حصلت نيجيريا على استقلالها من بريطانيا في أكتوبر تشرين الأول عام 1960م, وبعده بثلاث سنوات أصبحت الدولة النيجيرية جمهورية؛ ومنذ استقلالها يقال إنّ أجهزتها تسير على نهجٍ عرقيٍّ ودافعٍ سياسيٍّ متنوّع, فكلّ رئيس أو حاكم يريد البقاء في السلطة مهما كان الثمن وبأيّ أسلوبٍ؛ دون الأخذ في الاعتبار مصلحة المرؤوسين, وبما أنّ هذا منهجهم السياسيّ؛ فليس يعنيهم سوى وضع استراتيجياتٍ وخططٍ تمكّنهم من تزوير الانتخابات, سواء عبر أفرادهم المحتالين، أو بواسطة أفراد اللجنة الانتخابية (1).
عموماً؛ كان من المسلّم به لدى المحللين أنّ الآثار التي تركها الاستعمار البريطاني في البلاد ساهمت في تخبّط السياسة النيجيرية وعدم وضوح مسار حكّامها بعد الاستقلال, إلا أنّ أكثر ما يركز فيه المهتمون بشؤون نيجيريا تورطُ الجيش النيجيري في السياسة, إذ أدى انتزاعه للسلطة إلى ظهور مشكلات عديدة، لا تزال تقف أمام تقدّم البلاد، امتداداً من ذلك الوقت إلى يومنا هذا.
وبشكلٍ خاص؛ لا يمكن الحديث عن الانتخابات النيجيرية وتاريخها ومراحلها دون التطرق، ولو بإيجاز، إلى فترات حكم الأنظمة العسكرية في حكم البلاد.
تاريخ الانتخابات النيجيرية:
في يوم 29 من شهر مايو عام 1999م؛ صارت نيجيريا دولة مرّت بعدّة أنواع من الانقلابات الناجحة وغير الناجحة, أدت إلى وقوع البلاد في أكثر من خمس فترات عسكرية، تتراوح كلّ فترة ما بين ستة أشهر (فترة أجوئيي إرونسي – Aguiyi Ironsi)، إلى تسع سنوات (فترة الجنرال ياكوبو جُوَان – Yakubu Gowon), لتكون نتيجة فترات كلّ الأنظمة العسكرية 28 سنة(2).
ومع أنّ الحكومة المدنية تسلّمت السلطة من الجيش، وتراجع الجيش إلى ثكناته، فلا تزال هذه الدولة تعاني عاقبة أفعال الجيش وانقلاباته, وكأنها لا تزال تتدخل في شؤون البلاد السياسية، وهذا ما استقر توقّعه في الرأي العام النيجيري، فكان الناس يتخوّفون من وقوع انقلابٍ عسكريٍّ إذا كان الفائز هو المترشّح المعارض في الانتخابات الرئاسية التي تمّ إجراؤها مؤخراً، وكما ذكر رئيس اللجنة الانتخابية المستقلة الطاهرو جيغا (Attahiru Jega) في عام 2007م؛ أنّ الأنظمة الديمقراطية التي حلّت محلّ الأنظمة السلطوية العسكرية تواجه التهديدات باستمرار نتيجة إمكانية رجوع الأنظمة الاستبدادية إلى السلطة. وهذا الخوف طبيعي, إذ الدور الذي مارسه العسكر منذ استقلال نيجيريا أدى إلى ظهور عمليات معقدة ومترابطة، صار لمعظمها نتائج سلبية جسيمة على حكم البلاد وسياساتها(3).
يرجع تاريخ الانتخابات في نيجيريا إلى فترة ما قبل الاستقلال عندما أُنشئت أول لجنة، وكانت تُعرف حينها بـ (ECN) لإجراء انتخابات عام 1959م, وبعدها بسنوات تغيّر اسم اللجنة إلى: (اللجنة الانتخابية الاتحادية) (FEDECO) بأمرٍ من الجنرال «أولوسيجن أوباسانجو-Olusegun Obasanjo »(4)، وفي كلّ هذه المراحل كانت اللجان تباشر عملها كقوة أو هيئة مكلّفة بإنجاز المهمّة التي أُنشئت من أجلها فقط, ومن ثمَّ تُحَلّ بعد الانتهاء منها, ومن ثمّ لم تتمتع بالاستمرارية.
وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه اللجنة أي FEDECO هي التي نظّمت انتخابات عام 1979م تحت قيادة الحاج «شيخو شگري/شاجاري – Sheu Shagari »(5), كما أنها هي التي نظّمت الانتخابات العامّة لسنة 1983م.
وفي عام 1987م أُنشئت اللجنة الانتخابية الوطنية, إلا أنها انحلّت من قِبل الحاكم العسكريّ الجنرال «ساني/ثاني أباتشا»(6) في عام 1993م ليُنشِئ لجنة جديدة باسم (NECON)، والتي أجرت مجموعة من الانتخابات، كان منها انتخابات مجالس الحكم المحلي والجمعية الوطنية, غير أنّ الحكومة والمؤسسات المنتخبة وقتئذٍ لم تباشر مهمّتها قبل وفاة الجنرال.
وفي عام 1998م حلّت حكومة عبد السلام أبو بكر(7) هذه اللجنة التي أنشأها أباتشا, وأسّس لجنة جديدة باسم: (اللجنة الانتخابية الوطنية المستقلة (INEC)) لتكون لجنة مستدامة دون تدخّل الحكومة في شؤونها، وهي اللجنة المسؤولة عن الإجراءات والعمليات الانتخابية في نيجيريا حتى يومنا هذا(8).
إضافة لما سبق؛ صارت الانتخابات تجارة رائجة، خصوصاً في السنوات الخمس عشرة الأخيرة, حيث كان الشباب وخريجو الجامعات المتعطلون عن العمل يكسبون أموالاً كثيرة من بعض المترشحين السياسيين مقابل التصويت لهم, ويرجع السبب في ذلك إلى تدهور وضع المعيشة, ولذلك كنّا نجد عدداً من التقارير تشير إلى اعتقال أشخاصٍ قاموا بطباعة بصماتهم على الأوراق الانتخابية بالليل قُبيل استئناف الانتخابات الرسمية, كما كانت بعض الأحزاب تستخدم مسؤولين من لجنة الانتخابات لاستيراد مواد التصويت إلى كبار الساسة في منطقة معيّنة, إضافة إلى عناوين الجرائد الإخبارية المحلية التي كانت تفيد بزيارة بعض أفراد اللجنة لبعض كبار السياسيين(9), ولربما كان هذا لتقديم الولاء وتمهيد الطريق لفوزهم.. حتى إن كانوا من الفاسدين المفسدين!
انتخابات 2015م والتنافس بين جودلاك جونانان ومحمد بخاري:
في عام 2011م أثار ترشّح الرئيس جودلاك جوناثان ضجة كبيرة بين النيجيريين، خصوصاً بين الشمال والجنوب, وبعد صدور نتائج الانتخابات في ذلك العام خرج جودلاك جوناثان فائزاً برئاسة البلاد، بالرغم من أنّ الكثيرين حينها كانوا غير مقتنعين بتلك النتائج؛ ومن هنا ذهب البعض إلى أنّ هذا الفوز وعدداً من الأوامر التي صدرت من حكومة جوناثان إبّان فترة خلافته لعمر موسى يرادوا ساهمت في تأجيج الفوضى والخلافات. والحقيقة التي تتماشى مع الواقع النيجيري أنّ كلّ قبيلة، سواء من الشمال أو من الجنوب، يرون لأنفسهم أحقية حكم البلاد في ذلك العام – أي 2011م-, حيث شعر الكل بعدم المساواة والظلم, فالكلّ كانوا يرون أنّ أنسب حلّ لمشكلاتهم أن يحصل أحدٌ منهم على النفوذ المركزيّ أو الرئاسي, فيطمئنون على حقوقهم, وبما أنّ جوناثان هو الفائز؛ فلم يبق سوى أن يقوم بخطوات وإجراءات تقوّي وحدة كلّ هذه المناطق والقبائل، وتلبّي أولويات المواطنين واحتياجاتهم جميعاً دون التفريق بينهم(10).
كان من ضمن ما كتبه أحد المعارضين لسياساته الإدارية قوله: «إنّ حكومته تتدفق مع المدّ والجزر, فإدارته تقول لنا: نريد أن نسمع منكم، بدلاً من أن يقوم بما يجب القيام به كقائد ورئيس الدولة, فمثله كمثل كلّ رؤساء نيجيريا السابقين، إلا أنّ حكومته تميّزت بالإضرابات المتواصلة للمؤسسات, كما أنّ طريقة تعاملها مع مشاكل البلاد؛ تجعل البعض يعتبرونه قائداً جباناً، دائماً ينتظر تضخّم المشاكل قبل البحث عن الحلول»(11)، وفي أواخر العام الماضي؛ أعلن الرئيس جوناثان عن نيته خوض الانتخابات المقرر إجراؤها في فبراير عام 2015م.
