مع ارتفاع أصوات الداعين إلى الديمقراطية عالمياً، وما صاحب ذلك من تبنّي العديد من الدول في أنحاء متفرقة من العالم للديمقراطية شكلاً أو موضوعاً، لم تكن إفريقيا بمنأى عنها؛ إذ استجابت دول إفريقية عدة، في أعقاب الحرب الباردة في تسعينيات القرن السابق، لهذا الزخم العالمي.
جاءت استجابات هذه الدول الإفريقية مدفوعة، لتبنّي إجراءات وُصفت بالديمقراطية بدرجة أو بأخرى، تحت وطأة الضغوط الغربية، وبخاصة المؤسسات المالية الدولية من ناحية، وتنامي أزماتها الداخلية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من ناحية أخرى.
تزامن ذلك مع عودة ما شهدته القارة الإفريقية في فجر الاستقلال عن المستعمر، من صعود المؤسسة العسكرية، خصوصاً في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعد عقد من التجريب الديمقراطي، لتتصدر الساحة السياسية عبر عدد من الانقلابات العسكرية في مختلف أقاليم القارة، لتمثّل طعناً غائراً في جسدها الذي لم يبرأ من أمراضه المزمنة، وتطرح تساؤلاً حول جدوى الديمقراطية الغربية، والتي طالما لاقت صعوبات في تطبيقها ابتداءً في الواقع الإفريقي المتّسم بتعقّد مفرداته وتداخل حوادثه.
تُعنى هذه الدراسة بتقديم محاولة منهاجية لفهم تلك الهوّة بين استمرار (الانقلابات العسكرية)، كآلية قد تكون وحيدة لإحداث انتقال سياسي في إفريقيا، وبين (الديمقراطية) وجدواها كآلية غير قادرة على تبوّؤ تلك الأهمية في إحداث الانتقال السياسي في إفريقيا، حتى في الحالات الموصوفة في بعض إجراءاتها مؤخراً بالديمقراطية في إفريقيا، كنيجيريا وكوت ديفوار، وغيرهما.
محاور الدراسة:
تستعرض الدراسة في هذا المقام تحليل للانقلابات العسكرية في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحالي، للوقوف على عناصر الاستمرار والتغيّر في آليات انتقال السلطة السياسية في إفريقيا، وما قد تحمله من سمات جديدة للتكيّف مع الواقع السياسي المضطّرب في إفريقيا، والتساؤل عن جدوى الديمقراطية من ناحية، ومدى تورّطها في تعميق الأزمات السياسية، وتوالي تلك الانقلابات من ناحية أخرى.
ثم تستعرض الدراسة تحليلاً موجزاً للفهم الغربي لمفهوم (الدمقرطة) المعاصرة، ومحاولات الأكاديميين الغربيين إيجاد مخرج لأزمة تطبيقها في الدول النامية؛ عبر توسيع حدود المفهوم لتستوعب عدداً من عمليات الانتقال السياسي المتباينة، وتداعيات ذلك على الواقع الإفريقي، لتجاوز القصور الذي أصاب المفهوم في الممارسة العملية.
ومن ثم تتجه الدراسة إلى تحليل دور المؤسسة العسكرية في هذا السياق، وما يشكّله من تهديد للرواج الغربي للديمقراطية في إفريقيا، والذي قد لا يفي بالطموح الإفريقي إلى الحكم الرشيد من جهة، وما قد يرتبط به من قصور بيّن في فهم الواقع الإفريقي، يجعل الديمقراطية تقف عاجزة عن ملء حيّز التورّط العسكري في العملية السياسية، وذلك من خلال تفنيد هذا الرأي، وصولاً لقياس صحة فرضية: عدم إمكانية تنميط الغرب خبرتهم المعنية بالديمقراطية والتحوّل إليها، والمتباينة عن الخبرة الإفريقية لنشأة الدولة، على واقع مغاير كليةً ينضح بالخصوصية في كلّ مفرداته.
وأخيراً؛ السعي إلى محاولة فض الاشتباك بين الدور السياسي للمؤسسة العسكرية عبر انقلاباتها المتتالية من ناحية، وقبول الأطراف المعنية بالعملية السياسية لأنماط سياسية، قد تكون أكثر ملائمة واستقراراً للدولة الإفريقية من الشكل الديمقراطي للدولة من ناحية أخرى، ومن ثم التعرض بدرجة أو بأخرى لصيغة العلاقات العسكرية المدنية في إفريقيا، مع رسم سيناريوهات المستقبل لاستمرار الدولة في إفريقيا في ضوء تلك المتغيرات.
أولاً: الدور السياسي للمؤسسة العسكرية في إفريقيا «فوضي الانقلابات»:
لمّا كان التعريف ذائع الصيت للدولة في الفهم الغربي يعدّها المؤسسة الشرعية الوحيدة المخوّلة باستخدام القوة؛ فإن الدولة تمارس هذا الدور عبر عدد من مؤسسات الضبط الاجتماعي، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية؛ لما يتوافر لها من احتكار قوة السلاح. واستناداً لاعتبار النظم الغربية لهذا الدور وتأثيره العميق في واقع الدولة في الغرب، كحالة فرنسا حتى عام 1958م على سبيل المثال، فقد اهتمت تلك النظم بصياغة حدود العلاقات (المدنية – العسكرية)، وما يترتب عليه من التوافق النظري والعملي على ضرورة إخضاع القيادة العسكرية للقيادة السياسية.
بيد أن الحال لا يستقيم على هذه الصورة في بلدان العالم النامي وإفريقيا بخاصة، حيث تتورط المؤسسة العسكرية بصورة أو بأخرى لتشغل حيّزاً معتبراً في الحياة السياسية، وهو ما أطلق عليه بعض الباحثين: «زرع المؤسّسة العسكرية في الحياة المدنية»؛ ليُعبّر بذلك عن تشابك العلاقات وتعقّد مفرداتها لتداخلها مع أبعاد عرقية وقَبَلية ودينية وطائفية في البلدان النامية، وفي مقدمتها البلدان الإفريقية(1).
