تعكس خبرة الصومال وأزماتها المستعصية منذ سقوط نظام سياد برى عام 1991م قصة ثلاث مُدن في عملية بناء الدولة وإحلال السلام.
المدينة الأولى: هي “مقديشيو” عاصمة الدولة الاتحادية التي تعيش أزمة انتخابية خانقة قد تدفع بها إلى المجهول.
أما المدينة الثانية فإنها “هرجيسا” عاصمة صوماليلاند التي على الرغم من عجزها عن إجراء الانتخابات التشريعية منذ عام 2005م؛ إلا أنها قدمت قصة نجاح في عملية بناء السلام والاعتماد على الآليات التفاوضية الداخلية دون الاستعانة بالخارج بشكل أساسي.
وتطرح “جروي” حاضرة بلاد البنط نموذجًا ثالثًا في إطار الفيدرالية الهشَّة، وهو ما يدفع بها لإعادة إنتاج خيار “كردستان الصومال”.
كان السؤال المُلِحّ بعد انهيار السلطة المركزية في مقديشيو هو: كيفية تحقيق سلام واستقرار سياسي بشكل مستدام في ظل غياب دولة قوية؟ وهنا أدرك بعض أبناء الصومال ولا سيما في الشمال أنه: “لا يمكنهم بناء المنزل بدءًا من السطح”. وأظهرت حالتا “صوماليلاند”، و”بونتلاند” أهمية فَهْم السياق الصومالي الذي لا يتَّصف فقط بسمات الهشاشة وانعدام الأمن والصراع المسلح العنيف، ولكنَّه يحمل أيضًا دروسًا مهمَّة حول عمليات السلام.
مقديشيو ومفهوم البناء الفوقي للدولة:
تطرح خبرة مقديشيو منذ بداية التسعينيات فشل نماذج بناء الدولة المفروضة من الخارج. على مدى عقود ثلاثة تدفقت كميات هائلة من المساعدات الخارجية على الصومال بهدف بناء مؤسسات الدولة المركزية. ومع ذلك، لا تزال البلاد، على الرغم من الإعلان عن حكومة اتحادية بعد انتهاء الفترة الانتقالية في عام 2012م، تحتل مكانة متقدمة على قائمة “الدول الأكثر فشلًا” في العالم.
ولعل من أبرز الأخطاء في هذا النهج الفوقي لبناء الدولة: (1) فرض نموذج عالمي (سابق التجهيز) على الصومال دون اعتبار للسياق الثقافي والسياسي؛ (2) تعزيز الهوية العشائرية وإضفاء الطابع المؤسسي عليها؛ (3) انتهاك حياد الدولة، وتمكين بعض الجماعات السياسية على حساب الآخرين؛ (4) العمل مع قادة غير أكفاء وتأمينهم سياسيًّا، بما في ذلك أمراء الحرب؛ (5) تقويض بناء الدولة على المستوى الوطني من خلال تجاهل نُظُم الإدارة على المستوى المحلي، والتركيز فقط على المؤسسات الحكومية المركزية؛ (6) تفشّي الاحتيال والفساد الحكومي من خلال غياب المساءلة عن الأموال التي تُنْفَق على بناء القدرات؛ (7) فهم بناء الدولة فقط من خلال عدسة مكافحة الإرهاب.
على الرغم من الانتقال السلمي للسلطة عدة مرات، لم تستطع “فيلا صوماليا” -وهو الاسم الذي يُطلَق على مقر الرئاسة في مقديشيو- تحقيق تقدُّم ملحوظ في عملية الانتقال الديمقراطي. لم يتم استكمال الدستور الفيدرالي، ولم يتم تطبيق قاعدة الصوت الواحد في الاقتراع العام، كما ساءت العلاقة بين مقديشيو “فيلا صوماليا”، والولايات الاتحادية بشكل وصل حدّ الصدام المسلح.
وأخيرًا وهو الأهم؛ فإن عملية تأسيس جيش وطني قوي قادر على تحقيق الأمن والحفاظ على وحدة البلاد لا تزال بعيدة المنال؛ حيث لا يزال الاعتماد على القوات الأجنبية بشكل كبير.
من المعروف أنه يتم انتخاب الرئيس الصومالي مِن قِبَل نواب يتألفون من 275 عضوًا في مجلس الشعب و54 عضوًا في مجلس الشيوخ. لكنَّ الصومال في ظل الأزمة الانتخابية الراهنة فشل في إجراء الاقتراع اللازم لاختيار نواب جدد، لذلك لا يمكن انتخاب رئيس جديد. وبموجب النظام الانتخابي غير المباشر الحالي، يصوّت 27775 مندوبًا انتخابيًّا -يتم ترشيحهم مِن قِبَل شيوخ العشائر التقليدية- لأعضاء البرلمان بينما تنتخب الهيئات التشريعية للولايات أعضاء مجلس الشيوخ. تم تأجيل التصويت في الانتخابات البرلمانية التي كانت مقررة في الأصل لعام 2020م، مرتين؛ بسبب الخلاف حول تفاصيل الانتخابات بين الحكومة المركزية في مقديشو والولايات الفيدرالية شبه المستقلة.
