“يمكن رؤية الطبيعة الاستعمارية للحملات العسكرية (الفرنسية) بشكل أوضح عند مقارنة المسألة برمتها بسلوك الثوريين في غزوهم لأجزاء متفرقة من القارة الأفريقية. ورأت قوة الثورة (الفرنسية) أن رسالتها رسالة تحرير؛ أو كما وصفها نابليون عند قدومه لمصر بأنها رسالة عتق وتمدين…وأسس نابليون “المعهد المصري” Institut d’Egypte (الذي ضم علماء فرنسيون في تخصصات شتى بينها الإسلام وتاريخه Islamicts) في القاهرة بعد وقت قصير من الغزو الفرنسي بغرض تقديم خبرة ضرورية للمحتلين حتى يمكن للقوات الفرنسية إخضاع الأهالي بسهولة، ونجاحها في استغلال الأراضي (والموارد الطبيعية)”([1]) (أليس كونكلين: مهمة التمدين 1895-1930، 1995).
حالة التهديدات الإرهابية في الساحل مطلع 2022:
لم تنقطع التهديدات والأعمال الإرهابية في أجزاء متفرقة من إقليم الساحل مع نهاية العام الفائت (2021)؛ إذ شهدت مالي في الساعات الأخيرة منه مقتل ثمانية جنود ماليين، ولم تعلن أية جماعة مسئوليتها عن الحادث. كما شهدت النيجر، لاسيما مناطقها الحدودية مع ليبيا، منذ نهاية العام 2021 خسائر بشرية كبيرة في صفوف قواتها على يد جماعات وعصابات تهريب السلاح وسط دعوات متزايدة بضرورة مواجهة السلطات النيجرية التهديدات الإرهابية وعصابات التهريب المختلفة بشكل فعال لتفادي مزيد من تصاعد التهديدات الإرهابية المتوقعة في الفترة المقبلة.
وتبدو الأمو في تشاد مختلفة نسبيًا في ظل عدم وجود أية ضغوط إقليمية أو دولية على نظام “محمد إدريس ديبي” للتعجيل بإصلاحات سياسية أو التحول لحكم مدني؛ ورغم الاستقرار السياسي (النسبي) في تشاد فإن تصاعد الأزمات في جميع دول الجوار واضطراب علاقات انجامينا مع بعض هذه الدول يمكن أن يؤثر على جهود تشاد البارزة في مجال الحرب على الإرهاب .
ومن بين دول الساحل الخمس شهدت موريتانيا مفردها تحسنًا ملفتًا في مواجهة التهديدات الإرهابية وتحسن الوضع الأمني بشكل عام بها على امتداد العقد الفائت، وقد تحقق هذا الاستقرار –حسب مراقبون- إثر رفع موازنة الدفاع الموريتانية في تلك الفترة نحو أربعة أضعاف والاستثمار الذكي في الجنود وتدريبهم وتعليمهم بشكل مناسب، وتوجه نواكشوط (مقر كلية دفاع دول الساحل الخمسة G5’s Collège de Défense التي أسست في العام 2018) لعقد شراكات إقليمية ودولية مهمة في مجال مواجهة الإرهاب، في تجربة مهمة يمكن أن تكون ملهمة لبقية دول الإقليم([2]).
وفي ظل تباين السياسات “الوطنية” في مجموعة دول الساحل الخمس، وما يتوقع في العام الجاري من ارتباك السياسات الفرنسية المعنية (والفاعلة واقعيًا في سلوك دول المجموعة بشكل ملموس)، فإنه من المحتمل أن تتراجع قدرات دول المجموعة في مواجهة التهديدات الإرهابية وتصاعدها بشكل غير مسبوق.
الاستجابة الإقليمية للأزمة في مالي وأثرها على “مواجهة الإرهاب”:
اتسمت المقاربة الإقليمية إزاء الأوضاع في مالي بالتوجه نحو مزيد من عزل النظام المالي الحالي بقيادة عاصمي غويتا، فقد علق الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” عضوية باماكو بهما، دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير في مواقف “غويتا” الداخلية وتأجيله الانتخابات التي كان مقررًا لها مطلع العام الجاري (فبراير 2022 بناء على اقتراح قادة غرب أفريقيا في قمة نيجيريا). وفيما تقاطع مع التهديدات الإرهابية ومجمل الأوضاع الأمنية في مالي أكد “غويتا” في خطاب مطول أرسله لقادة “إيكواس” نهاية العام 2021 أنه ثمة حاجة “لخلق الظروف المناسبة لانتخابات شفافة وذات مصداقية” بما في ذلك تكثيف العمليات الأمنية وقانون انتخابي جديد وبداية سلسلة من المنتديات الوطنية “بهدف بناء إجماع للعودة إلى الحكم المدني” دون أن يحدد تواريخًا محددة([3])، وربما في إشارة واضحة لعزمه إطالة أمد “المرحلة الانتقالية” ريثما تفرغ من مضمونها ومخرجاتها المتوقعة في واقع الأمر.
