بسمة سعد
باحثة في المركز المصري للفكر والدراسات الإستراتيجية
في حدث استثنائي ومفصلي في تاريخ العمليات الخارجية لمجموعة فاغنر العسكرية الروسية بشكل عام وإفريقيا بشكل خاص، تكبَّدت عناصر فاغنر خسارة فادحة في أحد أهم معاركها المندلعة منذ أغسطس 2023م في محاربة وطرد الطوارق، وهي معركة “تنزواتن” الواقعة على الحدود المالية الجزائرية، التي تكمن أهميتها في كونها بمثابة آخر خطوة في الإستراتيجية المالية الروسية للقضاء على الطوارق عقب سيطرتهم على منطقة كيدال، التي تُعدّ المعقل الرئيسي للطوارق في نوفمبر 2023م، كما أنها في الوقت نفسه تُعدّ بمثابة بصيص أمل ونور لطوارق مالي للتمسُّك بحلم دولة انفصالية للأزواد من جانب، ولاستعادة سيطرتهم على أراضيهم مرة أخرى من الحكومة المالية من جانب آخر، وهو ما يدفع للتساؤل حول: ما أسباب خسارة فاغنر في معركة “تنزواتن”، وما تملكه موسكو من خيارات للرد على هذه المعركة؟
انطلاقًا مما سبق، تهدف المقالة لمناقشة الأسباب المتعددة التي وقفت وراء خسارة مجموعة فاغنر لمعركة “تنزواتن” على الحدود المالية الجزائرية، يسبقها تناول ما ورد من تفاصيل بشأن المعركة وحجم الخسائر وطبيعة دور جماعة نصرة الإسلام والمسلمين فيما تكبَّدته فاغنر من خسائر، بالإضافة إلى تناول خيارات موسكو ومجموعة فاغنر للرد على خسارتها معركة “تنزواتن”، واستعادة صورتها في مالي وخارجها مرة أُخرى.
أولًا: تقدُّم الطوارق من بعد تعثر… تفاصيل معركة تنزواتن
خاض الجيش المالي، وبجانبه مقاتلو مجموعة فاغنر العسكرية الروسية خلال الفترة (22- 27 يوليو 2024م) معركة طاحنة في مدينة تنزواتن الواقعة على الحدود المالية الجزائرية، تكبَّدت فيها، ولأول مرة، عناصر فاغنر خسائر فادحة، أعربت عنها في بيان استثنائي، أشارت فيه إلى تحقيق المجموعة “سلسلة من الانتصارات التكتيكية أعقبتها خسائر”، مُرجعًا هذه الخسائر إلى عاصفة رملية سمحت لمتمردي الطوارق بإعادة تجميع صفوفهم وزيادة عدد مُسلحيهم إلى 1000 عنصر([1])، بالإضافة إلى تنفيذ متمردي الطوارق هجمات مُكثفة وواسعة النطاق باستخدام أسلحة ثقيلة وطائرات غير مأهولة([2]).
وبخلاف العاصفة الرملية والهجمات المكثفة والمجهزة عسكريًّا؛ تجنَّبت عناصر فاغنر والجيش المالي الحديث عن الأسباب الواقعية التي قد تكون سببًا فيما تعرَّضوا له من خسارة فادحة، أبرزها؛ أن القوات المالية وعناصر فاغنر كانت مرهقة للغاية إثر المعارك المتوالية والمكثفة المندلعة مع متمردي الطوارق منذ أغسطس 2023م، إلى جانب ما يتعرضون له من هجمات إرهابية من فرعي داعش والقاعدة، بالإضافة إلى أن القوات المالية والروسية المشتبكة مع متمردي الطوارق كانت مكونة من 12 مركبة عسكرية فقط، وعند مطالبتهم بدعم عسكري وصل دعم قوامه نحو 70 جنديًّا فقط، وهذا العدد لم يكن كافيًا، وذلك أمام قوة بلغ عددها 1000 عنصر من متمردي الطوارق([3]).
