تمهيد:
في الـ6 من أغسطس 2021م، يكون قد مضى عشر سنوات على إعلان الرئيس الصومالي السابق “شريف شيخ أحمد” تحرير العاصمة مقديشو من سيطرة حركة الشباب، بَيْدَ أنَّ الحركة أصبحت الآن أقوى بكثير وأكثر ثراءً من ذي قبل؛ حيث إنها أعادت تكييف ذاتها مع بيئة التهديدات الراهنة، وعمدت إلى تغيير استراتيجيتها عبر التخلي عن محاولاتها للسيطرة العسكرية على العاصمة إلى التغلغل داخل مفاصل الدولة والمجتمع الصومالي.
وفي هذا السياق تَستهدف هذه الورقة تحليل محددات استمرارية حركة الشباب واتساع رقعة انتشارها على الرغم من الجهود الدولية والإقليمية.
أولاً: محورية دور النظام المالي لحركة الشباب
بعد مرور 14 عامًا من الجهود المتواصلة التي يبذلها الشركاء الدوليون والإقليميون لحلحلة الأزمة الصومالية، وفرض حالة الاستقرار هناك؛ لا تزال حركة الشباب المجاهدين تمثّل التهديد الأكبر لهذه الجهود، مع تصاعد نشاطها وتنامي قوّتها، ويُعزَى ذلك بدرجة كبيرة إلى استمرار التدفق المالي للحركة والتي فشلت كافة المحاولات -حتى الآن- في تجفيف منابع هذه التدفقات التي تُغذّي أنشطة الحركة، بل وتدفع نحو اتساع رقعة انتشارها وتأثيرها([1]).
وقد أشار تقرير صادر عن فريق الأمم المتحدة المعني بالعقوبات الدولية على الصومال في أكتوبر الماضي أن حركة الشباب لا تزال تمتلك موارد مالية قوية، وتحقق فائضًا ماليًّا ضخمًا؛ حيث حققت الحركة –وفقًا للتقرير- حوالي 13-21 مليون دولار في الفترة ما بين أغسطس 2019م وأغسطس 2020م؛ حيث أضحت الحركة متغلغلة بشكل راسخ داخل النظام المالي الصومالي، بل وتقوم الحركة بالاستثمار في مختلف القطاعات والأعمال، كما أنها تقوم بتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة لعل أبرزها سوق بكارا في العاصمة مقديشو، فضلاً عن التوسع في المعاملات النقدية والحسابات المصرفية عبر البنوك الصومالية على غرار بنك “سلام”([2]) .
ومن أبرز مصادر التدفقات المالية للحركة أيضًا: الضرائب التي تحصل عليها الحركة من الشركات الموجودة في الصومال ورجال الأعمال وملاك المنازل وموانئ الصومال –خاصةً مينائي مقديشو وكيسمايو- ومطاراتها؛ حيث تضطر الشركات لدفع الضرائب للحركة كنوع من الجباية لضمان سلامتها؛ إذ يشير التقرير الصادر عن فريق الأمم المتحدة إلى أن الحركة تجني من الضرائب التي تجمعها من ميناء كيسمايو فقط نحو 6 ملايين دولار سنويًّا([3]) .
وثمة آلية أخرى تستخدمها حركة الشباب في نظامها المالي؛ تتمثل فيما يُعْرَف بـ”الأموال المتنقلة”، والتي تعني أن الحركة تعمل على تجنُّب الاضطرار إلى الذهاب إلى البنوك لمنع إثارة الشكوك حول تعاملات أعضائها، وبدلاً من ذلك تعمد إلى نقل وتحويل الأموال عبر خدمات الهاتف الإلكترونية من خلال تجنُّب الوصول إلى الحد الأقصى في المعاملة الواحدة والمقدر بـ 300 دولار يوميًّا، وبهذه الطريقة تدير الحركة نظامها المالي في معاملاتها اليومية سواء لصرف رواتب عناصرها أو رواتب أرامل قتلاها، والمساعدات للجرحى وغيرها من الأنشطة([4]).