ولا يبدو في الأفق –هذا العام على الأقل- توفر ديناميات حقيقية لتفعيل الدور الإقليمي في الحرب على الإرهاب رغم تكرر الدعوات وكثافتها في الفترة الأخيرة بضرورة تبني حل بقيادة أفريقية (ودعم دولي) لتسوية أزمة التهديدات الإرهابية في إقليم الساحل. وتكشف المقاربة الإقليمية والاستجابة التي تقدمها حكومة “غويتا” عن هامشية مسألة محاربة الإرهاب داخل هذه المقاربة لصالح رؤية شكلية من قبل “إيكواس” لطبيعة المرحلة الانتقالية في مالي وتوقع غير منطقي بإجراء انتخابات في فبراير من العام الجاري رغم الصعوبات السياسية واللوجيستية الواضحة التي تحول دون ذلك، وكذلك من قبل حكومة “غويتا”.
فرنسا وتناقضات مقاربة الحرب على الإرهاب:
واجه الحضور العسكري الفرنسي في دول الساحل –بدرجات متفاوتة- رفضًا متناميًا على خلفية فشله في تحقيق مخرجات ملموسة في مواجهة التهديدات الإرهابية طوال نحو عقد كامل من الحضور على امتداد الإقليم. وتعرضت باريس لضغوط حضور قوى منافسة في الإقليم لتقديم بدائل عن “الهيمنة الفرنسية”. وبدأت روسيا- مثالًا- في استكشاف طرقها نحو الساحل، وبشكل ملموس منذ يوليو 2020 بعدما أثارت الولايات المتحدة قلقها من تزايد الاتهامات الموجهة لقوى الأمن في الإقليم بارتكاب انتهاكات منتظمة لحقوق الإنسان([4]).
وفي المقابل لاحظ مراقبون أن إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتكرر بسحب القوات الفرنسية من مالي (وبقية إقليم الساحل لاحقًا) يشوش على حقيقة أنه (ماكرون) أمر فقط بسحب جزئي لهذه القوات، وأن الغالبية العظمى من القوة البالغة خمسة آلاف جندي غيرت مواقعها من المناطق الشمالية إلى جنوبي مالي نحو منطقة الحدود الثلاثية مع بوركينا فاسو والنيجر، وأن فرنسا لا يمكنها الانسحاب فعليًا وكليًا من واحدة من مناطق نفوذها التقليدي في العالم([5]).
وبغض النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية الفرنسية ربيع العام الجاري فإنه من المرجح استمرار تناقضات مقاربة فرنسا في الحرب على الإرهاب، واستمرار حالة عدم الشفافية في طبيعة أدوار ومهام فرنسا السياسية والأمنية والعسكرية في الإقليم، خاصة في ملف مواجهة التهديدات الإرهابية، مع اضطراب علاقات باريس بعدد من دول الإقليم (ألغى الإليزيه في اللحظات الأخيرة نهاية العام الماضي قمة كانت مجدولة بين ماكرون وغويتا على خلفية “كوفيد-19” بينما تمت قمة ماكرون مع الرئيس الرواندي بول كاجامي في نفس التوقيت في دلاله على حجم الخلاف السياسي بين باريس وباماكو).
تطورات المقاربة الدولية: العامل الروسي في الحرب على الإرهاب
في تطور ملفت شملت الأمم المتحدة دول الساحل الخمس في خطة الدعم التي طرحتها لتعزيز جهود عشرة دول أفريقية (الكاميرون، وجامبيا، وغينيا، ونيجيريا والسنغال إلى جانب دول الساحل) لتحقيق الازدهار والسلام المستدام في الإقليم، ويمكن أن يسهم تكوين ونشر قوة المهام المشتركة لدول الساحل والاستراتيجية المتكاملة للأمم المتحدة United Nations Integrated Strategy (UNIS) للساحل تقدمًا ملموسًا في هذا المسار. وتهدف المقاربة الأممية إلى أخذ وجهات نظر المؤسسات الوطنية والإقليمية والمنظمات الثنائية ومتعددة الأطراف والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني في الاعتبار عند العمل على تفعيل وتطبيق قرارات مجلس الأمن حول الساحل بهدف تحقق السلام الإقليمي وتعجيل إنجاز أهداف التنمية المستدامة([6]).
