روضة علي عبد الغفار
صحفية مهتمة بالشأن الإفريقي
يقول المتنبي:
لَا تَحقَرَنَّ صَغِيرًا فِي مُخَاصَمَةٍ *** إِنَّ البَعُوضَةَ تُدمِي مُقلَةَ الأَسَدِ
وفي منطقة القرن الإفريقي تشهد الدول قضايا عديدة وفارقة، وتحولات سياسية واقتصادية قد تُغيّر وجه المنطقة بالكامل، إلا أن هناك دولة صغيرة ليست مُنخرطة في هذه الصراعات مثل جاراتها؛ لكنها تُمثّل الكثير، وتلعب دورًا بارزًا في ميزان القوى في القرن الإفريقي.
جمهورية جيبوتي، بوابة القرن الإفريقي، التي تتجه الأنظار إليها بعد آخر انتخابات رئاسية بها، وبعد زيارة الرئيس المصري لها وسط مفاوضات ومباحثات سد النهضة الإثيوبي، جيبوتي التي تمتلك علاقات شائكة مع إريتريا، وعلاقات متوترة مع إثيوبيا، وعلاقات شبه منقطعة مع الصومال.. فهل تتفكك التحالفات ونشهد تحالفات جديدة في القرن الإفريقي؟!
موقع استراتيجي متميز.. ولكن!
تقع جيبوتي على أحد أكثر طرق الشحن ازدحامًا في العالم وهو خليج عدن، وتستضيف قواعد عسكرية أمريكية وصينية وفرنسية، مما يجعلها ذات نفوذ وثقل كبير رغم حجمها الصغير، وتستفيد من الموقع الجغرافي الفريد بين القارة الإفريقية وشبه الجزيرة العربية، الذي سمح لها بلعب دور كبير على المستوى الاقتصادي والسياسي، خصوصًا مع إثيوبيا التي تمر 95% من تجارتها عبر الموانئ الجيبوتية.
وتُعدّ موانئ جيبوتي رئة اقتصاد البلاد؛ حيث تُشَكِّل الجزء الأكبر من إجمالي الناتج الداخلي، ويبلغ إجمالي الناتج الداخلي للفرد حوالي 3500 دولار، وهو رقم مرتفع مقارنة بإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، لكن الفقر يطال نحو 20% من سكان جيبوتي، ويحتل البلد المرتبة 166 من 189 في مؤشر التنمية البشرية.
يشير مدير مركز الصومال للدراسات بمقديشو، الشافعي أبتدون، في حديثه لـ “قراءات إفريقية”، إلى أنه بالرغم من الميزانية الضخمة التي تجنيبها جيبوتي في مقابل تأجيرها للقواعد العسكرية للدول الأجنبية من جهة، وتأجير موانئها لإثيوبيا من جهة ثانية، إلا أن معادلة الفقر الذي يواجه الجيبوتيين لم تتزحزح من مكانها نحو الأفضل، بسبب غياب الخدمات الأساسية، كالصحة والمياه والكهرباء، وهو ما يُفاقم معاناة الجيبوتيين في بلد يقل تعداد سكانه من مليون نسمة.
أكبر قاعدة عسكرية في المنطقة:
تعد جيبوتي موقعًا لأكبر قاعدة عسكرية فرنسية في القارة؛ حيث تضم حاليًا حوالي 1500 عنصر، كما تستضيف القاعدة الأمريكية الدائمة الوحيدة في إفريقيا، التي تنطلق منها عمليات لمكافحة الإرهاب، خصوصًا في الصومال، وتحتوي على 4000 جندي، إلى جانب وجود اليابان وإيطاليا، كما فتحت الصين عام 2017م قاعدة عسكرية في جيبوتي لتأمين مصالحها الاقتصادية الهائلة في المنطقة.
يقول الباحث السوداني في الشؤون الاستراتيجية والدولية، أبو بكر عبد الرحمن، لـ “قراءات إفريقية”: إن الوجود الفرنسي الباكر جعل باريس تكتسب موقعًا قبل القوى الأخرى على الأرض، وأيضًا الثقل الأمريكي يتزاحم في القرن الإفريقي؛ لأنها نقطة وصل مهمة لامتداد الهيمنة الغربية على المواقع الجيواستراتيجية العالمية.
