لقد كانت نتيجة الانتخابات المحلية في الأول من نوفمبر2021م بالنسبة لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم في جنوب إفريقيا منذ عام 1994م بمثابة كارثة متوقعة. تم الاقتراع الشعبي العام في ظل بيئة سياسية مضطربة كانت مليئة بالتحديات والعثرات التي واجهها حزب أبناء مانديلا. عانت البلاد من غياب أيّ تحسُّن اقتصادي ملموس، ومن ضعف في تقديم الخدمات العامة ونقص مزمن في إمدادات الكهرباء.
أضف إلى ذلك كله أن جنوب إفريقيا شهدت أسوأ اضطرابات عنيفة منذ التحوُّل إلى حكم الأغلبية السوداء، مع تُهَم متعددة بالفساد، تأتي جميعها وسط جائحة عالمية أفضت إلى حالة من الانكماش الاقتصادي الذي لم تشهد له جنوب إفريقيا مثيلاً منذ قرن من الزمان. ولذا لم يكن مستغربًا أن ينعكس ذلك كله بشكل سلبي على اختيارات الناخبين في صناديق الاقتراع.
هل نشهد حكومة ائتلافية في جنوب إفريقيا؟
أفصحت نتيجة الانتخابات المحلية عن تراجع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بشكل واضح؛ حيث حصل على نسبة 45.6% مقارنة بنسبة 54% التي حصل عليها في الانتخابات المحلية لعام 2016م. ويمكن عزو جزء كبير من خسارة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي إلى الإقبال المنخفض؛ حيث أدلى 47٪ فقط من الناخبين المؤهلين بأصواتهم في الانتخابات البلدية. لكنَّ أحزاب المعارضة استفادت أيضًا من تراجع دعم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي لتحقيق مكاسب انتخابية. وحل حزب التحالف الديمقراطي في المرتبة الثانية بنسبة 22٪ من الأصوات، واحتفظ بالأغلبية التي يسيطر عليها منذ فترة طويلة في مدن مثل كيب تاون، لكن بشكل عام لم يكن أداؤه جيدًا كما كان متوقعًا.
ويستمد التحالف الديموقراطي دعمه الأساسي من الناخبين البيض والناطقين باللغة الإفريكانية. ويدعو الحزب -الذي يشكل أكبر منافس لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي- إلى زيادة حجم قوة الشرطة، فضلاً عن زيادة الإنفاق على الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية. كما يعارض الحزب بشدة إعادة توزيع الأراضي، وهي قضية رئيسية بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وجبهة مقاتلي الحرية الاقتصادية التي أسَّسها زعيم عصبة شبيبة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي سابقًا جوليوس ماليما ورفاقه عام 2013م.
ولقد فاز مقاتلو الحرية الاقتصادية بنسبة 9.9٪ من الأصوات على الصعيد الوطني، مقارنة بنسبة 8.3٪ في الانتخابات البلدية لعام 2016م. وعلى الرغم من أن حزب ماليما لم يسيطر على أيّ مجالس بلدية، إلا أن مقاعده البالغ عددها 131 مقعدًا قد تكون مؤثرة في التحالفات المستقبلية. ويتبنَّى مقاتلو الحرية الاقتصادية خطابًا يساريًّا راديكاليًّا يطالب بإعادة توزيع الأراضي دون سياسة تعويض. ويدعم الحزب إلى حد كبير فئات الشباب وأبناء الريف والشرائح السكانية منخفضة الدخل والسود.
ومن جهة أخرى فاز حزب الحرية إنكاثا بنسبة 5.6٪ من الأصوات على المستوى الوطني مقارنة بنسبة 4.6٪ في عام 2016م. ويسيطر الحزب على تسعة مجالس بلدية. وترتكز قاعدة الحزب في كوازولو ناتال؛ حيث ترتكز قاعدته الانتخابية إلى حد كبير على الناخبين المنتمين إلى قبائل الزولو. ويدعو الحزب إلى نقل السلطة إلى حكومات المقاطعات، وفصل منصب رئيس الدولة عن منصب رئيس الحكومة، وتبني قوانين عمل أكثر مرونة
وفي أول انتخابات بلدية لها على الإطلاق؛ فازت منظمة عمل جنوب إفريقيا بنسبة 2.6٪ من الأصوات على المستوى الوطني، وحصلت بشكل ملحوظ على 16٪ من الأصوات في بلدية جوهانسبرج. قام عمدة جوهانسبرغ السابق هيرمان ماشابا بتأسيس هذا الحزب بعد أن ترك حزب العمل الديمقراطي في عام 2020م، ويدافع الحزب عن السياسات غير العنصرية، ويناصر جهود مكافحة الفساد.
