمبراطورية زيمبابوي، خلفها ظهور إمبراطوريات أخرى شاركت أيضًا في التجارة عبر المحيطات حتى القرن التاسع عشر.
وفي أقصى الشمال، في شرق إفريقيا، لم يكن هناك ذهب لمبادلته بالبضائع، بل كان الأفارقة يبيعون العاج والفراء والجلود المأخوذة من الحيوانات البرية. وعلى مر القرون، تزوَّج التُّجار، من أصل عربي ومن إيران والهند، من أُسَر محلية، مما أدى إلى ظهور ثقافة مستقلة لها لغتها الخاصة، وهي اللغة السواحيلية.
لقد ظلت مدنهم الساحلية مثل؛ مومباسا وكيلوا تتمتعان بالاستقلال الذاتي، وكانتا متصلتين بشبكات التجارة في المحيط الهندي التي امتدت من اليابان والصين إلى ساحل شرق إفريقيا. وظلت هذه التجارة قائمة منذ القرون الأولى الميلادية، وشهدت ازدهارًا قويًّا عندما انتشر الإسلام من الشرق الأوسط عبر محطات التجارة في شرق إفريقيا منذ القرن الثامن فصاعدًا.
مرورًا بالصحراء الكبرى وحتى البحر الأبيض المتوسط:
لقد أصبحت التجارة على هذا الساحل مُمكنة بفضل الرياح الموسمية، التي جعلت السفر أسهل في أوقات محددة من العام. أما على الجانب الغربي من القارة، فكانت الظروف البيئية مختلفة، حيث كان المحيط الأطلسي مسطحًا مائيًّا خطيرًا، ولم تَسمح تيارات الرياح برحلات بحرية طويلة. نتيجة لذلك، لم تكن هناك اتصالات خارجية من جانب غرب إفريقيا. كما لم يبنوا سُفنًا مناسبة لأعالي البحار، خاصةً وأنهم مارسوا حرفة صيد الأسماك الساحلية. نتيجة لذلك، ظلت التجارة في وسط وغرب إفريقيا مقتصرة على القارة ذاتها. ومع ذلك، غطت هذه التجارة الداخلية مساحات شاسعة داخل القارة وجعلتها على اتصال ببعضها البعض.
بمرور الوقت، شجَّعت هذه التجارة طويلة الأمد على نشأة إمبراطوريات مترامية الأطراف، أي مناطق قوة مع حاكم مركزي تتمتع فيها المقاطعات بأشكال مختلفة من الحكم الذاتي. وهو على عكس ما تتميز به الدولة الحديثة، التي تطورت في أوروبا وصُدّرت إلى إفريقيا خلال الفترة الاستعمارية، والتي كانت تميل إلى توحيد النفوذ بشكل متساوٍ في جميع أنحاء الإقليم.
وعلى الساحل الغربي لإفريقيا، لم تبدأ التجارة خارج القارة إلا مع وصول البرتغاليين في أواخر القرن الخامس عشر. لكنّ الغرب كان متصلًا أيضًا بمناطق أخرى عبر المحيط، فمنذ أواخر العصور القديمة كانت هناك تجارة عبر الصحراء الكبرى إلى شمال إفريقيا، مع شبكات تمتد إلى البحر الأبيض المتوسط وأوروبا. وكانت هذه المنطقة قد أصبحت إسلامية، جزئيًّا، منذ القرن السابع، الأمر الذي أسهم في ظهور وتطور ثقافة مكتوبة ثرية هناك، على عكس العديد من المناطق الواقعة جنوب خط الاستواء؛ حيث ظلت المجتمعات هناك لا تعرف الكتابة لفترات أطول.
لقد أسهم “الجَمل” في تسهيل حركة التجارة عبر الصحراء الكبرى وجعلها مُمكنة: حيث جرت الاستعانة بالجمل في القرون الأولى بعد الميلاد. قبل ذلك، كانت القوافل موجودة بالفعل، وتقودها البغال، الأمر الذي استلزم جهدًا هائلًا لتوفير المياه، وهو ما لا تستطيع توفيره إلا إمبراطورية مركزية مثل مصر. أما الجمل فقد أتاح إمكانية السفر لمسافات طويلة من شمال إفريقيا إلى المناطق الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. كانت طرق التجارة تتغير باستمرار؛ بحكم تغير المناخ، أو تحول التجارة، أو عدم الاستقرار السياسي في بعض المناطق. شكلت الطرق أهمية أيضًا للتجارة الإقليمية. وكذلك كانت سلعة (الملح) نادرة في العديد من مناطق وسط إفريقيا، ولهذا السبب استخدم الطوارق الرواسب الغنية في الصحراء الكبرى لمقايضة المَلح بسلع أخرى مهمة.