وعليه؛ لا يمكن إغفال دور المؤسسة العسكرية في الانتقال السياسي في إفريقيا، وهو الانتقال الذي يقف على مسافةٍ مَّا مغايرة لآلية الديمقراطية.
لقد شهدت عدد من الدول الإفريقية تورّطات عسكرية مباشرة عبر الانقلابات العسكرية، كحالات موريتانيا ومدغشقر والنيجر ومالي، في أعوام: 2008م، 2009م، 2010م، 2012م على التوالي، أو غير مباشرة عبر ترجيح طرف سياسي على آخر، كحالة كوت ديفوار في أعقاب الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أكتوبر 2010م، وهو التورّط العسكري في العملية السياسية للدولة الإفريقية الذي يرتبط بالسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتداعياتها في كلّ حالة.
ثانياً: عودة الانقلابات.. الأسباب والتداعيات «الاعتقاد في جدوى السلاح»:
على الرغم من القلق المتزايد للاتحاد الإفريقي تجاه تنامي التورّط العسكري المباشر عبر الانقلابات، واتجاه الاتحاد إلى اتخاذ موقف رافض للاعتراف بأي سلطة تصل إلى الحكم عبر مسلك الانقلاب العسكري، وعدم السماح لها بالمشاركة في أعمال قمّته، وهو الاتجاه الذي تمثّل في موقف القادة الأفارقة الرافض للانقلابات العسكرية، بتعهد 43 رئيساً إفريقياً في إعلان الجزائر الصادر عن القمّة الإفريقية المنعقدة بالجزائر في يوليو 1999م، باتخاذ عقوبات صارمة على الإنقلابيين، هادفة بذلك إلى وضع حدٍّ لمطامع العسكر في السلطة، إلا أن ذلك لم يؤثر بحال في تفشي عدوى الانقلابات من جديد؛ على نحو ما سيرد بيانه(2).
الانقلاب العسكري في مالي: شهدت مالي، التي اتّسمت بقدر من الاستقرار السياسي مؤخراً في 22 مارس 2012م، انقلاب مجموعة من صغار العسكريين، يقودهم النقيب «أمادو سونجو» الذي تلقّى تدريبات عسكرية سابقة في الولايات المتحدة الأمريكية، على الرئيس «أمادو توماني توري» القائد السابق بسلاح المظلات الذي أطاح بنظام حكم دكتاتوري بانقلاب عام 1991م، وتخلّى عن السلطة في العام التالي قبل أن يعود إليها عبر صناديق الانتخابات.
ومع تزايد حدّة التوترات قبل الانتخابات الرئاسية التي كان مزمع عقدها في أبريل 2012م؛ جاء هذا الانقلاب على خلفية موقف صغار العسكريين من الحرب التي يقودها الجيش المالي ضد انتفاضة الطوارق، وتذمّرهم بشأن طريقة تعامل الرئيس «توري» مع «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» في شمالي البلاد، معلنين التعهّد بإعادة السلطة إلى حكومة منتخبة فور توحيد البلاد، وذلك في خضم إدانة المجتمع الدولي الواسعة للانقلاب من ناحية، وإدانته لإعلان الطوارق استقلال شمالي مالي من ناحية ثانية، ومحاولات عسكريين ينتمون إلى الحرس الجمهوري الموالي للنظام السابق قيادة انقلاب مضاد من ناحية ثالثة(3).
وقد اتّسم انقلاب مالي بعدم وجود كبار الضباط والقادة العسكريين في قيادة الانقلاب الذي تحوّل من حركة احتجاج وتمرّد عسكرية على بعض الأوضاع، وبخاصة المطالبة بزيادة تسليحهم – وهي الاحتجاجات المألوفة عسكرياً في إفريقيا -، إلى انقلاب عسكري أطاح برئيس منتخب كان ينوي مغادرة السلطة في شهر أبريل الماضي، ومن ثم يذهب مراقبون إلى ترجيح غياب دور فرنسي في دعم الانقلاب الذي وصفه بعضهم بالارتجالية(4).
الانقلاب العسكري في النيجر: وقد مثّل انقلاب النيجر في الثامن عشر من فبراير 2010م، والذي قاده «سالو دجيبو» قائد وحدة الدعم في نيامي، أحدَ تجليات استدعاء الانقلاب العسكري كآلية للتغيير السياسي، وذلك من خلال محاصرته للقصر الرئاسي، والإطاحة بالرئيس «مامادو تانجا» ذي النيف والسبعين عاماً، واعتقاله إبّان عقده اجتماعاً لمجلس الوزراء، وهو الرئيس الذي اعتلى المنصب الرئاسي في العام 1999م في أعقاب انتخابات ديمقراطية خلفاً لـ «داودا مالام وانكي»، وقد نصّب «سالو دجيبو» نفسه على ما سُمّي «المجلس الأعلى لإعادة الديمقراطية».
ومن الأسباب المعلنة الدافعة لهذا الانقلاب ما أعلنه قائده، وظهرت تجلياته في اسم مجلس الانقلاب، وهو ادّعاء «إعادة الديمقراطية»، خصوصاً في ضوء ما قيل عن إمعان الرئيس المنقلب عليه في مخالفة القواعد الديمقراطية، وذلك في أعقاب الأزمة التي أثارها إعماله للمادة 53 من الدستور، والتي تخوّل للرئيس أن يحكم بموجب مراسيم في حال تعرض الاستقلال والجمهورية للخطر، رداً على قرار المحكمة الدستورية اعتراض مشروع استفتاء يهدف إلى تعديل الدستور لتمكينه من الترشح لولاية ثالثة، وتوسيع صلاحياته.