وفي تقرير صادر عن معهد “هيرال” Hiraal Institute الصومالي في أكتوبر 2020م أشار إلى ارتفاع قدرة حركة الشباب على تحصيل الضرائب من مختلف الفئات، وقد توصَّل التقرير إلى أن حركة الشباب تجمع من الشركات الكبرى ضرائب على شكل زكاة سنوية إلى جانب مدفوعات شهرية، والدفع هنا ليس اختياريًّا، بل إن أصحاب الشركات مُجبَرُون على ذلك؛ لضمان الحفاظ على سلامة أعمالهم وعدم تعرُّضهم للأذى مِن قِبَل عناصر حركة الشباب.
كذلك، تقوم كافة الشركات الكبرى في جنوب الصومال بدفع الضرائب إلى حركة الشباب، وفيما يتعلق بالموانئ يتم فرض ضرائب على البضائع أثناء النقل، مع فرض ضريبة على الشاحنة بشكل منفصل، إلى جانب ضريبة الـ2.5% السنوية المفروضة على رجال الأعمال على ثرواتهم المتراكمة، وقد قدَّر تقرير معهد “هيرال” حجم الضرائب الشهرية التي تجمعها حركة الشباب بنحو 15 مليون دولار على أقل تقدير؛ حيث أكد التقرير أن الضرائب التي تجمعها الحركة لا تتضمن فقط الشركات ورجال الأعمال بل تشمل أيضًا المسؤولين الحكوميين([5]) .
بالتالي، يبقى مسار إضعاف حركة الشباب ماليًّا عبر الضغط عليها، وتضييق الخناق من أبرز أدوات مجابهتها، بَيْدَ أنَّ هذه الاستراتيجية سوف تحتاج إلى بعض الوقت كي تؤتي ثمارها، خاصةً أن الحركة لديها احتياطي مالي كبير يمكنها استخدامه لمواجهة الضغط، كما أنها تتطلب آليَّات أكثر شمولاً وفاعلية وتعاونًا أوسع مِن قِبَل الشركاء الدوليين والإقليميين؛ نظرًا لفشل السياسات السابقة في هذا الشأن.
فرغم تطبيق نظام “اعرف عميلك” KYC في كافة المؤسسات الصومالية؛ من خلال فرض قيود على عمليات إدارة وفتح الحسابات لضمان موثوقية العمليات، والحيلولة دون اتجاه الأموال لتمويل التنظيمات الإرهابية، ومنها حركة الشباب، فضلاً عن إلزام البنوك بالإبلاغ عن المعاملات المالية الكبيرة والمشبوهة، إلا أن نظام KYC ينطوي على الكثير من أوجه القصور التي تسمح للحركة بالتلاعب والمراوغة، فهذا النظام لا يتمكن سوى من إيقاف عمليات التمويل مِن قِبَل الأشخاص الخاضعين لعقوبات مالية، والتي يتم الكشف عنها حال اتجه هؤلاء الأشخاص لفتح حسابات لتمويل حركة الشباب، ومِنْ ثَمَّ تعمد الأخيرة إلى استخدام الآلاف من أعضائها غير المعلوم تبعيتهم للحركة، وبالتالي فهم غير مُدْرَجين على قوائم العقوبات، أو التحايل عبر تغيير أسماء عناصرها باستمرار؛ نظرًا لغياب نظام هوية موحد في الصومال، وهو ما يُمثِّل فجوةً أخرى تُسهِّل من أنشطة الحركة([6]) .