ويضيف “عبد الرحمن” أن الصين ارتفعت تجارتها بإفريقيا إلى مستويات قياسية تجاوزت 220 مليار دولار، بالإضافة لمشروعها الاستراتيجي “الحزام والطريق”، هو ما جعلها تبحث عن حلقة وصل تربط هذا المشروع الكبير بالنقاط الاستراتيجية المهمة، فكانت وجهتها لجيبوتي أهم نقلة في الاستراتيجية العسكرية الصينية.
وعن قدرة جيبوتي على خلق توازن بين هؤلاء الشركاء الاستراتيجيين، يؤكد “عبد الرحمن” أن جيبوتي لا تمتلك أي قرار في تحصين نفسها وسط كل هذا التدافع بين هذه القوى الدولية الكبرى، غير أنها ستتفاعل مع هذه التحولات الاستراتيجية من منظور التحييد المضاد، بمعنى أن تكون هي البطاقة التي سترجّح التحالفات الدولية لصالح طرف نظير آخر، مثلما فعلت الخرطوم بعد الضغوط الأمريكية عليها مقابل إنهاء الوجود الروسي في البحر الأحمر.
إسماعيل جيلي من جديد!
في أبريل الماضي فاز الرئيس إسماعيل عمر جيلي بولاية رئاسية خامسة لدولة جيبوتي بنسبة 98%، ويبلغ جيلي من العمر 73 عامًا، ويُعدّ أحد أطول زعماء إفريقيا بقاءً في السلطة؛ حيث يتولى الحكم منذ عام 1999م، بعد اختياره رئيسًا للبلاد خلفًا لعمه حسن جوليد ابتيدون. وواجه جيلي منافسًا واحدًا فقط، وهو زكريا إسماعيل فرح، في وقتٍ قاطعت فيه المعارضة الانتخابات.
وكانت حكومته قد عدَّلت الدستور بشأن القيود على فترات الرئاسة عام 2010م، مما سمح له بالترشح للمنصب أكثر من مرتين، ووضعت بندًا بعدم تجاوز سن المرشح 75 عامًا؛ مما يعني أن هذه آخر فترة رئاسية لـ”جيلي”.
وتجدد رئاسة جيلي في وقت يعيش فيه القرن الإفريقي جملة من التحديات والصراعات؛ التي تكاد تُغيِّر موازين القوى في هذه المنطقة الاستراتيجية، في حال تتبنّى جيبوتي سياسة الدولة الهادئة البعيدة عن الخلافات، فهل تتغير هذه السياسة في آخر ولاية لـ”جيلي”؟
يعتقد أبو بكر عبدالرحمن، أن من يستطيع طرح وساطة هو طرف يمتلك أوراقًا يستطيع التلويح بها للطرفين، وحثها الدخول في تفاهمات لأجل إنهاء النزاع أو الصراع، وبالنظر لحالة جيبوتي؛ فإنها مؤهلة الآن لتلعب دورًا محوريًّا جديدًا بين الفرقاء الصوماليين.
ويذهب “عبد الرحمن” إلى أنه بعد وصول آبي أحمد للسلطة في إثيوبيا عام 2018م، وإقناعه لرئيس الصومال بالدخول في تحالف من أجل لعب دور مؤثر في القرن الإفريقي، قاد ذلك إلى التوتر بين جيبوتي وإريتريا، وتراجعت علاقات جيبوتي مع الصومال حتى وصلت مرحلة الاتهامات المتبادلة.
ويضيف “عبدالرحمن” أن اليوم وبعد أن ساءت صورة آبي أحمد في القرن الإفريقي بسبب أزمة تغراي، يمكن لـجيبوتي أن تلعب دورًا محوريًّا هذه المرة في الأزمة الصومالية، وبالتالي فإن أي تسوية ستقدمها يمكن أن تضعها ضمن تحالف إقليمي جديد في المنطقة، وهنا يأتي السؤال: هل جيبوتي مستعدة لطرح وساطة في هذا الخصوص؟
بينما يؤكد الشافعي أبتدون، لـ “قراءات إفريقية”، أن الفقه السياسي لجيبوتي لن يتغير طالما يتربع جيلي على كرسي الحكم، كما أن الاستراتيجية المبنية على النأي بالنفس عن الاضطرابات المحيطة بها، لن تجعل جيبوتي في مأمن، ما لم تلعب دورًا فاعلًا مستقبلًا في حلحلة أزمات المنطقة، وخاصة ملف سد النهضة الذي يتجه نحو التصعيد العسكري، إلى جانب تهديدات حركة الشباب لجيبوتي، وآخرها ضرب قواعد عسكرية هناك، ولهذا لن تفلت جيبوتي من أن تكون جزءًا من اضطرابات المنطقة، بسبب عوامل الجغرافيا السياسية من جهة، وعدم تحركها لإخماد حرائق القرن الإفريقي المائية والأمنية.
