أجرى الحوار : هيئة تحرير قراءات إفريقية.
الشيخ “إبراهيم كونتاو” أحد أبرز علماء جمهورية مالي ودعاتها، ورجل الأعمال الخيرية والإنسانية فيها، عُرِفَ عنه الوسطية والاعتدال، والحكمة في الدعوة، ومحبة الخير للناس، والسعي في حاجاتهم.
شغل الشيخ إبراهيم عدَّة مناصب في العمل العلمي والدعوي والإغاثي، منها عضو اتحاد علماء إفريقيا، وأمين العلاقات الخارجية للمجلس الإسلامي الأعلى بدولة مالي، والمدير العام لمنظمة الفاروق منذ عام 2008م وحتى وقتنا الحالي، كما أن الشيخ عضو الهيئة الاستشارية لموقع قراءات إفريقية.
وللشيخ عدة مؤلفات؛ من أهمها: 1- الجريمة الإيجابية بالامتناع (رسالة ماجستير) 1991م. 2- الدعوة في أوساط المثقفين. 3- الدعوة في أوساط الوثنيين.
كان الشيخ قد تعرَّض لحادث مأساوي مؤخرًا؛ حيث اختُطِفَ على يد مجموعة من المجرمين انتحلوا الزي الدَّرَكِيّ واقتادوه إلى مكان مجهول، حتى تمكَّنت قوات الشرطة من تحريره، والقبض على الجناة.
وقد أجرينا في موقع قراءات إفريقية هذا الحوار مع الشيخ إبراهيم؛ للوقوف على ملابسات هذا الحادث الإجرامي، والاطمئنان على صحته.
وفيما يلي نصّ الحوار:
موقع قراءات: حدّثونا عن قصَّة الاختطاف، كيف تمَّت وأبرز الأحداث فيها؟
الشيخ إبراهيم: يوم الاثنين 3 سبتمبر 2018م في حدود الساعة الثامنة مساء، جاءني ثلاثة أفراد مسلّحين يرتدون زيّ الدرك الوطني في سيارة رباعية الدفع بيضاء اللون ملصق بأطرافها شعار الدرك، وقد كنت أمام باب منزلي بكلبان كورا بالعاصمة «بماكو»؛ حيث كنت قد خرجت متّجهًا إلى منزلي الثاني بنفس الحيّ على بعد 200 متر تقريبًا، فأفادوني بأنّ عليَّ اصطحابهم إلى مركز الدرك؛ لأنَّ شبابًا موقوفين في قضية، قد ذكروا اسمي كمتعاون معهم، ولذا فإنَّ مركز الدرك يريد أخذ إفادتي في الموضوع. طلبتُ منهم مهلة للدخول إلى البيت، وأخذ بعض أغراضي الخاصَّة فرفضوا، وأراد الشاب الذي كان معي المجيء معنا، فرفضوا ذلك أيضًا.
انطلقت السيّارة، وأخذتْ مسارات مختلفة، وبعد جولات طويلة داخل المدينة، توقّفوا عند مكان منعزل بعيد عن أنظار النّاس، فأخذوا يزيلون أثر كلّ ما له صلة بالدرك الوطني من لوحات وشعارات، ومن هنا أدركت بأنَّ هناك أمرًا ما يحدث.
وبعد إزالة شعارات الدرك، أفادوني بأنِّي تحت الاختطاف، وأنّهم يطلبون فدية مالية، وسيتم إطلاق سراحي بعد حصولهم على ما يريدون، ثمَّ واصلوا السير.
بعد الوصول إلى مكان الاحتجاز، أوقفوا السيارة في فناء بيت، وأغلقوها عليَّ، ووضعوا عليها الغطاء، وبتُّ الليلة الأولى في السيارة، ويداي مربوطتان ومعلّقتان على المقبض الموجود في أعلى السيارة، ثمّ في الصباح جاءني أحدهم وهو مغطّى الوجه، وأخرجني من السيارة وذهب بي إلى منزل صغير، وأدخلني في الحمّام (دورة المياه) الذي قضيت فيه بقيّة الأيّام كلّها، كان سعة المكان متر ونصف المتر طولاً وعرضًا، وكان الحمّام مطلاّ على حجرة لا تتجاوز مساحتها هي الأخرى مترًا ونصف المتر طولاً، ونفس الشيء في العرض.
