لا تزال أزمة تمرُّد التيجراي تُلقي بظلالها على الأحداث في القارة السمراء؛ حيث إنَّ هذا التمرّد يسلّط الضوء على مشكلة الدولة الوطنيَّة في إفريقيا، ومدى إيمان الشعوب والأعراق والقبائل بها.
فإلى جانب عمليات اختراق القبائل للحدود من أجل الرعي والحصول على المياه، وكذلك وجود القبائل متفرّقة بين شطري الحدود التي رسمها الاستعمار؛ فإنَّ حالات التمرُّد على الدولة الوطنيَّة والمطالبة بالانفصال تُعَدّ جرسَ إنذار مُهِمًّا يشير إلى وجود مشكلة في تبنّي فكرة الدولة الوطنية في إفريقيا، وذلك في ظل عدم فاعلية الكيانات الكبرى -مثل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) على سبيل المثال- في إيجاد مظلة كبرى تتلاشى معها الحدود الوطنية لتلك الدول، وتدفع فكرة الاندماج إلى الأمام في مقابل النزعات الانفصالية.
وعلى المستوى العالمي تُعدّ فكرة الاتحاد الأوروبي هي المرجع في ذلك الصدد؛ حيث إنَّها تُمثّل نموذجًا ناجحًا يمكن أن يُحتذَى أمام بقية الدول والشعوب في نَقْل خطوط الدفاع والأمن والصراع إلى خارج أنحاء القارة الأوروبية، كما عبَّر عن ذلك خافيير سولانا المفوّض العام السابق للاتحاد الأوروبي الذي قال: “إنَّ خطوط الدفاع الأوروبية يجب أن تكون خارج القارة العجوز”.
واستطاعت أوروبا أن تُطبّق ذلك حرفيًّا عن طريق التعاون لطرد الصراعات الأمنية خارج حدودها، وأصبحت ككتلة واحدة تقوم باستشراف التهديدات الأمنية، مثل الهجرة غير الشرعية، والجريمة المنظَّمة، والقرصنة البحرية، والإرهاب، وغيرها، ومِن ثَمَّ تقوم بمقابلتها خارج حدودها، بالتعاون كذلك مع الدول المجاورة غير المنضمَّة للاتحاد الأوروبي مثل تركيا، التي تحمل عبء المهاجرين عن أوروبا، وتستضيف نيابة عنها ملايين المهجَّرين من حروب الشرق الأوسط.
وفي القارة السمراء لا يزال الأمر بعيدًا تمامًا عن تلك الفكرة المتقدّمة؛ حيث لا تزال القومية والعِرْق والقبيلة والصراع على النفوذ ومناطق الرعي والمياه تُمثّل الشغل الشاغل لتلك الطوائف العِرْقِيَّة والقَبَلِيَّة؛ فلا تزال فكرة الاندماج والاعتمادية المتبادَلة بعيدة عن أذهان تلك الشعوب وقاداتها الذين يُؤَجِّجُون الصِّراعات مثل حالة التيجراي، من أجل الحصول -كعِرْق- على مكاسب أكبر، تتمثّل في الاستئثار بالموقع أو الموارد الطبيعيَّة أو الصراع على المياه والرعي.
والحالة الإثيوبية خيرُ مثال لتلك الأعراق والطوائف والأقاليم شِبْه المستقلة داخل الكيان الفيدرالي؛ حيث تتحيَّز تلك الأعراق في أقاليم بعينها، بما يمثّل أزمة للدولة في صَهْر تلك العرقيات في بوتقة الدولة الوطنية، فذلك الانحياز المكاني يُصَعِّب من مَهمة الحكومة المركزيَّة، فعلى عكس العديد من الأقليات في الدول الإفريقية الذين ينصهرون داخل أغلبية في البلاد؛ فإن الحالة الإثيوبية ظلت قنبلة موقوتة تنذر بالانفجار في أيّ وقتٍ، وتمرّد التيجراي هو خير مثال على ذلك؛ بالرغم من وجود آبي أحمد على رأس السلطة، وقيامه بعدة إصلاحات ديمقراطيَّة وانفتاحًا على الآخر، وعائلته نفسها تُعَدّ متعددة الأعراق والأديان كذلك، وكان يُنْظَر إلى تجربته على أنها المعادلة المفقودة لتوحيد الشعب الإثيوبي تحت المظلة الوطنية.
والآن بعد شبه الحسم العسكري الذي حقَّقته الحكومة بقيادة آبي أحمد، فإن الأمن لم يستتب بعدُ في البلاد، لا سيما بعد هروب العديد من القادة إلى أماكن مختلفة من البلاد، وإمكانيَّة قيامهم بحرب عصابات على غرار تلك التي شنّوها على الحكومة المركزية عام 1991م ضدّ النظام العسكريّ الشيوعيّ الذي كان يقود البلاد آنذاك.
