تعد إثيوبيا إحدى أهم تجارب الفيدرالية الإثنية حول العالم، وهي التجربة الوحيدة في إفريقيا، ففي مطلع التسعينيات من القرن العشرين، وبعد سقوط نظام “منجستو هايلي ماريام” Mengistu Haile Mariam تبنَّى الائتلاف الحاكم الجديد “الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية” Ethiopian People’s Revolutionary Democratic Front بقيادة “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” Tigray People’s Liberation Front، نظامًا فيدراليًّا تنقسم فيه البلاد تقسيمًا يستند صراحة إلى الحدود الإثنية للشعوب الإثيوبية.
وبموجب هذا النظام انقسمت الدولة إلى (9) أقاليم هي: الـ “تيجراي” Tigray، والـ “عفر”Afar ، والـ”أمهرا” Amhara، والـ “أورومو” Oromo، و”الصوماليون” Somali، و”بني شنجول جوميز” Benishangul Gumuz، و”الأمم والقوميات والشعوب الجنوبية” Southern Nations, Nationalities, and Peoples، و”جامبيلا” Gambela، و”هرر” Harar، ومؤخرًا في نوفمبر 2019م انفصلت إثنية “سيداما” Sidama عن إقليم “الأمم والقوميات والشعوب الجنوبية”؛ لتصبح الإقليم الإثيوبي العاشر، أي العضو العاشر من أعضاء الدولة الفيدرالية، هذا بالإضافة إلى مدينتين تديرهما الحكومة الاتحادية، وهما: “أديس أبابا” Addis Ababa، و”ديري داوا” Dire Dawa.
وفي فبراير عام ٢٠١٨م، وبسبب الممارسات الحكومية القمعية الدموية، دخلت إثيوبيا في أتون أزمة سياسية طاحنة، وتزايدت الاحتجاجات، واشتد قمعها، وسقط قتلى وجرحى، وعمَّ السخط على ممارسات الائتلاف الإثيوبي الحاكم، والذي تقوده وتسيطر عليه “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”، اضطر رئيس الوزراء “هايلي مريام ديسالين” Hailemariam Desalegn إلى الاستقالة من منصبه.
على إثر ذلك تم انتخاب “آبي أحمد” Abiy Ahmed (مسيحي لأب مسلم وأم مسيحية ينتميان إلى إثنية الأورومو) رئيسًا لوزراء إثيوبيا، فأسَّس حزبًا سياسيًّا جديدًا “الازدهار”، وفكَّك ائتلاف “الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية”، وشرع في التخلص من القيادات التي تنتمي إلى إثنية “تيجراي” Tigray المسيطرة على المناصب العليا في الدولة والجيش، وقرر تأجيل الانتخابات الوطنية الفيدرالية والإقليمية بدعوى تفشي فيرس “كوفيد-19″، وهو ما أثار قادة “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”، فاعترضوا على ذلك وأجروا الانتخابات الإقليمية في إقليم “تيجراي”، فما كان من “آبي أحمد” إلا أن قام بحظر “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” وتصنيفها كمنظمة إرهابية، وشن بمساعدة الجيش الإريتري حربًا شعواء على قواتها في نوفمبر عام 2020م.
ومن حينها يتعرض إقليم “تيجراي” بالكامل لانتهاكات واسعة النطاق من طرفي القتال، وبالأكثر من جانب القوات الفيدرالية والقوات الإريترية المساعدة لها، ولقد بلغت هذه الانتهاكات في قسوتها وبشاعتها في ميزان المواثيق الدولية إلى مرتبة جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ولقد وثق المجتمع الدولي هذه الجرائم، واعترف بفداحة ما خلّفته من تأثيرات على أكثر من ستة ملايين إنسان من إثنية التيجراي.
ومع اشتداد واستمرار هذا الصراع المسلح على نطاق واسع، ودعم أطراف دولية وإقليمية لأطرافه، أخفقت كل الجهود الدولية التي قامت بها الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، والإقليمية التي سعى إليها الاتحاد الإفريقي حتى الآن، في إثناء طرفي القتال عن فكرة الحرب، وهو ما أثار جدلاً واسعًا في الأروقة السياسية التيجرانية عن خيارات وقف الحرب وتسوية الصراع بما في ذلك انفصال الإقليم عن إثيوبيا ليشكل دولة “تيجراي الكبرى”، وهو طموح قديم كان قد تحدث عنه البيان التأسيسي لـ“الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” الصادر عام 1976م.
وعلى الرغم من إخفاق المساعي السابقة لا تزال الضغوط والوساطات الدولية والإقليمية تجري على قدم وساق لإنهاء الصراع المسلح والاتفاق على تسوية سياسية للأزمة؛ حيث أعلن طرفا القتال مؤخرًا عن قبولهما المبدئي الدخول في مفاوضات بوساطة الاتحاد الإفريقي، وبعد أن تقرر عقد هذه المفاوضات في جنوب إفريقيا في الأسبوع الأول من أكتوبر 2022م، لم تنعقد، وأعلن الاتحاد الإفريقي عن تأجيلها لأجل غير مسمى لأسباب لوجستية، غير أن المؤشرات تنبئ بأن سبب التأجيل هو إصرار طرفي القتال على موقفيهما من بعض القضايا؛ حيث يشترط “آبي أحمد” أن تتم المفاوضات دون شروط مسبقة من قبل “التيجرانيين”، فيما يعترض هؤلاء على بعض الوسطاء، مثل الرئيس النيجيري الأسبق “أولوسيجون أوباسانجو” Olusegun Obasanjo، وكذلك يشترطون رفع أو تخفيف الحصار التي تفرضه حكومة “آبي أحمد” على إقليم “تيجراي” وبخاصة في شأن الخدمات الضرورية مثل: الإعلام، والاتصالات، والبنوك، والكهرباء، والأغذية، وغيرها مما تسبب في توقُّف شبه تام للحياة في الإقليم.
ومؤخرا أعلن الاتحاد الإفريقي التوصل إلى عقد جولة أولى من هذه المفاوضات، تركز على الوقف الفوري للأعمال العدائية، والوصول غير المقيد للمساعدات الإنسانية، وانسحاب القوات الإريترية، التي قاتلت إلى جانب القوات الفيدرالية الإثيوبية، ويبدو أن الطرفين أقدما على هذه الجولة كنوع من اختبار النوايا قبل مناقشة التسوية السياسية.