كان الخاطف يُخرجني إلى الحجرة في أثناء وجوده، وعندما يغادر المكان يُغلق عليَّ داخل الحمّام، وهكذا استمرَّ الأمر طيلة أيّام الاختطاف.
بعد الليلة الأولى من العملية، كان يأتيني شخصٌ واحد فقط، وكان يحضر دائمًا مغطَّى الوجه، ولم أتعرَّف عليه طيلة الأيام، وإن كنت عرفت صوته؛ لأنّه كان يتحدَّث معي أحيانًا، والغريب في الأمر أنّه كان أحيانًا يحاول بثّ الطمأنينة في نفسي، ويصبّرني بأنَّ هذا مِن قضاء الله وقدَره، وأنّ الله ربَّما أراد بهذا الأمر خيرًا، وأنَّ بالإمكان أن يكون هذا الصنيع سببًا في نهاية أعماله الإجراميَّة الشنيعة.
كان الرجل يأتيني فقط لإحضار الطعام أو ليطلب منِّي الاتّصال بأسرتي وأصدقائي من أجل تقديم الفدية، وكانت عادته أنّه يأتي في اليوم مرّتين فقط. وهكذا استمرَّ الأمر ستة عشر يومًا، إلى أنْ منَّ الله عليَّ بالفرَج بعد أن ألقى رجال الأمن القبض على الرجل يوم الأربعاء 19 سبتمبر 2018م، بفضل الله -سبحانه وتعالى-، ثمَّ بجهود الجميع؛ كلٌّ على مستواه وطاقته، والله أسأل أن يجزي الجميع خيرًا.
موقع قراءات: ما أصعب ما واجهك في هذه الجريمة؟ وأثره عليك نفسيًّا وجسديًّا؟
الشيخ إبراهيم: 16 يومًا وأنا مقطوع عن العالم محتجز في مكان مجهول في ظرف مأساوي، طبعًا الأمر كان صعبًا عليَّ جدًّا، تصوَّر أنّي قضيت هذه الفترة الطويلة محتجزًا في حمَّام ضيِّق شديد الظلام حتَّى في وضح النّهار، وليس فيه أيَّ منفذ للهواء؛ لأنّه لا توجد به نافذة أو أيّة فتحة على الخارج، وطيلة المدّة التي قضيتها هناك ما رأيت ضوء الشمس بعيني، وكنت أنام على الأرض المجرّدة، ولشدّة ضيق المكان لم يكن بوسعي أن أستلقي مستقيمًا، بل كنت أضطرّ دائمًا إلى أن أطوي جسدي؛ لأن مساحة الحمّام لا تتجاوز نصف متر في متر ونصف.
كان الرجل يأتيني بشيء للأكل مرّة أو مرتين في اليوم، وكنت قبل عملية الاختطاف خاضعًا للعلاج، وحُرِمْتُ من أدويتي خلال هذه الفترة الطويلة، لذلك فقد تدهورت حالتي الصحّية بشكل كبير، وعلى الرغم أنّي تلقيت عناية طبّية مركّزة بعد الإفراج عنّي؛ إلا أنّي لم أتمكّن حتّى الآن من أن أستعيد عافيتي، فلا زلت أشعر بالتعب والضعف، ولا زالت أعصابي مشدودة، وأجد صعوبة كبيرة في المشي…
هذا على المستوى الجسدي، أمّا على المستوى النفسي، فقد كان الرجل عنيفًا وقاسي اللهجة تجاهي وتجاه أسرتي وأصدقائي، خصوصًا عندما يحصل تأخّر في تحويل الدفعات المالية التي كان يطلبها، وإنّ أكبر شيء عانيته في هذه الفترة هي العزلة والوحشة والقلق من المجهول، وكان الأمر يزداد سوءًا عند التفكير في الضغط النفسي الذي بلغ مداه لدى أسرتي وأصدقائي وزملائي وكلّ معارفي الذين كنتُ أفكر فيهم، وفي حالة القلق والخوف والاكتئاب التي كانوا يعيشونها، ومع ذلك كلّه لم أتحطّم؛ لأنّ رجائي في الله كان كبيرًا، وكنت آخذ هذه المصيبة مأخذ الابتلاء، وكنت راضيًا بما حصل ومؤمنًا بأنَّ الخير في ما قدَّر الله تعالى.