وفيما يخص تبلور العامل الروسي في الحرب على الإرهاب في إقليم الساحل انطلاقًا من مالي، أوضحت حكومة مالي الانتقالية نهاية العام الماضي أنها انخرطت بالفعل في تعاون تدريبي مع مدربين عسكريين روس “بغض النظر عن مسألة سحب فرنسا قواتها” من شمالي البلاد، وسط نمو ملحوظ رصدته وسائل الإعلام الغربية لتشكك الشعب المالي في جدية جهود فرنسا والدول الأوروبية المعاونة لها في محاربة الجماعات الإرهابية في البلاد (الأمر الذي كان ملفتًا تعبير رئيس وزراء الحكومة الانتقالية مايجا عن نفس مضمونه بتأكيد أن القوات الفرنسية العاملة في مالي تمول سرًا جماعة “أنصار الدين” التابعة لتنظيم القاعدة وأنه ليست لديها نية الفوز بالحرب على الإرهاب) واتخاذها ذريعة لتحقيق أجندة “استعمار جديد”، وتعزيزًا لتقارير روسية ظهرت منذ العام 2019 بطلب دول بإقليم الساحل من موسكو نشر مستشارين عسكريين روس على أراضيها بعد نجاح التجربة الروسية في عدة أقاليم أفريقية لاسيما في جمهورية أفريقيا الوسطى([7]).
وبادرت الخارجية الروسية في ديسمبر 2021 بتأكيد أن روسيا ستواصل مساعدة مالي في حربها ضد الإرهاب وأنها ستعمق مساعدتها لباماكو من أجل تعزيز الفاعلية القتالية لقواتها المسلحة، كما أكدت إدانة موسكو بقوة لأعمال القوات الإرهابية في مالي الصديقة، ودعم الحكومة المالية (المؤقتة) في توجهها للقيام بالإجراءات الضرورية لضمان الأمن واعتقال ومعاقبة المسئولون عن تلك الجرائم. كما لفتت الخارجية الروسية إلى أن روسيا “ستواصل دعم الجهود الجماعية لمكافحة الإرهاب في إقليم “الصحراء- الساحل”، وتقديم مساعدات عملية لدول ذلك الإقليم، بما فيها مالي، من أجل تحسين الفاعلية القتالية لقواتها المسلحة”.
خلاصة:
يبدو أن توجه التهديدات الإرهابية وجهود مواجهتها في إقليم الساحل في الفترة المقبلة ستتأثر بقوة بالصراع على النفوذ بين باريس، صاحبة النفوذ التقليدي في الإقليم، وموسكو، التي تعول كثيرًا –حسب تحليلات كثيرة- على تصاعد تيار قوي بين سكان الإقليم برفض الوجود العسكري الفرنسي واعتباره “استعمارًا جديدًا” وتجارب تدخلها الناجحة في دول أفريقية عدة مثل ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى لتحقيق مكاسب على حساب فرنسا. وفي مقابل اضطراب السياسات الأمريكية في الإقليم، يلاحظ مراقبون احتمالات قوية بانخراط الصين، مجددًا، في شئون إقليم الساحل من باب دعم دوله في حربه ضد الإرهاب.
وتتضح الحاجة الحقيقية إلى حلول ناجعة لمقاربة التهديدات الإرهابية في الإقليم، ربما أهمها تغيير ذهنية واستراتيجيات الدول المعنية بمساعدة دول الإقليم (في مقدمتها فرنسا) نحو مقاربات أكثر تفهمًا وشفافية لطبيعة المتغيرات في إقليم الساحل، وحاجات شعوبها لتنمية حقيقية ومستدامة وإصلاحات سياسية جوهرية، وجهود فعالة (على نحو متبادل) في مواجهة التهديدات الإرهابية. كما يتوقع من حكومات دول الساحل أن تتبع سياسات شراكات إقليمية ودولية بمشروطيات سياسية وأمنية أقل، وإعلاء المصلحة الوطنية لشعوبها، وربما التعبير الأوضح عن خياراتها، حتى تتمكن من مواجهة التهديدات الإرهابية التي لا تقتصر على أحداث العنف والإرهاب بل أصبحت تمتد لاختراقات مجتمعية واسعة النطاق وتهدد بتمدد الأنشطة الإرهابية لمستوى يفوق الكثير من التوقعات.
[1] Conklin, Alice L. A Mission to Civilize; The Republican Idea of Empire in France and West Africa, 1895-1930, Stanford University Press, Stanford, 1995, pp. 17-8.
[2] Sahel conflict calls for coordination between African and international partners, Africa Times, December 8, 2021 https://africatimes.com/2021/12/08/sahel-conflict-calls-for-coordination-between-african-and-international-partners/
[3] Kester Kenn Klomegah, Collective Sanctions Isolating Mali in the Sahel Sahara as Russia Rides the Wave of Anticolonialism, Horn Observer, December 30, 2021 https://hornobserver.com/articles/1506/Collective-Sanctions-Isolating-Mali-in-the-Sahel-Sahara-as-Russia-Rides-the-Wave-of-Anticolonialism
[4] Kester Kenn Klomegah, Terrorism: The Sahel-5 are turning to Russia, Op. Cit.
[5] MK Bhabdrakumar, Russia’s shadows in the Sahel region, Asia Times, December 31, 2021 https://asiatimes.com/2021/12/russias-shadows-in-the-sahel-region/
[6] Kester Kenn Klomegah, Terrorism: The Sahel-5 are turning to Russia, Op. Cit.
[7] MK Bhabdrakumar, Russia’s shadows in the Sahel region, Op. Cit.