نعم لسد النهضة.. ولكن؟
في حديثه مع “قراءات إفريقية” أكد الصحفي الإريتري والباحث في شؤون القرن الإفريقي؛ عبدالقادر محمد علي، أنه وفق الكثير من الدراسات فإن جيبوتي ستكون في طليعة المستفيدين المحتملين من سدّ النهضة الإثيوبي؛ لتوليد الكهرباء نتيجة الضعف الشديد الذي تعانيه في هذا المجال. وأضاف أن المردود الإيجابي لإنشاء السد على الاقتصاد الإثيوبي سينعكس إيجابيًّا على الصادرات والواردات التي تنتقل عبر جيبوتي، إذا استمرت أديس أبابا في استخدام ميناء جيبوتي كما هو الحال الآن.
في حين اعتبر “عبد القادر” أن الموقف المعلن لجيبوتي بعد زيارة الرئيس المصري مؤخرًا؛ أن النيل يجب أن يكون مصدرًا لتعاون دول المنطقة، وإبداء دعمها للمفاوضات بين الدول الثلاثة للوصول إلى اتفاق مُرْضٍ لجميع الأطراف، وتصويتها بالموافقة على قرار اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير في الدوحة المتعلق بدعم مصر والسودان في ملف سدّ النهضة، هو ما يشير إلى تحوّل جيبوتي عن موقفها؛ حيث تحفظت مع الصومال قبل عام على البند الخامس المتعلق بالدعوة إلى الامتناع عن الإجراءات الأحادية الجانب والامتناع عن ملء خزان السد دون اتفاق ملزم.
ويرى “عبد القادر” أنه رغم محاولة جيبوتي لإمساك العصا من المنتصف، فإن التغيير الجذري في موقف جيبوتي من سد النهضة يعتمد على محددين رئيسيين: قدرة القاهرة والخرطوم على تقديم بدائل مقنعة لجيبوتي للتخلي عن علاقتها الاستراتيجية مع إثيوبيا، وهو ما يبدو صعب المنال، وتطورات التحالف الثلاثي الذي تسعى إريتريا من خلاله إلى عزل جيبوتي.
بينما أفاد أبوبكر عبد الرحمن، أن هناك معسكرين أمام جيبوتي في قضية السد، فإما أن تنضم لمحور القاهرة الخرطوم وأصدقائهما في الخليج، وإما أن تكون ضمن تفاعلات مثلث آبي أحمد وأسياسي أفورقي المشبع بالتوترات، والذي لا يمكنه أن ينقل علاقات جيبوتي مع القوى الإقليمية والدولية لأيّ مستوًى، وهذا ليس في صالح جيبوتي، على حد قوله.
تحالفات جديدة:
أثارت زيارة الرئيس المصري إلى جيبوتي في 25 مايو الماضي؛ العديد من التساؤلات إذا ما كان هناك بداية تحالفات جديدة في المنطقة، يرى الشافعي أبتدون أن زيارة السيسي إلى جيبوتي مجرد برتوكول روتيني للدبلوماسية الخارجية المصرية؛ لتشكيل نوع من الضغط السياسي على التوجه الإثيوبي نحو الملء الثاني للسد.
ويعتقد “أبتدون” أن إمكانات مصر المادية أو السياسية لن تُغيّر قناعات جيبوتي نحو الاصطفاف وراء القاهرة؛ لأن جزءًا من اقتصاد جيبوتي مرتبط بالسلع الإثيوبية التي تمر عبر موانئها، في مقابل عدم وجود سياسة خارجية مصرية لدفع جيبوتي نحو الوقوف إلى جانبها، وهو ما يجعل المعادلة السياسية لمصر غير متكافئة؛ بالقدر الذي تسير عليه أديس أبابا نحو تعميق ارتباطها الاقتصادي في جيبوتي.
بينما ذهب “عبد القادر” إلى أن جيبوتي تشعر بقلق كبير من التحالف الثلاثي، الذي تم بين إثيوبيا وإريتريا والصومال، وهو أحد المحددات في علاقة جيبوتي بالدول الثلاثة، وفي سعيها لتشكيل تحالف آخر مقابل، ممَّا قد يؤدي مستقبلًا إلى حدوث تغييرات في سياستها الخارجية تطال علاقتها مع الصومال وإثيوبيا تحديدًا.