موقع قراءات: في رأي فضيلتكم، ما دوافع المنفّذين؟ وهل يقف خلفهم أحد؟
الشيخ إبراهيم: النتائج التي توصَّلت إليها التحقيقات تفيد بأنّ العقل المدبّر للحادثة شخص واحد، وهو الشخص الذي تحدّثتُ عنه من قبل، وقلت: إنّه كان يأتي في مكان الاحتجاز، وقد استعان لوجستيًّا بعددٍ من الأشخاص، انتهت مهمتهم في الليلة الأولى من الاختطاف، وقد تمَّ إلقاء القبض عليهم جميعًا، ولا زالت التحقيقات جارية إلى الآن.
حتى هذه اللحظة؛ فإن الدافع المُعلَن والذي تؤكّده المعطيات المتحصّل عليها هو المال، فقد طلب الرجل الفدية منذ الساعات الأولى من الاختطاف؛ حيث طلب في البداية مليون فرنك سيفا (2000 دولار)، ثمّ بدأ يزيد في المبلغ إلى أن وصل إلى اثنين عشرين مليون فرنك (44.000 دولار)، وكان كلّما يحصل تأخّر في تحويل المبلغ يشتد غضبًا، ورغم أنّ الرجل لم تكن له سوابق مع القضاء؛ فإنّ التحقيقات أثبتت بأنّه كان يعيش حياة مزدوجة، فقد كان في الظاهر يتظاهر بحبّ الدين والدفاع عن السنّة، وفي الباطن كان يعيش حياة لا علاقة لها بكلِّ ذلك، وأقرّ هو نفسه بسرقة السيّارة الرباعية الدفع التي استخدمها في عملية الاختطاف. ومنذ إلقاء القبض عليه فُتحت ضدّه قضايا جنائية كثيرة من أطراف أخرى في ملفات مختلفة، والتحقيقات لا تزال جارية فيها.
موقع قراءات: التفاعل مع الحادثة كان كبيرًا على كلِّ المستويات، وكان أبرز ذلك اللجنة التي شكَّلها العلماء لإدارة الأزمة، ماذا تقول للعلماء الذين بادروا لإنشاء هذه اللّجنة، وقراءتكم لدلالة هذه المبادرة؟
الشيخ إبراهيم: أعضاء اللجنة تحت القيادة الرشيدة للشيخ محمّد تروري أصدقاء وزملاء أوفياء في العمل الإسلامي والإنساني، وجمعتنا دروب الدعوة إلى الله والغيرة على الدين، تمتدّ علاقتي مع بعضهم كالشيخ محمّد تروري، والشيخ يعقوب سيبي، والدكتور سعيد بابا سيلا، والشيخ عثمان صالح تروري، والشيخ الإمام موسى كمارى؛ إلى أكثر من عشرين سنة، ننشط سويًّا في عدد من المنظمات والجمعيات الإسلامية؛ كالمجلس الأعلى الإسلامي، ورابطة الدعاة، ومنظّمة الفاروق…، أمّا الأستاذ إسماعيل ميغا، والأستاذ إسماعيل جاكيتي، والأستاذ يحيى غوري… فهم من قياديي الجيل الثاني لمنظّمة الفاروق، والعلاقة بيننا تتجاوز علاقة العمل، فهي علاقة حبّ واحترام وأُخُوَّة، لذلك لم أستغرب أن تصدر منهم هذه المبادرة، فهم أهلٌ لها، وهي منسجمة مع نُبْلهم ووفائهم وأخلاقهم، والقِيَم التي كرّسوا حياتهم للدفاع عنها وتوطيدها.
هذه المبادرة تجسيدٌ حقيقيّ وواقعي للتضامن والأخوّة والوحدة، وكلّ تلك المعاني النبيلة التي دعا إليها الإسلام في قوله تعالى: {إنّما المؤمنون إخوة}، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: “مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى”، وقوله أيضًا: “المسلم للمسلم كالبنيان يشدُّ بعضه بعضًا”.