قامت مفوضية الانتخابات بإعلان تأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية من 14 فبراير – كما كان مقرراً من قبل – إلى يوم 28 مارس/آذار, وذلك بسبب مخاوف أمنية, ولا شك أنّ هذا التأجيل قوبل بردود أفعالٍ متباينة محليّاً ودوليّاً, ومن ذلك ما صرّح به وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أنّ الولايات المتحدة «تشعر بخيبة أملٍ عميقة» بسبب تأجيل هذه الانتخابات الرئاسية والتشريعية.
لقد جرت الانتخابات كما كان مقرراً, إلا أنها شهدت عدة مشكلات، فقد تعطلت أجهزة قراءة بطاقات هوية الناخبين، والتي تمّت الاستعانة بها لمنع التزوير، ومع هذا, استمرت العملية الانتخابية ببعض المراكز.
شهدت الانتخابات مواجهة ثانية بين جوناثان الرئيس الذي تنتهي ولايته، وبين بخاري المترشّح الذي ينتمي لحزب المؤتمر التقدمي, كما أنّ هذه المرة هي التي شهدت تنافساً حامياً، خصوصاً بعد أن شكّلت أحزاب المعارضة لأول مرة تحالفاً بقيادة بخاري، كما أنّ شعار جوناثان في حملاته الانتخابية هو مواصلة برامجه التطويرية, في حين تبنّى حزب بخاري شعار التغيير, وكأنه يقول للنيجيريين: آن الأوان لتغيير الأوضاع إلى ما هو أحسن, ولن يحصل هذا التغيير إلا بتغيير الحكومة الحالية(12).
جودلاك جوناثان في سطور:
بإمعان النظر إلى مسيرته وتنقلاته السياسية قد نطلق عليه: (الرئيس الأوفر حظّاً) من بين الرؤساء السابقين, حتى إن كان المحللون لا يرونه سوى شخصية ضعيفة لا يستحق رئاسة دولة كنيجيريا، ظلّ جودلاك جوناثان حتى نوفمبر عام 2009م نائباً لرئيس من الشمال, لم يكن ذائع الصيت إلا بعد وفاة الرئيس عمر يرادوا في مايو 2010م, وبعد نقاش ساخن داخل المؤسسات الحكومية ومجلس الشيوخ؛ اختير كرئيس للبلاد لينوب مناب رئيسه المتوفى – رحمه الله-.
جوناثان من مواليد 1957م في منطقة النيجر- دلتا, ينتمي إلى الحزب الديمقراطي الشعبي, وهو نصرانيٌّ من قبيلة إجو, وكانت صناعة الزوارق هي حرفة أسرته, إلا أنه تخرّج من الجامعة، وقد درس علم الحيوان، في عام 2011م فاز في أول انتخابه لمنصب رئيس الجمهورية؛ مع وجود شكوكٍ في فوزه، وردود أفعالٍ وتقارير سلبية للجان أجنبية راقبت الانتخابات.
وفي انتخابات 30 مارس من هذا العام فاز الجنرال محمد بخاري بمنصب رئيس الجمهورية، لتقع هزيمة ساحقة بجوناثان، ولينتهي بذلك عهده، أقرّ جوناثان بفوز بخاري، وجرى بينه وبين الفائز اتصالات للتهنئة واللقاءات، وقد خفّف هذا الإقرار والاعتراف منه بهزيمته من حدّة التوتر السائد في أجواء البلاد قُبيل إعلان النتائج.
عوامل هزيمة جوناثان في الانتخابات:
1 – عدم محاربة الفساد:
الفساد من الأخلاقيات السائدة في المجتمع النيجيري, ويُنظر إليه بأنه التهديد الرئيس للمؤسسات العامّة والخاصّة, فالحكام والسياسيون تتوفر لهم فرصة اختلاس أموال العامّة دون مساءلةٍ من الحكومة أو مثولٍ أمام القضاء.
ومن صور هذا الفساد الرشوة، وإساءة استخدام الامتيازات والقوانين، والتلاعب في العملية الانتخابية, إضافة إلى المحسوبية في منح العقود وتوزيعها.