وهذا ما دفع بالمعارضة، ممثّلة في جبهة الدفاع عن الديمقراطية، إلى إدانة ما سُمّي «انقلاب الرئيس»، ودعت قوات الأمن والدفاع إلى «العصيان»، عبر توزيع منشورات في ثكنات الجيش تدعو إلى عدم شرعية بقاء الرئيس في السلطة بعد انتهاء آخر عام 2009م، وما ذكّى ذلك رفض تعاطي «تانجا» مع بعض القضايا الشائكة، مثل متمردي الطوارق، وبخاصة «حركة النيجر للعدالة» التي نشأت لمواجهة القوات الحكومية عام 2007م من ناحية، واتجاهه لإقامة علاقات مع فنزويلا وإيران، والتفاوض مع الصين للاستثمار في مجال اليورانيوم، مما اعتُبر تهديداً للمصالح الفرنسية في النيجر من ناحية أخرى، وعلاوة على عدم استجابة «تانجا» للضغوط الدولية والإقليمية المطالبة بإيجاد تسوية سلمية للأزمة في النيجر، حيث قامت الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا «الإيكواس» بتعليق عضوية النيجر، وعيّنت الرئيس النيجيري الأسبق «عبد السلام أبو بكر» مبعوثاً لها هناك، في حين طلب الاتحاد الإفريقي من الرئيس السنغالي «عبد الله واد» التوسّط في هذه الأزمة(5).
واستمر التصعيد من الجميع، حيث أنه في أعقاب موقف المعارضة أصدر «تانجا» أمراً بحلّ المحكمة الدستورية التي اعترضت ثلاث مرات على مشروع الاستفتاء، وكذا حلّ الجمعية الوطنية، ليحصل بعد ذلك على استفتاء تمديده، وهو ما قاد «سالو دجيبو» للانقلاب عليه، وسط ردود فعل شعبية داعمة لإنهاء فترة حكم «تانجا»(6).
وبرغم احتفاظ المجلس الإنقلابي فعلياً بالسلطة التنفيذية في أعقاب الانقلاب، إلا أن ذلك لم يحل دون اتخاذ رئيسه «سالو دجيبو» قراراً بتعيين «محمدو داندا» – باعتباره مدنياً – رئيساً للوزراء، إلى جانب تعهّده بعقد الانتخابات، وعدم ترشّح أيٍّ من أعضاء المجلس الإنقلابي لمنصب الرئاسة.
وتنتهي أحد فصول توّرط المؤسسة العسكرية في العملية السياسية بإجراء الانتخابات الرئاسية على جَوْلتين في يناير ومارس 2011م، انتهت بفوز «محمدو أوسوفو» بنسبة 58,4% في الجولة الثانية(7).
الانقلاب العسكري في مدغشقر: لم تكن مدغشقر تلك الدولة الرابضة على ساحل شرق إفريقيا بمنأى عن استعادة آلية الانقلاب العسكري لإحداث الانتقال السياسي، حيث شهدت في مارس 2009م عملية انقلابية جعلتها ثالث دولة بعد موريتانيا وغينيا تتعرض لفرض عقوبات من قِبَل الاتحاد الإفريقي، تتصل بتعليق العضوية، بسبب ما شهدته مدغشقر من انقلاب مؤخراً، أطاح فيه زعيم المعارضة «أندري راجولينا» وعمدة العاصمة «انتناناريفو» بالرئيس «مارك رافالومانانا» بدعم المؤسسة العسكرية، وتشكيل نظام انتقالي لإدارة البلاد برئاسة «راجولينا» في 17 مارس 2009م(8).
إلا أن ذلك فتح الباب أمام محاولات انقلابية أخرى، حيث سعى متمردون من الجيش في 17 نوفمبر 2010م للانقلاب على الحكومة، وإعلانهم تشكيل مجلس عسكري في مدغشقر، وهي العملية التي انتهت باستسلام المتمردين في أعقاب قيام قوات الجيش بمهاجمة ثكنة للمتمردين(9).
وقد تزامنت تلك المحاولة مع الإعلان عن تنظيم استفتاء حول الدستور، دعا إليه «راجولينا»، بهدف الخروج من الأزمة السياسية التي تعانيها البلاد منذ ما يزيد عن سنتين، ينتهي بتنظيم انتخابات رئاسية في مايو 2012م، إلا أنه على الجانب الأخر ترفض التيارات السياسية الثلاثة للرؤساء السابقين (رافالومانانا ، و ديدييه راتسيراكا ، و البير زافي) إجراءات «راجولينا»، ودعت لمقاطعة التصويت، بالإضافة إلى الرفض الدولي لتلك الانتخابات أيضاً لأنها «لم تحظ بإجماع».
وعليه؛ يمكن القول بأن الإجراءات الديمقراطية تكون عديمة الجدوى في حال رفض القوى السياسية الرئيسة لها، وهو ما يطرح أسئلة كثيرة عن آلية الانتقال السياسي المرغوب فيها(10).
الانقلاب العسكري في غينيا بيساو: لم يختلف الحال كثيراً في غينيا بيساو، والتي شهدت في مارس 2009م انقلاباً عسكرياً، بقيام مجموعة من الجنود باغتيال الرئيس «جواو برناردو فييرا»، وهو الانقلاب الذي لا تختلف أسبابه المعلنة عمّا سبقه فيما يتصل بالادّعاء بحرصهم على حماية الأمن والاستقرار، وصيانة الديمقراطية، وضمان نزاهة الحكم وشفافيته، وذلك في ظل تعاطف المجتمع الدولي، مع رفع العسكر لشعارات الديمقراطية من ناحية، ورفض الاتحاد الإفريقي لآلية الانقلابات العسكرية، وضغطه في اتجاه الاسراع بالعودة للديمقراطية والشرعية الدستورية إلى مسارها.
وفي أعقاب محاولات تهدئة الأوضاع عُقدت الانتخابات الرئاسية في 28 يونيو 2009م، لتنتهي بفوز «مالام باسيا سانها» بنسبة 63,31% في الجولة الثانية للانتخابات(11)، والذي تُوفي متأثراً بمرضه عقب سفره لإجراء جراحة في باريس في نوفمبر 2012م، ليعقبه حالة من عدم الاستقرار، تخللتها محاولات من مجموعات عسكرية للسيطرة على الحكم، انتهت بتعيين «رايموندو بيريرا» رئيساً بالنيابة في 9 يناير 2012 م(12)، أعقبها محاولة انقلابية في 13 أبريل 2012م قبل أسابيع من جولة الاعادة للانتخابات الرئاسية في 22/4/2012م، والتي بدأت جولتها الأولى في 18 مارس 2012م(13)، والتي لم تصدر نتائج نهائية مؤكّدة من المحكمة العليا في البلاد بعد، إلا أنه يُتوقع فوز رئيس الوزراء المنتهية ولايته «كارلوس جوميز جونيور».