وتشير تقارير إلى أن تلك التكتيكات قد عادت مرة ثانية، ولكن تقوم الحكومة الإثيوبية بالتعتيم على المعلومات داخل البلاد بسبب حالة الحرب الداخلية، وكذلك ليس من المستبعَد أن تقوم طوائف أخرى داخل البلاد بعمل تمرُّد من أجل الانفصال على غرار تمرُّد التيجراي.
كما أدَّت الحملة ضد التيجراي إلى عمليات استهداف واسعة لمن ينتمي إلى عِرقيتهم في عددٍ من المؤسسات التابعة للدولة، وفُرِضَتْ عليهم إجازات قسرية في السفارات وبعثة الاتحاد الإفريقي لحفظ السلام وشركة الطيران الوطنية؛ كما أورد تقرير لمجلة فورين أفيرز الأمريكية.
كما يفيد التقرير الذي نشرته منظمة هيومان رايتس ووتش إلى أن السكان التيجراي الذين يعيشون خارج الإقليم يتعرّضون لمضايقات بشكلٍ ممنهجٍ بما في ذلك عمليات مداهمة أمنية لمنازلهم، بما يهدّد التعايش السلمي داخل البلاد، وكذلك مدى تماسك الحكومة التي سيطر عليها التيجراي منذ عدة سنوات.
ويقوم آبي أحمد الآن بمخاطرة غير مأمونة العواقب بمحاولة فرض مبادئ الدولة الوطنية على الجميع، ويستخدم الجيش الوطني في إنفاذ ذلك، بالرغم من انتماء العديد من عرقية التيجراي إليه، في ظل محاولات محمومة منه بفرض عقيدة الدولة الوطنية على الجميع.
وبالرغم من أن آبي أحمد لا يوجد أمامه خيار آخر غير إعلاء مبادئ الدولة الوطنية؛ إلا أن تلك التكتيكات محفوفة بالمخاطر في ظل دولة مشبعة بالفعل بغيوم العرقية والطائفية، وبتاريخ طويل من الصراعات البينية والحروب الأهلية والمطالب الانفصالية، وفي ظلّ تدنّي مستوى التعليم والأُمِّيَّة والوعي العام بأفكار الدولة الوطنية، وهو مناخ من السهل أن تنتشر فيه الإشاعات والتخرُّصات وعمليات التهييج الشعبي ورفع دعاوى الانفصال والطائفية، والتذرُّع بالدفاع عن الطائفة والعِرْق والأرض. إلا أن آبي أحمد راهن على ذلك بفرض قِيَم الدولة الوطنية وجيشها الوطني الموحَّد غير القابل للانقسام، وهو تَحَدٍّ جديد يُضَاف إلى العديد من التحديات الجسيمة التي يواجهها، ويبذل محاولات مضنية لتفكيك بنية متكلسة من الأفكار القديمة البالية التي ظلت تعمل في ظل الديكتاتورية على لَمْلَمَة أشلاء الدولة بقبضة حديدية وبفرض تعتيم على الإعلام وقيود على العمل السياسي، بتاريخ طويل من الاستبداد الذي كان يجمع شتات الدولة.
والآن، وفي ظل محاولات آبي أحمد للتحوُّل الديمقراطي في تلك البيئة المشبعة بالعِرْقِيَّة، وكذلك في ظل الجغرافيا التي تُشَجِّع على الانحياز والانفصال، فإنَّه لا سبيل سوى أن تحوز الدولة الوطنية كلّ مصادر القوة من أجل تحقيق هدف كونها المحتكر الوحيد للعنف الشرعي في البلاد، ومِنْ ثَمَّ يمكنها من القيام بوظائفها الخاصة بالتوزيع السلطوي للقِيَم في البلاد، في ظلّ إعادة ترتيب النظام السياسيّ وتحوُّله من ديكتاتورية إلى ديمقراطية، وكذلك في ظلّ أزمات إقليميَّة وتنمويَّة متعلقة ببناء سدّ النهضة، ومحاولة التوفيق بين كل تلك المحدِّدات الداخليَّة والإقليميَّة والدوليَّة.
وفي النهاية: تظل تجربة آبي أحمد تجربة مُلْهِمَة للقارة السمراء؛ حيث إنه الآن يبدو كلاعب سيرك يمشي على سلك رفيع ويحمل في يديه عدة ملفات هشَّة، يمكن أن تسقط على الأرض، وفي حالة من عدم الثبات والتوازن، وهي كلها ملفات تستدعي التدخلات الإقليميَّة والدوليَّة لدعم تجربته من ناحية، ومن أجل حلّ المشكلات العالقة مع جيرانه بشأن سدّ النهضة من ناحية أخرى؛ حيث إنَّ المجتمع الدوليّ يجب ألَّا يسمح لإثيوبيا بالسقوط في دوَّامة الفوضى، بالنظر إلى حجمها السكاني وثقلها الإقليميّ والتاريخيّ.