“كانت قافلة المَلح التي انطلقت من واحة “بيلما”، فيما يُعرَف الآن بالنيجر، بمثابة مشروع لوجستي ضخم شارك فيه حوالي 3500 جمل”، بحسب قول مُستكشِف إفريقيا، الألماني “هاينريش بارث” في القرن التاسع عشر. لقد كتب بارث، الذي سافر مع هذه القافلة لبعض الوقت، قائلًا: “كان كل شيء حيًّا وقويًّا ويقدم مشهدًا مثيرًا للغاية”. وتابع “كانت قبيلة بأكملها في حالة تنقل وترحال، الرجال على الأقدام أو على الإبل، والنساء على الأبقار أو الحمير، ومعهم كل الضروريات المنزلية، حتى الخيام الخفيفة، والحصير والأعمدة، والأواني والهاون، والأوعية وأوعية الشرب، وكلها مُعلقة في تشابك ملون. وكان هناك قطيع من الماشية، وقطيع من الماعز التي تُدِرّ الحليب وعدد من الإبل الصغيرة”.
ترويج التُّجار للإسلام:
مثلما حدث على الساحل الشرقي الإفريقي، أدت التجارة الممتدة لمسافات طويلة إلى تأسيس وظهور المدن في غرب إفريقيا. وكان المسلمون هم القوة الدافعة وراء التجارة، وهو ما انعكس أيضًا على شتى مناحي التنمية الحضرية، وكان هناك مدينتان متشابهتان؛ إحداهما مقر الحاكم المحلي، والأخرى للتجار المسلمين، الذين استطاعوا أن يحكموا أنفسهم هناك. لقد مَثَّل التجار روادًا للإسلام، لأنهم بنوا المساجد، ومن خلال سُمعتهم الاجتماعية، ومعرفتهم بالمناطق الأجنبية وثرواتهم، ضمنوا أن يحظى الإسلام بالاهتمام وينتشر تدريجيًّا. ولكن لفترة طويلة من الوقت اقتصر الإسلام على النخبة، ولم يصل إلى السكان الريفيين على نطاق أوسع إلا في القرن التاسع عشر. ولم تُصبح مدن غرب إفريقيا إسلامية، بصفة عامة، إلا عندما شاع الإسلام في أواخر القرن الثامن عشر. وكانت هذه المدن، في العادة، مُحاطة بالأسوار وتُستخدَم كقلاع للدفاع، ولكنها استُخدِمت، في المقام الأول، كأماكن للتسوق. كما ازدهر النظام السياسي على هذا الأساس.
كانت أغلب هذه المدن بمثابة مراكز تجارية: أماكن يتم فيها تداول السلع، وفي حالات استثنائية فقط، يجري تصنيعها. وقعت هذه المدن على مفترق طرق تجارية مهمة أو في أماكن يمكن فيها نقل البضائع من قوافل الجمال إلى القوارب. وحيثما امتدت الأنهار أو البحيرات إلى عمق الصحراء، كان يَسهُل عبور الصحراء في فترة قصيرة نسبيًّا. وهذا ينطبق على السنغال، وعلى ما يسمى بمنحنى النيجر (في مالي الحالية)، وعلى بحيرة تشاد، وبالطبع على النيل، الذي يقطع واديه المكتظ بالسكان الصحراء من الجنوب إلى الشمال. ونشأت مدن مثل جينيه، التي لا تزال مشهورة حتى اليوم بمساجدها المبنية من الطوب اللبن، على نهر النيجر. لقد كانت طرق نقل الذهب تتلاقى هناك، وهو ما يُفسّر أهمية هذه المدينة على مر القرون.
أما مدينة تمبكتو، التي تقع في واحة على الحافة الجنوبية للصحراء (فيما يُعرَف الآن بمالي)، فتُعدّ استثناءً. لم تكن تمبكتو سوقًا فحسب، بل كانت أيضًا مدينة للعلماء، وقد اعتنقت الإسلام قبل غيرها من مدن غرب إفريقيا، واستطاعت أن تحظى بقدر كبير من الاستقلال. وقد خاب أمل القِلَّة من الأوروبيين الذين زاروا تمبكتو في القرن التاسع عشر؛ حيث وجدوا مدينة صغيرة مغبرَّة تضم ثلاثة مساجد، وتتألف من منازل منخفضة. كما وجد هاينريش بارث أن تمبكتو “لم تكن على الإطلاق مركزًا وعاصمة لإمبراطورية زنجية عظيمة”. ولكن في الوقت نفسه، أقر بارث بمكانة تمبكتو المتميزة باعتبارها “مقرًّا للفقه الإسلامي”.