وعليه؛ يمكن قراءة تلك المحاولة الانقلابية في أثناء الانتخابات كمؤشر آخر على رفض بعض الأطراف السياسية الرئيسة القبول بالديمقراطية ونتائجها(14).
الانقلاب العسكري في غينيا كوناكري: وفي 23 ديسمبر 2008م شهدت غينيا كوناكري انقلاباً عسكرياً مدعوماً على المستوى الشعبي، قام به النقيب «موسى داديس كامارا» الذي يُعد أحد الضباط الصغار في الجيش الغيني، وذلك فور وفاة الرئيس الغيني الجنرال «لانسانا كونتي»، وهو الانقلاب العسكري الثاني في تاريخ غينيا بعد الاستقلال، مُشكّلاً مجلس انقلاب باسم «المجلس الوطني للديمقراطية والتنمية»، والذي لقي دعماً بصورة أو بأخرى من الرئيس السنغالي عبدالله واد.
وقد أصدر «كمارا» تصريحات لمواجهة الفساد، وبخاصة مكافحة تجارة تهريب المخدِّرات، والتي عُدّ ابن الرئيس الراحل «لانسانا كونتي» أحد المتهمين فيها(15).
إلا أنه سرعان ما تراجع التأييد الشعبي عقب الإعلان عن ترشيح قائد الانقلاب للانتخابات الرئاسية، مما أغضب المعارضة التي نظّمت احتجاجات واسعة، مما ترتب عليها تطورات للأحداث في يوم 28 سبتمبر 2009م، حيث قُتل 157 من المحتجين المعارضين على أيدي أفراد ينتمون لقوات الأمن وبعض أفراد الحرس الرئاسي، وقيام أحد مساعدي «كمارا» العسكريين بمحاولة اغتياله، الذي فر بعدها من البلاد، ليتولى الجنرال «سيكوبا كوناتي» كقائد عسكري مؤقّت بناءً على اتفاق تم توقيعه في «واجادوجو» عاصمة بوركينا فاسو في يناير 2010م، انتهت إلى عدم تقيده للأحزاب السياسية المعارضة بتعيين رئيس وزراء مدني، وتحديد موعد إجراء انتخابات رئاسية في 27 من يونيو 2010م، وهي الانتخابات التي شهدت الجولة الأولى منها أعمال عنف بين أنصار الفصائل السياسية المتنافسة، وفاز بها «ألفا كوندي» أحد أبرز رموز المعارضة في البلاد(16).
تحليل التورّط العسكري (المباشر، وغير المباشر) في العملية السياسية:
انطلاقاً من العرض السابق، وفي ضوء الخبرة الإفريقية لسطوة المؤسسة العسكرية، سعى كثير من الباحثين إلى تفسير التورط العسكري (المباشر، وغير المباشر) في العملية السياسية، حيث يرى نفر منهم أن تدخل العسكريين في العملية السياسية إنما يُعزى في الأساس لأسباب تخص العسكريين أنفسهم؛ منها روح الخدمة العامة، وجمعهم بين المهارات الإدارية والبطولات العسكرية، وأصولهم الاجتماعية المستمدة من الطبقة المتوسطة والمتوسطة الدنيا، وكذا تماسكهم الداخلي، ودرجة التعليم المتقاربة التي يتمتعون بها، ناهيك عن أسباب قد تتصل بالعسكريين كفئة اجتماعية، كانخفاض الرواتب، أو المساس بكرامة المهنة وشرفها، أو شعور بعض العسكريين بتهديدٍ مصدره ضبّاط آخرون(17).
في حين يذهب نفر آخر من الباحثين، ومنهم هنتنجتون، إلى أن الأسباب الرئيسة الدافعة لتدخّل العسكريين في العملية السياسية ليست أسباباً عسكرية في الأساس، ولكنّها أسباب سياسية لا تعكس الخصائص الاجتماعية والتنظيمية للمؤسسة العسكرية، ولكنّها تعكس البنيان السياسي والمؤسسي للمجتمع، ففي بلدان العالم الثالث تفقد السياسة كثيراً من خصائصها المتصلة باستقلالها الذاتي، أو تركيبها أو تماسكها وتكيّفها، حيث تنخرط كلّ القوى والجماعات الاجتماعية في العمل السياسي المباشر، وعليه؛ يتصدر المشهد عسكريون سياسيون، وبيروقراطيون سياسيون، واتحادات ونقابات سياسية، وشركات كبرى، ورجال أعمال سياسيون، ومن ثم يصير تدخّل العسكريين في هذه الحالة؛ بدافع الحرص على مسألة التوزيع الخاص بالقوة والمكانة داخل النظام السياسي.
إلا أن الباحث يرى أهمية التمييز بين مجموعات من الأسباب الدافعة للمؤسسة العسكرية للنهوض فجراً للاستيلاء على السلطة، والتورّط المباشر في المؤسسة العسكرية، وذلك لعدم إمكانية الدفع بوجود مجموعة وحيدة من الأسباب، وإنما هناك مجموعات من الأسباب التي يتصل بعضها بالمجتمع والدولة، وبعضها الآخر يتصل بالمؤسسة العسكرية نفسها، وثالث تلك المجموعات هي التي تتصل بالسياق الدولي(18)، وبيان ذلك على النحو الآتي:
1 – مجموعة الأسباب المتصلة بواقع المجتمع والدولة في إفريقيا:
يُضاف إلى الإرث الاستعماري، بما حمله من تشوّهات اجتماعية واقتصادية وسياسية، وهو الإرث الذي أثقل كاهل الدولة الإفريقية، سمة أصيلة أُخرى هي غياب المؤسسية، وهي السمة المعتبرة في كثير من مؤسسات الدولة في إفريقيا، لارتباطها بانحيازات عرقية وقبلية وطائفية من ناحية، وإخفاق إداري من ناحية أُخرى، ناهيك عن تماسك النفوذ القبلي في مواجهة مؤسسات الدولة.