وفي هذا السياق شديد التعقيد يثور تساؤل رئيسي ألا وهو: هل ينفصل إقليم “تيجراي” عن إثيوبيا؟، وتجيب هذه الدراسة عن هذا التساؤل عبر الإجابة عن عدة تساؤلات فرعية أهمها: ما جذور مقاربة الانفصال التيجرانية؟، هل تدفع الحرب والانتهاكات والخسائر البشرية والمادية والحصار الحيوي -حال أخفقت جهود التسوية- باتجاه تأجيج مشاعر الانفصال لدى التيجرانيين؟، وإحياء ذلك الطموح القديم لدى قادتهم؟، وهل يمكن أن يتحقق هذا الانفصال دستوريًّا؟، وهل يتوفر إقليم “تيجراي” على مقومات الدولة؟، وما تداعيات تحقق هذا الانفصال؟، وهل سيسمح المجتمع الدولي والقاري والإقليمي بهذا الانفصال؟
وإجابةً عن تساؤلها الرئيسي، يرجّح الباحث أنه ولئن تهيأت بعض أسباب ومقومات انفصال إقليم “تيجراي” عن إثيوبيا، فإنه وفي ضوء المؤشرات الأولية، وبوضع البيئة الداخلية الإثيوبية، والسياقين الإقليمي والدولي في الاعتبار، يبقى سيناريو الانفصال استراتيجية مناورة وورقة ضغط، أكتر منه هدفًا قابلاً للتحقيق.
وفي الإطار سالف البيان تجيب هذه الدراسة عن تساؤلاتها، وتختبر فرضيتها عبر المحاور التالية:
أولاً: جذور الانفصال كمقاربة تيجرانية.
ثانيًا: أسباب ومحفّزات إحياء مقاربة الانفصال.
ثالثًا: مشروعية الانفصال في الدستور الإثيوبي.
رابعًا: مدى توافر إقليم “تيجراي” على مقومات الدولة.
خامسًا: التداعيات المحتملة للانفصال.
سادسًا: المواقف المختلفة من الانفصال.
خـــاتمــة.
أولاً: جذور الانفصال كمقاربة تيجرانية
تعرّض التيجرانيون للتهميش والاضطهاد -شأنهم شأن باقي الإثنيات غير الأمهرية- تحت حكم الأمهرة وبخاصة في عصر الإمبراطور “هايلي سيلاسي” Haile Selassie، والديكتاتور “منجستو هايلي مريام”([1]).
ففي عام 1943م اندلعت “ثورة/تمرد” “وُياني” Woyane([2]) الأولى نتيجة المظالم التي وقعت على التيجرانيين مِن قِبَل “هيلي سيلاسي” وحكومته، واستطاع مقاتلو التجراي تحقيق انتصارات كبيرة على قوات “هيلي سيلاسي” الذي استنجد بالبريطانيين فقصفوا التيجرانيين بالطائرات حتى استطاع “هيلي سيلاسي” إخماد “الثورة/التمرد”، وراح يمعن في عقاب التيجرانيين بالتعذيب والقتل؛ حيث سجن وأعدم الكثير منهم ومن قادتهم، كما قام بنزع ملكية أراضيهم، وظل التجرانيون في قمع وتنكيل طيلة الحكم الإمبراطوري الذي انتهى عام 1974م.([3])
استقبل التيجرانيون – شأنهم شأن كثير من الإثيوبيين – حكم المجلس العسكري “الدرج” Derg ببعض التفاؤل، إلا أنه سرعان ما تبدَّد عندما شنَّ الـ “درج” أثناء وبعد عملية الإرهاب الأحمر، حملة تصفية واعتقالات جماعية واسعة النطاق([4])، وبخاصة في إقليم “تيجراي”؛ حيث كان غالبية المعتقلين من التيجرانيين، لدرجة أن العديد من السجناء الذين لا يتحدثون التيجرانية تعلموها في السجن، هذا بالإضافة إلى نزع ملكية الأراضي في إطار الاشتراكية التي تبنَّاها الـ”درج”، فما كان من مقاتلي الـ “تيجراي” إلا أنْ شكلوا “الجبهة الشعبية لتحرير تيجري” التي تبنَّت مقاربة قوامها أن الخلاص من هذه المظالم لن يتأتى إلا بمواصلة “الثورة/التمرد” على حكم الدرج فيما يُطلق عليه البعض “وُياني” الثانية من أجل تحرير الشعب والأرض التجرانيين والانفصال عن إثيوبيا وتكوين دولتهم الكبرى المستقلة.([5])
وقد تجلت هذه المقاربة فيما جاء في “البيان التأسيسي” Manifesto لـ “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” الصادر عام 1976م فقد ارتكز البيان على ثلاثة مرتكزات هي:([6])
1-تحديد الشعب التيجراني:
نصَّت الوثيقة على “يُعرف التيجراني على أنه أي شخص يتحدث لغة تيجرانية، بما في ذلك أولئك الذين يعيشون خارج “تيجراي”، والـ “كوناماس”، والـ “ساهوس”، والـ “عفر”، والـ “تالتال”، والـ “أجيو”، والـ “ولكيت”.
2-تحديد الأراضي التيجرانية:
كما نصت على “تمتد الحدود الجغرافية لتيجراي إلى حدود السودان بما في ذلك أراضي “حميرة” و”ويلكايت” من منطقة “بيجميدير” في إثيوبيا، الأرض المعروفة بـ”أليواها”، والتي تمتد إلى مناطق “ولو”، وتشمل “ألاماتا”، “أشنجي”، و”كوبو”، وأراضي “كوناما” الإريترية، و”ساهو” و”عفر” بما في ذلك “عصب”.
3-تحديد الهدف النهائي:
ونصت أيضًا على “الهدف النهائي لجبهة تحرير تيجراي هو الانفصال عن إثيوبيا باعتبارها “جمهورية تيجراي الكبرى” المستقلة من خلال تحرير أراضي وشعوب تيجراي.
ثانيًا: أسباب ومحفزات إحياء مقاربة الانفصال
توافرت لهذه الحرب عدة سمات، وترتبت عليها عدة نتائج، من شأنها مجتمعةً بثّ مشاعر الكراهية، وإحياء مقاربة الانفصال، ولعل أهمها:
1-بشاعة وقسوة الحرب:
ما أشبه الليلة بالبارحة؛ فقد تعرض التيجرانيون -ولا يزالون- تحت نظام “آبي أحمد” لأشد أنواع الانتهاكات في حرب شاملة كالتي وقعت في الماضي -باختلاف حداثة الأسلحة والأدوات والوسائل- فها هو القصف الجوي الذي استجلب له “آبي أحمد” طائرات من قوى خارجية، وها هو الحصار الشامل والتجويع، فضلاً عن القتال المباشر والقتل والاعتقال، وفي المقابل يصر قادة “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” على مواصلة الحرب حتى الفناء أو الانتصار، فيما يمكن أن يطلق عليه “وُياني” الثالثة.