وفي واقع الأمر، كان هناك ما يقرب من مائة ألف مخطوطة مُخزَّنة في منازل المدينة المتواضعة، ولم تصبح معروفة لعامة الناس إلا في العقود الأخيرة. لذا لم يكن مثيرًا للدهشة إذن أن تشمل السلع الرائجة في التجارة عبر الصحراء الكبرى الكتب والمواد اللازمة لإنتاج الكتب، الورق والجلد والمواد الخام اللازمة للحبر. وعلى طرق التجارة عبر الصحراء، لم تكن الأعمال العلمية الإسلامية وحدها هي التي تصل إلى المناطق الواقعة جنوب الصحراء الكبرى من شمال إفريقيا، بل كان العلماء أنفسهم يصلون إليها أيضًا.
وعلى الصعيد التجاري، كانت العائلات الكبيرة تتقاسم المهامّ بطريقة مثمرة. على سبيل المثال، الإخوة الخمسة لعائلة المقري من تلمسان في الجزائر، الذين شاركوا في التجارة عبر الصحراء في القرن الثالث عشر: قام شقيقان بتنظيم شراء السلع المتجهة جنوبًا في مقر الشركة في تلمسان. وفي سجلماسة في جنوب شرق المغرب؛ حيث بدأت الرحلة عبر الصحراء، ونظَّم شقيق ثالث النقل اللاحق، بينما في الطرف الجنوبي من الطريق، استلم شقيقان البضائع، ورتبوا لإعادة بيعها ونظَّموا القوافل والسلع التجارية لرحلة العودة.
وباعتبارها نقاط بداية ونهاية لطرق القوافل، قدمت المدن للتجار الأمن؛ لأنها كانت مُحاطة بالأسوار. وفي المناطق التي مرت بها التجارة عبر الصحراء، وُجِدَتْ المخاطر على طول الطريق، الأمر الذي أسهم في نشأة إمبراطوريات أكبر يمكنها ضمان طرق آمنة للتجارة، وفي الوقت نفسه توليد الأموال لبناء إدارة فعّالة من خلال فرض الضرائب والجمارك. بالإضافة إلى ذلك، استفادت النخب الحاكمة هناك من الرواج والازدهار التجاري؛ لأنها حصلت على سلع فاخرة ومرموقة.
ممالك ضخمة وليدة التجارة:
نظرًا لأن التجارة عبر الصحراء كانت منظمة على نطاق واسع، ولأن وجود الخيول زادت من قدرة الجيوش على الحركة؛ فقد نمت بعض هذه الإمبراطوريات وتمكنت من السيطرة على العديد من طرق التجارة في نفس الوقت. في العصور الإسلامية المبكرة، شملت هذه الإمبراطوريات؛ إمبراطورية غانا فيما يُعرَف الآن بموريتانيا (حوالي 700 إلى 1250م)، ثم إمبراطورية مالي (حوالي 1230 إلى 1672م) على الروافد العليا لنهر النيجر، والتي بدأت في الانحدار تدريجيًّا في القرن الخامس عشر. وتبعتها أكبر إمبراطوريات غرب إفريقيا، سونغهاي (حوالي 1430 إلى 1591م).
ويبدو من هذه الأسماء كيف أرادت الدول الإفريقية، ما بعد الاستعمار، البناء على هذه العصور الذهبية واستبدلت الأسماء الأوروبية مثل ساحل الذهب بغانا أو السودان الفرنسي بمالي. وفي القرن الرابع عشر، شملت إمبراطورية مالي مساحة كبيرة مثل إمبراطورية شارلمان، لكنها بلغت ذروة ازدهارها بعد ذلك بـ500 عام. لُقِّب حاكم إمبراطورية مالي بـ “مانسا”، وأصبح شديد الثراء بفضل جمع الضرائب من التجارة.
أما إمبراطورية سونغهاي، التي ظهرت بعد إمبراطورية مالي، فكانت تفوقها حجمًا، وفي عهد أول حاكم مسلم لها، أسكيا محمد (1493-1528م)، امتدت بدايةً مما يُعرَف الآن بشمال نيجيريا غربًا إلى ساحل المحيط الأطلسي عند مصبّ السنغال. وكما هو الحال في الإمبراطوريات الأخرى، كانت الطبقة الحاكمة إسلامية، بينما التزم عامة السكان في الغالب بدينهم التقليدي، والذي كان مختلطًا إلى حد ما بالمعتقدات الإسلامية.
