تكتسب القارة الإفريقية أهمية كبرى لدى السياسة الخارجية التركية، والتي تسعى إلى تمديد نفوذها واستعادة مجدها القديم… فالقارة السمراء لا تزال حتى الآن قارة بكراً بالرغم من سنوات الاستعمار الطويلة، من حيث المصادر الطبيعية والمعادن ومصادر المياه والأرض القابلة للزراعة، وكذلك من حيث النفوذ والهيمنة والتوسّع؛ حيث إن القارة في منطقة جنوب الصحراء لا تزال تتكون من عدة دول فقيرة ومهمّشة, استغلتها القوى الإمبراطورية في السابق، وتطحنها الرأسمالية الطاغية والديون والاتفاقات الدولية في الوقت الراهن، ويمكن أن تمثل زخماً كبيراً للسياسة الخارجية التركية لممارسة قوتها الناعمة، بالاستفادة من كسب أصوات تلك الدول في المنظمات الدولية, وفي عقد شراكات معها لتسويق البضائع التركية، وكذلك لاستيراد المصادر الطبيعية منها؛ بعد أن ظهرت كذلك الكثير من احتياطيات النفط واليورانيوم والذهب والبوكسيت في عدة دول إفريقية.
ولتركيا حضور بارز تاريخياً في أهم دول القارة السمراء من الناحية الاستراتيجية، حيث سيطرت الخلافة العثمانية على دول الشمال بالإضافة إلى دول القرن الإفريقي، فقد كانت كل من مصر وليبيا وتونس والجزائر وإريتريا والصومال والسودان تابعة لها في الفترة ما بين 1536م و 1912م، وكان ذلك يتم في إطار هيمنة الخلافة العثمانية على السواحل في البحرين الأبيض والأحمر، بعمق داخل أرض السودان حيث بعض منابع النيل، وبامتداد حتى الصومال جنوباً في تلك المنطقة المهمة من الناحية الاستراتيجية في القرن الإفريقي, والتي سيطرت على المسارات التجارية قديماً.
توجهات السياسة الخارجية التركية الجديدة:
لا يخفى على المتابعين الدور الجديد الذي تريد أن تمارسه تركيا في العلاقات الدولية في عالم اليوم بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في البلاد، حيث أصبحت السياسة الخارجية التركية تنظر إلى العالم بوصفها دولة مركز وليس دولة أطراف، لذا فهي تريد أن تضطلع بدور محوري في السياسات الدولية، على محيطها الإقليمي في مناطق شرق المتوسط والقوقاز والبلقان، بالإضافة إلى امتداد نفوذها إلى المناطق الغنية بالثروات من العالم، مثل القارة الإفريقية التي تتمتع بكثير من المصادر الطبيعية غير المستغلة.
وتعد إفريقيا امتداداً للشرق الأوسط, وتؤثر التفاعلات فيها على استقراره، فمشكلات مثل تقسيم المياه بين دول حوض النيل أو القرصنة في القرن الإفريقي أو النزاعات العرقية في دول جنوب الصحراء، كلها تؤثر بصورة مباشرة أو غير مباشرة على استقرار الشرق الأوسط الذي تنتمي إليه تركيا، فتركيا تتمتع برؤية أكثر اتساعاً وعالمية بحكم موقعها المثالي الذي يجعلها دولة آسيوية وأوروبية في الآن نفسه، مع قربها من إفريقيا عبر شرق المتوسط.
وتتسم تركيا كذلك بالعمق التاريخي بوصفها كانت في مركز الأحداث التاريخية، سواء في المرحلة البيزنطية أو العثمانية(1).
ويعود الاهتمام التركي بإفريقيا إلى نهاية التسعينيات؛ حيث إنها أرادت أن تعيد أمجاد إمبراطوريتها العثمانية، والبحث عن دور إقليمي فعّال في القارة السمراء, ففي عام 1998م أصدرت تركيا وثيقة عن توجهها الجديد تجاه إفريقيا, أطلقت عليها اسم «السياسة الإفريقية»، وتسعى هذه السياسة إلى تدعيم الروابط الدبلوماسية والاقتصادية والثقافية التركية مع الدول الإفريقية(2).