2-طبيعة الحرب:
لن يجد المدقق في وسائل وأسلحة وتكتيكات هذه الحرب، عناءً في الوقوف على استراتيجية القضاء التام على الخصوم، التي يتبناها أطراف القتال، وكأنهم أعداء حرب وجودية، لا فرقاء منافسة سياسية، وليس أدل على ذلك من موقفها الرافض رفضًا تامًّا الجلوس على طاولة المفاوضات، وهو ما أحبط كافة جهود وقف الحرب والتسوية السياسية، بما في ذلك جهود الاتحاد الإفريقي الأخيرة التي تأجلت لأجل غير مسمى، ثم عادت أشبه ما يكون بجولة اختبار للنوايا.([7])
3-الكلفة البشرية:
على مدار عامين تحمل التيجرانيون كلفة بشرية فادحة، وعلى الرغم من عدم توفر إحصاءات يمكن الاعتماد عليها نظرًا للتعتيم الإعلامي المفروض من الحكومة الاتحادية الإثيوبية على ما يجري في منطقة “تيجراي” ومحيطها، إلا أن ما تم رصده يؤكد على أنهم تعرضوا لشتى أنواع الانتهاكات؛ كالقتل، حيث تتحدث بعض التقارير عن ما بين خمسين ومائة ألف شخص لقوا مصرعهم قتلاً، وعن وفاة ما بين 150 ألف و200 ألف بسبب الجوع، وأكثر من 100 ألف بسبب عدم الوصول إلى مرافق الرعاية الصحية، فضلاً عما وثَّقته تقارير أخرى عن جرائم الاغتصاب والتعذيب والاعتقال والتهجير القسري.([8])
4-الكلفة الاقتصادية:
تعد “ميكيلي” عاصمة إقليم الـ”تيجراي” من أهم مدن المال والأعمال في إثيوبيا، إن لم تكن أهمها بالفعل، ففيها يتمركز عدد كبير من أهم الشركات الإثيوبية الرائدة في مجالات التشييد والبناء، وإنتاج الإسمنت، والصناعات الدوائية، والمنسوجات، والذهب، والسيارات، وقد توقف العمل بهذه الشركات نتيجة تجميد حساباتها المصرفية ضمن 38 شركة كبرى أخرى تتهمها الحكومة الفيدرالية بارتباطها بـ “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”، فضلاً عن الحصار المضروب على الإقليم، ومقتل ونزوح كثير من العمال، وهو ما أثر أيضًا على قطاع الزراعة، وبخاصة إنتاج السمسم المخصص لتصدير والمتمركز في الإقليم.([9])
5-الحصار الخانق:
فرضت الحكومة الفيدرالية الإثيوبية منذ بداية الصراع حصارًا شديدًا على إقليم “تيجراي”، ما أدَّى إلى معاناة ستة ملايين نسمة شتَّى أنواع ودرجات المعاناة؛ جراء قطع خدمات الاتصالات والبيانات السلكية واللاسلكية، وإغلاق وقطع الطرق والجسور، ومنع دخول الإعلام، والفرق والمواد الإغاثية، ووقف عمليات البنوك، وضرب المرافق كمحطات المياه والكهرباء والوقود، الأمر الذي ضاعف أسعار السلع والخدمات نتيجة نُدرتها، حتى أصبحت الحياة شبه مستحيلة في الإقليم، مما حدا بغالبية السكان إلى النزوح أو اللجوء، على الرغم من صعوبة ومخاطر الارتحال عبر أراضي الإثنيات الأخرى أو عبر الحدود.([10])
ثالثًا: مشروعية الانفصال في الدستور الإثيوبي
منح الدستور الإثيوبي لعام 1994م لكل الإثنيات دون استثناء الحق غير المشروط في تقرير مصيرها، بما في ذلك حق الانفصال عن الدولة، لكنه أحاط استخدام هذا الحق بسياج شديد من الإجراءات التي يجب استيفاؤها وصولاً إلى الانفصال؛ حيث نصت مادته الـ(39) على ما يلي:([11])
1-لكل أمة وجنسية وشعب في إثيوبيا حقّ غير مشروط في تقرير المصير، بما في ذلك الحق في الانفصال.
2-لكل أمة وجنسية وشعب في إثيوبيا الحق في التحدث والكتابة وتطوير لغتها الخاصة؛ للتعبير عن ثقافتها وتنميتها وتعزيزها؛ وللحفاظ على تاريخها.
3-لكل أمة وجنسية وشعب في إثيوبيا الحق في قدر كامل من الحكم الذاتي، والذي يتضمن الحق في إنشاء مؤسسات الحكم في الإقليم الذي يقطنه، والتمثيل العادل في حكومات الولايات والحكومات الفيدرالية.
4-يدخل حق تقرير المصير، بما في ذلك الانفصال، لكل أمة وجنسية وشعب حيز التنفيذ:
-عندما تتم الموافقة على طلب الانفصال بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس التشريعي للأمة أو الجنسية أو الشعب المعني.
-عندما تنظم الحكومة الاتحادية استفتاءً يجب إجراؤه في غضون ثلاث سنوات من تاريخ تلقيها قرار الانفصال من المجلس المعني.
-عندما يتم دعم مطلب الانفصال بأغلبية الأصوات في الاستفتاء.
-عندما تنقل الحكومة الاتحادية صلاحياتها إلى مجلس الأمة أو الجنسية أو الشعب الذي صوَّت لصالح الانفصال.
-عندما يتم تقسيم الأصول بالطريقة المنصوص عليها في القانون.
وبمراجعة النصوص سالفة البيان يمكن القول بأن ممارسة حق تقرير المصير وصولاً إلى الانفصال عن إثيوبيا، لن تكون سهلة، لكنها مشروعة دستوريًّا.