وبينما أعلن الجيش المالي عن مقتل جنديين فقط وإصابة 10 آخرين من قواته إلى جانب ادعائه تمكّنه من مقتل 20 من متمردي الطوارق، وتدمير عدة مركبات تابعة له، فلقد أكدت مجموعة فاغنر مقتل قائد الفصيل الـ13 التابع لها “سيرغي شيفتشينكو”([4]).
كما أفادت بعض مواقع التواصل الاجتماعي تليجرام التابعة لمجموعة فاغنر، بأن عدد قتلى فاغنر قد بلغ أكثر من 80 عنصرًا، إلى جانب أَسْر نحو 15 آخرين، مع تداول مقاطع فيديو لقتلى فاغنر وعدد من أسراهم([5])، وهو عدد قتلى يفوق عدد قتلى القوات الفرنسية (59) منذ انتشارها في مالي على مدار نحو 9 سنوات([6]).
وأفادت أنباء غير مؤكدة بأن مدير قناة Grey Zoneالتابعة لفاغنر على موقع التواصل الاجتماعي Telegram كان من بين قتلى معركة تنزواتن، كما أن هناك أنباء متضاربة بشأن مصير أنطون يليزاروف قائد مجموعة فاغنر، الذي تولى قيادة المجموعة عقب مقتل قائدها السابق “يفغيني بريجوجين”، بعدما أفادت تقارير غير مؤكدة بأن “يليزاروف” من بين قتلى معركة تنزواتن([7])، في حين يزعم أندريه يوسوف، ممثل مديرية الاستخبارات الرئيسية بوزارة الدفاع الأوكرانية بأن “يليزاروف” تم أَسْره مع عدد من عناصر فاغنر، بينما أكد “بوريس روزين” مدير قناةColonelcassad على تليجرام أن “يليزاروف” تم تحريره في صفقة تمت بوساطة الفيلق الإفريقي التابع لوزارة الدفاع الروسية([8]).
على الجانب الآخر، أعرب المتحدث باسم الإطار الإستراتيجي الدائم للدفاع عن شعب أزواد “محمد المولود رمضان” عما حققه متمردو الطوارق من نجاح ميداني استثنائي أمام عناصر فاغنر وقوات الجيش المالي، بقوله: “قواتنا دمّرت بشكل حاسم أرتال العدو… تم الاستيلاء على كمية كبيرة من المعدات والأسلحة… وبعض الجنود الماليين والمرتزقة من مجموعات فاغنر استسلموا للمقاتلين من الطوارق”.
كما أضاف “رمضان” في بيانه أن المعارك أسفرت عن مقُتل 7 من عناصره وإصابة 12([9])، وهو ما يجعل من معركة تنزواتن أولى وأبرز المعارك التي خسرتها مجموعة فاغنر في تاريخ عملياتها الخارجية عمومًا، وفي إفريقيا على وجه الخصوص منذ انخراطها في العام 2017م. كما أن معركة تنزواتن هي الأولى التي يُسجّل فيها متمردو الطوارق نجاح عملياتي في ساحة الحرب، منذ أن تمكنت قوات الجيش المالي، بدعم من عناصر مجموعة فاغنر من السيطرة على العاصمة الأزوادية كيدال، ومعقل الطوارق في نوفمبر 2023م([10]).
وعلى خط المعركة دخل تنظيم القاعدة بعدما أعلن فرعه في إفريقيا “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” عن خوضه معارك منفصلة في تنزواتن، حقق خلالها انتصارًا على قوات الجيش المالي وعناصر مجموعة فاغنر، دعمها بتداول مقاطع فيديو لقتلى فاغنر، وعدد من أسراها، وهو ما أثار تساؤلًا مفاده: هل هناك تنسيق عملياتي بين متمردي الطوارق ومسلحى تنظيم القاعدة خلال المعركة، على الرغم من اختلاف أيديولوجياتهما وأهدافهما؟([11])، وهو ما نفاه الطوارق بشكل تام؛ حيث إن وجود علاقات اجتماعية وتنظيمية راسخة بين مسلحي تنظيم القاعدة ومتمردى الطوارق منذ سنوات في منطقة كيدال، لم يمنع العداء الواضح بين الطرفين العائد إلى العام 2012م، عندما تصارع الطرفان على ترسيخ نفوذهما في شمال مالي.