ثانيًا: البعد العشائري في تعزيز نفوذ الحركة
كغيرها من العديد البلدان الإفريقية؛ تُمثِّل العشيرة محدِّدًا رئيسيًّا في توجيه دفَّة الأحداث في الصومال، ويلعب توازن القوى بين العشائر المختلقة دورًا محوريًّا في ذلك؛ حيث تضع العشائرية القواعد التي يتعين على السياسيين وأمراء الحرب الالتزام بها، وتدرك حركة الشباب أهمية البُعد العشائري جيدًا وهو ما دفَعها إلى التقارب مع مختلف العشائر الصومالية وضمان ارتباطها بعلاقات قوية بشيوخ العشائر، كما أن غالبية الحركات الإسلامية الموجودة في الصومال لا تعادي حركة الشباب([7]) .
وقد تجنَّبت حركة الشباب الوقوع في خطأ المحاكم الإسلامية التي تم انتقادها –سابقًا- لتقاربها من عشيرة “الهوية” على حساب بقية العشائر؛ إذ عمدت الحركة إلى نسج شبكة واسعة وقوية من العلاقات مع مختلف العشائر خاصة المهمَّشة منها، ولعل هذا ما يُفسّر “القيادة متعدِّدة العشائر” التي تتسم بها حركة الشباب، كما أنَّ الحركة نجحت في استغلال أخطاء الحكومة المركزية في الصومال وقوات الاتحاد الإفريقي والقوات الأمريكية (قبل انسحابها من هناك مطلع العام الجاري)، والذين أغفلوا دور المُحَدِّد العشائري في مكافحة حركة الشباب؛ مما جعل الكثير من العشائر تُفضِّل التعاون مع الحركة على حساب الحكومة المركزية والشركاء الدوليين([8]).
وتنعكس العلاقات المتشابكة بين العشائر الصومالية وحركة الشباب في متابعة نشاط الأخيرة والعمليات التي تقوم بها، فقلما تهاجم الحركة مواطنين صوماليين، لكنها تركز عملياتها بالأساس لاستهداف عناصر الأميصوم وعناصر الأمن والحكومة الصومالية، تحت ادعاء أنها قوات محتلة تسعى للسيطرة على الصومال، ومع مرور الوقت لاقت هذه الشعارات قبولاً واسعًا مِن قِبَل المجتمع الصومالي والكثير من العشائر هناك، ولعل هذا ما يُميّز حركة الشباب عن بقية التنظيمات الإرهابية الأخرى في القارة الإفريقية، سواء كان تنظيم “داعش” أو “بوكو حرام” أو غيرهما، ففي الوقت الذي تستهدف فيه هذه التنظيمات العناصر المدنية المحلية مما يزيد من الاحتقان والغضب الشعبي ضدها، عززت حركة الشباب من علاقاتها بالمجتمع الصومالي؛ مما أكسبها مزيدًا من الدعم الداخلي، و”شرعنة” كثير من أنشطتها، كما باتت حركة الشباب تُمثِّل حَكمًا بين العشائر المتناحرة في الصومال، وتعمل على فرض قواعد وعقوبات للحيلولة دون نُشُوب صراعات بين هذه العشائر.
من ناحية أخرى، تلعب حركة الشباب دورًا محوريًّا في انتخابات شيوخ العشائر؛ حيث تُمثِّل عاملاً مُرجِّحًا في فوز العناصر المقرَّبة والموالية لها، وبمجرد فوز أحد شيوخ العشائر، تقوم الحركة بمنحه مكافآت مالية ومساعدات كبيرة تضمن لهم ولاءه، ومن أبرز أشكال التعاون التي يقدّمها شيوخ العشائر للحركة هو ما يتعلق بالسجلات الخاصة بحجم الثروة في العشيرة، مما يساعدها على فرض الرسوم والضرائب على عناصر العشيرة بما في ذلك أعضاء الحكومة)[9](.
وحتى العشائر التي تحاول معارضة حركة الشباب والوقوف في وجهها تتعرض لترهيب شديد من الحركة، على غرار ما تعرَّض له شيوخ العشائر في منطقة مدج، ويزداد الأمر سوءًا؛ نظرًا للانقسامات الحادة بين العشائر الصومالية، فعندما تتعرض إحداها إلى الضغط والترهيب مِن قِبَل عناصر حركة الشباب لا تتحرك بقية العشائر لدعمها، على الرغم من القوات الكبيرة التي يمكن أن تحشدها هذه العشائر حال تحالفها([10]).