رابعًا: مدى توافر إقليم “تيجراي” على مقومات الدولة
يثير الحديث عن انفصال إقليم “تيجراي” عن إثيوبيا، دراسة وبحث مدى توافر مقومات الدولة للإقليم من حيث جدارته السياسية، والاقتصادية، والمؤسسية، والاجتماعية:
1-الجدارة السياسية:
بتدقيق النظر في النُّخَب التيجرانية، نجد أنها تتوفر على عدد لا بأس به من الكوادر السياسية والإدارية والعسكرية، وبخاصة وأن “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” كانت تسيطر على مقاليد الحكم على المستوى الفيدرالي لمدة ثلاثة عقود، منذ إطاحة نظام الـ”درج” مطلع التسعينيات حتى وصول “آبي أحمد” إلى السلطة أوائل عام 2018م، وكان أغلبية شاغلي هذه المناصب من التجرانيين، كما أن النظام الفيدرالي المعمول به في إثيوبيا منذ تطبيقه مطلع التسعينيات حتى الآن، أتاح الفرصة لتنشئة عدد كبير من الكوادر السياسية والإدارية والعسكرية على المستوى الإقليمي، وهو ما يمكن القول معه بأن النُّخب التيجرانية تتوفر على الكوادر المؤهلة للاضطلاع بمهمة إقامة وإدارة الدولة.
وبتحليل الحياة الحزبية في إقليم “تيجراي” نجد أن هناك تعددية حزبية وعددًا لا بأس به من الأحزاب السياسية تتنافس على المستوى المحلي وعلى المستوى الفيدرالي أيضًا سواء منفردة أو ضمن ائتلافات انتخابية، وفي مقدمة الأحزاب التيجرانية بطبيعة الحال حزب “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”، وهو الحزب الفائز في انتخابات الإقليم المحلية عام 2020م، والتي تسببت في إثارة الأزمة الإثيوبية؛ وهناك حزب “المؤتمر الوطني لتيجراي الكبرى” National Congress of Great Tigray، ويدعو إلى مزيد من الحكم الذاتي لإقليم “تيجراي” في إطار “كونفيدرالية” Confederation تضم الأقاليم الإثيوبية([12])، و”حزب استقلال تيجراي” Tigray Independence Party، ويدعو الحزب صراحة إلى انفصال إقليم “تيجراي” عن إثيوبيا، وحزب “سالساي واياني تيجراي” Salsay Weyane Tigray، ويتضمن برنامجه التأسيسي أنه يهدف إلى تقرير المصير حتى الانفصال عن إثيوبيا، وفي الانتخابات الأخيرة دعا إلى مزيد من الحكم الذاتي لإقليم “تيجراي”([13])، و”حزب أسيمبا الديمقراطي” Assimba Democratic Party، وحزب “أرينا تيجراي من أجل الديموقراطية والسيادة” Arena Tigray For Democracy and Sovereignty، وهو ثاني أقدم حزب بعد “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” وهو مُعارِض لها وفي ذات الوقت يعارض الحرب التي تشنّها الحكومة الفيدرالية على الإقليم.([14])
ومن هنا يمكن القول بأن المؤشرات المستمَدة من هذه التفاعلات الحزبية، تنبئ بأنها تكفي كبداية جيدة لإقامة نظام سياسي، في دولة ناشئة تخطو خطواتها الأولى على طريق التحول الديمقراطي.
2-الجدارة الاقتصادية:
في قطاع الصناعة والتجارة، تتركز كبريات الشركات الصناعية والتجارية العاملة في إثيوبيا في إقليم “تيجراي”، وهي مملوكة لتيجرانيين، وفي مجال الطاقة والمياه والزراعة، يقع سد “تكيزي” في مقاطعة “تكيزي” التيجرانية؛ حيث يمر نهر “تكازي” أو “ستيت” وروافده من منابعه عند الحدود الإثيوبية الإريترية مرورًا بإقليم “تيجراي” وصولاً إلى السودان، كما يتوفر الإقليم على مساحات هائلة من الأراضي الخصبة، ويشتهر بزراعة السمسم المخصص للتصدير.([15])
وبهذا على مدار ثلاثة عقود من قيادة “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” للنظام الحاكم في إثيوبيا، أصبح إقليم “تيجراي” بمثابة مركز الثقل الاقتصادي في كافة القطاعات من صناعة وتجارة وطاقة وزراعة([16])، بما يمكن القول معه: إن هذه المقومات تنهض لإقامة اقتصاد دولة مستقلة.
3-الجدارة المؤسسية
تتولى حكومة محلية إدارة إقليم “تيجراي” عبر وزارات محلية وهيئات ومؤسسات وإدارات للحكم المحلي، ويمارس التجرانيون العمل البرلماني عبر هيئة تشريعية محلية مكونة من 190 عضوًا، يتم انتخاب 152 عضوًا بالاقتراع السري المباشر، ويتم تعيين 38 عضوًا يوزعون على الأحزاب الأقل حظًّا في الانتخابات، وتوجد محاكم إقليمية واتحادية تتولى القضاء في الإقليم، وتتولى قوات عسكرية تتبع الحكومة المحلية مهام الدفاع في الإقليم جنبًا إلى جنب مع القوات المسلحة الفيدرالية، وهناك أيضًا “قوات دفاع تيجراي”، وهي قوات مسلحة تابعة لبعض الأحزاب والميليشيات المحلية أكبرها وأقواها بطبيعة الحال تلك التابعة لـ”الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”، ويقود هذه القوات قادة وضباط رفيعي المستوى مفصولين وسابقين في قوة الدفاع الوطني الإثيوبية([17])، وتتولى قوات محلية شبه عسكرية مهام الشرطة المدنية، كما يتوفر الإقليم على مطار كبير حديث ومؤسسات تعليمية وجامعة متطورة، وهكذا يمكن القول بأن الإقليم يتوفر على البنية الأساسية للمؤسسات الرئيسية اللازمة لإدارة الدولة حال الانفصال.
4-الجدارة الاجتماعية:
يتَّسم الشعب التيجراني بالتجانس الثقافي بدرجة كبيرة جدًّا فهم مجموعة عرقية واحدة يتفرع عنها بعض المجموعات الفرعية، ويتحدثون جميعًا التيجرانية، واللغات الأخرى بمثابة لغة ثانية كما عند المسلمين الذين يتعلمون العربية، والغالبية مسيحيون أرثوذوكس شرقيون مع أقلية مسلمة وأقلية كاثولوكية مع بعض أتباع الديانات التقليدية، ويتسم المجتمع التيجراني بالتشاركية، ويتوفر على مؤسسات اجتماعية قوية متماسكة سواء كانت حديثة أو تقليدية، ويرتبطون بالأرض ارتباطًا شديدًا وبخاصة في المناطق غير الحضرية، ولديهم قاعدة كبيرة من القوانين العرفية التقليدية، والتي لا تزال تطبق حتى الآن وتحظى باحترام الجميع([18])، وبناء على ذلك كله يمكن القول بأن الشعب التيجراني لديه قدر كبير من المقومات المجتمعية التي تؤمن استقرار الدولة حال الانفصال.