ولكي نرصد الدور التركي في إفريقيا يجب علينا أولاً أن نعرض أهم محدّدات السياسة الخارجية التركية الجديدة، والتي يديرها البروفيسور أحمد داود أوغلو باقتدار، منذ أن كان مستشاراً لرئيس الوزراء رجب طيب أردوجان منذ عام 2002م، وحتى تقلّده منصب وزير الخارجية بدءاً من عام 2009م، حيث حدّد أهم مرتكزات السياسة الخارجية التركية الجديدة في النقاط الآتية:
1 – سياسة «تصفير المشكلات»: بحيث تستطيع تركيا أن تتمدد في جوارها القريب أو البعيد، والذي يجب ألا يكون معادياً أو به مشكلات تعوق انتقال الأموال والبضائع، ومن ثم تستطيع عقد اتفاقيات شراكة أمنية واقتصادية وفي مجالات الطاقة مع تلك الدول التي تُعد الفناء الخلفي لتركيا جنوباً؛ بدءاً من العراق وسوريا, ومروراً بالشرق الأوسط, وانتهاء بإفريقيا.
2 – سياسة البيوت الخشبية: وتعني أنه إذا شبّ حريق في أي بلد مجاور فبالضرورة سوف يمتد إلى تركيا والبلدان المجاورة بسبب طبيعة تلك الدول المتلاصقة, والتي تتشابك مصالحها بعضها ببعض عن طريق الروابط التجارية والثقافية والتاريخية، ومن هنا تبرز مشكلات مثل تقسيم المياه بين دول حوض النيل, وكذلك القرصنة في القرن الإفريقي, بوصفها تهديدات محتملة للنفوذ التركي الناشئ في القارة السمراء، حتى لو كانت تهديدات بعيدة الأمد.
3 – العمق الاستراتيجي: حيث يرى أحمد داود أوغلو أن تركيا يجب أن تتمع بعمق استراتيجي لكي تتمدد تمددها الطبيعي في جوارها, وذلك بالتخلص من كل المشكلات، حيث قال في كتابه: «الفرضية الأساسية لنظرية العمق الاستراتيجي؛ هي أن قيمة الدولة في السياسات الدولية تعتمد على موقعها الجيواستراتيجي وعمقها التاريخي، وتركيا تتمتع بكلٍّ من المكان الذي يعطيها نفوذاً على المناطق الجيوبوليتيكية عن طريق تحكّمها في مضيق البسفور, وتركتها التاريخية للإمبراطورية العثمانية»(3).
كما يسمح مفهوم المجالات أو الأحواض القارية بمنح تركيا عمقاً استراتيجياً في إفريقياً، وإمكانات للتأثير في أوروبا وآسيا، وهو ما يُطلق عليه أوغلو: «أفروأوراسيا», فتركيا تتمتع برؤية أكثر اتساعاً وعالمية بحكم موقعها المثالي الذي يجعلها دولة آسيوية وأوروبية في الآن نفسه، مع قربها من إفريقيا عبر شرق المتوسط, وتتسم تركيا كذلك بالعمق التاريخي حيث كانت في مركز الأحداث التاريخية، سواء في المرحلة البيزنطية أو العثمانية(4).
أهمية إفريقيا في السياسة الخارجية التركية:
في الفترة من 18 إلى 21 مارس 2008م عقدت تركيا في إستانبول قمة إفريقية تركية هي الأولى من نوعها تحت عنوان «التضامن والشراكة لمستقبل مشترك», حضرها ممثلون من 50 دولة إفريقية، حيث شكّلت تركيا في ظل حكومة «حزب العدالة والتنمية» رؤية جديدة للعلاقات التركية الإفريقية(5)، وصرّح الرئيس التركي عبد الله جول أنه عقد لقاءات ثنائية مع رؤساء وفود 42 دولة في إطار القمة(6), فمنذ عام 1998م تبنّت تركيا سياسة الانفتاح على إفريقيا، بهدف تنمية علاقاتها السياسية والاقتصادية والثقافية بالدول الإفريقية، وتهدف تلك السياسة إلى تقوية التعاون في مختلف المجالات، كما أعلنت تركيا عام 2005م «عام إفريقيا»، وزار أردوجان إثيوبيا وجنوب إفريقيا في مارس من العام نفسه، ليصبح أول رئيس وزراء تركي يزور دول تحت خط الاستواء، كما حظيت تركيا برتبة «مراقب» في الاتحاد الإفريقي في 12 أبريل 2005م، كما منحت قمة الاتحاد الإفريقي – التي عُقدت في يناير 2008 في أديس أبابا – تركيا وصف «حليف استراتيجي»(7).
وقد عقدت تركيا مؤتمراً كبيراً جمعت فيه كل السفراء والممثلين الأتراك من جميع أنحاء العالم في ضيافة وزير الخارجية التركي آنذاك علي باباجان في 15 يوليو 2008م, وأعلن فيه أن تركيا «تهتم اهتماماً خاصاً بإفريقيا في سياق رؤية تركيا السياسية الجديدة»، وقال إنه في السنوات القليلة القادمة سوف تفتح تركيا خمس عشرة سفارة جديدة في القارة السمراء(8).
الشراكة الاستراتيجية التركية الإفريقية:
في إطار الشراكة الإستراتيجية التركية الإفريقية صحب الرئيس التركي عبد الله جول في جولته الإفريقية في مارس 2010م عدداً كبيراً من الوزراء ورجال الأعمال، وناقش في جولته التي شملت الكونجو والكاميرون العلاقات السياسية, وكذلك القضايا الإقليمية والدولية, وسبل تعزيز التعاون المشترك في مجالات التعدين والطاقة والسياحة والزراعة، وقبل ذلك بعام في فبراير من عام 2009م قام جول بزيارة كينيا وتنزانيا، وكان حجم تجارة تركيا مع إفريقيا يبلغ 5 مليارات دولار أمريكي فقط في عام 2003م، لكنه ارتفع إلى 15 مليار دولار أمريكي في عام 2009م, وقال الرئيس التركي: «إن هدفنا هو رفع حجم التجارة إلى 30 مليار دولار أمريكي في أقرب وقت ممكن»(9).
واليوم الأتراك يصدّرون السلع والمنتجات التركية لإفريقيا, بدءاً من مساحيق الغسيل وحتى الملابس الجاهزة, كما أن شركات المقاولات التركية تساهم في بناء المطارات والمساكن والسدود في إفريقيا(10)، ويتوقع أن يصل حجم التجارة بين تركيا وإفريقيا إلى 50 مليار دولار بحلول عام 2012م, فقد صرّح وزير التجارة الخارجية التركي كورشات توزمان أن حجم التجارة بين تركيا والدول الإفريقية ارتفع بنسبة 140% في الفترة من 2003م حتى 2007م، وقال توزمان – في كلمته التي ألقاها خلال افتتاح «منتدى الأعمال للقمة التركية الإفريقية» في إستانبول – إن حجم التجارة بين تركيا والدول الإفريقية ارتفع بنسبة 55% خلال النصف الأول من عام 2008م, مضيفاً أنه قد يصل إلى 19 مليار دولار أمريكي بنهاية 2010م(11).
والسياسة الخارجية التركية تجاه إفريقيا لا تعتمد فقط على الأهداف الاقتصادية والتجارية، ولكن تشتمل أيضاً على توجّه متكامل عبر المساعدات التقنية في مجالات مثل مكافحة الأمراض والتنمية الزراعية والري والطاقة والتعليم والمساعدات الإنسانية(12), ورحّبت تركيا بقرارات مؤتمر الوحدة الإفريقية الذي عُقد في يناير 2008م بإعلان تركيا شريكاً استراتيجياً، وكانت قمة «التعاون الإفريقي التركي» التي عُقدت في 2008م نقطة انطلاق التعاون المستمر بين الجانبين، وقد خصّصت تركيا آليات لمتابعة تلك القمة بإعلان إستانبول للشراكة التركية الإفريقية، وتهدف إلى تنظيم لقاءات على مستوى القادة بين الجانبين في السنوات الخمس الأولى من تلك الشراكة حتى نهاية 2010م، ولقاءات على المستوى الوزاري لمراجعة نتائج المؤتمر في 2011م، ولقاء ثان على مستوى القادة في 2012م, وقمة ثانية بين تركيا وإفريقيا في عام 2013م.
وبالإضافة إلى وضعية تركيا كمراقب في الاتحاد الإفريقي؛ فإن تركيا تم قبولها عضواً غير إقليمي ببنك التنمية الإفريقي عام 2008م، كما أنها أصبحت عضواً أيضاً في منتدى «الإيجاد» IGAD منذ عام 2008م، كما أن السفارة التركية في أبوجا النيجيرية تشارك في التجمع الاقتصادي لدول غرب إفريقيا ECOWAS، وتشارك السفارة التركية في دار السلام في تجمّع شرق إفريقيا EAC منذ 2010م(13).
كما تساهم تركيا في مهام السلام والاستقرار في إفريقيا، حيث إن تركيا تشارك في مهمة الأمم المتحدة لحفظ السلام المنتشرة في القارة، حيث تقدّم تركيا مساعدات مالية وبشرية لست مهام من المهام الثمانية التي تشارك فيها الأمم المتحدة بإفريقيا، كما شاركت تركيا مع مصر في رئاسة «المؤتمر الدولي للمانحين لإعادة إعمار وتنمية دارفور» الذي عُقد في القاهرة في 21 مارس 2010م، وفي أثناء المؤتمر أعلنت تركيا عن منحة قدرها ما بين 65 إلى 70 مليون دولار للمساعدات الإنسانية في مجالات الصحة والزراعة والتعليم في دارفور.
كما استضافت تركيا مؤتمر إستانبول بشأن الصومال الذي تم تنظيمه في إطار منظمة الأمم المتحدة في الفترة ما بين 21 إلى 23 مايو 2010م، وقدّم هذا المؤتمر دعماً مهماً لعملية السلام التي تجري في جيبوتي لدعم الحكومة الفيدرالية الانتقالية، وجاء إعلان إستانبول في أثناء المؤتمر كخريطة طريق لتسوية الوضع في الصومال.
كما قررت تركيا أيضاً أن تفتح 15 سفارة جديدة لها في كل من غانا والكاميرون وكوت ديفوار وأنجولا ومالي ومدغشقر وأوغندا والنيجر وتشاد وتنزانيا وموزمبيق وغينيا وبوركينافاسو وموريتانيا وزيمبابوي، كما بدأت السفارات التركية العمل في عدة مناطق أخرى من القارة, مثل أبيدجان في نوفمبر 2009م، وياوندي في يناير 2010م، وأكرا في فبراير 2010م، وباماكو في فبراير 2010م, وكامبالا في مارس 2010م, ولواندا في أبريل 2010م, وأنتاناناريفو (مدغشقر) في أبريل 2010م، ولدى تركيا الآن 20 سفارة في إفريقيا، منها 15 في دول جنوب الصحراء الإفريقية(14).
استفادة إفريقيا من الشراكة التركية:
اقتصادياً يستفيد الطرفان من زيادة التجارة بين تركيا وإفريقيا، فهي تزيد الوظائف والاستثمارات، بل إن إفريقيا شهدت زيادة مضطردة في نشاطات التنمية والمساعدات التركية ومشروعاتها، فوكالة التعاون الدولي التركية وسّعت من نطاق عملياتها بعد 2003م، فالوكالة لديها الآن ثلاثة مكاتب في إفريقيا، في إثيوبيا والسودان والسنغال، ومكاتبها تدعم مشروعات التنمية في تلك المناطق، ومن خلال تلك الدول الثلاثة تعمل في 37 دولة أخرى في إفريقيا، ومع افتتاح سفارات تركية جديدة في القارة فمن المتوقع أن تزداد مكاتب الوكالة, ومن ثم يزداد تدفق المساعدات والشراكة التجارية والاقتصادية مع القارة السمراء(15).
تهدف مشروعات الوكالة ونشاطاتها في إفريقيا إلى خدمة الأهداف طويلة الأمد في تطوير البنية التحتية والاجتماعية والاقتصادية في القارة، وتوفير الدعم في النواحي الإنسانية العاجلة في أوقات الأزمات(16), ففي أغسطس 2008م أطلقت الوكالة برنامج تنمية الزراعة الإفريقية للمساعدة في تطوير ذلك القطاع المهم من القارة لمدة عامين في ثلاث عشرة دولة، في كل من بوركينافاسو وجيبوتي وإثيوبيا وغينيا وغينيا بيساو ومالي والسنغال وجزر القمر ومدغشقر وتنزانيا وكينيا ورواندا وأوغندا، كما تم افتتاح مكتب تنسيق للتعاون لوكالة التنمية والتعاون الدولية التركية TİKA في إفريقيا، بوصفه أول مكتب يتم افتتاحه في العاصمة الإثيوبية أديس أباب عام 2005م، ثم بعد ذلك تم افتتاح مكاتب في الخرطوم وداكار في عامي 2006م و 2007م على التوالي، ويدعم مكتب الوكالة المشروعات التنموية في إفريقيا(17).
كما تعمل تركيا أيضاً بالتعاون في المنظمات الدولية لتطوير إفريقيا، فقد خصّصت 50 مليون دولار لتمويل مشروعات تنموية في دول إفريقية في السنوات الخمس في الفترة من 2008م وحتى 2013م، وقد خصّصت تركيا 7,5 ملايين دولار لعدة دول إفريقية عبر منظمات دولية, مثل منظمة الصحة العالمية وبرنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة والهلال الأحمر، لمساعدة تلك الدول لمواجهة الآثار السلبية للجفاف والتصحّر والكوارث الطبيعية الأخرى.
أما من الناحية السياسية؛ فإن إفريقيا تتوقع دعماً تركياً من خلال عضويتها في العديد من المنظمات الدولية، حيث إن تركيا لديها مقعد غير دائم في مجلس الأمن, كما أن منظمة المؤتمر الإسلامي يرأسها التركي أكمل الدين إحسان أوغلو، وتركيا عضو أيضاً بالعديد من المنظمات الدولية الفاعلة, مثل حلف شمال الأطلنطي ومنظمة التعاون الأوروبي وغيرها من المنظمات.
وفي 14 أكتوبر 2010م صرّح وزير الزراعة التركي مهدي إيكر أنه يجب تفعيل اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا والسودان لتسهيل الإجراءات التجارية بين الجانبين، وذلك بعد أن التقى وزير الخارجية السوداني محمد علي قطري في مكتبه في أنقرة، وصرّح للصحافيين في أثناء الزيارة أن «تركيا والسودان يجب أن يرفعا كافة الحواجز أمام التجارة المشتركة بين الجانبين لتحسين مناخ الاستثمار»، وقد عقدت عدة زيارات بين الجانبين، وصرّح الوزير التركي أن بلاده حققت تقدماً في مجال الزراعة السودانية في السنوات السبع الماضية(18).
وقد زار وفد مكوّن من 12 عضواً من ممثلي قطاع القطن الإفريقي من تنزانيا وأوغندا وزامبيا مدينة إزمير بغرب تركيا مؤخراً من أجل حثّ أنقرة على الاستثمار في صناعة القطن الإفريقي، وجاءت تلك الزيارة بدعم من مركز التجارة الدولي التابع للأمم المتحدة، وزار الوفد حقول القطن ومصانع الغزل والنسيج في إزمير، وقال ممثل عن الوفد إن الطلب المتزايد على القطن الإفريقي أدى إلى ارتفاع سعره، حيث يُنتج الأفارقة أكثر من مليون طن قطن سنوياً، وهناك مصلحة مشتركة للجانبين في دفع إنتاج القطن الإفريقي، حيث إن تركيا من أكبر الدول المستثمرة في صناعة الغزل والنسيج، كما قامت الخطوط الجوية التركية بعمل رحلات مباشرة إلى كل من تنزانيا وأوغندا، والأخيرة لديها أكثر من مليوني هكتار من الأرض الخصبة الصالحة لزراعة القطن, وتنتظر مستثمرين من تركيا لضخ الاستثمارات في ذلك القطاع المهم(19).
وقد صرّح سيركان ألبمان، أحد كبار المستثمرين الأتراك والذي يتملك شركات في نيروبي الكينية, أنه «بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في فرص جديدة للاستثمار؛ فإن إفريقيا هي العالم الجديد وأرض الفرص»، مضيفاً أن ذلك يعود إلى عدم وجود ثورة صناعية في أي من أنحاء القارة حتى الآن، وبسبب الأزمة المالية التي أدت إلى تقليص التجارة التركية في الخارج؛ فإنها تهدف إلى زيادة تجارتها مع الدول الإفريقية، فقد استطاعت تركيا أن تُحدث قفزات مهمة في عدة مجالات في إفريقيا، مثل النقل والمواصلات, وعقدت الخطوط الجوية التركية رحلات إلى كل من أديس أبابا والخرطوم ولاجوس وجوهانيسبيرج ونيروبي(20).
كما تهدف تركيا أيضاً إلى الاستثمار في قطاع النقل البحري الإفريقي، باستثمارات في أهم المنشآت مثل ميناء مومباسا، وقال أحمد يوسيل رئيس القسم الإفريقي بوزارة الخارجية التركية: «لقد جاء رجال الأعمال الأتراك إلى الوزارة وأخبرونا أن هناك فرصاً استثمارية هائلة في إفريقية»، فالعلاقات الوثيقة مع إفريقيا مهمة للغاية بالنسبة لتركيا، حيث إن لدى الأخيرة مصادر طبيعية قليلة ويخضع اقتصادها حالياً إلى عملية تحوّل من الاعتماد الكبير على الزراعة والتصنيع إلى الاتجاه العالمي الحديث الذي يعتمد على قطاع الخدمات، كما أن النمو المطرد للاقتصاد التركي يُعد شرطاً أساسياً لتحقيق حلم تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي(21).
كما أن المبادرات التركية في إفريقيا تمتد إلى ما وراء العلاقات التجارية والاقتصادية، حيث إن المساعدات التركية لإفريقيا قد تضاعفت أيضاً لتصل إلى 700 مليون دولار في الفترة من 2005م إلى 2008م، وقال وزير الخارجية التركي علي باباجان – في تلك الفترة – إن تركيا خصّصت عدة صناديق تمويلية لإفريقيا.
الدور السياسي التركي في إفريقيا:
في إطار السياسة التركية الخارجية التي تهدف إلى تعظيم النفوذ التركي في العالم؛ فإن تعميق الشراكة مع الدول الإفريقية يعطي دفعاً لوريثة الإمبراطورية العثمانية لاستعادة نفوذها بحصد مزيد من الأصوات في المنظمات الدولية، وقد زار الرئيس التركي عبد الله جول كلاً من كينيا وتنزانيا في مارس 2009م، ليصبح أول رئيس تركي يزور رسمياً هاتين الدولتين، وقال إن كلتيهما دعمتا سعي تركيا للحصول على مقعد غير دائم بمجلس الأمن بالأمم المتحدة، وقال عبد الله جول إن تركيا سوف تكون «المتحدث باسم إفريقيا في الأمم المتحدة»(22).
وقد مارست تركيا دوراً في دعم بعض القادة الأفارقة, مثل الرئيس السوداني عمر حسن البشير الذي قاد وفد بلاده المشارك في القمة (الإفريقية – التركية) بإستانبول, وكانت أول زيارة خارجية له منذ مذكرة توقيفه بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور(23).
ولكن ذلك الدور السياسي المتنامي لتركيا في إفريقيا جعل بعض الدول، ومنها الولايات المتحدة, تنظر نظرة ارتياب إلى تركيا، وبخاصة علاقتها بالسودان, واستضافتها لعمر البشير بالرغم من المطالبة بتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية، وترى أن التغيرات في السياسة الخارجية التركية ربما تصطدم بمصالح الدول الغربية.
يقول أمر الله أوسلو الباحث الزائر بمؤسسة جيمستاون البحثية بواشنطن إن «تركيا تلعب بأوراقها مع المؤسسة الحاكمة في السودان، حيث إن مشكلات السودان تتشابه في بعض جوانبها بمشكلة تركيا», في إشارة إلى الصراع التركي مع الأكراد، مضيفاً أنه «عندما يتعلق الأمر بمحاكمة البشير؛ فمن غير المتوقع أن تصوّت تركيا على تسليمه ومحاكمته»، وأضاف أوسلو أنه بالوضع في الاعتبار أنه لا يوجد صوت حقيقي لتركيا في مجموعة العشرين والمنظمات الدولية الأخرى؛ فإن تركيا يمكن أن تملأ تلك الثغرة بطرح بعض من مشكلات إفريقيا على الواجهة، ويمكنها أن تنجز العديد من المهام السياسية لإفريقيا(24).
أهمية الوجود التركي بإفريقيا للعالمين العربي والإسلامي:
في إطار سعي تركيا لاستعادة نفوذها السابق في محيطها الإقليمي وفي العالم؛ فإن تركيا تستخدم أدوات لذلك، منها منظمة المؤتمر الإسلامي التي تريد تركيا أن تعظّّم من دورها, وأن تكون مظلة للعمل المشترك مع دول العالم الإسلامي البالغ عددها 57 دولة, منها عدة دول من جنوب الصحراء الإفريقية، منها أوغندا وبنين وبوركينافاسو وتوجو وتشاد وجيبوتي والسنغال والصومال والجابون وجامبيا وغينيا وغينيا بيساو وجزر القمر والكاميرون وكوت ديفوار ومالي وموريتانيا وموزمبيق والنيجر ونيجيريا، وحرصت تركيا على أن يكون رئيس هذه المنظمة تركياً، وهو أكمل الدين إحسان أوغلو منذ عام 2005م(25).
كما تحاول تركيا أيضاً أن تبسط نفوذها على المنظمات الإقليمية، فقد استطاعت أن تحصل على صفة «شريك استراتيجي» بمنظمة الوحدة الإفريقية، بالإضافة إلى المؤسسات الأخرى التي سبق الإشارة إليها، وبذلك تحاول تركيا أن تربط عدة شرايين مهمة بينها وبين إفريقيا، لتزيد من قوتها الناعمة وتبادلها التجاري مع القارة السمراء، والذي من شأنه أن يعيد اكتشاف تلك الدولة المسلمة لإفريقيا مرة ثانية بعد أن تجاهلها المسلمون منذ انهيار الخلافة العثمانية وتبدل الأوضاع الدولية منذ الحرب العالمية الأولى، وكذلك من شأنه أن يعيد بعضاً من قوة المسلمين في مواجهة مشاريع التنصير واحتكار الثروات في تلك القارة التي تبلغ نسبة المسلمين بها 47%، بإجمالي 462 مليون مسلم(26).
وتلك العلاقات المتجددة بين تركيا وإفريقيا تعيد ربطها مرة ثانية بالعالم الإسلامي، وتُدخلها في بؤرة الاهتمام من جديد، عن طريق الشراكات التجارية والاقتصادية، حيث إن مظلة المؤتمر الإسلامي وحدها لا تكفي دون أن يتم ربط الدول الإسلامية بشبكة من المشروعات التنموية والتجارية والإنسانية، ويمكن أن يمثل الوجود التركي في يوم من الأيام عامل ثقل موازناً للمشاريع الغربية التي تهدف إلى تنصير القارة ونهب ثرواتها.
وبصرف النظر عن الخطابات المعلنة لتركيا عن التنمية الاقتصادية والمساعدات الإنسانية؛ فإن سياسة تركيا تجاه إفريقيا مدفوعة بتوجهات سياستها الخارجية على المدى البعيد ورغبتها في تنويع حلفائها الاقتصاديين، فتركيا مهتمة بتقليل اعتمادها الاقتصادي على شركائها التجاريين التقليديين, أمثال الاتحاد الأوروبي وروسيا, بفتح أسواق جديدة ومن بينها إفريقيا، فتركيا فهمت أن العالم قد تغير بصورة عميقة, وأن وجود حلفاء جدد بحسابات وتخطيط استراتيجي جديد أصبح أمراً حتمياً في تلك الحقبة التي تشهد تغيراً سريعاً في الاقتصاديات العالمية.
إن انفتاحة تركيا على إفريقيا تعد جزءاً لا يتجزأ من إعادة التعريف الجديد لسياسة تركيا الخارجية، وعلى المنظور الأوسع فإن الأزمة الاقتصادية العالمية التي حدثت عام 2009م شددت على أهمية تنويع الأسواق التركية, وأثبتت أن التجارة مع إفريقيا كانت خطوة جيدة, وأنها أفادت تركيا كثيراً، لبُعد الأسواق الإفريقية عن اهتزازات أسواق المال العالمية الكبرى، فكان الاستثمار في إفريقيا أكثر أمناً من بلدان أخرى حول العالم، لذا من المتوقع أن تتزايد الشراكة التركية الإفريقية في السنوات القادمة من أجل تحقيق المصالح التركية السياسية والاقتصادية, ولأهداف سياستها الخارجية الجديدة(27).
كما أن الشراكة التركية مع دول إفريقيا تعد نتيجة لكلٍّ من التحولات الداخلية التركية والتغيرات في الاقتصاد السياسي العالمي، فالتحولات الداخلية التركية مثّلت تحدياً للشركاء التقليديين لتركيا في الاقتصاد؛ لذا هدفت تركيا إلى تنويع بدائلها التجاريين تماشياً مع التغير في محددات القوة الاقتصادية والسياسية العالمية، فالتغير في النظام الدولي قاد الدول إلى إعادة تعريف مصالحها الخاصة في النظام الناشئ الجديد, واستجابة تركيا لمثل تلك التغيرات كان بتعريف سياسة خارجية جديدة متعددة الأبعاد بتطوير علاقات اقتصادية وسياسية ليس فقط مع الجيران الحاليين، ولكن أيضاً مع المناطق والقارات الأخرى التي تحمل آمالاً واعدة للاقتصاد التركي مستقبلاً.
الهوامش والإحالات:
(1) Murinson, Alexander, The Strategic Depth Doctrine Of Turkish Foreign Policy , Middle Eastern Studies, 42(6) November 2006, pp.951-952.
(2) د. حمدي عبد الرحمن: المثلث الإيراني التركي الإسرائيلي وإفريقيا، الجزيرة. نت، بتاريخ 23 مايو 2010م، على الرابط الآتي:
http://www.aljazeera.net/NR/exeres/9D0C1929-3470-4BBB-8610-85669754D578.htm#2.
(3) Stratejik Derinlik, Turkiye’nin Uluslararasi Konumu (Strategic Depth, Turkey’s International Position) Istanbul: Kure Yayinlari, 2001.
(4) قراءة في فكر أحمد داود أوغلو، علي جلال معوض، السياسة الدولية، عدد 178، يناير 2010م.
(5) إيردال سافاك، جريدة الصباح التركية، 19 أغسطس 2008م.
(6) إعـلان المبـادئ التركي الإفريقـي، أغسطـس 2008م، نشـر على الرابـط الآتـي: www.worldbulletin.net/news_detail.php?id=26942
(7) مؤسسة «ساتا» التركية للأبحاث السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عدد سبتمبر 2008م، رقم 22.
(8) محمد أوزكان، «تركيا تكتشف إفريقيا»، صحيفة زمان التركية، 12 سبتمبر 2008م، على الرابط الآتي: http://www.todayszaman.com/tz-web/detaylar.do?load=detay&link=152938
(9) وكالة أنباء الأناضول، 14 مارس 2010م. http://ar.trend.az/news/politics/1654113.html
(10) د. حمدي عبد الرحمن، مصدر سابق.
(11) جريدة «التجارية»، في 25 مارس 2009م، http://www.altijaria.net/altijaria.php?id=2552.
(12) موقـع وزارة الخارجيـة التركيـة، على الرابـط الآتي: http://www.mfa.gov.tr/turkey-africa-relations.en.mfa.
(13) المصدر السابق.
(14) المصدر السابق.
(15) Mehmet Ozkan,Turkey discovers Africa: implications and prospects, SETA foundation for Political, Economic and Social Research, September 2008, No. 22.
(16) Mustafa Sahin, “Development Aid in African countries and TIKA” in Common Strategic Vision Development Project Diplomatic Representatives of Turkey and African Countries, 3rd Workshop Final Report “Development Aid in African Countries and Turkish Civil Society Organizations”, Oguzhan Kose (ed), Istanbul, TASAM Yayinlari, Strategic Report No:22, December 2007, p.27.
(17) موقـع الوكالـة، علـى الرابـط الآتـي: http://www.tika.gov.tr/TR/Icerik_Detay.ASP?Icerik=1034
(18) موقع سودانيز أونلاين, بتاريخ 14 أكتوبر 2010م.
(19) وكالة Fibe2fashion الإخبارية الهندية, بتاريخ 8 أكتوبر 2010م، على الرابط الآتي: http://www.fibre2fashion.com/news/cotton-news/newsdetails.aspx?news_id=91739 .
(20) جلوبال بوست, بتاريخ 11 مارس 2009م، على الرابط الآتي: http://www.globalpost.com/dispatch/turkey/090309/turkey-seeks-economic-salvation-africa
(21) المصدر السابق.
(22) جلوبال بوست, بتاريخ 11 مارس 2009م، على الرابط الآتي: http://www.globalpost.com/dispatch/turkey/090309/turkey-seeks-economic-salvation-africa
(23) جريدة التجارية, في 25 مارس 2009م، http://www.altijaria.net/altijaria.php?id=2552
(24) جلوبال بوست, بتاريخ 11 مارس 2009م، على الرابط الآتي: http://www.globalpost.com/dispatch/turkey/090309/turkey-seeks-economic-salvation-africa
(25) موقع منظمة المؤتمر الإسلامي على الإنترنت:
http://www.oic-oci.org/page_detail.asp?p_id=59
(26) إحصاءات عام 2008م، المصدر: موقع إسلاميك بوبيوليشن، على الرابط الآتي: http://www.islamicpopulation.com/africa/africa_general.html
(27) Mehmet Özkan, TURKEY´S RISING ROLE IN AFRICA, TURKISH POLICY QUARTERLY, VOLUME 9 NUMBER 4, p. 105.