وقد انعكست العلاقات التي تربط حركة الشباب بالعشائر الصومالية في قدرة الحركة على التأثير على العاصمة وإقليم بنادر، وهو ما يتجسَّد في تنفيذ السكان لأوامر الحركة دون اعتراض، كما باتت حركة الشباب تتحكم في أغلب البلدات والقرى الواقعة خارج العاصمة، فضلاً عن هيمنتها على أهم ثلاثة طرق استراتيجية في البلاد([11]).
كذلك، يرتبط دور العشائر في تعزيز نفوذ حركة الشباب بالتسهيلات التي تمنحها هذه العشائر للحركة للهيمنة على النظام التعليمي في المناطق التي تسيطر عليها، أو على أقل تقدير فرض مناهج الحركة في المؤسسات التعليمية([12]).
كما تعمد حركة الشباب إلى قطع الإنترنت عن مناطق سيطرتها، واعتمادها على استراتيجية مكثفة للترويج لأفكارها في المجتمع الصومالي، وهو ما يضمن لها التحكم التام بالمعلومات التي تصل لهذه المناطق في ظل ضعف الآليات المُستخدَمة مِن قِبَل الحكومة والشركاء الدوليين في مواجهة نشاط الحركة اعتمادًا على الأدوات العسكرية بالأساس، فقد باتت حركة الشباب تمتلك ذراعًا إعلاميًّا لنشر أفكارها يتمثَّل في مؤسسة “الكتائب الإعلامية” وإذاعة “الأندلس”، فضلاً عن انتشارها على مواقع التواصل الاجتماعي([13]).
ثالثًا: الإشكالية الهيكلية في المؤسسات الحكومية الصومالية
لم يعد تغلغل حركة الشباب مقصورًا على العشائر الصومالية والمؤسسات غير الرسمية في البلاد، بل تخطى الأمر ذلك، وأضحت الحركة متجذرة داخل المؤسسات الحكومية عبر آلاف العناصر المنخرطة داخل هياكل هذه المؤسسات، وتنقل للحركة كافة السجلات والتقارير المطلوبة، والتي تعزّز نفوذها وهيمنتها، فوفقًا لتقرير معهد “هيرال” –الذي تمت الإشارة إليه سابقًا- فقد بلغ تغلغل حركة الشباب داخل مفاصل الدولة الصومالية حدّ إمداد موظفي الحكومة حركة الشباب بالبيانات التفصيلية حول عمليات الاستيراد ونشاط الشركات ورجال الأعمال؛ مما يوفّر للحركة معلومات مفصلة بشأن الالتزامات الضريبية المقررة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التغلغل للحركة داخل المؤسسات الحكومية لم ينطوِ فقط على صغار الموظفين، بل أضحت الحركة تمتلك عناصرها في المستويات العليا في الحكومة والمؤسسات السيادية في الدولة، كما أشارت تقارير دولية إلى أن هناك العديد من المسؤولين الحكوميين الصوماليين يقدمون أموالاً وضرائب للحركة؛ لضمان سلامتهم. وتتجسد أبرز ملامح قدرة حركة الشباب على تجنيد المسؤولين الحكوميين في قدرتها على الوصول إلى عمق المناطق المُحصَّنة بعمليات إرهابية، وهو ما يتطلب وجود عناصر لها في مراكز قيادية تنقل للحركة معلومات سرية تُمكِّنها من النفاذ وتحقيق أهدافها([14]).