موقع قراءات: كان للجنة دور إيجابي في إدارة واحتواء الأزمة، وتخفيف أضرارها، ومن ذلك قطع الطريق على من يريد استغلالها لتحقيق مكاسب خاصَّة، هل تتّفقون مع هذا الطرح، وما تقييمكم لعمل اللجنة بشكل عامّ؟
الشيخ إبراهيم: لا بدَّ من التنبيه إلى أنّ الأزمة وقعت في سياق استقطاب سياسي حادّ في أعقاب الإعلان عن نتائج الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وما نتج عن ذلك من تأزّم سياسي كبير، في وضع استثنائي كهذا لا شكّ بأنّ زوايا القراءة ستكون متعدّدة، فهناك من حاول ربط الموضوع بعمليات إيقاف المعارضين التي تزامنت مع الحادثة، وأنا إذْ أُثمِّن جهود بعض الأحزاب المعارضة في الضغط على السلطات العامّة من أجل الجدّ في البحث والتحقيق، أُشهِدُ اللهَ أنّي لستُ معارضًا ولم أخُضْ المعترك السياسي قطّ في حياتي، وأقف في مسافة متساوية مع كلِّ الأحزاب والتيارات السياسية في البلد، كما أنّ هناك أطرافًا أخرى نظرت إلى الموضوع من زاوية الحرب على الإرهاب، والتضييق على المؤسسات الإسلامية الخيرية المشتبه بها في تمويل التطرُّف، وهذه الآراء كلّها كانت عبارة عن تخمينات لا علاقة لها بالواقع، فمنظمة الفاروق التي أديرها مشهورة بالوضوح والشفافية وجهودِها المباركة في تنفيذ المشاريع الرامية إلى التديّن الصحيح الموزون بميزان الشرع الصحيح، ولها علاقات طيّبة مع المصالح والجهات الحكومية المختصّة.
وعلى كلٍّ؛ فأنا لا أشكّكُ في حسن نيّة المتفاعلين مع الموضوع بغضّ النظر عن زاوية التحليل التي انطلقوا منها، فالهدف الأساس لهؤلاء وأولئك كان هو البيان بأنّني بريءٌ من هذا وذاك، وأنّ المكان الذي أستحقّه هو أن أكون سالمًا حرًّا طليقًا لإيصال الخير إلى عشرات الآلاف من اليتامى والمساكين والمعوزين الذين تصل إليهم المساعدة عن طريق منظمة الفاروق التي أتشرف بإدارتها.
موقع قراءات: تضمّنت بيانات اللجنة معاني إيمانية وشرعية، مثل: (السكينة والصبر وضبط النّفس، ومرجعية أهل العلم والنظر في العواقب، واللجوء إلى اللّه والتضرّع له سبحانه ونحوها)، تعليقكم فضيلة الشيخ على هذه اللّغة ودلالتها، وتأثيرها في المستقبلين لهذه البيانات.
الشيخ إبراهيم: هذه اللغة هي لغة الموقف من حيثيات ثلاثة على الأقل؛ الحيثية الأولى ترتبط بمُصْدِري البيان وهم أعضاء اللجنة الذين يُعَدُّون بدون شكّ من أكبر القيادات الإسلامية في البلد، فهذه لغتهم وهذه القِيَم التي يدافعون عنها ليل نهار.
والحيثية الثانية ترتبط بمستقبِلِي البيان وهم الرأي العام المالي في الداخل والخارج، وأنتم تعرفون بأنّ الشعب المالي شعب متدين، وله تقبّل كبير لهذه اللّغة خصوصًا في وقت الشدائد والمصائب.
