فيما يتندَّر مراقبون بوصف المائة يوم الأولى من عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ”القرن الكامل”؛ (من جهة كثرة الأحداث والقرارات والتغييرات المفصلية التي شهدها العالم منذ تولّيه إدارة بلاده)؛ فإن القارة الإفريقية تظلّ -وبامتياز كبير للأسف- الساحة الخلفية الملائمة لتلقّي التغييرات التي تنتج عن قرارات ترامب، كما أنها تبدو الأكثر استجابة لتهديدات ترامب ومحاولة استرضائه والوصول إلى حلول وسط لتفادي ضغوطه ومطالبه المُبالَغ فيها أحيانًا إلى حدّ عدم الواقعية بالنسبة لدول ذات سيادة.
ويتناول المقال الأول تداعيات ما عُرف بـ”حرب الرسوم الجمركية” التي شنَّها ترامب على العالم، وعلى القارة الإفريقية على وجه الخصوص.
أما المقال الثاني فقد تناول جانبًا محدّدًا من سياسات ترامب الإفريقية في مسألة ضَغْطه على جنوب إفريقيا على نحوٍ يتجاوز المصالح التجارية بين البلدين إلى تهديد سلامها الاجتماعي بشكل مباشر؛ من حيث استقطاب سكان البلاد البيض بدعوى حمايتهم من الحكومة التي يقودها حزب المؤتمر الوطني.
ويتناول المقال الثالث عرضًا لأهم خمسة قرارات اتخذها ترامب تجاه القارة الإفريقية.
حرب رسوم ترامب الجمركية تؤلم الاقتصادات الإفريقية([1]) :
لم يُخْفِ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سرّ وَلَعه بالرسوم الجمركية، الذي وصل لدرجة وصفه الكلمة بأنها “أجمل كلمة في القاموس”. ومِن ثَم فإنه ليس مفاجئًا للأسواق وصُنّاع السياسات أن يعلن الرئيس الأمريكي، خلال حديثه من البيت الأبيض مطلع أبريل 2025م، عن إجراءات “يوم التحرير” التي شملت فرض رسوم جمركية ضخمة على دول العالم.
على أيّ حال فقد يُغْفَر للمرء شعوره بالمباغتة بالنسبة لدولة واجهت معاملة فظَّة على وجه خاص، وهي دولة ليسوتو الصغيرة. فقد واجهت ليسوتو، التي تُصدِّر الماس والملابس، أعلى زيادة في الرسوم الجمركية في “يوم التحرير” بلغت 50%. وقد أدانت مدغشقر، التي تُصدِّر كميات متواضعة نسبيًّا من الفانيلا والملابس للولايات المتحدة، وتستورد منها منتجات قليلة للغاية، طريقة حساب إدارة ترامب لزيادة الرسوم الجمركية المفروضة عليها والتي بلغت 47%.
تراجع نحو إرجاء مؤقت:
كان هناك نوع من الإرجاء بالنسبة لحالات ليسوتو ومدغشقر ودول إفريقية أخرى كانت تواجه أزمة الرسوم الجمركية. وقد تلا الأسبوع الذي شهد إعلان “يوم التحرير” تراجعًا مؤقتًا مِن قِبَل ترامب؛ فقد أصدر إعلانًا ثانيًا بوقف فرض الرسوم الجمركية على جميع الدول لمدة 90 يومًا، وأنه سيتم خلال تلك الفترة تطبيق رسوم جمركية شاملة بقيمة 10%. وكان ذلك الإعلان باستثناء الصين التي تُواجه حتى كتابة المقال رسومًا جمركية (وسط تبادل الإجراءات العقابية بين واشنطن وبكين) وصلت إلى 145% على أغلب صادراتها للولايات المتحدة. وفي المقابل فرضت الصين على الشركات الأمريكية المُصدِّرة للصين رسومًا جمركية بمعدل يقلّ قليلًا عن 125%.
على أيّ حال، فإن الحكومات وصُنّاع السياسة وقادة الأعمال الأفارقة لا يزالون يواجهون الأزمة، ويحاولون تقييم النتائج بعيدة المدى على القارة.
ويرى دانيال سيلكي D. Silke، مُحلِّل الاقتصاد السياسي الذي يعمل في كيب تاون، أن تهديدات اضطراب الرسوم الجمركية قد أطلقت حالة عدم يقين في الأسواق في أرجاء العالم. أما تشيتا نوانزي Cheta Nwanze، مُؤسِّس إحدى شركات البحوث الجيوسياسية في لاجوس، فيبدو متفائلًا بشكلٍ نسبيّ بأن أثر الرسوم الجمركية سيكون محدودًا على الاقتصاد الإفريقي الحقيقي، لكنّه يتفق على أن عدم اليقين واضطراب السوق يمكن أن يؤثر على توجهات المستثمر، ومِن ثَم يُخفّض تدفقات رأس المال إلى القارة.
