طالما جادل المفكرون الاستراتيجيون بأن الهدف النهائي من الحروب والصراعات هو الهيمنة، أو بعبارة أخرى، فإن تعريف الانتصار في الحروب هو إجبار العدو على التصرف وفق إرادتك؛ فليس احتلال الأرض أو تدمير سلاح العدو هو المعيار الرئيس للانتصار في الحروب؛ فالأرض يمكن تحريرها، وكذلك السلاح يمكن إعادة بناء منظوماته، لكنَّ الهيمنة وفرض الإرادة هي بمثابة طوق عبودية يستمر لأجيال وأجيال، ويؤدي بالضرورة إلى استنزاف الموارد والتحكم في قادة الدول المهيمن عليها، وفرض إرادة المنتصر عليها وإدخالها في التبعية، وإجبار المهزوم على التصرف وفق إرادة المنتصر بما يحقّق مصالحه العليا.
وطالما كانت القارة الإفريقية مسرحًا للتنافس الدولي بين القوى سواء التقليدية منها أو الصاعدة، بالنظر إلى تعدُّد مواردها وافتقارها في الوقت ذاته إلى التقنيات الحديثة وأُسس البنية التحتية، بما يجعلها مطمعًا لتلك القوى على مدار التاريخ المعاصر. فإلى جانب التنافس الاقتصادي والعسكري بين الصين والغرب في إفريقيا، فإن هناك حربًا تدور رحاها في القارة السمراء حول عقول وقلوب أبنائها فيما يتعلق بالمجال الثقافي، وبالأخص الثقافة السياسية للأفارقة.
وبلا شك فإن تلك الحرب هي جزء من الحرب الأوسع، والتي بات هدفها اقتصاديًّا في العقود الأخيرة؛ فلم يعد المستعمر الجديد، سواء شرقيًّا أو غربيًّا، مهتمًّا باحتلال الأرض واستعباد مَن عليها، ولكن في المقابل بات الهدف هو انتهاب واستنزاف الثروات والمصادر الطبيعية تحت حماية عسكرية، وفي ظل غطاء من القوة المفرطة، وتطوّرت أدوات الاستنزاف التجاري والاقتصادي في عصر العولمة إلى آليات جديدة تقوم بـ”شفط” الثروات، ونقلها إلى الوطن الأم للمستعمر الجديد عن طريق أدوات العولمة، بدون الاصطدام الخشن مع الدولة الضحية أو شعبها.
ومن ضمن آليات السيطرة والهيمنة هي تلك الآليات الثقافية، والتي تزيل من مخيلة الشعوب صورة المستعمر التقليدي وتستبدلها بصورة ذلك المستثمر الذي ينفق أمواله في البنية التحتية ويطوّر المنشآت والملاعب والموانئ ومطاعم الوجبات السريعة، ويمد يد الصداقة إلى الشعوب المستنزفة أصلاً على يد حكامها، والذين يبنون شرعيتهم بدورهم على أدبيات تبرّر وجودهم وسيطرتهم على السلطة، في ظل أمننة الصراعات وعسكرة البيئة المحلية.
كما يعمل دور العسكريين والمؤسسات الأمنية المتزايدة في إفريقيا وسيطرتهم على المجال العام على تضخيم تصوُّر التهديدات وتعظيم دور المؤسسات الأمنية. في حين أن تلك النُّخَب -وطبقًا لبيانات الفساد داخل الدوائر الحاكمة في إفريقيا- هي بالأساس نُخَب متواطئة -في أحسن الأحوال- مع المستعمر العصري ذي اليد الممدودة بشعارات التنمية، لاقتسام الثروات وتوزيعها، ليستقر بها الحال في نهاية المطاف في إحدى البنوك الغربية.
فطبقًا لنظرية التوازن الكلي Omni Balancing في العلاقات الدولية؛ فإن الأنظمة الاستبدادية التي لا تتمتع بشعبية جماهيرية أو شرعية سياسية، تقوم بعمل توازنات في الداخل والخارج من أجل البقاء في السلطة، ولو كان ذلك على حساب المصلحة الوطنية، ومِن ثَم فإن تلك الأنظمة لا تستبعد حتى التنسيق مع أعداء الدولة من أجل البقاء في السلطة، ومِن ثَم فإنها دائمًا ما تبحث عن داعمين خارجيين لمواجهة شعوبهم، وتبحث عن أولئك الداعمين في الشرق والغرب، بما يضمن بقاءهم في السلطة، وتتحالف مع من لا يقوّض سلطاتهم أو يعمل على مهاجمة نموذجهم الاستبدادي، ومن هنا تظهر القوى الدولية الداعمة لتلك الأنظمة غير الشرعية، من أجل تقديم الدعم وأسباب بقائهم في السلطة.