من ناحية أخرى، تمثل معضلة الفساد أحد أكثر الملفات إلحاحًا داخل الصومال، والتي تؤثر بقوة على أداء وفعالية المؤسسات الحكومية هناك، وتجعلها ضعيفة ومُخترَقة بسهولة مِن قِبَل حركة الشباب، حيث تفتقر المؤسسات المالية في الصومال إلى وجود آليات رقابية فعَّالة أو محاكم لها القدرة على الفصل في قضايا الفساد بأشكالها المختلفة السياسية والمالية والإدارية، فقد أشار تقرير مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية إلى أن مقديشو تعاني من مستويات متفاقمة من انتشار الفساد في مختلف المؤسسات الحكومية، وهو الأمر الذي أكَّدته عدة تقارير دولية وأممية أخرى؛ حيث حذَّرت من حجم الفساد المستشري في الصومال ودوره في خدمة أجندة حركة الشباب، ممَّا يُعزّز انخراطها داخل كافة مؤسسات الدولة؛ حيث وثَّقت هذه التقارير العديد من عمليات الفساد الممنهج داخل المؤسسات الحكومية العليا في الصومال([15]).
من ناحية أخرى، في ظل انعكاس الطابع العشائري على تشكيل المؤسسات الحكومية في الصومال؛ أضحت المؤسسات السيادية في مقديشو تعبيرًا واضحًا عن التشرذم القَبَلِيّ في البلاد، ولعل هذا ما يتجسّد بوضوح في وكالة الاستخبارات الصومالية، التي غلب عليها طابع التسييس العشائري، وباتت أداة في يد الحكومة للضغط على المعارضة وترهيبها، ونجحت حركة الشباب في استغلال هذا الأمر في اختراق العديد من المؤسسات السيادية في مقديشو، والذي بلغ درجة اختراق اجتماعات سرية للقيادات الأمنية في البلاد، وهو ما يمنح الحركة المزيد من المعلومات الأمنية السرية، ويزيد من قدرتها على استهداف بعض القيادات، وهو ما أكَّده الجنرال “يوسف محمد سياد” وزير الدولة للدفاع الأسبق في الصومال؛ حيث أشار إلى أن حركة الشباب باتت موجودة في كافة مفاصل الدولة، بما في ذلك القصر الرئاسي الصومالي ومجلس الوزراء والسلطة التشريعية، بل وحتى في تشكيلات الجيش الصومالي([16]).
رابعًا: الانقسام السياسي وتحوُّل أهداف النخب الحاكمة
تشهد الصومال درجة حادة من الانقسام والتشظي بين القوى السياسية المختلفة، وذلك بعد إصرار الرئيس الحالي (منتهية ولايته) “محمد عبد الله فرماجو” على التمسك بالبقاء في السلطة بعد نهاية فترة ولايته في فبراير الماضي، بل قام بتوقيع قانون مثير للجدل ينص على تجديد مدة الرئيس لعامين إضافيين، وهو ما تمخَّض عنه رفض قاطع مِن قِبَل قوى المعارضة، فضلاً عن إدانة دولية وإقليمية واسعة باعتبار أن هذه الخطوة تدفع إلى تقويض المكتسبات التي حقَّقها الشركاء الدوليون في الصومال طيلة السنوات الماضية.
وقد انعكست حالة التشظي والانقسام في الاشتباكات المسلحة التي شهدتها العاصمة مقديشو في أبريل الماضي بين القوات التابعة للرئيس “فرماجو”، وتلك التابعة لقوى المعارضة، فضلاً عن حدوث بعض الانقسامات والانشقاقات داخل مؤسسات الأمن والجيش الصومالي، والذين أعلنوا انضمامهم للمعارضة، مما أفرَز مؤشرات خطيرة بإمكانية عودة البلاد إلى فترة الحرب الاهلية من جديد، خاصةً وأن مقديشو لم تشهد أعمال عنف ذات طابع سياسي منذ عدة سنوات([17]).