ويوضح ذلك بقوله: “بالنسبة للكثير من الدول الإفريقية يمثل القطاع غير الرسمي قسمًا كبيرًا في الاقتصاد. وفي نيجيريا على سبيل المثال يُدِرّ قطاع البترول نحو 90% من العائدات الحكومية، لكنّه لا يُوفّر سوى 6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي. ويعمل في قطاع صناعة البترول ككل أقل من 100 ألف فرد في بلد يبلغ عدد سكانها 200 مليون نسمة”.
ويضيف نوانزي أن مثل هذه الديناميات تَخلق حالة “تنافر”؛ حيث ثمة قطاعات بالغة الهشاشة في الأسواق العالمية. ويشير إلى أنه “من وجهة نظر إفريقية فإن اختفاء التجارة الأمريكية لن يكون له تأثير حقيقي كبير، باستثناء جيبوتي؛ إذ لكل دولة إفريقية تجارة أكبر مع الصين مقارنةً بالولايات المتحدة.
إفريقيا تتعرض لحرب تجارية:
وبينما يُحتمَل أن يكون الأثر الاقتصادي المباشر للرسوم الجمركية على الدول الإفريقية محدودًا بهذا المعنى؛ إلا أنه ثمة تهديد –من الجهة الأخرى- بإمكان تعرُّض بعض الدول الإفريقية لعواقب تصاعد الحرب بين واشنطن وبكين؛ حيث إن التراجع في التجارة بين أكبر اقتصادين في العالم سيكون كبيرًا على الأرجح، وتتوقع منظمة التجارة العالمية انخفاضًا بنسبة 80% في التجارة السلعية الأمريكية-الصينية في العام 2025م.
وكان صندوق النقد الدولي قد حذَّر في وقت سابق من احتمال ان تكون إفريقيا جنوب الصحراء الإقليم الأكثر تضررًا من “التفكك الجيواقتصادي” الناتج عن الحواجز التجارية المفروضة بين الشرق والغرب. ويثق نوانزي في أن الطلب الصيني على السلع والموارد الإفريقية سيظل قويًّا بالرغم من الضرر المحتمل الذي ستُحْدِثه الرسوم الجمركية الأمريكية على اقتصادها. “لقد كانت الصين مستعدة لذلك منذ فترة: ويمكن النظر لمبادرة الحزام والطريق على أنها “استعداد جيواستراتيجي” قامت الصين من خلالها بتقوية سوقها الداخلي، بينما كانت تقوم بخلق أسواق خارجية جديدة”.
على أيّ حال فإن “سيلكي” يحدوه قلق أكبر إزاء إصابة الاقتصادات الإفريقية بنيران صديقة. ويُوقن، على وجه الخصوص، أن التراجع المنتظم في تجارة السلع بين الولايات المتحدة والصين سيؤدي على الأرجح لتكوين فائض كبير للسلع الصينية في السوق، وهو أمر قد يُلْحِق الضرر بالمنتجين الأفارقة بصورة أو بأخرى.
على أيّ حال، فإنه يوجد غموض مستمر إزاء خطط ترامب حول التجارة في الشهور المقبلة. وإن ما يبدو أكثر وضوحًا هو أن قانون الفرصة والنمو الإفريقي “أجوا” -برنامج حكومي أمريكي يسمح للدول الإفريقية المُؤهَّلة بالوصول للسوق الأمريكية دون رسوم جمركية-، بات ميتًا.
وفي هذه الأيام المبكرة للغاية من قرارات ترامب، فإنه من الصعوبة بمكان التوقع الدقيق للضرر الذي سيلحق بالاقتصادات الإفريقية نتيجة لتصعيد التوتر التجاري.
الأفريكانريون البيض يصطفون لقبول عرض ترامب باللجوء([2]):
دعمت إدارة ترامب في المائة يوم الأولى مواقف الأفريكانريون البيض في جنوب إفريقيا، وعرضت استقبالها لهم كلاجئين، بينما رفضت استقبال أيّ لاجئين من بقية دول العالم، مما أثار مناقشات متوترة إزاء نجاح المصالحة العرقية في جنوب إفريقيا الجارية منذ نحو ثلاثة عقود.