خامسًا: التداعيات المحتملة للانفصال
في ظل التفاعلات الجارية على الساحات الدولية والإقليمية والداخلية الإثيوبية، لا بد أن يترتب على انفصال إقليم “تيجراي” تأثيرات متباينة أبرزها:
1-على الداخل الإثيوبي:
لعل أخطر تأثيرات انفصال إقليم “تيجراي” على الداخل الإثيوبي تتمثل في تفكك الاتحاد الفيدرالي وانهيار الدولة؛ فعلى الرغم من أن الفيدرالية الإثنية كانت السبب الرئيسي في الحفاظ على الدولة الإثيوبية من التفكك مطلع التسعينيات، إلا أنها ومع الممارسة على مدار العقود الثلاث الماضية وفي ظل التهميش والقمع الذي عانت منه كثير من القوميات الإثيوبية، أصبحت مدعاة للصراع، فقد علت الأصوات المُطالِبة بالانفصال أو الكونفيدرالية أو الحكم الذاتي في أوساط عدة قوميات كالأورومو والأمهرة والصوماليين، وخاصة أن هناك كثيرًا من النخب التي تعارض مقاربة “آبي أحمد” حول الدولة البسيطة المركزية، ومما لا شك فيه أن انفصال إقليم “تيجراي” سيشجع أي إقليم يختلف مع السلطة الفيدرالية على سلوك المسلك التيجراني.([19])
أما في حال استمرار الاتحاد الفيدرالي قائمًا بعد انفصال إقليم “تيجراي”، فمن المرجح أن تدخل إثيوبيا في دوامة طويلة من عدم الاستقرار؛ نتيجة فشل الأنظمة الإثيوبية الحاكمة المتعاقبة في بناء الهوية الوطنية وإعلائها على الهويات الإثنية، بسبب تسييس الإثنية في الصراع على السلطة، وبخاصة في ظل الاستقطاب الحاد الذي أصبح سائدًا في المشهد السياسي الإثيوبي في الآونة الأخيرة، ومن ناحية أخرى يمكن القول بأن كثيرًا من التأثيرات السلبية سوف تلحق الاقتصاد الإثيوبي المأزوم بالأساس، ذلك بأن إقليم “تيجراي” يُعدّ بمثابة مركز ثقل الاقتصاد الإثيوبي.([20])
2-على دول الجوار:
تتَّسم مجتمعات دول الجوار الإثيوبي -شأنها شأن غالبية الدول الإفريقية- بالتعددية الإثنية وضعف الهوية الوطنية في مقابل الهويات الإثنية، وفي ظل حالة الصراع الإثني، وعدم الاستقرار السياسي، التي تسود هذه المجتمعات، تنمو فرص انتقال عدوى الانفصال، وإثارة طموحاته الكامنة في فكر كثير من النخب الإثنية في هذه المجتمعات، كما في السودان، وأوغندا، والصومال، وكينيا، وغيرها.
3-على المستوى الإقليمي:
تشي الدلائل المستمدة من طبيعة العلاقات المتوترة -والعدائية أحيانًا- بين الفاعلين من الدول ودون الدول، بأن حالة من عدم الاستقرار سوف تعم القرن الإفريقي وإقليم شرق إفريقيا، فالدولة التيجرانية المحتملة سوف تكون هي الأخرى دولة حبيسة، يحدها شمالاً إريتريا التي تناصب التيجرانيين العداء، ويشارك جيشها جنبًا إلى جنب مع القوات الإثيوبية الفيدرالية في حربها على إقليم “تيجراي”، ومن المؤكد أن الدولة التيجرانية الوليدة سوف تبحث عن منفذ بحري، ووفقًا لمقاربة الـ “منافيستو” القديم لـ “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” تستهدف الجبهة ضم أرضي شرقًا وصولاً إلى ميناء عصب الإريتري، وهو ما تتخوف منه إريتريا، ويفسر -ولو جزئيًّا- مشاركتها في الحرب بجوار “آبي أحمد”.
أما من الجهة الشرقية والجنوبية فيحد الإقليم الدولة الإثيوبية الأم، والتي ستظل في عداء دائم مع إقليمها المنفصل؛ وبخاصة مع وجود إقليم الـ”أمهرة” على الجزء الجنوبي من الحدود بينهما، وفي ظل وجود صراع مستحكم بين الأماهرة والتيجرانيين على الحدود بينهم.
في ظل هذا السياق الصراعي، وإذا وضعنا في الاعتبار توفر الفرص المهيأة تمامًا لتفشي عدوى الانفصال في دول الجوار الإقليمي، يمكننا تصور حالة الفوضى وعدم الاستقرار المرجح أن تضرب المجتمعات الهشَّة في دول إقليم شرق إفريقيا بأكمله.
4-على المستوى القاري:
يُعدّ الإرهاب والجريمة المنظمة أبرز الظواهر السلبية وأخطرها وأسرعها نموًّا في الفضاء القاري الإفريقي، وتعد البيئة الصراعية المحتملة في إقليم شرق إفريقيا، أنسب البيئات لانتشار مثل هذه الظواهر السلبية، على غرار ما حدث في إقليم الساحل، وغرب إفريقيا، ووسطها، وصولاً إلى موزمبيق في الجنوب الشرقي، ووفقًا لهذا التصور، سوف تلتئم شبكة واسعة النطاق من التنظيمات الإرهابية، ومافيا الجريمة المنظمة، تسيطر على وسط إفريقيا من الشرق إلى الغرب، وتهدد دول شمال إفريقيا وجنوبها.
وفي حالة تحقق هذا السيناريو فسوف تعم حالة من الفوضى وعدم الاستقرار دول هذه المناطق، فضلاً عن انهيار اقتصاداتها المأزومة، بالإضافة إلى اتساع نطاق ظاهرتي النزوح الداخلي واللجوء الخارجي، وهو ما يوفّر بيئة خصبة لتفشي الفيروسات والأوبئة، بما يزيد القارة معاناةً على معاناتها.
5-على المستوى الدولي:
يشرف إقليم شرق إفريقيا والقرن الإفريقي على مضيق باب المندب الذي يفصل قارتي آسيا وإفريقيا ويصل المحيط الهندي وخليج عدن بالبحر الأحمر، وهو الممر البحري الأكثر أهمية للتجارة العالمية؛ حيث يمر به أكثر من 40% من حركة السفن والحاويات في العالم.([21])
وتنذر حالة الفوضى وعدم الاستقرار وانتشار التنظيمات الإرهابية ومافيا الجريمة المنظمة، المحتملة في الإقليم المشرف على باب المندب ومحيطه، بعودة كارثة القرصنة البحرية أشد مما كانت عليه في هذه البقعة الجيوستراتيجية بما يهدد التجارة العالمية.