ومع ذلك؛ فإن العديد من الأحزاب السياسية الفاعلة إما ترفض الدخول في شراكة مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي أو تقدم مطالب لا يمكن تحقيقها. بيد أن انتخابات 1 نوفمبر قد تجبر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي على تقديم تنازلات -بشأن قضايا إصلاح الأراضي والإنفاق العام- مع أحزاب المعارضة أو الأقليات. لقد صرح حزب جوليوس ماليما الراديكالي أنه منفتح للعمل مع حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، ولكن فقط إذا وافق الحزب الحاكم على قائمة من الشروط، بما في ذلك تعديل الدستور للسماح بمصادرة الأراضي دون تعويض، بالإضافة إلى تأميم البنك المركزي لجنوب إفريقيا، وإلغاء ديون الطلاب وإزالة كلمات اللغة الإفريكانية من حقبة الفصل العنصري من النشيد الوطني. وإذا فشل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في تشكيل ائتلاف مع أحزاب المعارضة هذه، فقد تضطر بعض البلديات إلى إجراء تصويت آخر في الأشهر المقبلة، مما قد يؤدي على الأرجح إلى خسائر أكبر للحزب الحاكم.
الفساد والتراجع الاقتصادي:
تعكس خسارة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الانتخابية إحباط المواطنين من سوء إدارة الأموال العامة، إلى جانب غضبهم الشديد من الأزمة الاقتصادية المستمرة والفساد السياسي. إذ إنه بعد عقود من الهيمنة السياسية، كثيرًا ما تُوجَّه الانتقادات لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي نتيجة فشله في الوفاء بالوعود الاقتصادية والإنمائية. لقد لمست ذلك بنفسي خلال الانتخابات المحلية عام 2016م؛ حيث كان الجميع يتحدث عن سوء خدمات الصرف الصحي والحصول على المياه النظيفة وتوزيع الكهرباء والخدمات الصحية والتعليم، ولا سيما في المناطق الفقيرة.
لقد تم تأسيس الشركات المملوكة للدولة في جنوب إفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري، وذلك لدعم الصناعات الأكثر تأثرًا بالعقوبات الدولية التي تفرضها الدول المناهضة للفصل العنصري. تم تقديمها لتشجيع الاستقلال الاقتصادي، وذلك في ظل غياب الدعم والاستثمار الأجنبي. ومع ذلك، فإن أكبر عيب في هيكل المؤسسة المملوكة للدولة هو أن نجاحها يعتمد على مسألة الشفافية ونظام الحوكمة. وعلى سبيل المثال اتسمت إدارة زوما بالفساد؛ حيث سُرقت عائدات الحكومة، وتم تقويض الثقة في الشركات المملوكة للدولة.
وعلى أيّ حال فقد أعاقت الأوضاع المالية المتردية الناجمة عن سوء الإدارة قدرة الشركات المملوكة للدولة على اقتراض الأموال، مما حدَّ من آفاقها المستقبلية.
ومن المعروف أنه توجد في جنوب إفريقيا 26 شركة مملوكة للدولة، وهو ما يعني أن موارد الحكومة تتضاءل. نتيجة لذلك، يتم تشغيل العديد من الشركات المملوكة للدولة بإشراف ودعم يفتقر إلى الشفافية والنزاهة، مما يجعلها أهدافًا رئيسية للفساد. وإذا كانت الشركات المملوكة للدولة هي التي تهيء مناخ الأعمال في الدولة؛ فإن ذلك قد ينعكس سلبًا على الشركات الخاصة، والتي لن تلتزم قطعًا بالقواعد الحكومية.
وعلى سبيل المثال يتسبب انقطاع التيار الكهربائي في شركة إمداد الكهرباء الحكومية (اسكوم) بشكل منتظم في حرمان الآلاف من مواطني جنوب إفريقيا من الكهرباء. يتهم منتقدو حزب المؤتمر الوطني الإفريقي شركة “اسكوم” بالعمل بشكل مستقل عن وزارة الطاقة، ويقولون: إن الفساد بين السياسيين والمديرين التنفيذيين في الشركة هو قضية مزمنة. ويبلغ إجمالي ديون شركة “اسكوم” اليوم نحو28.2 مليار دولار بعد تسجيل خسائر بقيمة 1.9 مليار دولار في عام 2020م. ومن الملاحَظ أن أسعار الكهرباء قد تضاعفت أربع مرات منذ عام 2006م.
ومن جهة أخرى ثمة فضائح متفشية خاصة بالفساد المالي داخل أروقة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي نفسه. في مايو الماضي، تم إعفاء الأمين العام السابق لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي آيس ماغاشول من منصبه بعد اعتقاله العام الماضي بتُهَم تتعلق بالفساد والاحتيال وغسيل الأموال. في الشهر التالي، تم إلقاء القبض على عضو حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والرئيس السابق جاكوب زوما وحُكِمَ عليه بالسجن 18 شهرًا بتهمة ازدراء المحكمة بعد أن فشل في المثول أمام لجنة قضائية تحقق في الكسب غير المشروع خلال فترة رئاسته بين عامي 2009 و2018م.