ورأى عدد منهم، لا سيما من ذوي الدخول الأقل، أن الرئيس الأمريكي ترامب هو “مبعوث العناية الإلهية” لهم؛ لا سيما أن هذه الفئة تَعتبر أنه لا مستقبل لها في جنوب إفريقيا. لكن يُلاحظ أنه بعد عقود من التفرقة العرقية الكاملة واضطهاد أغلبية سكان البلاد الأفارقة؛ فإن جنوب إفريقيا لا تزال موطنًا للتفاوت العميق بين قطاعات السكان؛ إذ ترتفع نسبة البطالة بين الجنوب أفارقة السود إلى 46.1% مقارنة بنسبة في حدود 9.2% فقط بين السكان البيض، على سبيل المثال.
ورغم تكوين “نخبة سوداء”، استحوذت (على أغلب مكاسب ما بعد التحول الديمقراطي)؛ فإن مشاعر الحرمان بين بعض البيض في جنوب إفريقيا زادت بمرور الوقت، واتفق أقل من ثلثي هؤلاء على أن الأبارتهيد حرم السود من حياة لائقة، مقابل اتفاق ثلاثة أرباع السود الأفارقة على ذلك. بينما لاحظت كيت ليفكو-ايفريت، محررة تقرير The 2023 Reconciliation Barometer (الصادر عن معهد العدالة والمصالحة Institute for Justice and Reconciliation) أن “مستوى التواصل والتفاعل بين الجنوب أفارقة من المجموعات العرقية المختلفة لم يَتغيَّر بشكل كبير (منذ العام 1993-1994م). ووفق بيانات التقرير في نسخته 2022م فإن معدل الجريمة العنيفة المرتفع في جنوب إفريقيا (بلغ في الربع الأخير من العام 2024م حوالي 7000 جريمة قتل وفق سجلات الشرطة)، يؤثر على الجميع. لكنه أضاف حصارًا ذهنيًّا بين بعض السكان البيض. إذ يفكّر نحو ثلثي بيض جنوب إفريقيا (قبل إعلان ترامب) بالفعل في الهجرة خارج البلاد، مقارنةً بنسبة 27% من إجمالي سكان جنوب إفريقيا.
ويُلاحَظ، وفق تقديرات لجريدة النيويورك تايمز نشرتها في مارس الماضي، أنه منذ إعلان ترامب خطته تقدّم أكثر من 8200 أفريكانري بتسجيل اهتمامهم بالحصول على وضع اللجوء في الولايات المتحدة، بينما ترفض السفارة الأمريكية في بريتوريا التعليق على هذه الأرقام.
والتقت جماعة AfriForum الحقوقية الممثلة للأفريكانريين مع حلفاء ترامب في الولايات المتحدة خلال فترة رئاسته الأولى، وأكَّدت لإدارة ترامب وقتها أن الحكومة الجنوب إفريقية “متورطة” في عمليات قتل للفلاحين البيض. وتواصل هذه المجموعة، التي تضم في عضويتها نحو 300 ألف فرد، الادعاء بأن “الأفريكانريين هم الهدف”.
ولاحظ رودلف زين R. Zinn، الأستاذ بجامعة ليمبوبو، أن بيانات شرطة جنوب إفريقيا حول الهجمات على المزارع –والتي أدرجت 12 عملية قتل “في مجتمع الفلاحين” في الربع الأخير من العام 2024م- شملت عددًا من صغار ملاك المزارع الأفارقة وقطع أراضي غير تجارية؛ ويشير ذلك إلى عدم وجود دوافع سياسية أو عرقية محددة وراء جرائم القتل، وأن الدوافع تنحصر تقريبًا في سرقة المال وحده.
ودلَّل زين على ذلك بمقابلاته مع سارقي المزارع الذين يقضون عقوباتهم في السجن؛ حيث أخبروه أنهم كانوا يُغيِّرون لهجتهم في الحديث بحسب كل ضحية لإثارة الخوف داخلها بقدر الإمكان حتى يسلموا أموالهم وأشياءهم الثمينة؛ “فإذا كان الضحية من البيض كانوا يقولون: “إنني أكرهكم لأنكم أخذتم أراضينا”، لكن عندما يواجه نفس المعتدي ضحية من السود يقول له: “أنت مثل جوز الهند، أسود من الخارج، لكنك من الداخل (إنسان) أبيض”.
خمسة قرارات رئيسة لترامب تجاه إفريقيا في أول 100 يوم([3]):
مر على بدء إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الثانية مائة يوم في الثلاثاء الماضي (29 أبريل)، واحتفى بذلك بكلمة امتدح فيها سياساته الكاسحة، لا سيما موقفه إزاء الهجرة وخفض المساعدات الخارجية. وفي خطابه الذي امتد لقرابة 90 دقيقة تحدث ترامب بشكل مُوسَّع حول الترحيلات الجماعية، قائلاً: “إن طرد المحتلين ليس مجرد تعهُّد صدر عني خلال الحملة (الانتخابية)؛ بل إنه من صميم واجباتي كقائد للجيش الأمريكي. لديّ التزام لإنقاذ بلدي”.