والحيثية الثالثة ترتبط بالسياق الذي وقعت فيه الحادثة، فلقد نتج عن الحادثة غضب شعبي عارم خصوصًا لدى فئة الشباب الذين رأوا فيها استخفافًا بأحد رموز الدعوة والعمل الخيري، ورأوا فيها دليلاً على تدهور الأمن في قلب العاصمة “بماكو”، ومع طول المدّة كانت حالة الغضب ترتفع، وبدأت الدعوات إلى المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات تأخذ طريقها، في مقابل ذلك كان الوضع السياسي للبلد متردّيًا وحالة الاستقطاب السياسي في الأقصى، فكان أيّ انسياق إلى الغضب في هذا الوضع الهشّ يمكن أن يصب مزيدًا من النّار على الزيت، وأن يؤثّر سلبًا على القضيّة وعلى صورة الحراك الإسلامي في الدولة عمومًا.
ومن هنا تظهر أهمّية هذه اللغة الحكيمة الواعية التي استطاعت أن تضبط العقول والنفوس، وتحتوي غضب الشارع.
موقع قراءات: من الجوانب المشرقة في هذه الأزمة، تفاعل المؤسسات والهيئات الإسلامية بكلِّ أطيافها معها وجهودهم في نصرتكم، ما شعوركم تجاه هذا التفاعل؟ ودلالته على نضوج العمل الإسلامي في مالي.
الشيخ إبراهيم: التنوّع الديني في مالي واقع ملموس، وطبيعيٌ أن تكون هناك فترات توتّر بين الأطياف المختلفة في بعض المناسبات وبعض الأحداث، وهذا أمرٌ يفرضه اختلاف الرؤى والتوجُّهات، ولكنَّ المؤسَّسات والجمعيات الإسلامية برهنت عمليًّا على قدرتها على تجاوز الخلافات الداخلية من أجل الحفاظ على القِيَم والمصالح المشتركة، وهذا الأمر رأيناه بشكل جليّ ومتكرّر في السنوات الأخيرة كما كان الحال في موضوع مدوّنة الأسرة والأحوال الشخصية سنة 2009م، والأزمة التي مررت بها جاءت لتؤكد مرّة أخرى مستوى الوعي والنضج الشرعي الذي وصلت إليه الجمعيات الإسلامية.
موقع قراءات: رأيكم في تعامل الحكومة وأجهزتها المتنوّعة مع القضيّة، خاصّة أنّها جاءت في فترة حسّاسَة داخليًّا (الانتخابات الرئاسية)
الشيخ إبراهيم: لست مبالغًا، إذا قلتُ بأنَّ الحكومة وأجهزتها الأمنية والمخابراتية كانت في حالة الاستنفار القصوى، ولم تَحْظ قضيّة من القضايا الأمنية في البلد بمثل هذا الاهتمام حسب قول القائمين على عملية التحقيق أنفسهم، طبعًا الحكومة قامت بهذا الأمر بدافع أداء مهمّتها في حماية المواطنين وممتلكاتهم، ولكن بدون شكّ فإنّ الضغط الشعبي أيضًا لعب دورًا كبيرًا في دَفْع المسئولين إلى حَشْد كلّ الإمكانات في البحث والتحقيق.
في هذا الإطار لا بدّ من الإشادة بجهود فخامة رئيس الدولة السيّد إبراهيم بوبكر كيتا الذي جعل الحادثة قضيّته الشخصية رغم الأهمّية الظرفية التي وقعت فيها في حياته السياسية، فقد التقى مع لجنة إدارة الأزمة تحت غطاء المجلس الأعلى الإسلامي بحضور وزير الأمن والحماية المدنية؛ حيث عبّر عن أسفه على ما وقع، ومتابعته الدقيقة للحادثة، وأعطى تعليمات واضحة لوزير الأمن من أجل القيام بكلِّ ما يلزم للبحث والتحقيق. كما التقى أيضًا مع الأسرة وعبَّر لهم عن تضامنه معها، وطمأنهم على قيام الجهات المختصة بكلِّ ما يلزم في أعمال البحث والتحقيق.
كلّ أجهزة الدولة الأمنية والمخابراتية من أعلى المستويات كانت مستنفرة في الموضوع، بدءًا بالإدارة العامّة للشرطة مرورًا بالإدارة العامّة للدرك الوطني، وانتهاء بجهاز أمن الدولة، وقد أفادني المسئولون بأنّ عدد العناصر الأمنية والمخابراتية الذين تم تفريغهم للقضية أكثر من مائتي شخص.