وكثيرًا ما فعل الحُكام المحليون الشيء نفسه؛ فقد اتخذ سلطان مملكة باغيرمي، وهي مملكة تقع جنوب بحيرة تشاد، اسمًا إسلاميًّا، ولكنه كان يجلس خلف ستار أثناء مقابلاته، وهي سمة تميز الشعائر والممارسات التي سبقت الإسلام والتي تتلخص فيما يُعرَف بـ”الملكية المقدسة”، كما يسميها علماء الأعراق اليوم؛ حيث كان الحاكم يُعامَل باعتباره كائنًا من مرتبة أعلى، ويتمتع بقوى روحية خاصة وكاريزما موروثة. لكنّ مثل هذه الأفكار لم تكن في الواقع متوافقة مع المبادئ الإسلامية، ولكنها كانت ضرورية لإضفاء شرعية الحاكم بين السكان.
هكذا نشأت الإمبراطوريات من التجارة، وظلت معتمدة عليها وعلى دوراتها الاقتصادية؛ فعندما تتغير طرق التجارة، كان من الممكن أن تبدأ مرحلة انحدار هذه الامبراطوريات. ومن ناحية أخرى، سقطت مملكة سونغاي ضحية لتطلعات القوة العظمى. فقد غزا أحمد المنصور، ملك المغرب، الإمبراطورية في عام 1591م لوضع حد للإمبراطورية العثمانية التي كانت متوسعة بنفس القدر. وفي القرن السادس عشر، كان العثمانيون قد أخضعوا مصر ثم ساحل شمال إفريقيا حتى الجزائر الحالية. وقد خفت هذه القاعدة بمرور الوقت، ولكن في القرن التاسع عشر بدأ الحكام العثمانيون المحليون، وخاصة في ليبيا، في التوسع مرة أخرى، هذه المرة باتجاه الجنوب، من أجل السيطرة على طرق التجارة عبر الصحراء الكبرى. وفي المقابل، كانت مملكة (كانم-برنو) على بحيرة تشاد مستقرة، بشكل خاص. فقد حكمتها نفس السلالة لأكثر من ثمانمائة عام؛ لأن طرق التجارة المستقرة كانت تؤدي من البحيرة إلى شمال إفريقيا، وتتقاطع مع طرق الحج من غرب إفريقيا إلى مكة.
صناعة المنسوجات في الصدارة:
لم تكن كل المدن التجارية عبارة عن مراكز تجارية بمعنى أنها كانت نقاط شحن بحتة. وعلى وجه الخصوص، كانت مدن الهاوسا، وهي مجموعة عرقية في شمال نيجيريا الحالية، أماكن للإنتاج المكثف: لقد امتلكت صناعة نسيج خاصة بها. لم يكن القطن يُزرع في المنطقة فحسب؛ بل كانت سلسلة الإنتاج بأكملها موجودة، من الحصاد إلى الغزل والنسيج إلى حياكة الملابس. ووصف الباحث الإفريقي هاينريش بارث، بلد الهاوسا بأنه “واحد من أسعد بلدان العالم”.
وفي مقارنته بأوروبا، كانت النتيجة لصالح إفريقيا، لأنه في كانو، أكبر وأهم مدن الهاوسا والتي يُقدَّر عدد سكانها بنحو 30 ألف نسمة، كانت المنسوجات تُنتَج في شركات عائلية مستقلة. ونتيجة لذلك، شارك عدد أكبر من الناس في الرخاء مقارنة بأوروبا؛ حيث كان يعمل عدد كبير من العُمّال في مصانع النسيج مقابل دخل ضئيل. في أغلب الأحيان، لجأ بارث إلى التنقل داخل المدينة مُمتطيًا الخيل حتى يتمكن من مراقبة حياة الناس بشكل أفضل. لقد رأى “صور الراحة الهادئة والسعادة المنزلية، فضلًا عن العمل الجاد؛ حيث مثلت الهوسا صورة للاجتهاد الصناعي، فيما عكست أوروبا آنذاك صورة أخرى للامبالاة المطلقة”.
