صفية عبد الرحمن أبه
في العقود الأخيرة، تميّزت الديناميات الاجتماعية والسياسية في إفريقيا الوسطى بانتشار الضغوط والأزمات والتوترات التي تجعلها “منطقة تراكم النزاعات” بامتياز؛ وقد نشأت هذه المشكلات والتوترات والأزمات منذ سنوات الاستقلال، وقد انعكست الصعوبات المتتالية منذ ذلك العهد على الطبيعة الحقيقية للعلاقات التي تربط المجموعات الاجتماعية المختلفة، وأدَّت لوضع سياسات لإدارة التنوع الثقافي داخل الدول.
ومع حركات التحرير التي حدثت في بداية التسعينيات، نالت تلك القضايا اهتمامًا كبيرًا، لكن دون تقديم إجابات محددة ناجعة.
وحتى يومنا هذا، يظل التنوع الثقافي والتفاعلات المختلفة تحديًّا أساسيًّا فيما يخص التدابير الاستباقية والحيلولة دون ظهور مصادر جديدة للتوترات والأزمات والصراعات سواء في الداخل أو بين دول المنطقة.
وتركيز هذا المقال منصبٌّ على السياسات العامة لإدارة التنوّع الثقافيّ في عملية بناء السلام في إفريقيا الوسطى، وذلك بطرح تساؤلات عن هذه السياسات وقدرتها على ضمان السلام، والتعايش السلمي الذي يتقاسمه الجميع داخل المجتمعات التي أصبحت تعددية ومتعددة الثقافات.
إن مجتمعات إفريقيا الوسطى تشبه مجتمعات العالم التي تواجه العديد من التحديات في العلاقات بين الثقافات التي زادت حدتها من خلال العولمة والتبادلات العديدة، وحركات الشعوب المهاجرة.
وفي السياق الجيوسياسي، تظل هذه المنطقة صعبة الاحتواء؛ حيث بقيت في شكل يتسم بـ”مجموعة من التوترات”؛ نتيجة مناخ من انعدام الأمن عابر الحدود الذي يُغذّيه تصاعد التطرف العنيف والتعصب.
وقد نتج عن ذلك استمرار الأزمات الإنسانية التي أسفرت عن الآلاف من المشردين داخليًّا واللاجئين والمهاجرين على الحدود وداخل الدول، وهذه الأزمات والتوترات الدائمة لها انعكاسات عميقة على المسارات الاجتماعية والسياسية للدول التي تشارك في عمليات التنمية بنجاح متفاوت بعد عدَّة عقود من الاستقلال.
في الواقع، تُمثّل حالات النزاع التي تم تحديدها على مستوى المنطقة بُعدًا قويًّا من الإقصاء الاجتماعي ضد مجموعات اجتماعيَّة -ثقافية أو سياسية- والتي تعرَّضت للتهميش منذ فترة طويلة، وأضحت تطالب بمكانة مهمة في المشروع الواسع لدمقرطة المجتمعات في إفريقيا.
لكنَّ التحديات التي تفرضها العلاقات بين الثقافات والتنوع انتقلت إلى الهياكل والمجتمعات الصغرى في إفريقيا الوسطى؛ حيث تظل المسألة معقدةً سواء في القياس أو التقييم.
ومع ذلك، فإن التنوّع ليس ظاهرة جديدة في وسط إفريقيا على الرغم من عدم استخدام المصطلحات نفسها دائمًا لوصف المجتمعات التي تحتضن مجموعات اجتماعية متنوعة داخل حدودها.
وقد ظلت المنطقة، على مرّ التاريخ، تقدم دائمًا آثارًا متعددة للهجرات الدولية، كما شهدت إعادة رسم الحدود التي أدت إلى الاختلاط الهائل بين الشعوب والمجتمعات. ويمكن لهذه المُؤثِّرات أن تبرّر وتفسّر بسهولة ظهور النزاعات التي استمرت هناك لعدة عقود.
وعطفًا على ذلك؛ تثير مسألة التنوع الثقافي للجهات الفاعلة –الاجتماعية، السياسية، والاقتصادية المهتمة باستقرار هذا المجال الجيوسياسي- تصورًا جديدًا لمفهوم السلام الذي يوفّق بين الشواغل الأمنية والرغبة القوية والحقيقية للشعوب في العيش المشترك.
ويتشكل هذا التنوع من التقاليد والعادات الخاصة بكُلّ فرد يتحتّم عليه التواصل بـ”الآخر”، ونتيجة لذلك؛ تستجيب إدارة التعدد الثقافي للشواغل الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية. بالنسبة للبعض يوجد سؤال مُلِحّ عن كيفية احترام الأفراد والشعوب للفروق الفردية وخصوصياتها، وكيفية إنتاج سياسات عامة وخاصة تحترم ذلك التنوع؛ دون الاستهزاء بالجوانب الأساسية للديمقراطية.