ومن ناحية أخرى تعد دول شرق إفريقيا والقرن الإفريقي حاضنة كبيرة لاستثمارات القوى الدولية والإقليمية المختلفة سواء من المعسكر الشرقي أو المعسكر الغربي، ومِن ثَم تؤثر حالة الاضطراب واسعة النطاق المحتملة في المنطقة على مصالح كبرى لهذه القوى.
سادسًا: المواقف المختلفة من الانفصال
قد تدفع مواقف الأطراف الفاعلة المختلفة باتجاه انفصال إقليم “تيجراي”، وقد تقف حجر عثرة في سبيل تحقيقه، ومن هنا فمن الأهمية بمكان استشراف هذه المواقف:
1-موقف التيجرانيين:
تمر عملية الانفصال بحسب الدستور الإثيوبي بمرحلتين من استطلاع الرأي المحلي ضمن مجموعة معقدة من الإجراءات؛ في المرحلة الأولى يجب أن توافق النخب السياسية الأعضاء في الهيئة التشريعية المحلية على طلب الانفصال بأغلبية الثلثين، وفي مرحلة متقدمة يجب أن توافق الأغلبية المطلقة للجماهير في استفتاء عام تنظمه الحكومة الفيدرالية، من هنا يصبح موقف النخب والجماهير التيجرانية متغيرًا مهمًّا في هذه العملية.
-على مستوى النخب:
وإن اختلفت مقارباتها حول السياسات العامة، إلا أنها كلمة الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة التيجرانية اجتمعت على رفض حرب الحكومة المركزية على “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”، وعلى الجانب الأهم تتضمن البرامج التأسيسية لهذه الأحزاب أهدافًا تتراوح بين مزيد من الحكم الذاتي، والانفصال وتكوين دولة التيجراي الكبرى، وقد طالب “حزب استقلال تيجراي” صراحة بالانفصال في حملته الانتخابية قبيل الانتخابات المحلية الأخيرة، وطالبت به أيضًا بعض النخب السياسية البارزة، وأكد عليه زعيم “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” “ديبريتسيون جبريميكل” Debretsion Gebremicel في حديث تلفزيوني قائلاً: إن “المطالب الأساسية لشعب تيجراي غير قابلة للتفاوض”، و”سيتم تحديد مستقبل تيجراي من قبل التيجرانيين”؛ من خلال استفتاء، بما في ذلك تقرير المصير، على النحو الذي يضمنه الدستور الإثيوبي”، أي أن “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” ستضع ممارسة حق تقرير المصير شرطًا مسبقًا في أي تفاوض محتمل مع الحكومة الفيدرالية.([22])
-على المستوى الجماهيري
على الرغم من الشعبية الجارفة التي تحظى بها “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” بين سكان الإقليم، وعلى الرغم مما تعرَّض له التجرانيون من تهميش وقهر عبر تاريخهم، باستثناء فترة حكم “الجبهة” لإثيوبيا وللإقليم، فلا يمكن الجزم بتأييدهم الكامل لمقاربة الانفصال؛ فهم يؤمنون بأنهم لا ينتمون إلى إثيوبيا فحسب، وإنما يشكّلون جوهر الحضارة الحبشية والإكسومية القديمة، فقد نشأت مملكة “أكسوم” Aksum على الأراضي التيجرانية، ثم توسعت منها إلى الإمبراطورية “الحبشية” Abyssinia، وهي عقيدة تتعارض نسبيًّا مع فكرة الانفصال عن إثيوبيا.([23])
2-موقف الحكومة الفيدرالية:
لا شك في أن موقف الحكومة الإثيوبية، التي يسيطر عليها حزب “الازدهار” Prosperity Party، يتماهى مع مقاربة رئيس الوزراء “آبي أحمد”، القائمة على التخلي عن الفيدرالية لصالح الدولة المركزية، والرافضة لفكرة حق تقرير المصير، حتى ولو كان الذي يقره هو الدستور الإثيوبي؛ لأن “آبي أحمد” بصدد تعديله، وليس أدل على ذلك من مضي الحكومة الفيدرالية قُدمًا في حربها على “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” وصولاً إلى القضاء عليها سياسيًّا وتنظيميًّا، باعتبارها المنافس السياسي الأقوى، وباعتبار أنها الوحيدة القادرة على التمسك بمطالب الانفصال، بل ووضعها موضع التنفيذ.
3-موقف الأقاليم الإثيوبية الأخرى:
تتباين مواقف النخب السياسية في الأقاليم الإثيوبية الأخرى من مسألة انفصال إقليم “تيجراي”، فقد دعمت بعض الفصائل -المعرضة لحكومة “آبي أحمد”- “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”، بل وحاربت إلى جانبها، مثل “جيش تحرير أورومو” Oromo Liberation Army، و”جبهة العفر الثورية الديمقراطية المتحدة” Afar Revolutionary Democratic Unity Front، وبعض الفصائل الأخرى الأقل تأثيرًا في أقاليم “بني شنجول” و”جامبيلا” و”سيداما” و”صومالي”([24])، فيما قررت كثير من الفصائل الأكثر قوةً وتأثيرًا في كافة الأقاليم الإثيوبية دعم حكومة “آبي أحمد”، وبخاصة في إقليم أمهرا خاصةً؛ حيث حاربت القوات التابعة للسلطات الأمهرية المحلية، والقوات الخاصة الأمهرية، وميليشيات “فانو” الأمهرية جنبًا إلى جنب القوات الإثيوبية الفيدرالية([25]).
وتنبئ المؤشرات المستمدة مما سبق ومن سير العمليات العسكرية بأن انفصال إقليم “تيجراي” لن يلقى دعمًا أو قبولاً إلا من بعض الفصائل الأقل تأثيرًا، والتي تعارض حكومة “آبي أحمد”، وتطالب بانفصال أقاليمها.
4-موقف دول الجوار:
بالنظر إلى التداعيات غير المرغوب فيها، والتي ستصيب دول الجوار الإثيوبي حتمًا، على نحو ما سبق بيانه، فمن المرجح أن تعارض هذه الدول انفصال إقليم “تيجراي”، وبخاصة إريتريا التي تحارب مع الحكومة الإثيوبية الفيدرالية منذ بداية الحرب.