لقد شهدت مدينة كانو نهضة مع تطور إنتاج المنسوجات، وأصبحت وجهة الطرق عبر الصحراء الكبرى التي بدأت من طرابلس فيما يعرف الآن بليبيا. وفي منتصف القرن التاسع عشر، وجد بارث شفرات سكين من زولينجن بألمانيا في سوق كانو، مما يدل على مدى تدويل التجارة في عصر ما قبل الاستعمار. والواقع، تظل مذكرات بارث عن رحلاته واحدة من أهم مراجع التاريخ الاقتصادي لمنطقة غرب إفريقيا في القرن التاسع عشر. باعتباره باحثًا يتحدث أربع لغات إفريقية، ولديه إلمام بمجموعات من المفردات للعديد من اللغات الأخرى، أسهم بارث بشكل كبير في المعرفة الإثنوغرافية والتاريخية لغرب إفريقيا. فكان العديد من المستكشفين الآخرين يبحثون عن المغامرة وصيد الحيوانات الكبيرة، أو كانوا يفكرون، أولًا، في إمكانيات الغزو الأوروبي في أواخر القرن التاسع عشر. أما بارث، فكان مهتمًّا بالأفارقة وتاريخهم وثقافاتهم. كانت كتاباته خالية، إلى حد كبير، من الازدراء العنصري المعتاد؛ أراد تعزيز التجارة الدولية ولم يعتقد أن الاحتلال الاستعماري الأوروبي كان ضروريًّا لتحقيق ذلك.
لقد حمت إمبراطوريات غرب إفريقيا العظيمة التجارة الواسعة عبر الصحراء الكبرى، واستفادت منها أيضًا. ولكن، في أماكن أخرى من القارة، كانت هناك مجتمعات عديدة تُدير أعمالها دون أي حُكم منظم، واستندت، في الأساس، إلى شبكات عائلية واسعة النطاق. مثل هذه الدول شاركت في التجارة مثل الإمبراطوريات العظمى، لكنَّ التجارة الإقليمية للسلع اليومية ظلت هي الأكثر أهمية. وكانت غالبًا في أيدي النساء، خاصةً في غرب إفريقيا الساحلية؛ وفي العصور ما قبل الاستعمارية، قاموا ببناء شبكاتهم التجارية وهياكل السوق الخاصة بهم. علاوة على ذلك، كانت المدن القديمة، مثل تلك التي كانت في اليوروبا (فيما يُعرَف الآن بجنوب غرب نيجيريا)، تتمتع بثقافة متميزة تشبه ظاهريًّا ثقافة العصور القديمة الأوروبية، مما أدى إلى ظهور تكهنات بعيدة المدى حول العلاقات القديمة بين إفريقيا وأوروبا، والتي لم يكن من الممكن التحقق منها تجريبيًّا.
البرتغال تدشن مُجمَع المزارع:
سواء كانت إمبراطوريات أو مدنًا أو دولاً؛ تغيرت الهياكل الاجتماعية التي تطورت في القارة منذ أوائل العصور الوسطى بشكل كبير بعد ظهور الأوروبيين على ساحل غرب إفريقيا في القرن الخامس عشر.
كان البرتغاليون أول مَن فعل ذلك؛ مثل الإسبان، فكانت لديهم حاجة ماسّة للذهب؛ حيث اعتمدت العملات في شبه الجزيرة الأيبيرية على الذهب، ولأنهم أرادوا تجنُّب الوسطاء العديدين؛ تقدّم البرتغاليون جنوبًا على طول الساحل الغربي لإفريقيا. ومنذ سبعينيات القرن الخامس عشر فصاعدًا، توافد البرتغاليون بانتظام على ساحل غرب إفريقيا؛ حيث تمكنوا من تحويل طرق التجارة لصالحهم، على الأقل بسبب رواسب الذهب الموجودة بالقرب من الساحل. وفي النهاية، عثروا أيضًا على مصب نهر الكونغو الضخم، وهناك دخلوا في اتصال مع الإمبراطورية التي تحمل الاسم نفسه فيما يُعرف الآن بـ”أنجولا”.
وعلى ساحل وسط إفريقيا، على الجزيرة التي أطلقوا عليها اسم (ساو تومي)، طوَّر البرتغاليون أولًا ما يسمى بـ”مجمع المزارع”؛ والذي خُصِّص لزراعة قصب السكر على مساحات واسعة، والتي قام بها العبيد الأفارقة. وانتقل هذا النظام عبر المحيط الأطلسي في القرن السادس عشر، أولًا إلى البرازيل، التي طالبت بها البرتغال أيضًا. ونتيجة لهذا، أصبح الساحل الغربي الإفريقي المركز الرئيسي لتجارة الرقيق عبر الأطلسي التي حافظ عليها الأوروبيون. ومن القرن السابع عشر إلى القرن التاسع عشر، نقلوا حوالي ثلاثة عشر مليون شخص عبر المحيط الأطلسي.