والإمبريالية الثقافية أو الاستعمار الثقافي ارتبط اسمه منذ القدم بالأطماع الغربية الاستعمارية ذات الوسائل الثقافية، كأحد أدوات الهيمنة والسيطرة، والتي تبدأ بإزالة الصورة السلبية عن المحتل وتصويره في شكل المخلِّص أو “المستعمر” الذي يقوم بتعمير الأرض وترقية شعوبها إلى حضارة الآخر المحتل، والذي يتخطى السيطرة على الشعوب إلى سيطرته على النخب، والتي تقوم هي بدورها بعد ذلك بالقيام بذلك الدور نيابة عن المحتل بعد أن تتشرب ثقافته ومنظومته القيمية وتصوراته للخير والشر، بل ومفهوم “الحق” الذي تخلقه وتحميه بترساناتها العسكرية وملاءتها الاقتصادية، في حين تعمل في الوقت ذاته على تصعيد النُّخَب الموالية لها، ومِن ثَمَّ السيطرة على الدولة بكاملها في غضون سنوات معدودة.
والثقافة السياسية هي تلك التصورات الجامعة للشعوب بشأن علاقتهم بالمجال العام وبالدولة وبالسلطة، وبآلية انتخاب الحُكّام، وتصعيد النُّخَب ومؤسسات إنتاجها، أو على الجهة الأخرى التشجيع على العزوف عن المشاركة السياسية أو فقدان الأمل في التغيير، ومِن ثَم الانسحاب من المجال العام. وتلك التصورات تُبْنَى بالأساس عن طريق مؤسسات الدولة المسؤولة عن تشكيل الثقافة الجماهيرية، وبناء التيار السائد والشعور الجمعي تجاه السلطة وممارساتها.
ومن ثَم، فإن تلاعب الحكومات بتلك التصورات وبطريقة بنائها وترويجها وغرسها في المواطنين تتحكم بصورة كبيرة في مخرجات العملية السياسية في تلك البلدان، والتي عادةً ما تقارِن شعوبها ما بين تلك التصورات المبنية من مؤسسات الدولة، وما بين واقعهم المعاش وواقع الدول المجاورة، لا سيما التي تُمثّل نموذجًا ثقافيًّا لهم، سواء باعتبارها دولة قائدة في الإقليم أو في المجال الثقافي أو الديني، أو مع تلك الدول التي تمثل نماذج ناجحة في التنمية والتطور الديمقراطي، بما يمثل حالة مستمرة من الصراع الداخلي وعدم الاستقرار السياسي.
وبلا شك فإن هناك حربًا ثقافية طاحنة تجري في أنحاء العالم الثالث عامة، وفي أنحاء القارة الإفريقية خاصة بشأن التصورات الشعبية لنموذجي الديمقراطية أو الانسحاب، ومِنْ ثَمَّ الاستسلام للديكتاتورية، في ظل جدالات مصنوعة ومهندسة متعلقة بأولويات السلطة، والتي دائمًا ما تُخيّر المواطنين بين الاستقرار وما بين الديمقراطية والتنمية، ودائمًا ما تأتي في ظلّ تهديدات أمنية مصطنعة كذلك على يد النُّخَب ذات المصلحة في تشكيل المناخ العام الضاغط لدفع المواطنين إلى خيار الاستقرار وليس الحرية، والديكتاتورية وليس الديمقراطية، ودعم النظام والسلطة وليس دعم المواطنين والعمل على مصالحهم.
وهنا تأتي المفارقة بين نموذجي الديمقراطية والديكتاتورية؛ حيث إن الدول الغربية داعمة النموذج الديمقراطي هي ذاتها التي تدعم الاستبداد وتتغاضى عن الانقلابات، وتغضّ الطرف عن التطهير العرقي والديني، وتعمل على دعم الجيوش وقادتها الموالين للغرب والموافقين على وجود القواعد العسكرية الأجنبية تحت ضغط القوة الصلبة لتلك الدول التي تعمل على استنزاف الثروات، بينما النموذج الصيني لا يزال في طور النمو التجاري، ولم يتحول إلى تهديد عسكري بعد، ومن ثَمَّ فإنه يَستخدم القوة الناعمة بدلاً من القوة الصلبة، بأدوات تجارية وتنموية بالأساس، تعتمد على التفوق التقني الصيني في مجالات التصنيع والبناء والتركيب والمنشآت مسبقة التجهيز، وذلك بالنظر إلى ضعف قدرة الثقافة الصينية على الاختراق والنفاذ إلى الحضارات الأخرى بسبب عامل اللغة بالأساس، بالإضافة إلى ضعف مخرجاتها الثقافية الأخرى مثل الأفلام والكتب والمسلسلات، وعدم جاذبية النموذج الصيني فيما يتعلق بأسلوب الحياة وطرق العيش مقارنة بنظيرتها الأمريكية.