ولم يكن في قاموس حكومة جوناثان شيءٌ يُسمّى محاربة الفساد, وهذا واضح في الفضائح الأخيرة التي كشفت عن قيام بعض أفراد الحكومة بتحويل معاشات وصناديق التقاعد إلى حساباتهم الشخصية, وإهدائهم ممتلكات الوطن لبعض الشخصيات, وما فضائح سرقة الدعم المخصّص للبترول ببعيدة.
كلّ هذا قليلٌ من كثير، وهو يكفينا لنقول: على الرغم من الادعاءات والصرخات العامّة لمكافحة الفساد من قِبل لجنة الجرائم الاقتصادية والمالية (EFCC) ولجنة محاربة الفساد المستقلة (ICPC)؛ فإنه يبدو أنه تم إضفاء طابع هذه العدوى على النظام ومؤسسات الدولة، وليس من الغريب أن نرى من الحكومة إطلاق سراح أشخاص يجب مساءلتهم ومثولهم أمام القضاء لجرائم اتُهموا بارتكابها, فقط لأنّ لهم علاقة برؤساء الحزب الحاكم ورئيس الدولة, فالبسطاء والضعفاء هم كبش فداء حتى إن كان ما ارتكبوه بسيطاً.
2 – فقدان الأمن القومي:
وهذا من أبرز العوامل أيضاً، فإنّ الأوضاع الأمنية في البلاد تدهورت، خصوصاً في بعض ولايات الشمال، حيث أصبحت الحياة اليومية وحشية جدّاً، فالناس يُقتَلون بالقنابل والرصاص وجميع أنواع الأسلحة, وما قامت به بوكوحرام في أيام الانتخابات من الهجمات والتفجيرات ليس بعيداً, كما أنّ عنفها تسبّب منذ بدايتها في قتل أكثر من 20 ألف شخص، وإجبار أكثر من 3 ملايين على مغادرة منازلهم، الأمر الذي تعرض بسببه الرئيس للانتقاد لفقدان السيطرة على المدن والقرى التي تقع تحت تصرف هذه الجماعة، وعجز في هذا المجال غير مستور.
والغريب أنّ حكومة جوناثان لم تقم بالترتيبات اللازمة للقضاء على الجماعة المسلحة التي تهدد وحدة الدولة إلا بعد إعلان نيته خوض انتخابات 2015م, وذلك بمشاركة دولٍ أخرى مجاورة، مثل الكاميرون والنيجر وتشاد, وكأنه لا يهمه حياة الشماليين الذين كانوا ضحايا أعمال هذه الجماعة، فالأهم عنده الفوز في الانتخابات ليكون رئيساً لولاية جديدة.
3 – تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية:
على الرغم من أنّ نيجيريا أكبر منتجٍ للنفط في المنطقة؛ فإنّ المواطن النيجيري لا يزال يفتقر إلى الانتفاع منه، فغالبية السكان يعيشون تحت خط الفقر.
وجديرٌ بالذكر هنا أنّ المواطنين لم يشعروا بالتحسّن في أمورهم اليومية، ومن أجل ذلك عزفوا عن إعادة انتخاب جوناثان لولاية رئاسية ثانية، حتى إن كان الدخل القومي للمواطنين قد زاد خلال العام الجاري بنسبة أكثر من 5٪ .. فحكومته رأسمالية, تهتم بالأغنياء فقط دون الفقراء.
4 – الصراعات العرقية والإقليمية:
تآكلت بنية نيجيريا التحتية بسبب العرقية والإقليمية, حيث تم استغلالهما من قِبل بعض الأحزاب السياسية كأداة لتحقيق أهدافهم الشخصية، وليست العرقية أو الإقليمية وليدة اليوم, بل كانت موجودة حتى في الفترات العسكرية.
وكما ذكرت العديد من الدراسات؛ فإنّ الدوافع الحقيقية وراء أول انقلاب في نيجيريا كانت إقليمية، والذي شهدت الدولة بسببه وفاة السياسيين المرموقين من الشمال, أمثال «أبوبكر تَفَاوَا بَلَيْوا – Abubakar Tafawa Balewa» و «أحمد بللو», حيث وصل أجوئيي إيراونسي إلى السلطة بعد وفاة أحمد بللو.