لكن في الوقت نفسه، فإن المعطيات الميدانية قد تفرض على متمردي الطوارق ومقاتلي القاعدة التعاون في ساحة المعركة في ظل وحدة الهدف الممثل في محاربة وطرد القوات المالية وعناصر فاغنر من إقليم الأزواد شمال مالي، وهو ما يُستدل عليه بما ورد في بيان مجموعة فاغنر الصادر بشأن المعركة الذي أكد على أن الطرفين كانا يقاتلان معًا في ساحة المعركة([12]).
كما سبق أن دعا زعيم المجلس الأعلى لوحدة أزواد “الغباس آغ إنتالله”، المجلس العسكري الانتقالي إلى الموافقة على اتفاقية عدم اعتداء مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين عقب شهر من اندلاع الاشتباكات بينهما في وسط مالي في العام 2024م([13]).
ثانيًا: أسباب خسارة مجموعة فاغنر معركة “تنزواتن”
لكون معركة “تنزواتن” معركة استنئائية، هناك العديد من الأسباب/ العوامل المباشرة المرتبطة بالمعركة وغير المباشرة التي تقف وراء تحقيق متمردي الطوارق انتصارًا ميدانيًّا لافتًا، على عناصر فاغنر وقوات الجيش المالي، هي كالتالي:
1- الدعم الاستخباراتي الأوكراني للطوارق
يبدو أن ساحة المعارك والتنافس في مالي سجَّلت انخراطًا أوكرانيًّا غير معهود، بعدما وردت عدة مؤشرات تكشف عن أن لكييف دورًا خفيًّا فيما حققه متمردو الطوارق من انتصار في معركة “تنزواتن”؛ حيث أكد أندريه يوسوف، ممثل مديرية الاستخبارات الرئيسية بوزارة الدفاع الأوكرانية، أن الطوارق تلقوا المعلومات اللازمة وغيرها من الوسائل، التي ساعدتهم بإجراء عملية عسكرية ناجحة في “تنزواتن”([14]).
على الجانب الآخر، أفادت صحيفة روسيا اليوم بأنها حصلت على مقاطع فيديو لمرتزقة أوكرانيين يُقاتلون إلى جانب متمردي الطوارق، وأن مدير قناة GREY ZONE التابعة لمجموعة فاغنر على تليجرام كان سيقوم بنشر صور تُثبت نقل مجموعة من متمردي الطوارق إلى أوكرانيا لتدريبهم على استخدام الطائرات غير المأهولة، ولكنّ مقتله حال دون نشر هذه الدلائل، بينما تم تداول بعض الصور لأحد الجنود الحاملين العلم الأوكراني إلى جانب متمردي الطوارق([15])، وهو الأمر الذي نفاه ممثل تنسيقية الحركات الوطنية الأزوادية “سيد بن بيلا الفردي: جُملةً وتفصيلاً، مُشيرًا إلى أن ما يتم تداوله من صور هي صور مفبركة، مؤكدًا عدم صحة وجود تعاون عسكري بين الطوارق وأوكرانيا([16]).
وعلى كافة الأحوال، فإنه على الرغم من عدم توافر معلومات واضحة بشأن أشكال الدعم الأوكراني للطوارق في المعركة، وهل الأمر اقتصر على معلومات استخباراتية، أم شمل توفير معدات عسكرية أو المشاركة بقوات خاصة على غرار المشاركة الأوكرانية إلى جانب قوات الجيش السوداني في الحرب السودانية، إلا أن إعلان “يوسوف” يكشف عن بُعْد جديد في الإستراتيجية الأوكرانية للرد على العملية العسكرية الروسية الخاصة في كييف، ولكن في ساحات ومناطق النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وإفريقيا؛ كسبيل لوضع موسكو ممثلة في مجموعة فاغنر/ الفيلق الإفريقي في ضغط مستمر يؤثر على تقدمها الميداني في كييف، مستغلة في ذلك سحب موسكو لعدد من عناصر فاغنر المنتشرين في مناطق النفوذ الروسي، بما في ذلك مالي لدعم عمليتها العسكرية في كييف، وهو ما نجم عنه انخفاض العمليات المالية الروسية في وسط مالي، كما أنه أتاح فرصة لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين لتعزيز نفوذها في وسط مالي، وهي المنطقة التي تصدرت أولويات تنظيم القاعدة خلال العام 2024م، وفق الأمم المتحدة([17]).