ولا يخفى أن سوء إدارة المال العام أو الانخراط في صفقات فاسدة تؤدي إلى سيادة شعور اللامبالاة مِن قِبَل الناخبين تجاه المؤسسات والقادة السياسيين في جنوب إفريقيا، كما اتضح بجلاء من ضعف الإقبال على التصويت في انتخابات الأول من نوفمبر 2021م. وطبقًا للتقديرات الحكومية فإن المسؤولين الحكوميين الفاسدين سرقوا أكثر من 35 مليار دولار من الأموال العامة خلال فترة زوما التي استمرت تسع سنوات. ستستمر محاكمة الرئيس السابق في أبريل 2022م. ومما يزيد الطين بلة أن معدل البطالة في جنوب إفريقيا يبلغ حاليًا أكثر من 33٪. كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 10٪ منذ نوفمبر 2020م، وأسعار الوقود في طريقها للوصول إلى مستويات قياسية في المستقبل المنظور.
مآلات المستقبل:
من المرجَّح أن يؤدي ضعف الدعم الانتخابي –وفقًا لتقديرات مؤسسة ستراتفور الأمنية- إلى إعاقة جهود الرئيس سيريل رامافوزا على المضي قدمًا في الإصلاحات الاقتصادية قبل انتخابات قيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في عام 2022م.
وفي الوقت الراهن ينقسم الحزب الحاكم بين فصيلين رئيسيين: أولهما بقيادة رامافوزا، والثاني هو فصيل التحول الاقتصادي الراديكالي بقيادة زوما. سيحاول كلا الفصيلين كسب النفوذ قبل انتخابات قيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في ديسمبر 2022م. ربما ترتفع أسهم رامافوزا نسبيًّا مقارنةً بجناح زوما الذي يُوَاجَه بتُهَم الفساد المستمرة. ومع ذلك، فإن الخلاف الداخلي سيؤثر على مبادرات رامافوزا الاقتصادية؛ حيث تسعى خطته المؤيدة للأعمال التجارية إلى كبح جماح الإنفاق العام من خلال تدابير احترازية مثل تخفيضات الميزانية وتسريح العمال، والتي من شأنها أن تضرّ بقاعدة دعم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي المكونة من السود والفقراء في جنوب إفريقيا.
إذا شرع رامافوزا في إجراءات تقشف متزايدة ووقف مدفوعات الرعاية الاجتماعية الشهرية البالغة 23 دولارًا التي تم تقديمها بعد الاحتجاجات والعنف على نطاق واسع في يوليو الماضي؛ فإن احتمالية عدم الاستقرار والاحتجاجات ستزداد بشكل كبير. قد تؤدي الحاجة إلى حَشْد الدعم الشعبي بعد الانتخابات البلدية الأخيرة أيضًا إلى تشجيع رامافوزا على مضاعفة حملته ضد الكسب غير المشروع، والتي تحظى بشعبية بين مؤيديه، ولكن من المحتمل أن تثير انتقادات حادة، وربما احتجاجات، من أنصار زوما؛ ولا سيما أثناء إجراءات محاكمة الرئيس السابق بتهم الفساد.
وفي الوقت نفسه؛ فإن خُطَط رامافوزا لتحسين بيئة الأعمال في جنوب إفريقيا من خلال خفض الديون وخفض الإنفاق العام وتوفير تخفيضات ضريبية للشركات -والتي تأخرت بالفعل بسبب جائحة كوفيد 19-؛ قد يتم تأجيلها أو إعطاؤها أولوية منخفضة؛ خوفًا من ردود الفعل السياسية السلبية.
وختامًا قد يكون صحيحًا أن معظم ممثلي حزب المؤتمر الوطني الإفريقي ينتمون إلى نخبة فاسدة وعاجزة. لكن قاعدة دعم الحزب، الموالية حتى الآن، مستمدة من أفقر شريحة من السكان، وكثير منهم لم يروا فوائد الديمقراطية بعدُ.
إن هؤلاء الفقراء والمهمَّشين وأولئك المحبطين بسبب عدم وجود الماء أو الكهرباء أو السكن اللائق والرعاية الصحية والعديد من الخدمات الضرورية الأخرى التي يكفلها الدستور لن يكونوا بالضرورة رافعة التغيير القادم. كما قال المؤرخ البريطاني آل مورتون ذات مرة، إذا كان التعميم القائل بأن “القوة المطلقة مفسدة تمامًا”، له قدر من الصلاحية، فإن العجز المطلق يمكن أن يفسد أيضًا بنفس القدر. فالحرمان من الحقوق والفقر وحالة اليأس لا تعزّز في حد ذاتها النزاهة والوعي الاجتماعي الدافع للتغيير. وعلى أي حال فإن مفاوضات الائتلاف والتحالفات الجديدة قد تؤدي إلى تغيير المشهد السياسي في جنوب إفريقيا. يمكن أن تكون هذه الانتخابات بمثابة اختبار لما هو متوقع في الانتخابات العامة المقررة لعام 2024م، والتي يمكن أن تكون أهم اختبار لشعبية حزب المؤتمر الوطني الإفريقي منذ نهاية حكم الأقلية البيضاء في عام 1994م.