أكد بيان صادر عن الفاتيكان بعد ساعات من وفاة البابا فرنسيس (21 أبريل) أن الراحل كان ذو قلب متسع لإفريقيا والأفارقة، وأنه خلف ورائه إرثًا يملؤه الالتزام بسعي إفريقيا نحو السلام والعدالة الاجتماعية والتنمية المتكاملة.
ولفت البيان إلى استمرار الفاتيكان في تبني تضامن البابا مع اللاجئين والمهاجرين، والفقراء، والمهمشين الأفارقة([1]). ولا يعد بيان الفاتيكان غريبًا بالمرة في ضوء معرفة البابا الراحل العميقة بالشئون الإفريقية، الأمر الذي يتضح، مثالًا، في صلته بموزمبيق في تسعينيات القرن الماضي خلال عمله الكنسي في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيريس وتوليه مسئولية إرسال منصرون أرجنتينيون لموزمبيق بناء على طلب الأسقف الموزمبيقي المولد جوليو دورتي لانجا (الذي رُقي كاردينالًا في العام 2015).
البابا فرنسيس وإفريقيا: رؤية عامة
يمكن ملاحظة أن البابا فرنسيس (1936-2025) كان أول رجل دين من الأمريكيتين يتقلد منصب البابوية في التاريخ؛ وأنه اشتهر خلال تقلده المنصب (من العام 2013 حتى العام 2025) بالاهتمام بقضايا العالم الثالث على نحو غير مسبوق تقريبًا إلى جانب مواجهته أزمات داخلية في الفاتيكان تتعلق بمسائل مختلفة من الفساد إلى الانتهاكات الجنسية([2]).
وجاء اهتمام البابا فرنسيس بإفريقيا ضمن جهوده لدعم الكنيسة الكاثوليكية ومصالحها في أرجاء العالم ووفق أجندة واضحة بدعمها للفقراء ومواجهة المظالم التي تجتاح العالم، وأن تكون الكنيسة صوت من لا صوت لهم، ولفت انتباه العالم لمن يعيشون على أطرافه.
وأتبع البابا أجندته تلك بتحركات على الأرض بزيارة مهمة إلى بانغي عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى قبل نحو عقد كامل (2015)، وهي زيارة وصفها مراقبون أفارقة وقتها بالخطرة إذ تمت وسط تصاعد القتال بين جماعتي السيليكا (المسلمة) والأنتي-بالاكا (المسيحية)، وعمل خلالها على تقريب وجهات النظر بين المسلمين والمسيحيين في البلاد لمواجهة تهديدات الأطراف المتطرفة([3]).
وبشكل عام فإن رؤية البابا فرنسيس لإفريقيا مثلت، بغض النظر عن أي نقدم معمق لها أو محاولة لتفكيكها وضبط سياقها التاريخي هنا، انقطاعًا مهمًا عن مواقف الفاتيكان الرسمية السابقة.
فقد شهدت مواقف البابا فرنسيس ما يمكن وصفه بالتثوير الواضح لخطاب الفاتيكان واهتمامه المتزايد بمواجهة القارة للإمبريالية والاستعمار واستغلال الفقراء من قبل الأغنياء والرأسمالية النيوليبرالية والتفاوت الإيكولوجي .
كما عمد البابا فرنسيس إلى التدليل على رؤاه تلك خلال زيارته للعاصمة الكينية نيروبي (2015) وتوجهه لأحد أحيائها الفقيرة لإعلان “لاهوت التحرير” لمن تخلى عنهم المجتمع.
ودعا من هناك الحكومات الإفريقية لضمان وصول الفقراء وجميع المواطنين للأراضي والمأوى والعمل. كما عزز البابا فرنسيس أفكار القضاء على الاستعمار بتأثير واضح من أفكار لاهوت التحرير الذي تطور تاريخيًا في أمريكا اللاتينية.
كما شجع البابا فرنسيس الكاثوليك الأفارقة على تطوير مقاربة إفريقية مميزة لمواجهة المشكلات الاجتماعية في القارة، وعبر عن انحيازه لأفكار التخلص من المركزية وضرورة توظيف التفاعلات المحلية الداخلية لصالح مواجهة تحديات المجتمع الإفريقي على مختلف المستويات.