2- تعليق اتفاق الجزائر وطرح مشروع حكومي وطني بديل للأزواد
توالت العديد من الأحداث التي كانت بمثابة دافع/ محفز قوي لمتمردي الطوارق لبذل جهود مكثفة للدفاع عن آخر معاقل الأزواد في مالي “تنزواتن”، أمام زحف القوات المالية وعناصر فاغنر، والتي تعود إلى المعارك العنيفة التي شنَّتها قوات الجيش المالي، إلى جانب عناصر فاغنر منذ أغسطس 2023م؛ لاستعادة سيطرتهم على شمال البلاد الخاضع لسيطرة الأزواد، وانتهت بتمكن قوات الجيش المالي من إحكام قبضتهم على كافة مناطق سيطرة الأزواد، بما في ذلك منطقة كيدال المعقل الرئيسي للطوارق، وذلك في 14 نوفمبر 2023م، مما دفَع الطوارق والعرب الفارّين من موطنهم الأصلي في مُدن مثل غاوه ومنكا وكيدال، للجوء إلى مدينة “تنزواتن” باعتبارها آخر المعاقل والمواقع العسكرية التي يُمكن الاحتماء بها.
فكانت السيطرة على كيدال نقطة تحول مهمة وفارقة في مسار الحرب المندلعة بين قوات الجيش ومتمردي الطوارق، ذات انعكاسات مهمة في المسار السياسي والعسكري للبلاد؛ حيث إن كيدال يقطنها أكثر قبائل الطوارق قوةً وتسليحًا في إقليم الأزواد وهي قبيلة “إيفوغاس”([18])، وهزيمتها على أيدي الجيش المالي وعناصر فاغنر دون مقاومة في كيدال المعقل الرئيسي للأزواد ومركز انطلاق عمليات التمرد في عام 2012م، يُعد بمثابة انكسار لشوكة الطوارق وانهزام سياسي وعسكري للمشروع الانفصالي التاريخي وتأسيس دولة أزوادية على كامل أراضي المنطقة الشمالية للبلاد.
ومن ثم، خطط المجلس العسكري لطرح مشروع وطني بديل للأزواد يقوم على تمكين عناصر أزوادية تابعة لها، وتنحية متمردي الطوارق جانبًا معلنةً الحرب معهم، بدلًا من انتهاج مسار التفاوض، تجسَّدت أولى ملامحه منذ توتر العلاقات بين المجلس العسكري وتنسيقية حركات الأزواد في نهاية العام 2022م، مما دفع الأخيرة إلى إغلاق مكتبها في العاصمة المالية باماكو، مُعتبرة نفسها أنها في حالة حرب مفتوحة([19])، إلى أن اندلعت المعارك بين القوات المالية ومتمردي الأزواد، والتي انتهت بالسيطرة على إقليم كيدال ذي الرمزية السياسية للطوارق، في معركة أسفرت عن مقتل العشرات ونزوح نحو 12 ألف شخص([20])، تبعها تعيين الحكومة المالية ولأول مرة أحد شخصيات الطوارق المعروفة وهو الجنرال الحاج آغ غامو حاكمًا لإقليم كيدال، وذلك في 14 ديسمبر 2023م، قاصدة بذلك إحداث فجوة وانقسام بين قبائل الطوارق عبر خلق جبهة داعمة للحكومة من بينهم، تبعها إطلاق الحكومة المالية دعوات للنازحين إثر المعارك للعودة إلى ديارهم([21]).