لكن، تراجع “فرماجو” عن قرار تمديد فترة ولايته بعد الضغوط الداخلية والخارجية التي تعرض لها، بل وأعلن تسليم قيادة العملية الانتخابية من الناحية الأمنية والسياسية لرئيس الوزراء “محمد حسين روبلي”، وقد قاد الأخير مشاورات مُوسَّعة مع قُوى المعارضة والولايات الإقليمية الخمسة في العاصمة مقديشو تمخَّض عنها التوصل إلى اتفاق نهائي شامل حول إجراء الانتخابات الرئاسية خلال 60 يومًا من تاريخ الاتفاق الموقع في 27 مايو الماضي، وقد تضمن هذا الاتفاق بنودًا تعكس التوافق على غالبية النقاط الخلافية بين القوى السياسية المختلفة والخاصة بلجنة الانتخابات التي تدير المقاعد النيابية الممثلة لأرض الصومال وقضية الانتخابات في إقليم جدو بولاية جوبالاند، فضلاً عن إعادة تشكيل لجنة الانتخابات المثيرة للجدل وتغيير الأعضاء غير المستقلين، وكذلك التوافق على ملف تأمين الانتخابات([18]).
وعلى الرغم من المؤشرات الإيجابية التي يعكسها هذا الاتفاق، خاصةً فيما يتعلق بالحيلولة دون سقوط مقديشو في براثن الحرب الأهلية من جديد؛ إلَّا أنَّ ذلك لا يعني نهاية الانقسامات السياسية بين الأطراف المختلفة، بل على العكس ربما تمثل هذه الخطوة بداية انقسامات أخرى بين قوى المعارضة التي تحالفت طيلة السنوات الأخيرة حول هدف واحد يتمثل في مواجهة تعنُّت الرئيس “فرماجو” ومحاولاته تمهيد الطريق لتعزيز بقائه في السلطة، لكن بعد تلاشي هذا الهدف والاستعداد لإجراء الانتخابات خلال الفترة المقبلة، ربما تبدأ إرهاصات الخلافات الكامنة بين مكونات المعارضة في الظهور من أجل المنافسة على الفوز بالانتخابات المقبلة([19](.
من ناحية أخرى؛ لا يمكن التعويل كثيرًا على الاتفاق الأخير الذي توصلت إليه الأطراف الصومالية في حلحلة الأزمة السياسية الراهنة؛ فلا تزال كافة الأطراف تَحْشد لتعزيز مواقفها وفرص فوزها في الانتخابات المقبلة، وهو ما يترتب عليه تشتيت أهداف النخبة الحاكمة، ويجعلها تُركّز على الصراعات الداخلية بين بعضها البعض، وتترك المجال مفتوحًا أمام تنامي قوة حركة الشباب، وربما يزداد الأمر سوءًا حال نجح “فرماجو” في الفوز بفترة جديدة في الانتخابات المقبلة؛ حيث يمكن أن يزيد هذا السيناريو من حدة الصراعات المسلحة بين القوى السياسية الصومالية، بل وربما يتمخَّض عنه انقسامات وتصدعات في بنية المؤسسات الأمنية في مقديشو، الأمر الذي سيزيد من ضعف الحكومة الصومالية في مواجهة الحركة ونشاطها المتصاعد.
وفي جميع الأحوال تُمثّل حالة التشظي والانقسام السياسي بيئة خصبة أمام حركة الشباب لتعزيز تغلغلها داخل المجتمع الصومالي ومؤسساته المختلفة، فضلاً عن استغلال حالة السيولة الأمنية التي تفرزها الصراعات السياسية بين القوى المختلفة لتوسيع رقعة انتشارها، ولعل هذا ما يعكسه تصاعد مستوى نشاط العمليات التي تقوم بها حركة الشباب، ويضاف لذلك استمرار سيطرة الحركة على المزيد من المناطق والبلدات في الصومال (حوالي خُمْس مساحة الصومال)، فمنذ يناير 2020م نجحت الحركة في استعادة عدة مناطق، لعل أبرزها منطقتان استراتيجيتان على الحدود مع إثيوبيا، فضلاً عن السيطرة على منطقة “عيل عدي” في إقليم “هيران” بولاية هيرشبيلي، ومنطقة “فرلباح”)[20](.