كما أنّ عدم رغبة إيراونسي في تدبير انقلاب 15 يناير بقيادة أحد أقربائه أدى إلى أن يُنقلب عليه في 26 يوليو 1966م, فصار ياكوبو غوان – وهو من الشمال – رئيس السلطة, وهكذا بدأ القادة العسكريون يتهم بعضهم بعضاً, ومن ثمّ المواطنون – الجنوبيون والشماليون، وهذا أيضاً كما – يزعم البعض – جزء من استمرار سيطرة جنرالات الشمال على شؤون البلاد لفترات طويلة, والتي ينظر إليها الجنوبيون بوصفها هيمنة وتهميشاً، وهكذا تم تثبيت الأفكار العدائية في هيكل الدولة وأنظمتها، وصار أساس كلّ شيء فيها: «نحن ضدهم»، فليس من الأهم لدى العسكر الجدارةُ في حلّ المشكلات وتحقيق المساواة, بل ما يهمّهم هو (التوازن العرقي) الذي تبنّاه العسكري ثاني أباتشا(13).
لا شك أنّ نظام التوازن العرقي الذي يمتد من زمن العسكر هو ما تبنّاه حزب الشعب الديمقراطي؛ إذ الذين وضعوا دستور هذا الحزب هم الجنرالات وأصدقاؤهم من المدنيين، فلم يبق لمنتخبٍ من أيّ عرقٍ سوى انتظار حصوله على السلطة, فيسخّر كلّ أجهزة البلاد وقوات أمنها ووسائل إعلامها لخدمة حزبه الحاكم كي يضمن استمرار هيمنته على الحكم, وهذه الثقافة – أي استيلاء الأغلبية على كلّ شيء, وإبعاد الأقلية من الحكم, والحرمان الاقتصادي – أدت إلى ترسيخ مبادئ العنف والصراعات الاجتماعية والسياسية نتيجة الاستبداد, ولنا مثال حيّ في أفعال جماعة بوكوحرام, ومن قبلها أزمة متمردي النيجر-دلتا, وفي كلتيهما نرى تهديدات الانقسام والحروب الأهلية, ولا يبالي الساسة بالقيام بالتعديلات والإصلاحات اللازمة ما دامت نتائج الشغب والعنف منصبة في مصالحهم(14).
5 – الأداء السيئ لحملة جوناثان الانتخابية:
كانت حملة جوناثان الانتخابية سيئة الإدارة للغاية، وكانت رسالة الحملة للجمهور متضاربة وغير متماسكة، حيث كانت هناك عدة حملات داخلية متضاربة، وينافس بعضٌ منها بعضها الآخر من أجل جذب الاهتمام ولفت الأنظار، في المقابل فإنّ حملة بخاري ركّزت رسالتها الوحيدة والبسيطة على ضرورة «التغيير»، وكانت تحرص على تكرار هذه الرسالة ووصولها للجماهير، لقد فاق إنفاق حملة جوناثان إنفاق حملة منافسه بكثير، ولكن نطاق هيمنة دعايته التلفازية والصحافية كانت مركزة في القمة وليس القاعدة؛ لذلك أخفقت في الفوز بحصةٍ كافية من الأصوات.
ومن هو محمد بخاري؟:
الجنرال محمد بخاري من مواليد عام 1942م، وهو ينتمي إلى حزب المؤتمر التقدمي, فأبوه من قبيلة فولانية من بلدة في كاتسينا، وقد شغل منصب الحاكم العسكري لنيجيريا بين عامي 1983م و 1985م في أعقاب الإطاحة بالنظام المدني في البلاد آنذاك. وعقب إنهاء دراسته العسكرية في عام 1963م، تخرّج برتبة ملازم ثان، وخدم في مناصب مختلفة كضابط جيش، من بينها الحاكم العسكري لمنطقة شمال شرق نيجيريا المضطربة، وكان خوضه للانتخابات الأخيرة هو المرة الرابعة على التوالي منذ عام 2003م.
بعد إعلان ترشحه للانتخابات الرئاسية لعام 2015م؛ روّج أفرد الحزب الحاكم لعدد من الإشاعات, منها ادعاؤهم أنّ شهادة امتحاناته الثانوية مزيفة, وذلك ليصرفوا الناس عن التصويت له مقابل التصويت لمن يحمل شهادة الدكتوراه وهو جوناثان، ونشروا في بعض المواقع والصحف أنه مصاب بمرضٍ كبدي, وأنّ ابنته تزوجت بمسيحي من ولاية أَنَمْبرا ليصرفوا المسلمين عن التصويت له على أساس الدين، لكن لم تنجح كلّ هذه الاتهامات في التقليل من شعبيته؛ إذ بان للنيجيريين أنّ كلها إشاعات وأكاذيب سياسية قذرة.