وقد مهّد هذا الضعف العام لمؤسسات الدولة في إفريقيا للمؤسسة العسكرية، والتي لا تنفصل بدرجة أو بأخرى عن هذا الضعف وتشوّهات الدّرب، لشغل حيّز معتبر في الواقع السياسي الإفريقي، لما لها من حيازة القدر الأكبر من السلاح.
2 – مجموعة الأسباب الذاتية المتصلة بالمؤسسة العسكرية الإفريقية:
هناك العديد من الأسباب التي تدفع المؤسسة العسكرية إلى التورّط المباشر في العملية السياسية، منها ما يتصل بنفوذ قبيلة بعينها أو طائفةٍ ما وهيمنتها على المناصب العسكرية العليا(19)، ومنها ما يتصل بالوضعية الاقتصادية لأفراد المؤسسة، والتي كانت الدافع الرئيس وراء اضطرابات وحدات من الجيش في بوركينافاسو مؤخراً(20)، ومنها ما يتصل بتنامي دور المؤسسة العسكرية في رسم المستقبل السياسي للبلاد، كالحالة الموريتانية، خصوصاً في أعقاب انقلابي 2005م، 2008م، فعلى الرغم من النشأة المدنية للدولة الموريتانية بعد الاستقلال، واستمرارها بصبغتها السلطوية المدنية حتى منتصف السبعينيات، ظهر دور المؤسسة العسكرية منذ قيام حرب الصحراء التي تطلّبت توجيه البلاد لاقتصاد الحرب، وتنامى الدور المحوري للعسكريين في مستقبل البلاد، وهو ما انتهى بحدوث أولى تلك الانقلابات العسكرية في النظام السياسي الموريتاني عام 1978م(21).
3 – مجموعة الأسباب ذات الصلة بالسياق الدولي لإفريقيا:
لا يمكن بحال إنكار التورّط الدولي في مسار عملية الانتقال السياسي عبر المؤسسة العسكرية في إفريقيا، وهو التورّط الذي يتخذ صورة دائمة، كالقواعد العسكرية الغربية في عدد من البلدان الإفريقية، أو التدخّل المؤقّت لدعم طرف سياسي على آخر(22)، ويعد الانتقال السياسي في كوت ديفوار نموذجاً على دور السياق الدولي المؤثّر، وكذا دور المؤسسة العسكرية المعتبر، وتداعيات ذلك على آلية الديمقراطية في إحداث الانتقال السياسي، فعلى الرغم من إجراء الانتخابات الرئاسية الأخيرة على جَوْلتين، انتهت بصدام مسلّح بين المرشحين المتنافسين «الحسن واتارا» رئيس الوزراء الأسبق، و «لوران كودو جباجبو»، وهو الصدام الذي حُسم بالدعم الفرنسي للقوات الموالية لواتارا، ومن ثم فإن الاهتمام الدولي يتباين تبعاً لأهمية الدولة المعنية بالانتقال السياسي الذي تؤدي فيه المؤسسة العسكرية دوراً معتبراً(23).
ثالثاً: أداء الديمقراطية وخصوصية الواقع الإفريقي:
على الرغم من الالتفاف العالمي المتزايد – على المستوى الرسمي وغير الرسمي – نحو الشعار الديمقراطي، ومحاولة تنميطه من قِبَل المؤسسات المالية العالمية، والدول المانحة من جهة، أو المجتمع المدني العالمي من جهة أُخرى، فإن ذلك لا ينفي بحال ما يوجّه لهذا الشعار من عدم تماسك نظري أحياناً، أو قصور تطبيقي، نتيجة عدم اعتبار خصوصية المجتمعات الإفريقية، والتي تتباين في سياقاتها الثقافية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو القصور الذي دفع عديدين للتشكيك – أو الاعتقاد – في عدم جدوى تطبيق الفهم الغربي للديمقراطية في سياقات مغايرة عن تلك السياقات التي نشأت فيها في الغرب.
ومع وصول موجة الدمقرطة الثالثة لسواحل القارة الإفريقية المضطربة (24) – طبقاً لرؤية هنتنجتون – في مطلع التسعينيات، وما صاحب ذلك من الحديث عن مآلات سيناريوهات التحوّل نحو الديمقراطية في تلك البلدان، واحتمالات وصولها لمرحلة الرسوخ الديمقراطي – أي رسوخ قواعد اللعبة الديمقراطية، وهو ما يُعبّر عنه بالإنجليزية “the only game in the town” – وتبعاتها، وموقف المؤسسة العسكرية من هذا التحوّل، والصيغ المحتملة لتطويعها مدنياً، اتضح بمرور الوقت أن ذلك لم يؤثر بحال على عمق التورّط العسكري في العملية السياسية، بشكل مباشر أو غير مباشر، بل تزايدت حدّة وتيرتها في بعض الأحيان بدعوى استعادة الديمقراطية، ومع ذلك لم يحدث استقرار أو قبول لعمليات التحوّل الديمقراطي في إفريقيا جنوب الصحراء.
ويُعزى عدم الاستقرار إلى عدد من الأسباب التي تتصل بخصوصية السياقات التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، لتقع بذلك الدولة في إفريقيا بين رحى فكرة مستوردة متحفّظ عليها، وهي استيراد الديمقراطية وفرضها، وفكرة أصيلة مشوّهة مرتبطة بواقع الدولة في إفريقيا، وهي التورّط العسكري السافر في نُظُمها السياسية.
وعلى الرغم من ادّعاء جلّ الأكاديميين الغربيين بعالمية الديمقراطية بمحتواها وخبرتها الأوروبية، بوصفها نموذجاً وحيداً لإدارة الحكم في أعقاب تداعي الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، لم يفلح عديدون في تفسير عدم اتساق هذه العالمية مع الواقع الإفريقي المعقّد، أو تقديم تحليل رصين لعدم قدرة الديمقراطية الغربية على الرسوخ في الدول الإفريقية.