ومن الجدير بالذكر، أن الجنرال غامو ينتمي لإحدى القبائل الفرعية التابعة لقبيلة “إيفوغاس” وهي قبيلة “إمغاد”، التي تتطلع للتخلص من تبعيتها لقبيلة “إيفوغاس”([22])، وهو ما يكشف عن محاولة الحكومة المالية لبثّ الفرقة والانقسام بين قبائل الطوارق، عبر تأليب القبائل على بعضها البعض. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اتجه المجلس العسكري في يناير 2024م، إلى إعلان عدم التزامه باتفاق السلام الذي وقَّعته الحكومة المالية مع متمردي الطوارق في العام 2015م، والمعروف باسم “اتفاق الجزائر”، وهو ما كان بمثابة إعلان واضح للمجلس العسكري بالتخلي عن نهج التفاوض، وإعلاء لغة السلاح.
ومن ثم، أدرك متمردو الطوارق بأن أولى خطوات الانتصار على المجلس العسكري في حربه المعلنة عليهم، تكمن في توحيد صفوفهم تحت كيان واحد، فأعلن متمردو الطوارق عن تشكيل تحالف جديد لقتال المجلس العسكري واستعادة نفوذهم مرة أخرى على إقليم الأزواد في مايو 2024م، أُطلق عليه “الإطار الإستراتيجي الدائم للدفاع عن شعب أزواد”، بزعامة أحد رموز تمرد الطوارق “بلال أغ أشرف”([23]).
3- فجوة أمنية بانسحاب القوات الأممية من مالي
إن أحد الأسباب غير المباشرة التي ساهمت في خسارة فاغنر وقوات الجيش المالي معركة “تنزواتن” هو حالة الفراغ الأمني الناجمة عن انسحاب قوات بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في مالي، والبالغ قوامها نحو 15 ألف فرد عسكري ومدني تمركزوا في شمال البلاد([24])، مما أثقل كاهل عناصر فاغنر والجيش المالي بمزيد من التحديات/ المخاطر الأمنية، التي خلقت حالة من الفوضى وعدم الاستقرار، تزامنت مع بدء المواجهات والمعارك بين قوات الجيش المالي ومتمردي الطوارق.
وعلى نحو تفصيلي، طلب المجلس العسكري في يونيو 2023م على لسان وزير خارجيته في خطاب له أمام مجلس الأمن الدولي، وبتنسيق مسبق مع مجموعة فاغنر، انسحاب قوات بعثة الأمم المتحدة من مالي، مدعيًا فشل البعثة في تحقيق أهدافها منذ نحو عقد من تشكيلها -على الرغم مما تكبدته البعثة من خسائر تضمنت مقتل 311 عنصرًا، وإصابة أكثر من 700 شخص([25])-، وذلك بينما كان مجلس الأمن يستعد لتجديد تفويض عمل البعثة بتكلفة تبلغ 1.2 مليار دولار سنويًّا. وبناء على طلب المجلس العسكري، أصدر مجلس الأمن قراره رقم 2690 في اليوم الـ30 من نفس الشهر، والذي نص على الانسحاب الكامل للبعثة بحلول 31 ديسمبر2023م، وبدأت بموجبه الأمم المتحدة التخفيض التدريجي لعدد قواتها في مالي([26])، إلى أن اكتمل الانسحاب الكامل لقوات البعثة الأممية في موعده المُحدد.