محمد بخاري معروفٌ بالصدق والاستقامة، واشتهر بصرامته وقبضته الحديدية، وعدم إعطائه الفساد أي فرصة في فترة حكمه العسكري، وله شعبية كبيرة، خصوصاً في الشمال ذي الأغلبية المسلمة، وإن كان يؤخذ عليه أنه في فترة حكمه العسكري قام باعتقال عددٍ غفير من معارضي حكومته.
فوزه في انتخابات 2015م:
فاز بخاري بالانتخابات الرئاسية في نيجيريا بفارق 2,57 مليون صوت على الرئيس المنتهية ولايته جودلاك جوناثان، حسب النتائج الرسمية التي أعلنتها مفوضية الانتخابات، وأوضحت المفوضية أنّ بخاري فاز بـ 53,9% من أصوات 28587564 ناخباً، ونال خصمه جوناثان 44,96%، فحزبه اكتسح أصوات 21 ولاية من أصل 36, وخصوصاً في لاغوس وكانو, وفي ولاية بورنو التي تعتبر معقل حركة بوكوحرام(15).
وقال بخاري: «كان الرئيس جوناثان خصماً جديراً، وأنا أمدّ له يد الزمالة»، وتابع حديثه للصحافيين ومؤيديه قائلاً: «لقد أثبتنا للعالم أننا شعب اعتنق الديمقراطية».
ومما يبدو أنّ نتائج الانتخابات الرئاسية قد استجابت لنداء أنصار حزب المعارضة (المؤتمر التقدمي) الذي تبنّى شعار «التغيير», وذلك باختيار محمد بخاري رئيساً للبلاد، والابتعاد عن مرشح حزب (الشعب الديمقراطي), الحزب الذي ظلّ على رأس السلطة منذ نهاية الحكم العسكري في 1999م.
هذا, وقامت عناصر من حزب جوناثان بمقاومة فوز بخاري بالذهاب إلى المحاكم وبالتظاهر في شوارع بعض الولايات, كما أنّ أحدهم قاطع عملية فرز الأصوات وهاجم اللجنة الانتخابية في الملأ, ومن شكاوى هؤلاء الأفراد وجود مخالفات انتخابية واسعة, ووجود ناخبين لم يبلغوا السنّ القانوني للتصويت.
وقال جوناثان ليلة الثلاثاء بعد إعلان اللجنة عن فوز معارضه: «أشكر لجميع النيجيريين الفرصة الهائلة التي أُتيحت لي لقيادة هذا البلد, وأؤكد لكم أنني سأستمرّ في بذل قصارى جهدي لرئاسة شؤون الوطن حتى نهاية فترة ولايتي، لقد نقلت تمنياتي الشخصية إلى الجنرال محمد بخاري. لقد وعدت البلاد بانتخابات حرة ونزيهة, ووفّيت بوعدي، فطمع أي أحد لا يساوي دم أي نيجيري، فوحدة واستقرار وتقدّم وطننا الغالي هو أكثر أهمية من أي شيء آخر».
وكان من الذين استقبلوا النتائج بصدرٍ رحبٍ الأديب النيجيري وولي سوينكا, حيث قال بعبارته: إنها هزيمة «لا مفرّ منها»، وقال أديكوحيي أديبانجو الأكاديمي المقيم في جنوب إفريقيا: «إنه حقّاً إنجازٌ عظيمٌ في تاريخ نيجيريا، فمنذ 55 عاماً لم يسمح أي حزب حاكم لنفسه أن يُستبعد من السلطة»(16).
التحديات التي سيواجهها الرئيس المنتخب الجديد:
إنّ التحديات التي تنتظر محمد بخاري أكبر كثيراً مما نتصور, ويمكن تلخيص هذه التحديات فيما يأتي:
– انعدام الأمن العام: المتمثل في الحركات المتمردة والمسلحة، والتي كانت مسؤولة عن تشريد الآلاف من بيوتهم.
– البطالة في أفظع درجتها: خصوصاً في أوساط الشباب، وهذا لا يبشّر بخير، كما أنّ هناك نقصاً ملموساً في تطوير القطاعات الزراعية والموارد الطبيعية.