إن عدم حماية الجماعات المعترف بها كأقليات عرقية قد تبرّر في المستقبل “حق الحبس”، و”حق القمع” و”الحق في القتل”، وهي الأسباب الجذرية للنزاعات وصراعات السلطة التي تفرز آثارًا ضارة ومواجهات عنيفة والتي تشكّك في أُسُس ظهور حياة سياسية ومجتمعية سلمية؛ حيث إنه ليس فقط من غير الواضح كيف يشكل وجود الأقليات ضمانًا لا يمكن دحضه للحفاظ على حقوق أو هوية السكان، بل هو أيضًا يتضمن التمييز، ويهدف إلى تعزيز حدّة مشاعر أنانية المجموعات الاجتماعية.
بالنسبة للآخرين، تظل المجتمعات التي تتميز بالتعددية العرقية – الثقافية متأثرة بالتفاعلات التي تبنيها المجتمعات المختلفة التي تشكّلها، ونتيجة لذلك، يجب أن تكون إدارة الشؤون العامة وتطوير اللعبة السياسية المحلية والوطنية وفقًا لنموذج توافقيّ وديمقراطيّ.
وقد أدّت “إعادة انتعاش” الإثنية والهويات الثقافية في إفريقيا الوسطى إلى زيادة الوعي بالحاجة إلى إدارة التنوع العرقي والثقافي من خلال تنفيذ سياسات تشجّع على مساهمة الجميع، وإشراك مجموعات الأقليات في الاستفادة من موارد المجتمع مع الحفاظ على الوحدة؛ مثل الغالبية العظمى من المجتمعات الحديثة والمعاصرة، والابتعاد عن اعتبار التعددية الثقافية “إقصائية نَشِطة وغير مباشرة” لعدد قليل من الجماعات والمجتمعات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، حتى يضمن إيجاد حلول ديمقراطية للمشكلات التي يثيرها التنوع، بفضل المزايا والآليات المؤسسية المحددة التي يتضمنها.
وبعيدًا عن كونه مجرد نقاش بسيط، فإنّ الواقع في إفريقيا الوسطى يظهر أنه أصبح من الضروري أكثر فأكثر تحديد نموذج للسلام يُجَسِّد المجتمعات في تنوعها الجوهري والمتغيّر.
وعليه، فإن منع الاضطرابات والتوترات أو حل النزاعات يأتي الآن من مصدرين رئيسيين:
الأول: الرغبة في مشاركة المجموعات الثقافية والسياسية والإقليمية والاجتماعية الاقتصادية التي طالما تم تهميشها أو إقصاؤها عن الحكم.
الثاني: إعادة تعريف قضايا الهجرة الداخلية المرتبطة بالجنسية والهوية من ناحية أخرى.
وبالنسبة لدول إفريقيا الوسطى، يتعين عليها اعتبار التنوع الثقافي أمرًا قابلاً للتطوير ورؤيته بشكل مختلف، وخاصة بعد التوافق النسبي في فهم التحديات المتعلقة بالحكم الذي تمَّ التعبير عنه بوضوح مؤخرًا.
ومن الضروري، في هذا السياق، النظر في الضوابط الحالية التي تنظّم التماسك وعلاقة مختلف الفئات الاجتماعية مع الدولة؛ حيث يظل صحيحًا أنه من خلال السياسات العامة يمكن للمجتمع تحديد مبادئ التفاعل التي تخدم التعايش المشترك بامتياز.
لقد أفرز نموذج الحكم في الحقبة الاستعمارية -المبني على بنية تحتية سياسية استبدادية في وسط إفريقيا لفترة طويلة- تداعيات على العلاقات بين الدولة والمجتمع، ونتج عن ذلك أزمة هوية وتهميش لا تزال آثارهما قائمة إلى يومنا هذا.
وهذا النموذج، المقصود أو المفروض على القادة، كان له عواقب مباشرة في تكاثر النزاعات الوطنية والدولية المرتبطة بشكل أو بآخر بالتنوع الثقافي لفترة طويلة، والتي طالت ما يقرب من نصف بلدان المنطقة.
إن الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994م، والحروب الأهلية العنيفة والمميتة خصوصًا في أنغولا وبوروندي، تُشكّل حالات تُعيد إلى الذاكرة مرة أخرى الهوة الفاصلة بين المُمَارَسَات التي تقوم بها مجموعات أو مجتمعات معينة وبين خلق تعايش سِلْمِي حقيقي يُشاطره الجميع.