وقد حاول عدد من الأكاديميين الغربيين، منهم الإنجليزي «لورانس وايتهيد»، بإعادة النظر في المفهوم الغربي للديمقراطية، في محاولة منهم لدعم عالمية المفهوم، للتغلّب على القصور الذي أصابه، وعجز الديمقراطية عن الوفاء بطموح العديد من المجتمعات الساعية إليها، فادّعت تلك المدرسة أن (الدمقرطة) هي «عملية غير منتظمة الخطى، وغير ثابتة الحدود، ومفتوحة النهايات»، ومن ثمّ تتباين مساراتها ومآلاتها، وذلك تبعاً لتباين السياقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والدولية، وكذا السياق الزمني والمكاني.
وقد هدف الباحثون الغربيون بذلك إلى محاولة تجاوز تناقض التعريف الجامد للديمقراطية وعمليتها في الممارسة العملية؛ إلى اعتبارها عملية مفتوحة النهايات – كما ذُكر سلفاً -، في محاولة لفض الاشتباك بين الفهم الغربي للديمقراطية؛ وإخفاقها في واقع عدد من الدول تتصدرها الدول الإفريقية، وعجزها عن إدارة الواقع الإفريقي المعقّد والمضطرب(25).
ومما يدعم ضعف الفرضية الغربية بشأن الديمقراطية في إفريقيا؛ أنه بإمعان النظر في الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية، التي شهدتها ما يربو عن 15 دولة إفريقية في العام 2010م / 2011م، يتضح أن غالبية تلك البلدان تتبنّى التحوّل الديمقراطي الشكلي، ومن ثم استمرار خريطة نُظُمها السياسية كما هي، ولفترة طويلة، مما يطرح تساؤلات عدة حول جدوى الديمقراطية فيها!
ومن الملاحظ أيضاً؛ أنه وإن دفع نفر من الباحثيين بارتفاع نسب المشاركة السياسية في تلك العمليات الانتخابية، لتكون من أعلى النسب في العالم كدليل على نجاح الديمقراطية في إفريقيا، فإن ذلك لا يعبّر عن فهم الواقع الإفريقي الذي يمكّننا من تفسير ذلك في ضوء التعبئة الإثنية والقبلية للتأثير في نتائج الانتخابات، ومن هنا؛ فإن الانقسام والاستقطاب الإثني الذي هو أحد السمات الأصيلة للواقع الإفريقي ينفي جدوى الديمقراطية فيه، وقد كشفت تلك الانتخابات أيضاً عن استمرار تأثير المؤسسة العسكرية كعامل حاسم في إدارة عملية الانتقال السياسي؛ على الرغم من تبنّي العديد من تلك الدول للديمقراطية؛ كحالة كوت ديفوار وغينيا كوناكري والنيجر ومالي(26).
ملاحظات بشأن جدوى الديمقراطية في إفريقيا:
استناداً للعرض السابق، واتساقاً مع تحليل أداء الديمقراطية المشوّه في إفريقيا، وما كشف عنه الواقع الإفريقي من إخفاقات متتالية في تطبيقها، يمكن الوقوف على عدد من الملاحظات بشأن جدوى الديمقراطية في إفريقيا، على النحو الآتي:
– يرى الباحثون الغربيون أن الديمقراطية الليبرالية، وجوهرها مبدأ التعددية الحزبية، هي وحدها الضامن لاستقرار عملية تسليم السلطة، إلا أنها لم تنته للنتيجة نفسها في الواقع الإفريقي، لما يدعمه ذلك من تحفيز حدّة التناقضات القبلية والعرقية والجهوية(27).
– يعدّد الباحثيون الغربيون اشتراطات اجتماعية واقتصادية لإنتاج الديمقراطية وفاعليتها، وهي الاشتراطات – بحسب رأي الباحث – المغايرة كليةً للواقع الإفريقي الراهن، والتي في حال تطبيقها تنتج مزيداً من الأعباء السياسية على النظام السياسي، وتعمّق الانقسامات الاجتماعية والإثنية، وترسّخ غياب العدالة التوزيعية.
– أن النظام القبلي، بصفته السمة الرئيسة للمجتمع والدولة في إفريقيا، يُجهض ابتداءً جوهر العملية الديمقراطية التي تستند إلى تعددية حزبية عابرة للولاءات التحتية والفرعية والجهوية، والتي تعبّر عن رؤى قومية.
– أن تكلفة التجريب الديمقراطي في الدولة الإفريقية إنما يتجاوز كثيراً حدود تكلفته في الغرب؛ مما يدفعنا إلى التساؤل عن المقاربة بين تكلفة الديمقراطية في إفريقيا وعائدها.
رابعاً: سيناريوهات المستقبل لاستمرار الدولة في إفريقيا بين القبضة العسكرية وجدوى الديمقراطية:
إن الواقع المعقّد للدولة في القارة الإفريقية، والمضطرب بين تشرزم الواقع الاجتماعي إلى عرقية مؤَلّبة، وطائفية مؤثّرة، وقَبَلية نافذة من ناحية، وإخفاق خطط التنمية الاقتصادية منذ نشأتها من ناحية ثانية، وتنامي النفوذ الخارجي للقوى العالمية والإقليمية من ناحية ثالثة، قد انعكس – هذا الواقع المشوّه – على مسارات العملية السياسية في البلدان الإفريقية ومآلاتها، لتقع تلك العملية أسيرة سطوة المؤسسة العسكرية من جهة، وإصرار الأطراف الدولية على التورّط في العملية السياسية للدول الإفريقية، وهو الإصرار الذي غالباً ما يكون أحد مسوّغاته الظاهرة شعارات نشر الديمقراطية، وأسبابه الخفية حماية المصالح الاستراتيجية لتلك الأطراف من جهة أُخرى.