– الانخفاض في إيرادات الدولة: بسبب تدهور أسعار النفط, وازدياد نفقات الحكومة، والتي تعوق الإنفاق والتنمية في مجالات أخرى.
– التلوث البيئي في منطقة النيجر- دلتا.
– الفساد المستشري: الذي كان سبباً في إعاقة التنمية البشرية والبنية التحتية على مدى عقود.
– انقطاع الطاقة الكهربائية وسوء توفيرها: وهذا كان له أثره البالغ في إغلاق بعض الشركات، ونقل فروع شركات أجنبية كبيرة إلى دول مجاورة, كما أنه أدى إلى عدم تقدّم الشركات المحلية وتطويرها.
إنّ الاطلاع على مسيرة محمد بخاري يشعر باطمئنان, وخصوصاً خلال مدة حكمه القصيرة للبلاد عندما كان عسكريّاّ؛ فهو رجلٌ خاض حرباّ شرسة ضد الفساد, وأطلق حينها نداءً خاصّاً للخبراء والمواطنين الموجودين في الخارج إلى العودة إلى البلاد والتعاون معه في رفع اقتصاد البلاد.
وفي لقائه مع مجموعة من رؤساء الولايات الشمالية هذا الأسبوع؛ لخّص بخاري برامجه, وذكر أهم أولويات حكومته بعد استلامه للحكم في 29 مايو 2015م, حيث قال: «لم يكن الجيش النيجيري عاجزاً في تاريخه كما هو الآن، فمن العار ألا يتمكن إلا من تأمين 14 فقط من الحكومات المحلية؛ من أصل 774 الموجودة في نيجيريا!».
ولعلّ تصريح بخاري جاء لشدة استيائه من عدم قدرة الجيش على القضاء على بوكوحرام؛ مع أنّ هذه المؤسسة سبق أن خاضت حرباً ضد جماعات متمردة في عقود وقضت عليها, فصارت اليوم مؤسسة تطلب المساعدة من دول مثل جنوب إفريقيا وغيرها لمحاربة تلك الجماعة, وتابع حديثه قائلاً: «إنّ إدارتي ستتركز على ثلاثة مجالات رئيسية )…(، وهي: فقدان الأمن, الاقتصاد/ البطالة, والفساد..»(17).
بعد ساعات من نشر الصحيفة لتصريحاته؛ سرعان ما صارت المجالات المذكورة حديث القنوات المحلية والمنتديات والمواقع الاجتماعية, حيث يعتبره جمهوره شخصية واعية لمشكلات البلاد وأولوياتها, في حين ينتقده الآخرون قائلين: إنّ المجالات التي يريد محمد بخاري التركيز عليها ناقصة وعليه إضافة مجال آخر, وهو إعادة بناء هيكل القطاع الكهربائي, والحقيقة أنّ هذا المجال أقلّ أهمية من المجالات الثلاثة التي اختارها محمد بخاري؛ إذ كانت مشكلة الكهرباء متفرعة من مشكلة الفساد بشكلٍ عامّ.
فوز بخاري وتداعياته على مسلمي البلاد:
لم تقم حملات حزب بخاري قبيل الانتخابات على أساس الدين, كما أنه لم يسوّق لمرشحه على أساس العرقية, بل أطلق شعارات مغرية لها وقوعها في نفوس الشباب, كما أنّ محمد بخاري أعلن على الملأ أنه صار ديمقراطياً.
لا شك أنّ لفوز بخاري تداعياته الإيجابية على المسلمين النيجيريين، وبخاصة الشماليون الذين لم يعودوا يتعرضون لأعمال العنف من قبل بوكوحرام, ويعانون الكثير بسبب نقص الأدوار التنموية.
وبالنظر لخريطة الانتخابات(18)؛ نرى أنّ أغلبية أصوات منتخبي محمد بخاري جاءت من الشمال وعدد من ولايات الجنوب، وبجمع كلّ هذه الأصوات نجد أنّ أكثر من نصف المصوّتين له كانوا من المسلمين, وهذا يشير إلى كونهم يواجهون ما يواجهونه في حكومة جوناثان, وليس لهم مخرج سوى تأييد مترشّح مسلمٍ لتغيير الوضع, وكي يتمكنوا من القيام بشعائرهم دون أنّ يصِمهم أحدٌ بالإرهابيين, ويحصلوا على حقوقهم وحقن دمائهم وأعراضهم.