وفي سبيل ذلك أكد البابا فرنسيس على اهتمامه الكبير بالشباب الإفريقي وشجع الكثير من المبادرات والبرامج الهادفة لتقوية دور الشباب الإفريقي.
والتقى البابا فرنسيس في الأول من نوفمبر 2022 عبر وسائل التواصل الافتراضية بأكثر من ألف شاب إفريقي لمدة ساعة أجاب خلالها على الكثير من تساؤلاتهم.
البابا فرنسيس ولاهوت التحرير: رؤية معولمة؟
خلافًا لمواقف بابوية سابقة مدافعة عن ضرورة ألا يتم تصوير السيد المسيح كشخصية سياسية (أو تقوم بنضال تحرري سياسي، كما في تصريحات البابا الأسبق جون بول الثاني في العام 1979)، اتجه البابا فرنسيس، في عالم تزايدت فيه الصراعات على حساب الفقراء والمهمشين بشكل غير مسبوق([4]).
ويحلو لكثير من المراقبين وصف مبادئ البابا فرنسيس تجاه إفريقيا وأجندته بأنها حركة نقلت الفاتيكان او البابوية (فيما يخص الحالة الإفريقية هنا) من كنيسة نخبوية إلى “كنيسة شعب الرب حيث يكون لصوت كل إنسان أهمية، وتعتني بمخاوف وحاجات كل فرد”، إذ فتحت مواقف البابا فرنسيس الباب أمام أصوات المهمشين في الكنيسة مثل المرأة والفقراء وغيرهم، وكذلك أمام تمثيل أكبر للأفارقة في دولة الفاتيكان نفسها([5]).
كما عزز البابا فرنسيس منذ العام 2013 أهمية الحوار بين الأديان، واستقبال وفود من معتنقي الأديان الأخرى.
وعلى سبيل المثال وقع في 4 فبراير 2019 مع الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف “وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك”، وحددت الوثيقة عمل الهيئتان الدينيتان الأبرز في العالم على تبني ثقافة الحوار كمسار؛ والتعاون المشترك كسلوك، والمعرفة المتبادلة كمنهج ومعيار”([6]).
وقد تأثر البابا فرنسيس، كرجل دين أرجنتيني في المقام الأول، بلاهوت التحرير الذي نما في مجتمعات أمريكا اللاتينية، لكن لا يمكن القول أنه تبنى بشكل مطلق أفكار لاهوت التحرير المعروفة بثوريتها البالغة، بل إنه حافظ على مسافة ما إزاء هذه الأفكار (وصك عمليًا مفهوم لاهوت الإنسان theology of people، وإن نفى اختراعه لهذا المفهوم، لكن لا يتسع المقام هنا لمناقشة هذا التباين)([7])؛ وهو ما يوحي بتبنيه مفهوم “معولم” للاهوت التحرير، كما يفهم من أجندته الواسعة والساعية إلى شمول متناقضات جمة في المجتمعات المختلفة تحت مظلة “اللاهوت” (لاسيما مسألة قبول وتمكين ذوي الميول الجنسية المغايرة في المجتمعات الإفريقية ضمن أجندة تلقى قبولًا وسط قطاعات محدودة نسبيًا في داخلها).
ومن ملامح لاهوت التحرير “المعولم” هنا اكتفاء الفاتيكان بدور دعوي ودعائي في مقاربة القضايا الإفريقية المختلفة. ويمكن القول اختصارًا أن البابا فرنسيس لم يكن من دعاة لاهوت التحرير، إلا بصورته المعولمة وفي سياق ثقافة انتقائية لا تقوم على مواقف صلبة تجاه أزمات القارة وقضاياها.
لكن ما يمكن ملاحظته أيضًا أن البابا فرنسيس كان يحاول، حسب مقال مهم لدين ديتلوف Dean Dettloff المحاضر بمعهد الدراسات المسيحية في تورنتو (2021)، بوضوح تام أن يكون رجل لاهوت تحرير حقيقي، ويقوم بتطوير لاهوت للحركات الشعبية والتغير الاجتماعي قادرة على مواجهة النظم (الحاكمة أو الاجتماعية) التي سماها مثل الليبرالية الجديدة والاستعمار الجديد والعولمة الرأسمالية.