لقد كانت العبودية موجودة في إفريقيا من قبل؛ إذ يفقد أسرى الحرب حريتهم، ويمكن بيعهم كعبيد. ولهذا السبب أدى الطلب الأوروبي على العبيد إلى تأجيج الحروب داخل إفريقيا، وكانت التجارة المتنامية في السلع البشرية فرصة اغتنمها أصحاب السلطة في الإمبراطوريات الساحلية. وبنى البعض جيوشًا قوية تمكَّنوا من خلالها من تأمين إمدادات من أسرى الحرب. لقد حقَّقت إمبراطوريات مثل داهومي وأشانتي مكانة القوى العظمى الإقليمية؛ لأنها تخصَّصت في صيد العبيد، وبالتالي اكتسبت امتياز الوصول إلى سلع المقايضة الأوروبية، مثل الأسلحة النارية. وأخيرًا، بعد وقت قصير من وصول البرتغاليين، وصل الأوروبيون الآخرون وزاد الطلب من خلال المنافسة، وانتشرت تجارة الرقيق، وزاد عدد الحروب والغارات في إفريقيا بشكل مطرد. وبلغت ذروة الاتجار بالبشر في عصر التنوير الأوروبي، أي في القرن الثامن عشر.
لم يمتد مجمع المزارع من غرب إفريقيا عبر المحيط الأطلسي إلى أمريكا فحسب، بل وأيضًا عبر الصحراء الكبرى إلى مصر، وعبر البحر الأحمر إلى شبه الجزيرة العربية وعبر المحيط الهندي إلى العراق والهند. وعلى ساحل شرق إفريقيا كان يديره المسلمون، وفي القرن التاسع عشر جرى تأسيسه، بشكل أساسي، عبر جزيرة زنجبار قبالة ساحل ما يُعرَف الآن بتنزانيا. ومن الساحل الشرقي، توغَّل تُجار الرقيق في عمق المناطق الداخلية الإفريقية. حتى إن بعض التجار الأقوياء، مثل تيبو تيب (1832 إلى 1905م)، أنشأوا أراضيهم الخاصة. وكما حدث على الساحل الغربي، ساهمت تجارة الرقيق هنا أيضًا في زعزعة استقرار المجتمعات الإفريقية من خلال الحروب والغارات وخسارة الأفراد. وهذا غالبًا ما سهَّل على الأوروبيين لاحقًا شقّ طريقهم عسكريًّا وإخضاع الأفارقة.
المواد الخام بدلًا من العبيد:
في مطلع القرن التاسع عشر، تخلت أوروبا رسميًّا عن تجارة الرقيق الخاصة بها. وفي بريطانيا العظمى على وجه الخصوص، تشكَّلت حركة مناهضة للعبودية. وكانت قادرة على حشد الجمهور إلى الحد الذي جعل البرلمان البريطاني يحظر تجارة الرقيق في عام 1808م وملكية العبيد في جميع أنحاء الإمبراطورية في عام 1838. وبفضل قوتهم البحرية المتفوقة، تمكَّن البريطانيون من فرض هذا الحظر على الأوروبيين الآخرين أيضًا. وقد أدى ذلك إلى تغييرات بعيدة المدى في إفريقيا، حيث وجد صيادو العبيد وتُجار العبيد الأفارقة أنفسهم، فجأة، محرومين من مصدر دخلهم. لقد وجدوا بدائل من خلال إنشاء المزارع بأنفسهم أو الشروع في التجارة في سلع أخرى.
من هنا بدأ العصر العظيم لما أطلق عليه الأوروبيون التجارة “المشروعة”، فبدلًا من تجارة الرقيق، زوَّدتهم إفريقيا بالمواد الخام، وخاصة زيت النخيل وبذور النخيل والمطاط، والتي كانت مطلوبة كمواد تشحيم للثورة الصناعية في أوروبا. وفي الوقت نفسه، استمرت تجارة الرقيق، على الرغم من حظرها رسميًّا. لقد قام الأوروبيون، وكذلك الأمريكيون والبرازيليون، بتهريب العبيد الذين اشتروهم من الأفارقة. وتشكلت الجمعيات التنصيرية من حركة مناهضة العبودية، على أمل ثني الأفارقة عن الاتجار بالبشر.