وهناك إشارة أخرى في نتائج الانتخابات, وهي أنّ عدد المصوتين له من غير المسلمين كبيرٌ, ويرجع السبب إلى أنّ نائب محمد بخاري مسيحي, كما أنّ حزبه المعارض لحزب جوناثان روّج لنفسه باقتراح حلول واقعية للأمور التي تمسّ حياة الشباب والمواطنين.
وحتى الآن؛ لا يمكننا التنبؤ بما هو قادم إلا بعد تسلمه لمنصبه رئيس الجمهورية, ليصبح أمامه كامل الفرصة في إثبات قدرته على تغيير الوضع الحالي، وتحقيق أمنيات ملايين النيجيريين، وفاءً بوعوده، واستجابةً لمطالب شعوب بلاده.
الإحالات والهوامش:
(1) انظر الرابط الآتي: http://www.gamji.com/article6000/NEWS7205.htm
(2) Tyodzua Atim, 2011, the Military and Integration Politics in Nigeria, AT-MISHAD Publishers, Abuja
(3) Jega, A. M, 2007, Democracy, Good Governance and Development in Nigeria: Critical Essays, Spectrum Books Ltd., Ibadan
(4) أولوسيجون أوباسانجو: رئيس نيجيريا من 29 مايو 1999م إلى 29 مايو 2007م، وهو مسيحي، من قبائل اليوروبا.
(5) شيخو عثمان عليو شگري أو شاجاري: رئيس نيجيريا في الجمهورية الثانية من 1979م إلى 1983م أطيح بحكومته في انقلاب عسكري عام 1983م.
(6) الجنرال ثاني أباتشا (20 سبتمبر 1943م – يونيو 1998م): ضابط عسكري ورئيس سابق لنيجيريا بين عامي 1993م – 1998م.
(7) عبد السلام أبوبكر: جنرال، تولى منصب رئيس الجمهورية في يونيو 1998م حتى مايو 1999م خلفاً لثاني أباتشا بعد وفاته. ومن أبرز مميزات عهده صياغة الدستور الجديد للبلاد، والذي تم إقراره في 5 مايو 1999م، حيث قرر فيه انتخابات متعددة الأحزاب، وقد سلم أبوبكر السلطة إلى الرئيس المنتخب أولوسيجون أوباسانجو.
(8) انظر الرابط الآتي:
http://www.vanguardngr.com/2010/10/what-is-independent-about-our-electoral-commission/
(9) http://www.irinnews.org/report/40833/nigeria-police-stop-printing-of-five-million-fake-voters-cards
(10) دراسة عن انتخابات 2015م النيجيرية والتحديات التي تواجهها, من مركز بروكنجز الدوحة, بعنوان:
THE 2015 PRESIDENTIAL ELECTIONS IN NIGERIA: THE ISSUES AND CHALLENGES, JideoforAdibe, Senior Lecturer, Nasarawa State University Editor, African Renaissance.
(11) من مقال للكاتب النيجيري أديبوجو بول أولوسيجون, بعنوان:
A Chronicle Of Jonathan’s Misdemeanours http://saharareporters.com/2010/12/30/chronicle-jonathan%E2%80%99s-misdemeanours.
(12) تأجيل الانتخابات النيجيرية: الجزيرة نت، على الرابط/
http://www.aljazeera.net/news/international/2015/2/8/%D8%AA%D8%A3%D8%AC%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%AD%D8%AA%D9%89-%D8%A3%D9%88%D8%A7%D8%AE%D8%B1-%D9%85%D8%A7%D8%B1%D8%B3
(13) مرجع سابق:
Jega, A. M, 2007, Democracy, Good Governance and Development in Nigeria: Critical Essays, Spectrum Books Ltd., Ibadan.
(14) Abbas, A.I, 2009, the Impact of Military Rule on Governance in Nigeria, a Seminar Paper Presentation of Bukar Abba Ibrahim University Seminar Series, BAI University, Damaturu.
(15) النتائج الكاملة متاحة في الموقع الرسمي لمفوضية الانتخابات النيجيرية المستقلة:
http://www.inecnigeria.org/?page_id=31
(16) http://www.punchng.com/politics/nigeria-votes-in-sharply-contested-presidential-election/
(17) http://leadership.ng/news/434164/ill-concentrate-on-3-major-areas-buhari.
(18) انظر الرابط:
www.nigeriaelections.org/result