وقد صدر بيان عن اللجنة التنفيذية لحزب الازدهار الحاكم في إثيوبيا برئاسة رئيس الوزراء آبي أحمد يوم 28 مايو الماضي، بعد زيارة السيسي لجيبوتي، جاء فيه أن هدف إثيوبيا هو استعادة النفوذ في البحر الأحمر، وإعادة تأسيس العلاقات مع إريتريا على المصالح المتبادلة، ويستطرد البيان إلى اعتقاد إثيوبيا أن هناك أطرافًا إقليميَّة تسعى للحد من أهمية أديس أبابا الجيوسياسية في منطقة البحر الأحمر، وقدرتها في التأثير على القرن الإفريقي وشمال إفريقيا.
القرن الإفريقي.. هل تتغير موازين القوى؟
في ظل الصراعات التي يعيشها القرن الإفريقي، وتوتر العلاقات بين جيبوتي وجيرانها، يتأرجح الميزان بين من يمكنه الصمود أكثر، يوضح الصحفي الإريتري، عبدالقادر محمد علي، أنَّ ثمة رسائل تُؤشّر إلى قلق جيبوتي من إثيوبيا؛ يجسدها تصويتها بالموافقة على قرار الجامعة العربية، وتصرح وزير المالية الجيبوتي عن أن الصراع بإثيوبيا ينعكس سلبًا على الاقتصاد الجيبوتي، ويقوّض السلام والتعاون الإقليمي، رغم إعلان الرئيس عمر جيلي دعمه الكامل لآبي أحمد إبَّان انطلاق عمليته في تيغراي.
وأردف “عبد القادر” أن جيبوتي كذلك تتوجس من مخططات إريتريا؛ الطامحة لقيادة الإقليم، خاصة أن تجربة الرئيس أسياس أفورقي مع الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي أثبتت أنه مستعدّ للذهاب إلى أبعد مدى في الانتقام من خصومه.
ويرى “عبد القادر” أن التطور في العلاقات الصومالية الإريترية منذ 2018م، انعكس سلبيًّا على العلاقة بين جيبوتي ومقديشو، كانت أبرز تجلياته شكوى وزير الإعلام الصومالي في أبريل الماضي من محاولات كينية جيبوتية لاستصدار قرار من الاتحاد الإفريقي يدين تمديد البرلمان الصومالي للرئيس محمد عبد الله فرماجو، وهو ما فُسِّر بدعم جيبوتي للمعارضة الصومالية في وجه فرماجو، وأضاف أن توتر العلاقة يزداد بسبب مخاوف جيبوتي من إمكانية استفادة إثيوبيا من الموانئ الصومالية واستبدالها بمواني جيبوتي، على إثر التحالف المعلن بين الطرفين.
ويصرح الشافعي أبتدون أن القرن الإفريقي يواجه في المدى المنظور تنافسًا محمومًا من قوى دولية كبرى من جهة، وإقليمية عربية من جهة ثانية، وذلك بسبب سياسة المحاور الإقليمية رغم انتهاء أزمة الخليج، إلا أنَّ تأثيراتها السياسية ستظل باقية في منطقة القرن الإفريقي.
في حين يؤكد أبو بكر عبدالرحمن، أن أيّ توتر لمنطقة القرن الإفريقي يمكنه أن يُعيق حركة التجارة العالمية في حال اندلع أيّ صراع اقليميّ، وسيهدّد مصالح دول المنطقة، وسيُفْسِح المجال لعودة نشاط المجموعات الإرهابية؛ تنظيم القاعدة وحركة الشباب الصومالية، وبالتالي فإن كل ما سبق يجعل موازين القوى في القرن الإفريقي تميل لصالح واشنطن وحلفائها، وكلّ مَن يسعى للتهدئة في القرن الإفريقي.
وختامًا..
بين التحالفات والتوترات؛ تبقي دولة جيبوتي ذات ثقل استراتيجي واضح، يمكنها من خلاله لعب دور مهم في المنطقة، وتظل دول القرن الإفريقي مترابطة بعلاقات جغرافية وثقافية وتاريخية؛ تجعل من الصعب تفككها أو نشوء صراع بينها، إلا أن الأحداث تجري سريعًا على الأرض، وقد تكشف الأيام عن تفكك التحالفات القديمة وقيام أخرى جديدة.