رؤية استشرافية:
ثمة تصاعد مستمر في قدرات حركة الشباب الصومالية بعد عشر سنوات من تحرير العاصمة مقديشو في 2011م، يُعزَى ذلك بالأساس إلى النظام المالي القوي الذي تمتلكه الحركة، والذي يوفّر لها احتياطيات نقدية ضخمة تفوق في بعض الجوانب إيرادات الحكومة المركزية، كما أن شبكة العلاقات المتشابكة التي نسجتها الحركة بالمجتمع الصومالي وانخراطها في مختلف المؤسسات الرسمية وغير الرسمية عزَّز من نفوذها ورفع درجة قبولها في الداخل الصومالي.
من ناحية أخرى، هناك تطور ملحوظ في أساليب العمليات التي تقوم بها الحركة ونوعية الأسلحة التي تستخدمها؛ فقد باتت الحركة تمتلك أسلحة قادرة على إسقاط طائرة أمريكية بدون طيار، كما حدث ذلك في منطقة “تورا توورو” بإقليم سبيلي السفلي([21])، فضلاً عن قدرة الحركة على تصنيع متفجرات محلية الصنع، وإذا ما تم الأخذ في الاعتبار الانسحاب الأمريكي من الصومال مطلع العام الجاري، إضافة إلى استعداد بعثة الأميصوم للانسحاب أيضًا من هناك، بالتالي يمكن أن تصبح القوات الصومالية بمفردها في مواجهة حركة الشباب، وهي فعليًّا غير قادرة على التصدّي للعمليات التي تقوم بها الحركة، وهو ما يزيد من خطورة الوضع في الفترة المقبلة.
لكن، ثمة مباحثات جارية بين الشركاء الدوليين بشأن مرحلة ما بعد الأميصوم، فعلى الرغم من مساعي القوى الأوروبية لوقف تمويل بعثة الأميصوم في الصومال في المستقبل المنظور، في ظل وجود أولويات أخرى أمام هذه الدول خاصةً فيما يتعلق بمنطقة الساحل والصحراء، إلا أنه من غير المرجَّح أن تتخلَّى القوى الدولية والإقليمية عن مكتسباتها خلال السنوات الماضية في الصومال والتضحية بالنفقات الباهظة التي تكلفتها هناك وترك المجال مفتوحًا أمام عودة هيمنة حركة الشباب، وبالتالي فثمة سيناريوهات مطروحة لاستبدال قوات الأميصوم بقوات إقليمية تدعم القوات الصومالية.
وفي النهاية؛ يجب الأخذ في الاعتبار أهمية إعادة بلورة استراتيجية شاملة في التعامل مع حركة الشباب، تتجاوز القصور المرتبط بالتركيز فقط على المُحدِّد الأمني والعسكري إلى وضع آليات أكثر فاعلية لمواجهة النفوذ المتصاعد لحركة الشباب، تتضمَّن أدوات تستهدف تضيق الخناق على مصادر تمويل الحركة، ومجابهة الحملات الدعائية المكثَّفة التي تقوم بها الحركة للترويج لنفسها داخليًّا، فضلاً عن تعزيز هياكل المؤسسات الصومالية، بَيْد أنَّ هذه الجهود تتطلب مشاركة قوية وإرادة حقيقية من الفواعل الدولية والإقليمية والمحلية.