وذلك النموذج الاقتصادي المعتمد على البعد التنموي يمثل مصدر قوة كبيرة للصين، والتي عززته بأدوات سياسية متمثلة في إنشاء منتديات دولية مثل منتدى التعاون الصيني الإفريقي ومنتدى الموارد المائية الذي يُعنَى بتوفير المياه في مجالات الري والاستفادة القصوى منها، وكذلك تقنيات التنقيب عن المياه وحفر الآبار، وكللت ذلك كله بدبلوماسية المساعدات التنموية، وعملت على منح الدول الإفريقية قروضًا تنموية مقابل امتيازات تنقيب عن الموارد الطبيعية وامتيازات في مجالات التصنيع المحلي، والاستفادة من ثروات القارة الطبيعية، وهو ما مثَّل منظومة متكاملة من القوة الناعمة الصينية التي باتت تتحدَّى هيمنة الغرب التقليدية على إفريقيا، مستفيدة من طفرات من النمو الاقتصادي المتعاقبة، والتي وفَّرت لبكين ملاءة مالية كبرى خلال العقود الأخيرة.
كما عملت الصين على تدريب وتعليم الأفارقة عن طريق مِنَح شاملة في مختلف المجالات، لا سيما التي تهتم بها بكين وعلى رأسها التعدين والبحث عن الثروات الطبيعية، والتي من شأنها أن تغذي نَهَم العملاق التجاري الصيني، وتعزّز من قدرته على منافسة أكبر الاقتصادات الغربية، وتختط لنفسها حصة كبيرة من الملعب العالمي في المجالات الاقتصادية والتجارية.
كما أن المساعدات الصينية، سواء الاقتصادية أو التجارية أو التنموية، أو حتى في صناعتها العسكرية الناشئة والمعتمدة على تسليح الصراعات منخفضة الوتيرة، والتي لا يتم ربطها عادة بمطالب سياسية أو شروط مسبقة بشأن الحريات أو تطبيق الديمقراطية أو حتى الحكم الرشيد بالمنظورات المحلية، بل إن ذلك النفوذ الناعم للصين يساهم بصورة غير مباشرة في تعزيز الديكتاتورية وترسيخ أقدام القادة المستبدين، ويقدم لهم شريان حياة لمقاومة المطالب الغربية ودرعًا للحماية أمام هجماتها المتلاحقة على خصومها من القادة المستبدين.
وهنا يمكن تقسيم القارة الإفريقية إلى أقسام ثلاثة: مستبدون يدعمهم الغرب، ومستبدون تدعمهم الصين، وقادة منتخبون ديموقراطيًّا يتمتعون بقَدْر لا بأس به من الاستقلالية. والصنف الأخير هو حالات نادرة في إفريقيا استطاعت أن تحقّق خطوات ملموسة باتجاه الحكم الرشيد والتقدم والتنمية في ظل تطوُّر لمعايير العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات وارتفاع تصنيف دولهم في المؤشرات الدولية، ويصاحب ذلك ضعف قدرة الخارج على النفاذ إلى صناعة القرار أو نهب الثروات المتحالف مع الفساد، في ظل قدر لا بأس به من الشفافية ومساءلة للحكومات وآلية للمحاسبة في ظل سيادة معتبرة للقانون في تلك الدول الإفريقية.