4- هدنة مؤقتة بين فرعي داعش والقاعدة في مالي
إن أحد الأسباب غير المباشرة التي لعبت دورًا في هزيمة فاغنر في معركة “تنزواتن”، هو اتفاق الهدنة المؤقت والمرحلي بين فرعي تنظيمي القاعدة (جماعة نصرة الإسلام والمسلمين) وداعش (ولاية الساحل) في ساحة التنافس المالية، والموقَّع في فبراير 2024م، والذي تم الاتفاق فيه على عزل المنطقة الشمالية للبلاد عن الجنوب، وإلحاق خسائر فادحة بقوات الجيش المالي وعناصر فاغنر بما يخدم الطرفين في توسيع نطاق نفوذهما وسيطرتهما الجغرافية. ومِن ثَم، كان الهجوم النوعي المزدوج على قاعدة للجيش بالقرب من كوالا، بمشاركة نحو 100 عنصر مسلح، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 30 جنديًّا، بمثابة أحد مخرجات هذا الاتفاق، والذي سبقه مباشرة تنفيذ عملية انتحارية بسيارة مفخخة هي الأولى منذ العام 2022م. كما من اللافت، أنه منذ توقيع اتفاق الهدنة، توقف الهجوم الإعلامي لتنظيم داعش عبر مجلته الإسبوعية “النبأ” عن نشر أي تقارير أو مقالات انتقادية لفرع تنظيم القاعدة، وهو نفس النهج الذي اتبعه الأخير تجاه تنظيم داعش([27]).
ومن ثم، وجه اتفاق الهدنة أنظار عناصر داعش والقاعدة في مالي، نحو القوات المالية وعناصر الدعم من مجموعة فاغنر، على العكس من المرحلة السابقة على توقيع هذا الاتفاق؛ حيث انشغل التنظيمان في قتال بعضهما البعض واستنزاف قدراتهما العسكرية والبشرية، وبالتالي وضع هذا الاتفاق قوات الجيش المالي وعناصر فاغنر تحت ضغط وتهديد مستمر عبر سلسلة متتالية من الهجمات، أضعفت من قدراتهما العسكرية على صد هجمات متمردي الطوارق في معركة “تنزواتن”.
ثالثًا: إعادة ترتيب الأوراق… خيارات فاغنر في مالي
إن صدمة الخسارة الفادحة التي تكبَّدتها مجموعة فاغنر لأول مرة في تاريخ عملياتها الخارجية، وفي إفريقيا خاصة، تفرض على موسكو ومجموعة فاغنر دراسة دقيقة لمعركة “تنزواتن”، والأسباب التي أدت إلى وقوع هذا الكمّ من الخسائر في ضوء سمات البيئة المحلية المالية، والبيئتين الإقليمية والدولية، لعدة أسباب:
أولها: من أجل استعادة فاغنر لصورته في أذهان شعوب وحكومات القارة الإفريقية عمومًا، وفي منطقة الساحل على وجه الخصوص.
ثانيها؛ قطع الطريق أمام جماعات التمرد المعادية لمجموعة فاغنر للسير على نهج طوارق مالي، على أمل تحقيق انتصارات ميدانية، مدعومة بشكل أو بآخر من الحكومات الغربية، وبالتالي خلق جبهة إفريقية معارضة لفاغنر في مناطق انتشارها تنهي مرحلة التعاون الذهبي مع حكومات القارة.
أما بالنسبة لثالث الأسباب التي تدفع فاغنر لإعادة حساباته وترتيب أوراقه؛ فهو الحاجة الملحة والضرورية لاستعادة تفوقه العسكري مرة أخرى في الساحة المالية، وهو ما يتطلب الإعداد العسكري الجيد للرد على معركة ” تنزواتن”، لضمان عدم اهتزاز ثقة المجلس العسكري المالي في حليفه الروسي في حربه على متمردي الطوارق، مما يُنذر بمعارك عنيفة وأكثر دموية في الفترة القادمة، مع متمردي الطوارق.
ومن ثم، هناك خيارات محدودة أمام موسكو وذراعها في مالي (فاغنر) ردًّا على معركة “تنزواتن“:
أولها؛ هو انسحاب فاغنر من الساحة المالية، تجنبًا لوقوع مزيد من الخسائر في صفوفها، مثلما فعلت في موزمبيق، وهو خيار ينطوي على خطورة بالغة بالنسبة للوزن العسكري والسياسي لموسكو وذراعها فاغنر ليس في الساحة المالية فقط، وإنما في منطقة الساحل الإفريقي بأكمله؛ حيث إن انسحاب فاغنر من مالي سيخلق حالة من الفراغ الأمني التي سيُسارع منافسوها الدوليون لشغلها، والفوز بعقود إنتاج النفط والغاز واليورانيوم والليثيوم، كما أن الانحساب سيؤثر على الصورة الذهنية لموسكو وفاغنر وكيانها الجديد الناشئ (الفيلق الإفريقي)، وسيُثير الشك لدى الحكومات الإفريقية الشريكة لها بشأن مدى التزام موسكو بشراكاتها، وهو يجعل من خيار الانسحاب من مالي خيار غير مثالي في الوقت الراهن.