-موقف مصر والسودان:
تحدثت بعض التقارير عن ضلوع مصر والسودان في دعم “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”، غير أنه وبإمعان النظر في السياق المصاحب للحرب الأهلية الإثيوبية، وفي المسار التفاوضي الذي تنتهجه مصر والسودان بشأن قضية سد النهضة، وفي الأضرار الاقتصادية البالغة التي ستصيب مصر حتمًا، إذا تعرضت الملاحة البحرية في قناة السويس، نتيجة عدم استقرار إقليم القرن الإفريقي الناشئ عن انفصال إقليم “تيجراي”، وفي الأضرار المتنوعة التي ستصيب السودان حتمًا، نتيجة عدم استقرار إقليم القرن الإفريقي الناشئ عن الانفصال، يمكن القول بأن مصر والسودان لا يؤيدان أو يدعمان انفصال إقليم “تيجراي”.([26])
-موقف الاتحاد الإفريقي
يتشدد الاتحاد الإفريقي تمامًا في مسألة الانفصال لتعارضها مع مبدأ احترام الحدود الموروثة عند الاستقلال؛ حيث رفض ولا يزال كل حالات محاولات الانفصال -باستثناء جنوب السودان- فقد رفضت منظمة الوحدة الإفريقية انفصال “بيافرا” عن نيجيريا سنة 1967م، كما رفضت انفصال إقليم “كاتنجا” عن الكونغو الديمقراطية سنة 1960م، وكذلك رفض انفصال جزيرة “أنجوان” عن جزر القمر سنة 2008م، وأيضًا رفض انفصال منطقة الأزواد عن مالي سنة 2012م، ولا يزال الاتحاد الإفريقي يرفض انفصال إقليم “كابيندا” عن أنجولا، ومطالب الانفصال في دارفور بالسودان، ومومباسا في كينيا، “وأرومو” و”أوجادين” و”تيجراي” في إثيوبيا، من أجل ذلك يدعو الاتحاد الإفريقي إلى التفاوض على وقف دائم لإطلاق النار وتهيئة الظروف لحوار إثيوبي شامل لتسوية أزمة “تيجراي”، وأوفد مبعوثين وعين وسطاء، ولا يزال يرعى الوساطة الجارية حاليًا في جنوب إفريقيا والتي كانت قد تأجلت ثم عادت لتلتئم هذه المرة.([27])
-موقف المعسكرين الغربي والشرقي:
على اختلاف معالجة كلا منهما لأزمة الحرب الإثيوبية، اتفق المعسكران الغربي والشرقي على أنه لا بد من الحفاظ على الاستقرار النسبي في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا؛ نظر للأهمية “الجيوستراتيجية” التي تحتلها هذه المنطقة على خارطة “الجيوبولتيك” الدولية، فلا تخلو المنطقة من مصالح للدول الكبرى من كلا المعسكرين، وتتراوح مصالح هذه الدول في المنطقة بين المصالح الكبرى، والمصالح الحيوية، ويفسر وجود هذه المصالح رفض هذه الدول لفكرة انفصال إقليم “تيجراي”، باعتبار أن هذا الانفصال يعد بمثابة المصدر الأخطر لتفشي الفوضى، وعدم الاستقرار، والإرهاب، والجريمة المنظمة، على نحو ما بينا آنفًا.([28])
خـاتمة:
من خلال دراسة المحاور سالفة البيان يمكننا القول بأنه على الرغم من ترسخ مقاربة الانفصال في الفكر السياسي “للجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” بالتزامن مع نشأتها، وعلى الرغم من تبني أو ترديد مطالب الانفصال في الخطاب السياسي لبعض النخب الحزبية والسياسية التيجرانية الحالية، وبخاصة من “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي”، وعلى الرغم من توافر المقومات السياسية والاقتصادية والمؤسسية والاجتماعية لقيام الدولة في شعب وإقليم “تيجراي”، فإنَّ التداعيات السلبية المحتملة على الداخل الإثيوبي وعلى مصالح دول الجوار والقوى الإقليمية والدولية، تدفع غالبية نُخَب المجتمع الوطني الإثيوبي، وكل الأطراف الخارجية إلى رفض فكرة الانفصال.
وهو ما يمكن القول معه بصحة الفرضية التي رجّحها الباحث بين يدي الدراسة من أن حق تقرير المصير بما قد يؤدي إليه من انفصال إقليم “تيجراي”، سوف تستخدمه “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” كاستراتيجية للمناورة وورقة ضغط، أكثر منه كهدف قابل للتحقق، في أي مفاوضات بين طرفي القتال، سواء التي بدأت حاليًا، أو أي مفاوضات لاحقة، شريطة ألا يصر “آبي أحمد” على استبعاد أو تهميش “الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي” من المشهد السياسي على المستويين الفيدرالي والمحلي.
………………………………………
([1]) د. إبراهيم أحمد نصر الدين، دراسات في النظم السياسية الإفريقية (القاهرة: دار اكتشاف، 2010)، ص ص 205، 209، 214.
([2]) اسم رمزي من التراث التيجراني يرمز إلى المقاومة والتكاتف والشجاعة والقوة.
([3]) Gérard Prunier, “The 1943 Woyane Revolt: A Modern Reassessment”, in The Journal of the Middle East and Africa (Oxfordshire: Routledge, Volume 1, Issue 2 , 187-195, Nov. 2010), Pp. 187-195.
([4]) Zahra Moloo, “Thousands died during Ethiopia’s Red Terror, but the culprits still evade justice”, on CBC Radio Canada Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 1:45 pm, at link:
https://www.cbc.ca/documentarychannel/features/thousands-died-during-ethiopias-red-terror-but-the-culprits-still-evade-jus
([5]) Kinfe Abraham, “What Led to the TPLF Rebellion: The Rise of Weyane Uprising I – Part One“, (Addis Ababa: Ethiopian International Institute for Peace and Development “EIIPD”), Pp. 1-17.
– Kinfe Abraham, “The Rise of Weyane Rebellion II or the TPLF – Part Two“, (Addis Ababa: Ethiopian International Institute for Peace and Development “EIIPD”), Pp. 1-12.
([6]) Bamlak Yideg, Dr. Peteti Premanandam, “The 1976 TPLF Manifesto and Political instability in Amhara Region, Ethiopia”, in Research Review International Journal of Multidisciplinary (Gujarat, India: Volume 4, Issue 1, Jan. 2019), Pp. 300-302.