منذ عام 1991م لا يزال أبناء الصومال يعيشون في دولة هشَّة للغاية ومفتَّتة؛ حيث يتم تسليح العشائر، وحيث توجد مجموعات مسلحة أقوى من الحكومة، وتسيطر على معظم البلاد. لا تسيطر الحكومة المركزية إلا على جزء محدود من الأراضي الصومالية، وتعتمد على قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي لمواجهة هجمات جماعة الشباب المجاهدين وتنظيم داعش.
هرجيسا والمقارَبة البديلة لبناء الدولة:
لعل أحد الدروس المهمة في عملية بناء الدولة تتمثل في التساؤل: من أين نبدأ عملية البناء؟؛ أي أنه في بعض الأحيان يمكن تحقيق عمليات المصالحة والتوفيق في ظل غياب دولة مركزية أو بعيدًا عن التدخلات الدولية الخارجية.
لقد تطورت عمليات السلام والمصالحة في صوماليلاند من أسفل لأعلى، وذلك من خلال المؤتمرات القاعدية التي دعمها التجار ورجال الأعمال وزعماء العشائر. لقد حافظت هذه العملية على وجود “رأس مال اجتماعي ثقافي” وتعبئته، وعلى وجه التحديد، المؤسسات العشائرية التقليدية؛ التي أصبحت فيما بعد بمثابة موارد رئيسية لصنع السلام. ومِن ثَمَّ، تختلف عملية السلام في صوماليلاند عن عمليات السلام المفروضة من الخارج غالبًا؛ أي العمليات التي تيسرها أطراف ثالثة كتلك التي تشهدها الصومال.
إن المقاربة ذات الصلة بالبناء على النتائج التصالحية لعمليات السلام المستندة إلى مبادرات وطنية محلية كأساس لإعادة البناء السياسي الأوسع تقدّم رؤًى ذات أهمية أوسع لقضايا الشرعية والسلطة السياسية. على وجه التحديد، وعلى النقيض من إطار مؤتمرات المصالحة التي رعتها جهات خارجية؛ حيث سمح نهج صوماليلاند بعملية نشأت بموجبها الترتيبات السياسية، وبالتالي تم التحقق من صحتها ونجاحها.
تعيد ريبيكا ريتشاردز في كتابها المهم: “فهم بناء الدولة: الحكم التقليدي والدولة الحديثة في صوماليلاند”؛ الصادر عن دار نشر روتليدج عام 2014م، تقييم تشكيل الدولة في صوماليلاند بشكل حاسم؛ حيث تؤكد ريتشاردز أن مشاريع بناء الدولة الحالية في الصومال، والتي تأثرت وفُرضت على المجتمعات المحلية مِنْ قِبَل جهات خارجية، لن يُكْتَب لها النجاح أبدًا. إنها تنتقد بشكل خاص النزعة المثالية الغربية لنظام الدولة الذي يتم بناؤه من أعلى إلى أسفل، وكشفت أسباب إخفاق هذا النموذج في سياق مجتمعات دول الجنوب. وفي المقابل تحدّد بشكل خاص الطرق الفريدة التي ميَّزت صوماليلاند نفسها بشكل يغاير مشاريع بناء الدولة غير الليبرالية في أماكن أخرى من العالم. النتيجة التي تم التأكيد عليها هي أن بناء الدولة يجب أن يقوم على الرغبة الداخلية وليس الخارجية.
على الرغم من الخلافات السياسية الحالية حول الانتخابات المتأخرة، تظل صوماليلاند نموذجًا للاستقرار الداخلي والسلام في بلاد الصومال الكبير والقرن الإفريقي. تتميز صوماليلاند التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 4.5 مليون نسمة بوجود مؤسَّسات فاعلة للدولة مثل مرفق القضاء والشرطة وجهاز الخدمة المدنية، بالإضافة إلى ديمقراطية انتخابية فعَّالة.
لا يُسمح إلا لثلاثة أحزاب وطنية بالوجود وفقًا للدستور؛ من أجل إخماد الروح والهوية العشائرية، وهو نهج يخالف حالة الصومال تمامًا. لقد أجرت صوماليلاند ستة انتخابات وطنية منذ عام 2002م، وهذا سجل ديمقراطي مثير للإعجاب نسبيًّا، ولكن الأمر بالقطع لا يخلو من المشاكل.