أما بالنسبة لثاني الخيارات أمام موسكو ومجموعة فاغنر، فتتمثل في ضخّ مزيد من العناصر والمعدات العسكرية لدعم فاغنر في هجومها المضاد للسيطرة على مدينة تنزواتن، وردع متمردي الطوارق، بما يُنذر بمعارك شرسة مع متمردي الطوارق وعناصر القاعدة في ضوء ما ورد من تقارير تُشير إلى تعاون وتنسيق عملياتي بين الطرفين في قتال الجيش المالي وعناصر فاغنر، لا سيما مع تأكيد الطوارق على لسان المتحدث باسم الإطار الإستراتيجي للأزواد “محمد المولود رمضان” بأن معركة تنزواتن تشكل مرحلة من مراحل الحرب ضمن خطة موضوعة لاستراد أراضي الأزواد من منكا وجاوا وكيدال وتمبكتو، وغيرها([28])، مُضيفًا أن “الوضع الحالي لا يزال بعيدًا عن مرحلة المفاوضات أو الحلول السلمية، بعد أن بدأ المجلس العسكري الحرب والصراع دون الالتزام باتفاقية الجزائر، مما فرض الحرب على الأزواديين([29]). ومن المرجح أن يكون هذا الخيار/ البديل هو البديل الأمثل لموسكو في الوقت الراهن.
أما بالنسبة لثالث الخيارات المتاحة فيتمثل في لجوء موسكو إلى استبدال عناصر فاغنر بعناصر الفيلق الإفريقي الخاضعة لتوجيهات وزارة الدفاع الروسية وجهاز المخابرات الروسية، والمُخطط له وفق إستراتيجية موسكو أن يحل محل فاغنر، تجنبًا لإعادة تكرار سيناريو تمرد “بريغوجين”([30]). وعلى الرغم من خطورة هذا الخيار الذي سيحمّل موسكو بشكل رسمي مسؤولية أي خسائر محتملة على غرار معركة “تنزواتن”، فإنه خيار مُحتمَل يُمكن لموسكو اللجوء إليه على المدى المتوسط أو البعيد.
خلاصة القول: تُعد معركة “تنزواتن” نقطة مفصلية في مشاركات مجموعة “فاغنر” العسكرية الروسية داخل مالي أو في أي من مناطق الانتشار الإفريقية، بما يفرض على موسكو دراسة أسباب وانعكاسات خسارة معركة “تنزواتن”، وإعادة ترتيب أوراقها وفقًا لما سيُسفر عنه تقرير تقصي الحقائق حول المعركة من نتائج.
وعلى الرغم مما فرضته البيئة المالية من تحديات لعبت دورًا في خسارة فاغنر للمعركة؛ إلا أنها على كافة الأحوال وضعت موسكو أمام تحدٍّ خطير قد يُهدِّد نفوذها في إفريقيا في المستقبل، إذا لم تتعامل معه بموضوعية واحترافية شديدة.
………………………………………………………..
[1] – لأوّل مرة.. فاغنر تعلن عن مقتل عشرات من جنودها في قتال مع مسلحي الطوارق في مالي، يورونيوز، 30 يوليو 2024م:
[2] – الشيخ محمد، مجموعة «فاغن» تقرّ بهزيمتها في معركة ضد متمردين في شمال مالي، الشرق الأوسط، 29 يوليو 2024م.
[3] AFRICA FILE, AUGUST 2, 2024: RUSSIAN BLUNDER IN MALI, The Institute for The study the War, 2 Aug 2024. https://www.understandingwar.org/backgrounder/africa-file-august-2-2024-russian-blunder-mali
[4] – الشيخ محمد، مرجع سبق ذكره.