ومع ضرب الفقر كثير من مجتمعات العالم، وخاصة في إفريقيا (القارة الأفقر حسب كافة مؤشرات التنمية البشرية المتفق عليها) بعد ضربات اقتصادية مؤلمة في مطلع العقد الحالي وتفاقمت بفضل وباء كوفيد-19([8])، فإن الدعوة لنظام اجتماعي عالمي أكثر عدلًا -ونقد مثل هذه النظم التي توحشت في واقع الأمر- تبدو منطقية تمامًا من قبل رجل الدين المسيحي الأبرز.
ختامًا؛
فقد اثارت وفاة الباب فرنسيس جدلًا عالميًا كبيرًا يعود إلى دور الرجل ورؤيته التي مثلت علامة فارقة في أدوار باباوات الفاتيكان في العقود الأخيرة؛ وسرى مثل هذا الجدل في القارة الإفريقية التي تنتشر فيها الكاثوليكية انتشارًا كبيرًا.
وطرحت الوفاة جدلًا قديمًا- جديدًا حول أفكار لاهوت التحرير ومطالب البابا فرنسيس بتخليص القارة من مظاهر النيوليبرالية والاستعمار الجديد والاستغلال، في خطاب ثوري غير مألوف في واقع الأمر.
لكن رؤية أعمق لسياقات مواقف البابا فرنسيس، والاستجابات الإفريقية التي تلت وفاته، تكشف عن مأزق تقليدي تقع فيه رؤية الأفارقة لقضاياهم عبر وسيط مواقف المؤسسات الدولية والقوى الكبرى: ألا وهو مأزق محدودية رد الفعل والقدرة على التأثير.
يضاف إلى ذلك أزمة الفصل بين الخطاب المؤسساتي والرسمي وبين السياسات الممارسة على الأرض أو على الأقل مظاهرها.
بأي حال تثير وفاة البابا فرنسيس تساؤلات كثيرة أكثر من إثارتها أجوبة أو خلاصات يمكن الركون إليها باطمئنان؛ منها مدى الإسهام الإفريقي الإيجابي في التفاعل مع دعوات الفاتيكان وغيره من الجهات الدولية المعنية بالسلام لتحقيق قدر من الاستقرار في مناطق الأزمات المشتعلة التي يلقى فيها مئات الالاف من الأفارقة حتفهم سنويًا خلالها؟ وما هي قدرة الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية الأخرى على تطوير أدوات لتوظيف مثل هذه السياسات الباباوية لصالح تسويات ناجزة؟ ومدى قدرة القارة ودولها على ضبط العلاقات الدينية مع مؤسسات فاعلة في المشهد الدولي خارج سياق تلقي التوجيه والتمويل؟ وغيرها من تساؤلات هامة –ربما- تثيرها وفاة بابا الفاتيكان، وترقب اختيار بابا جديد قد يسير على خطى سلفه في مقاربة قضايا القارة الإفريقية باهتمام معقول.
………………………………………………….
[1] Paul Samasumo, Pope Francis: A compassionate voice for Africa, Vatican News, April 21, 2025 https://www.vaticannews.va/en/africa/news/2025-04/pope-francis-a-compassionate-voice-for-africa-gone-silent.html
[2] Stan Chu Ilo, Pope Francis: why his papacy mattered for Africa – and for the world’s poor and marginalized, The conversation, April 21, 2025 https://theconversation.com/pope-francis-why-his-papacy-mattered-for-africa-and-for-the-worlds-poor-and-marginalised-251059
[3] Ibid.
[4] Greg Grandin, Pope Francis Upheld the Spirit of Liberation Theology, The Nation, April 21, 2025 https://www.thenation.com/article/world/pope-francis-liberation-theology/
[5] Ibid.
[6] Pope Francis’ special, sometimes conflictual, relationship with Africa, RFI, April 21, 2025 https://www.rfi.fr/en/africa/20250421-pope-francis-s-special-sometimes-conflictual-relationship-with-africa
[7] Ole Jakob Løland, The Solved Conflict: Pope Francis and Liberation Theology, International Journal of Latin American Religions (2021), May 2021, pp. 287-314
[8] Dean Dettloff, Is Pope Francis A Liberation Theologian? Soujourners, October 26, 2021 https://sojo.net/articles/pope-francis-liberation-theologian