وكذلك استقر التجار الأوروبيون بالفعل في قواعد صغيرة على الساحل في الفترة الحديثة المبكرة. وفي القرن التاسع عشر، وصل المبشرون والمستكشفون والمستوطنون البيض في جنوب القارة. خلال هذا القرن، أصبح الأوروبيون متورطين، بشكل متزايد، في الصراعات الإفريقية. وبسبب تفوقهم التقني، وخاصة العتاد والأسلحة، غالبًا ما تم استدعاؤهم للمساعدة، وتمكنوا من توسيع نفوذهم. وفي بعض المناطق، انضم الجنود المرابطة قريبًا إلى هذه القوات؛ لقد تدخلت فرنسا تحديدًا في وقت مبكر. ففي عام 1830، حاول نظام بوربون، الذي هددته الثورة، استعادة شعبيته من خلال المغامرات الأجنبية، وبدأ في غزو الجزائر. وبعد الحرب الفرنسية البروسية في عامي 1870 و1871م، بحث الضباط العسكريون الفرنسيون في غرب إفريقيا عن سبل للتعويض عن عار الهزيمة وخسارة إقليم الألزاس واللورين من خلال اكتساب الأراضي في إفريقيا، ومن السنغال، بدأوا في التوسع في الداخل.
هكذا انتقلت المنافسات الأوروبية إلى الساحة الإفريقية. وفي نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر، اشتدت وتيرة توسع المستعمرات الأوروبية إلى ما يُعرَف باسم “الصراع على إفريقيا”. وانتهى الأمر بتقسيم القوى الأوروبية للقارة فيما بينها في معاهدات مطولة في ثمانينيات القرن التاسع عشر. ولم يكتشف الأفارقة ذلك إلا عندما نزلت القوات الأوروبية، وبدأت في غزو الأراضي التي طالبت بها حكوماتهم. وتم الخضوع العسكري بوحشية غير مسبوقة. ولم يكن من قبيل المصادفة أن تقيد اتفاقية لاهاي بشأن الحرب البرية لعام 1899 قواعد “الحرب المتحضرة” الخاصة بالأوروبيين، ففي الحروب ضد “غير المتحضرين” و”البرابرة” و”المتوحشين”، كان حق الأقوى ساريًا دون أي قيود.
العنصرية نواة المشروع الاستعماري:
عقب الاستيلاء على المستعمرات الجديدة، ترسخت سريعًا الأنماط الأساسية للحكم الاستعماري، واستمرت إفريقيا في توريد المواد الخام لصالح الصناعة الأوروبية، في حين تحولت شروط التجارة، بشكل حاسم، لصالح الأوروبيين. لم تُبع السلع المصنَّعة الإفريقية إلا في إفريقيا ونادرًا ما وصلت إلى أوروبا أو آسيا، في حين أصبحت إفريقيا، بشكل متزايد، وجهة للسلع الصناعية الأوروبية: الأسلحة والملابس والكحول. وحتى منتصف القرن التاسع عشر، اعتقد “هاينريش بارث” أن العلاقات التجارية مع الأفارقة يمكن تعزيزها على أساس المساواة. ولكن بعد بضعة عقود، ترسخت الدوافع الاستعمارية: الحروب والعمل القسري والاستغلال. لقد تحول الأفارقة من كونهم مُنتجين مستقلين إلى عمال بالأجر.
في القرن الثامن عشر، واصلت القارة خسائرها البشرية باستمرار بسبب تجارة الرقيق. والآن فقدت المواد الخام، في حين لم يفعل الأوروبيون سوى القليل لفتح مجالات اقتصادية جديدة في إفريقيا من شأنها أن تعود بالنفع على الأفارقة أنفسهم. فلا تزال شبكات النقل تشهد على ذلك، فكانت موجهة بالكامل نحو الاستغلال الاستعماري؛ حيث ربطت خطوط السكك الحديدية المدن الساحلية بمناطق التعدين أو المناطق الزراعية التي تقوم بإنتاج المواد الخام لصالح الأسواق الأوروبية، مثل زيت النخيل أو المطاط أو الكاكاو. وحتى العواصم غالبًا ما كانت تُقام على البحر؛ لأن الإدارات الأوروبية اعتبرت نقل المواد الخام أكثر أهمية من “تنمية” مستعمراتها. وكانت إعلانات النوايا في هذا الصدد مجرد عبارات جوفاء.