[5] CALEB WEISS ,Tuareg rebels, JNIM each claim victory over Russia’s Wagner Group in Mali, Long War Journal, 29 July 2024. https://www.longwarjournal.org/archives/2024/07/tuareg-rebels-jnim-each-claim-victory-over-russias-wagner-group-in-mali.php
[6] Wagner’s Bloody Mali Debacle Shows Cracks In Russia’s Sahel Strategy, Radio free Europe, 31 July 2024.
https://www.rferl.org/a/russia-africa-wagner-battle-rebels/33056264.html
[7] Idem.
[8] Olga Gordiienko ,Ukrainian Intelligence Hints at Ongoing Operations Against Wagner in Mali, United 24, 29 July 2024. https://united24media.com/latest-news/ukrainian-intelligence-hints-at-ongoing-operations-against-wagner-in-mali-1452
[9] – مالي: انفصاليون يعلنون تحقيق «انتصار كبير» على الجيش وحلفائه الروس، الشرق الأوسط، 29 يوليو 2024. ttps://2u.pw/RSPxMnvn
[10] – معارك ضارية بين الجيش المالي والحركات الأزوادية، موقع تقدمي، 26 يوليو 2024. https://ar.taqadoumy.mr/?p=48257
[11] CALEB WEISS, OP.CIT.
[12] – الشيخ محمد، مرجع سبق ذكره.
[13] CALEB WEISS, OP.CIT.
[14] Olga Gordiienko, OP.CIT.
[15] – تعاون أوكرانيا مع تنظيم “القاعدة”.. تحقيقًا للأجندات الغربية في أفريقيا، صحيفة الراكوبة السودانية، 30 يوليو 2024م:
[16] – الحركات الأزوادية تنفي أي دعم أوكراني في معركتها ضد فاغنر، سكاي نيوز عربية، 30 يوليو 2024م: https://2u.pw/1RDc8drU
[17] AFRICA FILE, AUGUST 2, 2024: RUSSIAN BLUNDER IN MALI, OP.CIT.
[18] – عدنان موسى، توازنات جديدة: هل تُشكِّل سيطرة الجيش المالي على “كيدال” نقطة تحوُّل في سياقات المشهد الداخلي والإقليمي؟، قراءات إفريقية، 3 ديسمبر 2023م: https://2u.pw/5MjrWev3
[19] – حبيب الله مايابي، هل أجهضت مالي حلم الأزواديين في الانفصال؟، الجزيرة، 11 مارس 2024م: https://2u.pw/IhRpYZVv
[20] Tuareg Coalition Threatens Continued Instability in Northern Mali, Africa Defense Forum (ADF) magazine , 21 May 2024. https://adf-magazine.com/2024/05/tuareg-coalition-threatens-continued-instability-in-northern-mali/
[21] – حبيب الله مايابي، مرجع سبق ذكره.
[22] – عدنان موسى، مرجع سبق ذكره.
[23] Tuareg Coalition Threatens Continued Instability in Northern Mali, OP.CIT.
[24] – قوات حفظ السلام تبدأ الانسحاب من مالي، الجزيرة، 28 سبتمبر 2023م: https://www.ajnet.me/news/2023/9/28/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9-7
[25] – بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام تكمل انسحابها من مالي، الأمم المتحدة، 31 ديسمبر 2023م: https://news.un.org/ar/story/2023/12/1127352
[26] – قوات حفظ السلام تبدأ الانسحاب من مالي، مرجع سبق ذكره.
[27] – هدنة بين داعش والقاعدة تهدد حكم العسكريين في مالي، صحيفة العرب، 10 مايو 2024م: https://2u.pw/8fov5qNx
[28] – مالي.. الأزواديون يلحقون أكبر هزيمة بفاغنر في معركة تينزواتن، سكاي نيوز عربية، 28 يوليو 2024م: https://2u.pw/ql6JWhbI
[29] – المرجع السابق.
[30] – المرجع السابق.