([1]) سيث ج.جونز، أندرو ليبمان، ونايثان تشاندلر، “استراتيجية مكافحة الإرهاب والتمرد في الصومال: تقييم الحملة ضد حركة الشباب”، مؤسسة راند، (2016م)، تاريخ الدخول في 17 يوليو 2021،
([2]) Abdi Latif Dahir, “Feared Shabab Exploit Somali Banking and Invest in Real Estate: U.N. Says”, the New York Times, Oct 11, 2020, https://nyti.ms/2UZ5G3D
([3]) “UN Report shows Al-Shabaab’s infiltration in Somalia’s finance system”, New Delhi Times, October 26, 2020,
([4]) Mohamed Mubarak, “Removing AS from the Financial System”, On Somalia, 6 Apr 2021,
([5]) “A Losing Game: Countering Al-Shabab’s Financial System”, Hiraal Institute, Oct 2020,
([6]( Mubarak, “Removing AS from the Financial System”, ibid.
([7]) عبد الرحمن سهل يوسف، “حركة الشباب الصومالية: المخاطر والتهديدات الأمنية“، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، ( 11 يونيو، 2021م)، تاريخ الدخول في 17 يوليو 2021م،
(([8] أميرة عبد الحليم، “سياسات مكافحة الإرهاب في الصومال”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، (19 فبراير 2018م)، تاريخ الدخول في 17 يوليو 2021م،
([9]) Mohamed Mubarak, “The War That Should Have Ended, On Somalia”, 6 Jul, 2021,
([10]) Mubarak, “The War That Should Have Ended, On Somalia”, ibid.
([11]) عبد الرحمن سهل، “حركة الشباب الصومالية: المخاطر والتهديدات الأمنية”، مرجع سابق.
([12]) عبد العزيز عرب، “خطوات لهزيمة أيديولوجية حركة الشباب السامة في الصومال”، الصومال اليوم، (15 يوليو 2021م) تاريخ الدخول في 18 يوليو 2021م،
([13]) عبد الرحمن سهل، “حركة الشباب الصومالية: المخاطر والتهديدات الأمنية”، مرجع سابق.
([14]) أحمد عسكر، “حدود وتأثير تصاعد نشاط حركة الشباب المجاهدين في القرن الإفريقي”، مركز الإمارات للسياسات، (18 فبراير 2020م)، تاريخ الدخول في 17 يوليو 2021م، https://bit.ly/3kBWcGa
([15]) رانيا نادي محمد، “الفساد السياسي وتأثيره على المؤسسات العامة في الصومال”، المركز العربي للبحوث والدراسات، (16 ديسمير2018م)، تاريخ الدخول في 18 يوليو 2021م، https://bit.ly/3y3B7rS
([16]) “حركة الشباب: متغلغلة في جميع مؤسسات الدولة الصومالية”، قراءات صومالية، (23 يناير 2020م)، تاريخ الدخول في 19 يوليو 2021، https://bit.ly/3xM2Ptf
([17]) عدنان موسى، “اضطرابات متزايدة: التداعيات المحتملة لإعلان الرئيس الصومالي تمديد فترة ولايته”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، (16 أبريل 2021م)، تاريخ الدخول في 19 يوليو 2021، https://bit.ly/3hQ1jkb
([18]) عدنان موسى، “بعد إعلانه عن التراجع: إلى أين يصل التصعيد بين فيرماجو وقوى المعارضة”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، (30 أبريل 2021م)، تاريخ الدخول في 17 يوليو 2021، https://bit.ly/3wRtzHp
([19]) Aggrey Mutambo, “Somalia presidential contest shapes up as election date fixed”, Nation, 3 Jul 2021, https://bit.ly/3kACLNO
([20]) شيماء عطا الله، “حركة الشباب الإرهابية سيطرت على خمس الأراضي الصومالية”، البوابة نيوز، (27 يونيو 2021م)، تاريخ الدخول في 17 يوليو 2021 https://bit.ly/2Us0PrF
([21]) “حركة الشباب تعرض صور حطام طائرة بدون طيار سقطت في إقليم شبيلي السفلى”، الصومال الجديد، (20 يناير، 2020م)، تاريخ الدخول في 19 يوليو 2021، https://bit.ly/3kEYXX6