وفي التاريخ الحديث في جمهورية إفريقيا الوسطى -التي تتعافى بصعوبة من تبعات الحرب الأهلية في عام 2011م- عطفًا على الأحداث الجارية في الكاميرون في مناطق الشمال الغربي والجنوب الغربي في ظل المطالب التي أدّت إلى نشوء “أزمة المنطقة الناطقة بالإنجليزية”؛ والتي تذكّرنا مرة أخرى أن هذه الصراعات تتغذّى وتتأجّج بطريقة معاصرة من خلال مزيج من عوامل الهوية والتصورات الأوسع للعدالة الاقتصادية والاجتماعية حول توزيع الموارد الاقتصادية والسياسية والعامة من قبل الدولة.
وفي شرق تشاد، لا تزال هناك تقارير عن وجود مشكلات خطيرة بين الطوائف، لا سيما بين المزارعين الأصليين من جهة، والرعاة من القبائل العربية من ناحية أخرى.
وينطبق الشيء نفسه في جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ حيث تثير مسألة إدارة التنوع الثقافي أيضًا قضايا الإدارة السياسية والاجتماعية.
وهذا الواقع يثير الشكوك في “العقد الاجتماعي”، وخاصة الممارسات المختلفة التي تُجسِّد التعايش المشترك بضمان آليَّات وأجهزة محددة.
وهذه السياسات العامة لإدارة التنوع الثقافي تتطلب مجموعة من الآليات والممارسات والاستراتيجيات التي تنفّذها الدول والهياكل الحاكمة لضمان احترام جميع الفئات، وإدماج الأفراد الذين قد تُعرِضهم الفروق الفردية جميعًا أو جزءًا مهمًّا منهم للتمييز في المعاملة نتيجة تلك الفروق المتعلقة بالانتماء.
على أن هذا -نوعًا ما- هو الردّ القانوني أو التنظيمي الذي تقدّمه الدول والسلطات العامة من أجل السماح بتنظيم التعايش السلمي بين المكونات الاجتماعية المختلفة، ويبدو أن هذا النهج الجديد يستجيب بفعالية وعدالة للتحديات الحديثة للعلاقات الدولية التي تتحول بشكل متزايد إلى طريقة جديدة للتعامل مع ثقافة الاختلاف ومكانتها المتنامية في النقاش العام حول التكامل ومكافحة التمييز والاختلافات.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه إذا كان هناك ثمة درس يجب الاستفادة منه من الأزمات والحركات السياسية والتوترات الاجتماعية في السنوات الأخيرة فهو أنّه يتحتّم على الدول في وسط إفريقيا ومجتمعاتها إيجاد أرضية توافقية حول تعريف العيش المشترك والشامل والديناميكي معًا؛ لما يشكّل ذلك التحدي الرئيسي الذي يواجه السلام في وسط إفريقيا فيما يخص بناء الدولة وتعزيز الديمقراطية الشاملة والتشاركية، فضلاً عن إيجاد ميثاق جمهوري جديد وبعيد عن أيّ صورة نمطية قائمة على اعتبار التنوع الثقافي والتصور التنموي.
ولتحقيق ذلك، يتعيّن الانطلاق من الطابع التعددي الجوهريّ لأيّ مجتمع تتعايش فيه الجهات الفاعلة مع الاحتياجات والمفاهيم المتنوعة عن العالم، وفي خضمّ هذا التنوع يتحدّد الانتماء للدولة وبناء شرعيتها.
ومن الضروري تفادي الوقوع في مفهوم النموذج المحدد مسبقًا من خلال تفعيل “الدولة التعددية” كما يجب تنفيذ ذلك مع أخذ البرجماتية بعين الاعتبار، والتكيف مع سياقات التنوع المحددة، وبشكل تدريجي؛ وذلك للحيلولة دون حدوث تناقضات بين العمل العام في هذا الاتجاه نفسه مع الواقع الاجتماعي.
وعطفًا على ذلك يتعيّن على كل دولة الاهتمام بتنوع مجتمعها وإعادة تقييم طرق تفاعلها باستمرار مع مختلف الأنظمة التي تشكّله مع الاحتفاظ بشرعيته كضامن للمصلحة العامة.
وبناءً على ذلك، فإن بناء السلام لا يهدف إلى تحقيق السلام السياسي فحسب، بل إلى السلام الاجتماعي من خلال معالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الصراعات.
وبشكل عام، يتعلق الأمر بمنع أو وضع الحدّ للنزاعات المسلحة، وتحقيق الاستقرار؛ من خلال الحلول السلمية التي تمنع العنف، على أن تشمل هذه العملية جميع التدابير المرتبطة مباشرة بهذا الهدف ضمن إطار زمني محدد؛ ممّا يصبّ بالتحديد في المصلحة المباشرة لدول منطقة وسط إفريقيا.
…………………
رابط المقال
https://qiraatafrican.com/fr/new/la-construction-de-la-paix-et-les-politiques-publiques-de-gestion-de-la-diversite-culturelle-en-afrique-centrale-comment-oeuvrer-a-la-gouvernance-culturelle-des-etats#sthash.UjBXdPVm.dpbs