بيد أنه بالنظر لاستعادة المؤسسة العسكرية لدورها عبر انقلاباتها المتتالية، كآلية معتمدة في الدول الإفريقية لإحداث الانتقال السياسي، بواقعها المعقّد في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن هذه الآلية دائماً ما تنهض بذلك على حساب آلية الإجراءات الديمقراطية التي أثبتت عدم قدرتها على ضبط تداخل مفردات الواقع الإفريقي، وعجزها عن فضّ الاشتباك استناداً لقواعدها حال اختلاف الأطراف الفاعلين في العملية السياسية داخل الدولة الإفريقية.
وعليه؛ يمكن القول بأنه قد لا يُعتد بالديمقراطية كمحكمة للفصل في النزاعات السياسية بين الفصائل السياسية والمجتمعية في دول إفريقيا على غرار الخبرة الأوروبية.
فعلى الرغم من تطور المؤسسات الديمقراطية في بعض البلدان الإفريقية، إلا أن ذلك لم ينل من كون الانقلابات عادت لتشكّل خياراً وارداً من جديد، خصوصاً مع تعثّر الأداء الديمقراطي، وما اتصل به من جمود سياسي، ونفور السكان المحليين في العديد من البلدان الإفريقية من السلطة الرسمية، وبناءً على ذلك لم يتغيّر دور المؤسسة العسكرية كثيراً كفاعل سياسي معتبر في الدولة الإفريقية، لما يتوافر لها من احتكار القدر الأكبر من السلاح، حيث يُسهم توافر السلاح لمجموعات غير نظامية، قد ترتبط بقبائل نافذة أو طوائف طامعة أو مضطهدة، في استمرار تحفّز المؤسسة العسكرية للانقضاض على العملية السياسية في حال تهددت مصالحها من تلك المجموعات، كحالة انقلاب مالي، وموقف هؤلاء الإنقلابيين من الحرب مع قبائل الطوارق(28).
سيناريوهات المستقبل:
من التحليل السابق؛ يمكن الوقوف على عدد من سيناريوهات المستقبل لدور المؤسسة العسكرية في العملية السياسية في الدولة الإفريقية، وتداعيات ذلك على مستقبل الديمقراطية.
أول تلك السيناريوهات: وأقلها احتمالية في الممارسة العملية؛ هو السيناريو الغربي لضبط علاقة المؤسسة العسكرية تجاه الدولة والمجتمع، حيث يُميّز فيه بين دوائر وظيفية للمؤسسة العسكرية، أولها هي دائرة تدخّل العسكر في الشأن السياسي التنافسي على مصادر السلطة، وهي الدائرة المرفوضة قطعاً في التجارب الموسومة بالديمقراطية لما تمثّله من تهديد لها.
أما الدائرة الثانية؛ فهي قيام العسكر ببعض المهام المدنية في حالات خاصة، ككوارث طبيعية أو حالات انفلات أمني أو جريمة منظمة، كإدارة المؤسسة العسكرية لبعض القطاعات الاقتصادية والوسائل الإعلامية، وهو التدخّل الذي يجب أن يتم بإشراف سياسي مدني واسع، وأن يتم في أضيق الحدود وبشكل شديد الاستثنائية.
وثالث تلك الدوائر؛ هو تدخّل المؤسسة العسكرية في صياغة سياسات واستراتيجيات الأمن القومي وتطبيقها، في سياق تكاملي مع مؤسسات الدولة المدنية والمخابراتية والعسكرية المعنية بملف الأمن القومي.
أما الدائرة الرابعة؛ فهي صياغة المؤسسة العسكرية للاستراتيجية العسكرية المنبثقة عن استراتيجية الأمن القومي للدولة ككل.
وهذا السيناريو بصيغته السالفة قد يدعم العملية الديمقراطية؛ إلا أنه يلاقي من الصعوبات العملية ما يُعيق تحقيقه في الواقع الإفريقي الراهن(29).
أما السيناريو الثاني: فهو يتصف بدرجة أعلى من الاحتمالية، ذلك أنه مع تنامي تأثير الخارج في الداخل، وما ارتبط به من صعود أدوار الهياكل المدنية من مجتمع مدني وأحزاب وزعامات معارضة، فإنه يمكن صياغة العملية السياسية عبر تقاسمها بين المدنيين والعسكريين بنوع من التوافق السياسي المؤقّت في المدى القريب والمتوسط؛ لحين قدرة هذه الحكومات شبه المدنية على تدعيم أركان الدولة في إفريقيا حال توافر الإرادة السياسية لذلك، ويُعد الوضع السياسي في مدغشقر عقب الانقلاب على الرئيس «رافالومانانا»، والمتمثّل في التحالف بين زعيم المعارضة «راجولينا» وقادة المؤسسة العسكرية في قيادة العملية الانتقالية – إذ ما أُحسن إدارته -، مدخلاً لاستقرار الدولة عبر التوافق المدني العسكري على حساب ديمقراطية العملية السياسية، لتخرج الديمقراطية بذلك من المعادلة السياسية موضوعاً وإن تبنتها شكلاً.
أما السيناريو الثالث: فيتصل باستمرار الحكم العسكري المباشر للدولة في إفريقيا عبر انقلاب المؤسسة العسكرية؛ كآلية وحيدة لعملية الانتقال السياسي وإدارة الدولة في إفريقيا، ومع دفع عديدين إلى تراجع احتمالات هذا السيناريو، مع تنامي الاعتبار للمطالب الشعبية من جهة، والموقف الدولي بأدواته المختلفة والمترقّب للتطورّات الداخلية في العديد من البلدان الإفريقية من جهة ثانية، فإن الحوادث الأخيرة على الساحة الإفريقية تشكّك في احتمالات تراجعه!