إذن، كيف يمكن تبرير الحكم الأجنبي؟ لم تكن العنصرية مجرد متلازمة للاستعمار؛ فقد كانت في الأصل أيديولوجية لإضفاء الشرعية على تجارة الرقيق، ثم أصبحت مكونًا أساسيًّا للمشروع الاستعماري في القرن التاسع عشر. لقد افترض الأوروبيون تَخلُّف الأفارقة وعجزهم، وبذلك بنوا صورة مهينة لتاريخ الأفارقة ما قبل الاستعمار. وأصبحت إفريقيا “قارة مظلمة” اتسمت دائمًا بـ”النزاعات القبلية” والصراعات العرقية.
لقد عبَّر الباحث الألماني في شؤون إفريقيا، جورج شفاينفورث، الذي تمتع بشعبية خاصة في ذلك الوقت، عن الأمر على هذا النحو في عام 1875م، بقوله: “في جنوب الصحراء الكبرى، ندخل عالمًا جديدًا، أرض السود، عالم معروف منذ زمن سحيق، ولكنه في حد ذاته مجرد من أيّ مقياس للزمن؛ فهو لا يعرف العصور الحديثة ولا العصور القديمة، ولا يوجد فيه تاريخ ولا آثار للاجتهاد البشري، وكل تجربة تنتهي مع حياة الفرد، ولا يمكنه حتى متابعة التطلعات الثقافية للعالم التاريخي بخطوة واحدة. ولو لم يتدخل الأوروبيون، لكان الأفارقة قد قتلوا بعضهم بعضًا”.
ما بدا، في البداية، وكأنه فضول في مذكرات “رحلة كارل ماوخ”، وبالتحديد الاستيلاء على زيمبابوي الكبرى لصالح الحضارة الأوروبية، وتبيّن كونه في الأصل محور المشروع الاستعماري، لقد أنكر الأوروبيون على الأفارقة تاريخهم وثقافتهم. ومن هنا استمدّوا المطالبة والمهمة المتمثلة في تصدير الحضارة إليهم. وكانت هذه العنصرية واضحة، بشكل خاص، في المستعمرات التي عاش فيها المستوطنون الأوروبيون. لقد برروا امتيازاتهم من خلال تصوير الأفارقة على أنهم بدائيون وغير متحضرين، وغير متقدمين.
إرث ثقيل:
لا يزال هذا الإرث الثقيل يُلقي بظلاله السلبية على القارة. وحتى يومنا هذا، يعتقد العديد من الأوروبيين أن إفريقيا قارة مكونة من القرى، ويغلب عليها أنماط الحياة الريفية. ولكنّ لاجوس في نيجيريا، وكينشاسا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وغيرها من العواصم الإفريقية الكبرى هي مدن ضخمة يزيد عدد سكانها بشكل كبير على عشرة ملايين نسمة. وبحلول عام 2030م، سوف يعيش 742 مليون إفريقي في المدن. ولكن في الوقت نفسه، يتزايد الفقر في إفريقيا مع نمو المناطق الحضرية، أكثر من أيّ قارة أخرى. وكثيرًا ما يحيط بالمدن الداخلية الحديثة بأبراجها الشاهقة ذات الواجهات الزجاجية أسراب ضخمة من الأحياء الفقيرة.
وإذا قارنا هذه الظروف بالمدن التي وصفها “هاينريش بارث” قبل نحو 150 عامًا بأنها أماكن للتجارة العالمية، مثل تمبكتو، باعتبارها مركزًا للعلم؛ فسوف يتضح لنا على الفور أن تبعات الحكم الاستعماري كانت شديدة العنف ومبنية على الاستغلال والاستنزاف. وإذا أخذنا في الاعتبار الافتقار إلى الاستثمار الأوروبي وإهمال الصناعة المحلية لصالح الإنتاج أحادي الثقافة لتلبية احتياجات أوروبا، فإن النتيجة واضحة، ربما كان اقتصاد إفريقيا ليتطور بوتيرة أكثر بُطْئًا، لكنها أكثر توازنًا وقبولًا اجتماعيًّا، لو لم تخضع القارة للأوروبيين. وفوق كل شيء، ترك الأوروبيون وراءهم إرثًا لا يزال يثقل كاهل العديد من البلدان الإفريقية اليوم: الجيوش التي غالبًا لم تكن للدفاع ولكن لقمع السكان، كما أظهرت الانقلابات الأخيرة في غرب إفريقيا، في مالي (2021م)، وبوركينا فاسو (2022م)، والسودان (2023م) والنيجر (2023م).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ التاريخ غير الأوروبي في جامعة دويسبورج- إيسن، وهو متخصص في تاريخ إفريقيا وتحديدًا جنوب القارة.
رابط التقرير: