مِن المُلاحَظ أن الاعتبارات الجيوسياسية أضحت هي الحاكمة في تعاملات القوى الكبرى مع إفريقيا. وقد أدَّى التكالب الدولي المتزايد على استغلال الموارد الإفريقية إلى نُشُوب صراعات بالوكالة في جميع أنحاء المنطقة؛ حيث تتنافس الولايات المتحدة والصين وروسيا وغيرها من القوى الكبرى التقليدية والقوى المتوسطة الصاعدة من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية وطرق التجارة الاستراتيجية.
وقد صاحب ذلك وجود اتجاهين رئيسيين:
أولهما يتمثل في تمدُّد الشبكات الإرهابية العابرة للحدود في الساحل وشرق إفريقيا بالمعنى الواسع، والذي يستند على وجود وفرة من المقاتلين الأجانب المتجولين، أما الاتجاه الثاني فيتمثل في انتشار القواعد العسكرية الأجنبية وسط التوترات الجيوسياسية الصينية الأمريكية المتزايدة.
اعتبارًا من عام 2019م، تقوم 13 دولة أجنبية بتنفيذ عمليات عسكرية على الأراضي الإفريقية -وهو رقم يتجاوز بكثير أيّ منطقة أخرى–، ومعظم هذه الدول لديها عدة قواعد في جميع أنحاء القارة. وتشهد إفريقيا حاليًا نحو 47 قاعدة أجنبية، مع احتفاظ الولايات المتحدة بالنصيب الأكبر، تليها فرنسا. وقد أنشأت كل من الصين واليابان أول قواعد عسكرية خارجية لهما منذ الحرب العالمية الثانية في جيبوتي. بل وتفكر الصين حاليًا في إقامة قاعدة عسكرية على المحيط الأطلسي في غينيا الاستوائية.
ومن المرجَّح أن يؤثّر الوجود الأجنبي على تأجيج الصراعات الإفريقية، كما باتت السياسة الأمريكية تؤكد على مفاهيم الاحتواء القديمة حينما وصف الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور الحروب بالوكالة بأنها “أرخص تأمين في العالم”؛ نظرًا لمخاطرها السياسية المحدودة، والتكاليف البشرية التي تتحملها الأطراف المحرِّكة لها من الخارج.
وسوف يحاول هذا المقال مناقشة تَبِعَات هذه الحرب الباردة الجديدة، والاتجاهات الرئيسية الحاكمة للمستقبل الإفريقي على النحو التالي:
إفريقيا هي الخاسر الأكبر:
بالإضافة إلى التسبُّب في خسائر فادحة في الأرواح، تعمل الحروب بالوكالة في إفريقيا على إطالة أمد انعدام الأمن وتحبس البلدان في ثنائية “فخ الفقر” من ناحية و”فخ الصراع” من ناحية أخرى. علاوة على ذلك، فهي تستنزف احتياطيات البلدان الإفريقية المحدودة بالفعل من النقد الأجنبي، وتُقلّص حيّزها المالي الضيّق بنفس القدر مع عكس المكاسب الديمقراطية، وهو ما انعكس في ظاهرة عودة الانقلابات العسكرية مرة أخرى كما شهدنا في كل من مالي وتشاد وغينيا والسودان.
علاوةً على ذلك، فإنَّ الإنفاق العسكري المتزايد للحكومات الإفريقية يمتصّ حصة متزايدة من ميزانيات الحكومات الإفريقية، على عكس الانخفاض العام في أجزاء أخرى من العالم، مما يزيد من حدَّة تحديات إدارة الاقتصاد الكلي. وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، تجاوز الإنفاق العسكري في إفريقيا 43 مليار دولار في عام 2020م، ارتفاعًا من 15 مليار دولار في التسعينيات. وقد شكلت نفقات الدفاع ما متوسطه 8.2% من الإنفاق الحكومي في جميع أنحاء إفريقيا في عام 2020م، مقارنةً بمتوسط عالمي يبلغ 6.5%. على أن هذه النسبة أعلى من ذلك في البلدان التي تشهد صراعات عنيفة مثل مالي (18%) وبوركينا فاسو (12%).
وطبقًا لتقديرات مؤسسة ستراتفور الأمنية يمكن الحديث عن ثلاثة اتجاهات حاكمة تؤكد ما ذهبنا إليه عن ملامح المستقبل الإفريقي خلال المرحلة القصيرة القادمة، وذلك على النحو التالي:
أولاً: القدوم الروسي الكبير
من المرجَّح أن تحاول روسيا استغلال الفراغ الناجم عن خفض الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل، ممَّا سيؤدِّي إلى تغيير بِنْيَة التحالفات مع الجماعات المسلحة وفيما بينها. وقد دفعت خطة فرنسا لخفض عدد القوات الموجودة في منطقة الساحل اعتبارًا من فبراير 2022م حكام مالي العسكريين إلى اللجوء إلى روسيا لملء هذا الفراغ الأمني.
وبالفعل تم توقيع اتفاق مع شركة فاجنر الروسية لتسيطر على معسكر باماكو، وربما يؤدي ذلك إلى مواجهات مع القوات الفرنسية وعملية حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في المنطقة، ممَّا قد يدفع الفرنسيين إلى الانسحاب من المنطقة بالكامل.
إذا قررت فرنسا التركيز على مهام مكافحة الإرهاب في جنوب الساحل؛ فإن ذلك يعني تخفيف الضغط على الجماعات الإرهابية التي تستفيد منه لتوسيع نطاق سيطرتها على السكان المدنيين في شمال ووسط مالي، واستخدام الأراضي التي تم الاستيلاء عليها كقواعد لشنّ هجمات إقليمية.
من المرجَّح أيضًا أن تتغير التحالفات بين الجماعات الإرهابية مع تغيُّر النفوذ الجيوسياسي. ربما ينشق مسلحون من جماعة نصرة الإسلام والمسلمين والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وتنظيم داعش في غرب إفريقيا، وينضمون إلى الجماعات المتنافسة مع تغيُّر ديناميات السيطرة على الأراضي، ممَّا قد يتسبَّب في تشكيل تحالفات فضفاضة بين الجماعات، وتكون النتيجة هي زيادة قدرة هذه الجماعات على البقاء والتمدُّد نتيجة زيادة قدرتها على شنّ الهجمات.
من المرجَّح أن يسمح الوجود الروسي لحكومة مالي بالانخراط بشكل أعمق مع زعماء الجماعات العنيفة مثل إياد أغ غالي؛ مما قد يؤدي إلى مفاوضات رسمية ومحاولات لتسريح المقاتلين من أجل جذبهم إلى مشروع بناء الدولة في مالي. ويبدو أن الظهير الروسي المناسب هو الذي شجَّع حُكّام مالي على محاولة إرجاء الانتخابات الرئاسية التي كان مقررًا لها 27 فبراير 2022م، وهو ما استوجب فرض عقوبات من الجماعة الاقتصادية لغرب إفريقيا على مالي.
ثانيًا: استمرار فخّ الصراع في القرن الإفريقي
وفقًا لتقديرات مؤسسة ستراتفور حتى إذا تم التوصل إلى حلّ للنزاع الإثيوبي بين النُّخَب السياسية، فسوف تتعمق التوترات العرقية، وستتفاقم الأزمة الإنسانية خلال العام المقبل، مما يُلْحِق الضرر بالاقتصادات الإقليمية في القرن الإفريقي بأَسْره. مع استمرار الصراع بين الحكومة المركزية بقيادة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والجبهة الشعبية لتحرير التيغراي وحلفائهم، يبدو أن النتيجة المنطقية لهذا الصراع الذي طال أمده هو التسوية التفاوضية. مع بداية عام 2022م خرج الجيش الإثيوبي وله اليد العليا؛ نظرًا لنجاحاته العسكرية في أواخر عام 2021م، مما زاد الضغط على آبي أحمد لاستعادة عاصمة التيغراي، مقيلي. حتى لو حدث هذا بالفعل -وهو ليس مؤكدًا بأي حال- فمن غير المرجح أن تتعرض الجبهة الشعبية لتحرير التيغراي لهزيمة حاسمة، ومن المرجَّح أن يطول أمد الصراع.
على أي حال، لن تُنهي أيّ تسوية سلمية محتملة الأزمةَ الإنسانية المستمرة. وكلما طال أمد الصراع، ازداد خطر انتشاره إلى المناطق التي نجت حتى الآن من الحرب، مثل المناطق الجنوبية والشرقية. سيستمر الجفاف ونقص الغذاء وتفاقم العنف العِرْقي في فَرْض تحديات كبيرة لكل من الإثيوبيين وجيرانهم في منطقة القرن الإفريقي الأوسع.
كما أن الانقسامات بين قوميات الأمهرة والتغراي والأورومو يمكن أن تدفع إلى موجات من العنف على مستوى المجتمعات المحلية.
وسوف يكون للأزمة الإنسانية الممتدة في إثيوبيا تداعيات إقليمية، بما في ذلك الضرر الذي يلحق بالاقتصادات المجاورة في الصومال وإريتريا وكينيا، فضلاً عن الأضرار التي تلحق بالجهود الجارية لدمج اقتصادات إثيوبيا والصومال وإريتريا فيما عُرِفَ بتجمع القرن الإفريقي.
علاوةً على ذلك، قد تتأثر سلبًا منطقة مثلث الفشقة على طول الحدود السودانية الإثيوبية، بينما قد يزداد الموقف تعقيدًا في أزمة سد النهضة الإثيوبي الكبير.
ثالثًا: حالة من عدم اليقين: انتخابات فارقة
سوف تشهد إفريقيا بعض الانتخابات الحاسمة وعمليات الانتقال السياسي تبدو نتائجها غير مؤكدة، وهو ما يخلق فضاءات قلقة عند رسم ملامح التحولات المستقبلية في إفريقيا.
ويمكن هنا أن نشير إلى ثلاثة نماذج مهمة:
1- في جنوب إفريقيا: تبدو الإصلاحات الاقتصادية متواضعة، مع وجود انقسام داخلي في حزب المؤتمر الوطني الإفريقي. إن سعي حزب أبناء مانديلا لبناء تحالفات مع أحزاب المعارضة بعد خسارته في الانتخابات البلدية في نوفمبر 2021م يعني أن الحزب الحاكم سيناضل من أجل تمرير إصلاحات مهمة، بما في ذلك ملكية الأراضي والإصلاحات الضريبية.
مِن المُرجَّح أن يسعى رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا إلى إصلاحات اقتصادية انتقائية، بما في ذلك حملته المناهضة للفساد؛ لأن هذا أمر يجذب الناخبين دون أن يؤدي إلى تدهور الاقتصاد. لكن من غير المرجّح أن تؤدي معالجة الفساد إلى تحسينات في المجالات ذات الأهمية الكبرى للناخبين، بما في ذلك توفير الخدمات العامة، وارتفاع تكاليف المعيشة والبطالة.
سيواصل رامافوزا أيضًا خصخصة الشركات المملوكة للدولة، وإن استثنى من ذلك شركة الكهرباء الحكومية المتعثرة. ومن المرجَّح أن تؤثر هذه الإجراءات على نتيجة انتخابات المؤتمر الوطني الإفريقي في ديسمبر 2022م.
2- نيجيريا وتناوب الرئاسة: من الممكن أن تؤدي الحسابات السياسية قبل الانتخابات الرئاسية في فبراير 2023م إلى حالة من عدم اليقين السياسي في نيجيريا، عملاق إفريقيا النائم، ممَّا يترتب عليه زيادة تدهور الوضع الأمني، ورفع مستويات المخاطر لاستمرارية الأعمال التجارية والاستثمار الأجنبي. وفقًا لنمط التناوب على السلطة في نيجيريا بين المناطق الجغرافية، يجب أن تؤول رئاسة الدولة عام 2023م إلى أحد أبناء النخبة الجنوبية.
وعلى الرغم من الاستقرار الظاهري الذي يترتب على هذا النظام، فإن العديد من المرشحين والتحالفات المتغيرة بين الحزبين المهيمنين، يدفعون باتجاه بيئة انتخابية غير مستقرة وشديدة التنافس. سوف تحدث انشقاقات حزبية من كلا الحزبين في محاولة لتحقيق مزايا سياسية، وسوف ينخرط هؤلاء أيضًا في حملات التشهير التي من المرجَّح أن تجعل بيئة الأعمال التجارية عَصِيَّة على التنبؤ؛ حيث تظهر مزاعم الفساد والاحتيال عبر القطاعات المختلفة للاقتصاد الوطني.
من المرجح أن يؤدّي تدهور الوضع الأمني في ولايات نيجيريا الشمالية والتهديد الكبير المستمر للبنية التحتية النفطية في جنوب البلاد إلى زيادة الضغط الاجتماعي لتغيير القيادة الحاكمة.
وطبقًا للتقديرات الأمنية سوف يحاول السياسيون استغلال البيئة الأمنية الضعيفة للتحالف مع قطاع الطرق والجماعات المسلحة ومساعدتهم في الإفلات من العقاب، وهو ما يعني زيادة المخاطر الأمنية في العديد من الولايات، وتقليل ثقة المستثمرين، ومضاعفة مشاكل نيجيريا المتزايدة فيما يتعلق بالقدرة على تحمُّل الديون.
3- الانتخابات الرئاسية الكينية والخوف على مسار الانتقال الصعب: ثمة مخاوف متزايدة في كينيا من الانتخابات الرئاسية التي سوف تجرى في أغسطس2022م.
السؤال الرئيسي في تحديد نتيجة الانتخابات هو ما إذا كانت مجموعة الكيكويو العرقية، التي ينتمي إليها الرئيس أوهورو كينياتا، والتي تضم 22٪ من السكان، ستصوت ككتلة واحدة أم سنقسم على نفسها. يدعم الرئيس كينياتا حاليًا رايلا أودينجا، المرشح الرئاسي المخضرم لخمس مرات. إذا انقسم التصويت، فإن احتمالات فوز وليام روتو، نائب الرئيس الحالي والخصم السياسي لأودينجا، تزداد بشكل كبير. ولكن إذا فاز أودينجا بالرئاسة، فإن احتمالات تمرير المقترحات المتعلقة بمبادرة بناء الجسور وتعديل الدستور سوف تكون أكثر ترجيحًا. تم التوصل إلى هذه المبادرة مِن قِبَل كلّ من كينياتا وأودينجا، وهو تعديل دستوري يهدف إلى تأسيس لامركزية السلطة التي من شأنها إنشاء منصب رئيس وزراء جديد، وما لا يقل عن 70 دائرة انتخابية جديدة.
ومع استمرار المعركة على التصويت؛ من المرجح حدوث اضطرابات في بيئة الأعمال؛ حيث سيحاول السياسيون استغلال الاضطرابات الاجتماعية الناجمة عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية، خاصة أسعار الوقود، والجفاف في شمال البلاد من خلال تأليب الناخبين ضد المعارضة السياسية. في حين أنه من غير المرجّح أن تعيد كينيا فرض تدابير الإغلاق الصارمة استجابة لمتغيرات كوفيد-19 الجديدة أو زيادة الحالات؛ فإن معدل التطعيم المنخفض نسبيًّا في كينيا (5.5٪ من البالغين تلقوا جرعتين) يخلق مخاطر باستمرار الاضطرابات المستمرة. ومن المرجح كذلك أن تحدث جولة إعادة في الانتخابات القادمة وربما يذكرنا ذلك بأجواء العنف الانتخابي في عام 2007م.
وختامًا:
يمكن القول بأن الحرب الباردة الأولى أودت بحياة الملايين من الأفارقة، وكانت مسؤولة إلى حد كبير عن العقود الضائعة التي أدت إلى اتساع الفجوة بين إفريقيا وبقية مناطق العالم، أي تهميش إفريقيا في ظل ديناميات العولمة المتغيرة.
وبالإضافة إلى تكاليفها البشرية والاقتصادية الهائلة، أدَّت الحرب الباردة كذلك إلى تفاقم حدَّة الانقسام السياسي في إفريقيا؛ حيث انضمت الدول إلى إحدى الكتلتين المتنافستين. يعني ذلك أن إفريقيا لا تستطيع تحمل تكاليف مرحلة جديدة من الحرب الباردة؛ لأنها ستضعف الجهود الجارية لتعميق التكامل في ظل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية الوليدة.
وبالنظر إلى تفاقم حدَّة الصراعات في كلّ من منطقتي الساحل وشرق إفريقيا، وتركيز القوى الخارجية على مصالحها الاستراتيجية؛ فإن المستقبل الإفريقي خلال المرحلة القادمة لا يبدو واعدًا.