الإحالات والهوامش:
(1) يزيد صايغ: المعضلة: مستقبل العلاقات المدنية العسكرية في الشرق الأوسط، مقال منشور على موقع مجلة السياسة الدولية، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
goo.gl/Po23zr
(2) جريدة صوت الأحرار الجزائرية، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.sawt-alahrar.net/online/modules.php?name=News&file=article&sid=15288 (28/2/2012م)
(3) http://www.aljazeera.net/news/pages/a9664b54-8029-411f-89f6-8db9e5cdca81 (29/3/2012م)
(4) http://www.aljazeera.net/news/pages/980b05bd-a553-442e-8b2d-4729816d53c7 (5/4/2012م)
(5) آش هاروود، جون كامبل: العودة إلى الانقلابات في إفريقيا، مقال منشور عبر «بروجيكت سنديكيت: عالم الأفكار»، 2010م، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.project-syndicate.org/commentary/campbell1/Arabic (1/3/2012م)
آش هـاروود: باحث مشارك في برنامج إفريقيا التابع لمجلس العلاقات الخارجية.
جون كامبـل: هو سفير الولايات المتحدة الأسبق في نيجيريا، وكبير زملاء دراسات السياسة العامة في إفريقيا لدى مجلس العلاقات الخارجية.
(6) عبد العظيم محمود حنفي: عودة الانقلابات العسكرية إلى إفريقيا، مقال منشور بصحيفة العرب القطرية، بتاريخ 21/7/2010م، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.alarab.com.qa/details.php?docId=141037&issueNo=947&secId=15(12/2/2012م)
(7) الانتخابات في النيجر، قاعدة بيانات الانتخابات الإفريقية، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
(11/2/2012م) http://africanelections.tripod.com/ne.html
(8) http://arabic.euronews.net/2010/11/17/military-seizes-power-in-madgascar (16/2/2012م)
(9) http://arabic.euronews.net/2010/11/20/army-mutiny-put-down-in-madagascar (12/2/2012م)
(10) http://www.france24.com/ar/20101117-army-general-madagascar-referendum-government-suspended. (2/5/2012م)
(11) الانتخابات في غينيا بيساو، قاعدة بيانات الانتخابات الإفريقية، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://africanelections.tripod.com/gw.html (20/2/2012م)
(12) http://arabic.euronews.net/2011/12/27/troops-foil-guinea-bissau-coup-attempt (12/2/2012م)
(13) http://africanelections.tripod.com/gw.html 11/5/2012م) )
(14) http://www.bbc.co.uk/arabic/worldnews/2012/04/120413_
guineabissau_coup.shtml(25/4/2012م)
(15) حمدي عبد الرحمن حسن: ماذا يحدث في غينيا كوناكري؟ الانقلابات العسكرية بإفريقيا عودة لأنماط الاستعمار، المصدر: الأهرام الاقتصادي، ومنشورة على بوابة الأهرام الرقمي بتاريخ 26/10/2009م، ومتاحة عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=83561&eid=225 (12/2/2012م)
(16) الانقلابات في إفريقيا، مقال منشور على الموقع الإلكتروني لمركز «افران للدراسات والبحوث – إيران / إفريقيا»، ومتاحة عبر الرابط الآتي:
http://www.afran.ir/arabic/modules/smartsection/item.php?itemid=24 (1/3/2012م)
(17) عبد العظيم محمود حنفي، مرجع سابق.
(18) علي التيجاني علي: العلاقات العسكرية المدنية في إفريقيا، نقلاً عن صحيفة الأحداث السودانية بتاريخ 24 يونيو 2009م، ومتاح عبر الرابط الآتي:
http://www.sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=200&msg=1245902185 (20/2/2012م)
(19) هيثم العتابي: المؤسسة العسكرية العربية: تاريخ وآفاق ومستقبل، مقال منشور على شبكة النبأ المعلوماتية بتاريخ 18 أيار 2008م، عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.annabaa.org/nbanews/70/213.htm (15/2/2012م)
(20) http://ara.reuters.com/article/idARAADL46533020110604 (20/4/2012م)
(21) السيد علي أبو فرحة: تحولات الخريطة السياسية في موريتانيا، (القاهرة: المركز العربي للدراسات الإنسانية، ط 1، 2010م)، ص 84.
(22) بيار ابراموفيتشي: التواجد العسكري الأمريكي في إفريقيا: استعمار جديد، مقال منشور على موقع وكالة الأخبار الإسلامية، نقلاً عن مجلة لوموند دبلوماتيك، ومتاح عبر الرابط الآتي:
http://www.islamicnews.net/Document/ShowDoc08.asp?DocID=69545&TypeID=8&TabIndex=2 (1/3/2012م)
(23) السيد علي أبو فرحة، مراجعة الدكتور صبحي قنصوة، محمود أبو العنين محرراً: الانتخابات العامة في إفريقيا جنوب الصحراء، التقرير الاستراتيجي الإفريقي 2010 / 2011م، (القاهرة: معهد البحوث والدراسات الإفريقية، الإصدار السابع، أكتوبر 2011م)، ص 196.
(24) موجة الدمقرطة الثالثة: يُقصد بها – وفقاً لتعريف هنتنجتون -: تلك الموجة التي بدأت مع تحوّل دول إسبانيا والبرتغال واليونان في مطلع السبعينيات من القرن السابق، وذلك تمييزاً لها عن الموجة الأولى التي بدأت مع نشأة الديمقراطية الأمريكية والبريطانية في القرن التاسع عشر، والموجة الثانية التي بدأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
(25) Laurence Whitehead, DEMOCRATIZATION: Theory and Experience, (England, Oxford).
(26) السيد علي أبو فرحة، مرجع سابق، ص 212.
(27) (2/5/2012م) http://arabic.people.com.cn/31663/6654994.html
(28) حمدي عبد الرحمن حسن: الصراعات العرقية والسياسية في إفريقيا: الأسباب والأنماط وآفاق المستقبل، قراءات إفريقية، العدد الأول، رمضان 1425هــ – أكتوبر 2004م، ومتاحة عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.qiraatafrican.com/system/?browser=out (25-2-2012)
(29) محمد بريك: تكييف وضعية المؤسسة العسكرية في النظام السياسي – مدخل تأسيسي، مقال منشور على موقع جريدة دلتا اليوم الإلكترونية، بتاريخ 20/8/2011م، ومتاح عبر الرابط الإلكتروني الآتي:
http://www.deltaelyoum.com/articledetails.php?id=1351 (15/2/2012م)