وقد أثرت سياسات ترامب على الدول في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في إفريقيا. ونورد هنا بعض السياسات الرئيسة لإدارة ترامب في إفريقيا:
1- ترحيل الكاميرونيين: أعلنت إدارة ترامب في 11 أبريل إنهاء إجراءات الحماية المؤقتة (وهو برنامج كان يُقدَّم لمواطني الدول التي تمر بكارثة طبيعية أو صراع مسلح أو حدث غير معتاد آخر) من الترحيل لآلاف الكاميرونيين في الولايات المتحدة. وكان نحو 7900 كاميروني قد نالوا هذا الوضع، لكنهم سيفقدونه في يونيو المقبل وفق قرار الإنهاء؛ حسبما قال بيان لوزارة الداخلية الأمريكية.
2- ردّ الفعل العنيف بعد ملاحظات حول ليسوتو: علّق ترامب مشروعًا سابقًا للمعونات الأمريكية بقيمة “8 ملايين دولار” في ليسوتو، الدولة التي قال عنها: “التي لم يسمع عنها أحد من قبل”، مما أثار ضحكات الحضور في لقائه، بمن فيهم مُشرّعون جمهوريون، لكن هذا التعليق أثار رد فعل عنيف في إفريقيا وخارجها. وقال وزير خارجية ليسوتو ليجون مبوتجوان Lejone Mpotjoane: إن بلاده صُدمت وأُحرجت بسبب تعليقات ترامب “المهينة” في فبراير. مضيفًا “أننا لم نتوقع من رئيس دولة أن يشير لدولة أخرى ذات سيادة بمثل هذه الطريقة. ولكم يسرني أن أدعو الرئيس، وكذا بقية العالم، ليأتي إلى ليسوتو”.
3- جنوب إفريقيا “تفعل أمور مريعة”: في فبراير أيضًا استهدف الرئيس ترامب جنوب إفريقيا بخفض المساعدات الأمريكية المقدمة لها بعد ادّعاء أن قانون الأراضي الجديد في جنوب إفريقيا سيؤدي إلى مصادرات أراضي من الأغلبية البيضاء. وتؤكد جنوب إفريقيا على أن التشريع الذي صدر به قانون في مارس 2025م مِن قِبَل الرئيس سيريل رامافوسا ليس “أداة مصادرة”، لكنّه يهدف إلى ضمان الاستخدام العام (الحكومي) للأراضي.
4- إلغاء تأشيرات جميع الجنوب سودانيين: أعلن وزير الخارجية ماركو روبيو في أبريل إلغاء الولايات المتحدة التأشيرات المُقدَّمة لجميع حَمَلة جوازات السفر الجنوب سودانية، متهمًا حكومة البلاد برفض قبول مواطنيها المُرحَّلين مِن قِبَل إدارة ترامب. وكان القرار الأول من نوعه الذي تحرم فيه إدارة ترامب حملة جوازات السفر من جنسية دولة معينة من تأشيراتها.
5- ترامب يرسل مستشاره لجمهورية الكونغو الديمقراطية للتوصل لاتفاق بخصوص المعادن: تم تعيين مسعد بولس، حما ابنة الرئيس تيفاني ترامب، مستشارًا رئيسًا لترامب في إفريقيا وسط محادثات للتوصل لاتفاق حول المعادن بين الولايات المتحدة وجمهورية الكونغو الديمقراطية، حسبما أعلنت الخارجية الأمريكية (29 أبريل). وإلى جانب هذا الدور الجديد يظل بولس المستشار الرئيس لترامب في الشؤون العربية والشرق أوسطية.
………………………………………………
[1] Harry Clynch, Trump’s tariff war brings pain to African economies, African Business, April 28, 2025 https://african.business/2025/04/economy/trumps-tariff-war-brings-pain-to-african-economies
[2] Rachel Savage, The white Afrikaners lining up to accept Trump’s offer of asylum, the Guardian, April 30, 2025 https://www.theguardian.com/world/2025/apr/30/a-godsend-the-white-afrikaners-lining-up-to-accept-trumps-offer-of-asylum
[3] Six key decisions Trump took on African countries in 100 days, TRT Global, April 30, 2025 https://www.trt.global/afrika-english/article/b5ec216cb07d