ومن الأمثلة على ذلك: الخلاف الحالي حول الانتخابات المتأخرة لمجلس النواب والمجالس المحلية؛ فعلى الرغم من إجراء انتخابات رئاسية متعددة، فقد طال انتظار الانتخابات البرلمانية. جرت الانتخابات الأولى لمجلس النواب في صوماليلاند عام 2005م، ومنذ ذلك الحين، أدت عدة عقبات تقنية وسياسية إلى تأخير العملية. وهذا يعني أن أولئك الذين تم انتخابهم في عام 2005م لمدة خمس سنوات قد احتفظوا بمقاعدهم لمدة 15 عامًا، دون مراقبة أدائهم ومحاسبتهم مِن قِبَل جمهور الناخبين.
لطالما دافعت الحركة الوطنية عن عدم إمكانية تجاهل العشيرة، وبالتالي كان الهدف الأساسي لقيادة الحركة الوطنية لتحرير الصومال والنخبة السياسية بعد ذلك في الإقليم الشمالي هو إنشاء دولة وحكومة لا تصطدم مع العشيرة.
تم تعيين حكومة انتقالية مِن قِبَل مجلس حكماء الحركة الوطنية الصومالية (غورتي)، الذين أصبحوا فيما بعد أعضاء في الحكومة الجديدة، وتم إضفاء الطابع المؤسسي على هذا المجلس؛ بحيث أصبح يُمثّل الغرفة الأعلى للبرلمان.
وعادة ما يتمتع شيوخ العشائر بقدر كبير من التأثير في المجتمع الصومالي، ولا سيما في مجال الوساطة والتوفيق وتسوية النزاعات بين العشائر وداخلها. كانت غورتي تاريخيًّا هيئات قائمة، يتم دعوتها للانعقاد عند الضرورة.
ولا شك أنَّ استمرار مركزية كبار السن من الحركة الوطنية الصومالية إلى حكومة المصالحة وبناء الدولة قد سهّل البيئة اللازمة لتنفيذ إصلاح جذري وتشكيل حكومة جديدة. فيما يتعلق بالإطار المؤسسي، فإن نظام حكم صوماليلاند المختلط هو نظام رئاسي متعدّد الأحزاب مع الأخذ بنظام المجلسين وسلطة قضائية مستقلة.
تم الإعلان الرسمي لحكومة صوماليلاند لأول مرة في عام 1993م بميثاق وطني مؤقت، وهو اتفاق عشائري يربط العشائر والدولة معًا من خلال القانون العرفي.
تم استبدال هذا بدستور وطني عام 2001م، يتم انتخاب المسؤولين المحليين والرئيس ومجلس النواب بشكل ديمقراطي، ويتم تعيين السلطة القضائية. أما أعضاء مجلس الشيوخ فيتم اختيارهم مِن قِبَل العشائر، مع مراعاة تمثيل جميع العشائر والعشائر الفرعية في صوماليلاند. على الرغم من ذلك فقد أثار الغموض الدستوري فيما يتعلق بكيفية تحديد العضوية في غورتي العديد من المشاكل، وأدى إلى دعوات للإصلاح.
جدير بالذكر أن النظام القانوني الحالي في صوماليلاند هو خليط من القوانين العلمانية، والشريعة الاسلامية والقانون العرفي.
وعلى أيّ حال؛ فإن فَهْم السياق المحلي عنصر مهمّ في مسألة بناء الدولة في المجتمعات غير الغربية. كان تعامل صوماليلاند مع قضية العشيرة والمؤسسات العرفية أحد أسباب النجاح. يوفّر نظام العشائر الصومالية المعقَّد تحديد الهوية والحماية والحكم في مجتمع صوماليلاند. القرابة هي مصدر حاسم لهوية الفرد، ويعتبر الكثيرون الولاء للعشيرة واعتمادهم عليها جزءًا من كونهم صوماليين.
وعلى الرغم من أن توزيع العشائر قد تغيَّر بشكل كبير في القرن الماضي في صوماليلاند؛ فإن غالبية السكان ينحدرون من إحدى المجموعات العشائرية الرئيسية الثلاث، وهي: إسحاق ودير ودارود. إسحاق هي المجموعة الأكثر عددًا في صوماليلاند؛ حيث تشير بعض التقديرات إلى أنها تصل إلى 80٪ من إجمالي السكان.
وتؤدي العشائر وظائف مهمَّة في المجتمع الصومالي، ولا سيما في المجتمعات البدوية. تأسست هذه العشائر كوسيلة للحكم في المجتمع الصومالي البدوي وغير المركزي في المقام الأول، وتستمر في التأثير على مكانة الفرد في المجتمع والاقتصاد، وكذلك في تحديد العلاقات بين أفراد العائلات المتنافسة أو المتحالفة.
ونظرًا لأن العائلات العشائرية أكبر من أن تعمل كوحدات سياسية جماعية، فإن التقسيم إلى مجموعات عشائرية صغيرة وتجمعات فرعيَّة عشائريَّة يسمح بتمييز جغرافي وسياسي واقتصادي واجتماعي أفضل، وبالتالي سيطرة وحماية أكثر شمولاً.
يتبع