أُسجّل هنا تحيّاتي وتقديراتي العميقة لكلّ أجهزة الأمن والاستخبارات، فقد أثبتوا في هذه القضيّة مهنيتهم وكفاءتهم وتصميمهم في أداء واجباتهم نحو المواطنين.
موقع قراءات: هل من كلمة توجّهها للشباب حول هذا الحدث، والتعامل مع أمثاله؟
الشيخ إبراهيم: فترة الشباب فترة الطاقّة والحركة والاندفاع، أوصي الشباب باستغلال هذه الفترة من ربيع العمر في الصالح النافع لأنفسهم ولأمّتهم، كما أوصيهم بضبط النّفس في الأمور الجسام، وأن لا ينساقوا إلى العواطف الجارفة التي تكون في هذه الفترة مضاعفة، وأوصيهم كذلك بالالتفاف إلى أهل الحلّ والعقد؛ فهم أهل خبرة ورزانة، وهم أقدر على وزن الأمور وتدبيرها بالشكل الذي يليق، وإلاّ تبدَّدت الجهود وعمَّت الفوضى، وأُهدرت الطاقات فيما لا طائل منه.
موقع قراءات: في كلّ مِحْنَة مِنْحَة، والله تعالى يقول: {لا تحسبوه شرًّا لكم بل هو خير لكم}، ما أبرز المِنَح ـ على المستوى الشخصي وعلى المستوى العامّ ـ التي لمستموها في هذه المحنة؟
الشيخ إبراهيم: المصيبة التي حلّت بي أثّرت عليَّ على المستوى الجسدي طبعًا، ولكّني أنبِّه إلى أنّها لم تنلْ من معنوياتي شيئًا، فأنا اليوم أكثر إيمانًا برسالتي في الحياة، وهي إيصال الخير إلى البشر. القضيّة كما تعرفون اكتسبت زخمًا شعبيًّا وإعلاميًّا كبيرًا، واستولت لمدّة شهر تقريبًا على الرأي العامّ الوطني، هذا الأمر جعلني شخصيَّة عامّة في البلد، فعندما أتواجد اليوم في أيّ مكان عام: في الشارع وحتّى في المطارات داخل مالي وخارجها تنهال إليَّ الجموع من أجل التحيّة عليَّ، والتضامن معي، والإشادة بالأعمال التي أقوم بها عبر منظمة الفاروق، وهذا الأمر طبعًا يرفع من معنوياتي ويدفعني إلى التفاني في العمل؛ من أجل الحفاظ على الانطباعات والصور الجيّدة التي يحملها الشعب المالي عنّي وعن منظّمة الفاروق.
من تاريخ الإفراج عنّي إلى يومنا هذا، لا يمرّ يوم من الأيّام إلاّ تأتيني فيه الوفود المختلفة من جميع الفئات ومختلف الشرائح الاجتماعية؛ من الدعاة والأئمّة والزعماء التقليديين وكوادر الدولة من أجل التضامن معي، والتنويه بما تقدّمه منظّمة الفاروق، وهذا بدون شكّ يزيدني ثقّة فيما أقوم به أنا وزملائي في العمل.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ هذه المحنة كانت فرصة للكثير من الإعلاميين والدعاة وقادة الرأي العام للإشادة بالأعمال التي تقوم بها منظمّة الفاروق ـ التي أديرها ـ في العمل الإنساني، وهذا الأمر رفَع بدون شكّ من الرصيد الشعبي والاجتماعي للمنظّمة في الدولة.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المحنة ساهمت في توطيد علاقاتي مع الكثير من السلطات العامّة في البلد، ولا شكّ أنّ ذلك فرصة يمكن استخدامها لصالح الرسالة التي أحملها.
وأخيرًا هذه المحنة كانت سببًا في توطيد العلاقة بين مختلف التيارات الإسلامية في البلد، وهو أمرٌ مشجِّع ودليل على أنَّ استراتيجية “فرِّق تَسُد” لن تعود ناجحة في شقِّ صفوف المسلمين، وضرب بعضهم ببعض.
موقع قراءات: في الختام نشكر الشيخ إبراهيم على إتاحة هذه الفرصة لموقع قراءات إفريقية، ونتمنى له دوام السلامة والعافية.