([7]) Deutsche Welle “DW”, “Ethiopia-Tigray peace talks open in South Africa”, on DW Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 1:50 pm, at link:
https://www.dw.com/en/ethiopia-tigray-peace-talks-open-in-south-africa/a-63554049
([8]) د. حمدي عبد الرحمن حسن، “مخاطر أمنية: جولة جديدة من حرب التيجراي في إثيوبيا”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة في 25 أكتوبر 2022م الساعة 1:05 م على الرابط:
https://acpss.ahram.org.eg/News/17592.aspx
([9]) موقع العربية، “في نزاع إثيوبيا المتصاعد.. ما لا تعرفه عن إقليم تيغراي”، تحققت آخر زيارة فى 25 أكتوبر 2022 الساعة 1:10 م على الرابط:
https://www.alarabiya.net/arab-and-world/2020/11/26/في-نزاع-أثيوبيا-المتصاعد-مالا-تعرفه-عن-اقليم-تيغراي–
([10]) OmnaTigray, On Ethiopia’s Continued Siege of Tigray Despite Its “Humanitarian Truce” Declaration”, on OmnaTigray Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 1:55 pm, at link:
https://omnatigray.org/omna-tigray-on-ethiopias-continued-siege-of-tigray-despite-its-humanitarian-truce-declaration/
([11]) Federal Democratic Republic of Ethiopia, constitution of 1994, Art. 39.
([12]) Elliott O’Carroll, “Ethiopia: Further polarisation as Tigray holds “illegal” election”, on Africa Practice Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:00 pm, at link:
https://africapractice.com/ethiopia-further-polarisation-as-tigray-holds-illegal-election/
([13]) DestaGebremedhin, “Why there are fears that Ethiopia could break up”, on BBC Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:05 pm, at link:
https://www.bbc.com/news/world-africa-53807187
([14]) GoitomTsegay, “For years I opposed the TPLF, but I also oppose this war on Tigray”, on Ethiopia Insight Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:10 pm, at link:
https://www.ethiopia-insight.com/2021/02/03/for-years-i-opposed-the-tplf-but-i-also-oppose-this-war-on-tigray/
([15]) Ethiopia Insight, “The Ethiopian civil war that destroyed Tigray’s economy”, on Ethiopia Insight Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:15 pm, at link:
https://www.ethiopia-insight.com/2022/04/16/the-ethiopian-civil-war-that-destroyed-tigrays-economy/
([16]) Raimoq, “The 1976 TPLF Manifesto TPLF’s “Republic of Greater Tigray””, on Raimoq Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:20 pm, at link:
http://raimoq.com/the-tplfs-manifesto-dream-of-republic-of-greater-tigray/
([17]) Crisis Group, “Ethiopia’s Tigray War: A Deadly, Dangerous Stalemate”, (Brussels: Crisis Group, Africa Briefing No. 171, 2, April 2021), Pp. 1-13.
([18]) HadishZhalay. “Tigrean Cultural Profile”, on Ethno Med Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:25 pm, at link:
https://ethnomed.org/resource/tigrean-cultural-profile
([19]) René Lefort, “Ethiopia’s vicious deadlock”, on Ethiopia Insight Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:25 pm, at link:
https://www.ethiopia-insight.com/2021/04/27/ethiopias-vicious-deadlock/
– Rami Rayess, “We must avoid turning Ethiopia’s inevitable breakup into Yugoslavia II”, on Alarabiya News Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:30 pm, at link:
https://english.alarabiya.net/views/2021/11/30/We-must-avoid-turning-Ethiopia-s-inevitable-breakup-into-Yugoslavia-II
([20]) Ethiopia Insight, “The Ethiopian Civil War that Destroyed Tigray’s Economy”, Op.Cit..
([21]) رنا السيلاوي، “أهم الممرات والمعابر المائية وشرايين التجارة الدولية” على موقع طقس العرب، تحققت آخر زيارة فى 25 أكتوبر 2022م الساعة 1:15 م على الرابط:
https://www.arabiaweather.com/ar/content/أهم-الممرات-والمعابر-المائية-وشرايين-التجارة-الدولية
([22]) Sudans Post, “Ethiopia’s Debretsion Says Right to Self-determination for Tigray not Negotiable”, on Sudans Post Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:35 pm, at link:
https://www.sudanspost.com/ethiopias-debretsion-says-right-to-self-determination-for-tigray-not-negotiable/
([23]) Mohammed Girm, “As Ethiopia and Tigray face tough options, the West needs to be even-handed”, on The Conversation Website, Last Visit at 25 Oct. 2022, at 2:40 pm, at link:
https://theconversation.com/as-ethiopia-and-tigray-face-tough-options-the-west-needs-to-be-even-handed-164714
([24]) DW عربية، “تسع مجموعات إثيوبية متمردة توحد قواها لإسقاط حكومة آبي أحمد”، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة فى 25 أكتوبر 2022 الساعة 1:20 م على الرابط: https://p.dw.com/p/42eN4
([25]) جريدة الأنباء الكويتية، “تجدد القتال بين القوات الإثيوبية ومتمردي «تيغراي» يكسر الهدنة المستمرة منذ أشهر”، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة فى 25 أكتوبر 2022 الساعة 1:25 م على الرابط: https://www.alanba.com.kw/1137426
([26]) BBC News عربي، “صراع تيغراي: من يقف وراء الوضع المشتعل في الإقليم الإثيوبي؟”، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة فى 25 أكتوبر 2022 الساعة 1:30 م على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/inthepress-54960125
([27]) جلال مجاهدي، “موقف الاتحاد الإفريقي من الحق في تقرير المصير في علاقته بمبدأ احترام الحدود الاستعمارية”، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة فى 25 أكتوبر 2022م الساعة 1:35 م على الرابط:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=552379
([28]) أحمد عسكر، “هل تتدخل الصين في الحرب الإثيوبية؟”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة فى 25 أكتوبر 2022 الساعة 1:40 م على الرابط:
https://acpss.ahram.org.eg/News/17345.aspx
– Russian News Agency “TASS”, “Ethiopia thanks Russia for its Position on Tigray Conflict, Support at UN-Ambassador”, TASS
https://tass.com/world/1513673
– EEAS Press Team, “Ethiopia: EU and US Special Envoys Visit to Mekelle, Tigray”, European Union Websites
https://www.eeas.europa.eu/eeas/ethiopia-eu-and-us-special-envoys-visit-mekelle-tigray_en
– Mohammed Girm, “As Ethiopia and Tigray face tough options, the West needs to be even-handed”, on The Conversation
https://theconversation.com/as-ethiopia-and-tigray-face-tough-options-the-west-needs-to-be-even-handed-164714