فعلى سبيل المثال احتلت سيشل صدارة الدول الإفريقية في مؤشر مدركات الفساد لعام 2020م، حيث تفوقت على دول غربية عديدة مثل إسبانيا والبرتغال وإيطاليا واليونان، في حين تلتها إفريقيًّا كلّ من بتسوانا ثم الرأس الأخضر ورواند وموريشيوس. حيث جاء الترتيب النهائي للدولة الإفريقية كالتالي: سيشل – 66 درجة (الترتيب العالمي 27)، بتسوانا – 60 درجة (الترتيب العالمي 35)، الرأس الأخضر– 58 درجة (الترتيب العالمي 41)، راوندا – 54 درجة (الترتيب العالمي 49)، موريشيوس – 53 درجة (الترتيب العالمي 52)، ناميبيا – 51 درجة (الترتيب العالمي 57)، ساو تومي وبرينسيب – 47 درجة (الترتيب العالمي 63)، السنغال – 45 درجة (الترتيب العالمي 67)، ثم جنوب إفريقيا – 44 درجة (الترتيب العالمي 69).
والملاحظ هنا أنها كلها دول ذات ترتيب متقدم أيضًا في سُلّم الديمقراطية في إفريقيا، طبقًا للمؤشر الذي تصدره مجلة الإيكونوميست البريطانية، والذي يصنّف الدول ما بين “ديمقراطية كاملة”، أو “ديمقراطية معيبة”، أو “ديمقراطية هجينة”، او “أنظمة مستبدة”، كما يظهر في الشكل التالي، مما يفيد بأن القدرة على الاختراق والنفوذ الثقافي والهيمنة الأجنبية تتناسب عكسيًّا مع التقدم في الديمقراطية والحكم الرشيد.
مؤشر الديمقراطية لعام 2017م الصادر عن مجلة الإيكونوميست البريطانية
ولا تزال الصين تمثل تحديًا بنموذجها الاستبدادي الذي يحقق في الوقت ذاته معدلات نمو اقتصادي عالية، كما أظهر مؤشر الإيكونوميست لعام 2021م، والذي بدوره رصد تراجعًا حادًّا في الديمقراطية هو الأسوأ حول العالم منذ بداية إصدار المجلة لذلك المؤشر عام 2006م؛ حيث أظهر أن فقط 45% من سكان العالم يعيشون في ظل أنظمة ديمقراطية في الوقت الراهن، بما يفيد بصعود الاتجاهات الاستبدادية حول العالم، في ظل التحديات الوبائية والحروب متعددة الأطراف الجارية الآن في شرق أوروبا بين روسيا والغرب، وكذلك المناوشات الأمريكية الصينية بشأن تايوان، وهو ما يعزز اتجاهات أمننة البيئات المحلية، واتخاذ تلك التهديدات كذريعة لاتخاذ إجراءات قسرية واستثنائية لمختلف الأنظمة حول العالم، ولا سيما في القارة السمراء.
ومِن ثَمَّ فإن تلك الحرب على النفوذ والموارد في إفريقيا لن تحسمها سوى إرادات الشعوب وقدرتها على تقرير مصيرها، وهو الأمر الذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتطوُّر الثقافة السياسية في تلك الدول، التي ازداد فيها الطلب على الديمقراطية بصورة حادة؛ حيث باتت الشعوب على وعي بأهمية المشاركة السياسية ونزاهة صندوق الانتخابات، ولم يترددوا في بذل حياتهم ثمنًا للدفاع عن ذلك، والحالة الكينية خير مثال على ذلك، لا سيما في ظل انتخابات رئاسية قادمة؛ حيث دفع المئات حياتهم ثمنًا في الانتخابات السابقة لعام 2017م؛ بسبب مزاعم التلاعب في نتائج الانتخابات، بما أجبر السلطات على اتخاذ ضمانات لشفافية ونزاهة الانتخابات، كما أجبرت الحركة الشعبية الزعماء في السلطة على الالتزام بالدستور فيما يتعلق بفترات الرئاسة وعدم التلاعب بها، وهي خطوات كبيرة في اتجاه ترسيخ إرادة الشعوب لتحقيق الحكم الرشيد في بلدانها.
إن زيادة الوعي العام هو الضمانة الرئيسة لعدم تلاعب القوى الدولية بمصائر الشعوب، وتعزيز الثقافة السياسية من شأنه أن يزيد إدراك الشعوب بالثمن الذي تدفعه نظير التخلي عن حقوقها السياسية والانسحاب من الشأن العام، كما أن الحكومات المنتخبة ديمقراطيًّا في إفريقيا تستطيع بدورها أن تستغل التنافس الدولي على القارة فيما يصبّ في مصالحها، بتحسين شروط التفاوض نتيجة لذلك التنافس، ومن ثَم الوصول إلى عوائد اقتصادية واجتماعية كبرى نتيجة لذلك الوعي الثقافي بالصراع على قلوبهم وعقولهم.