آية محسب عبد الحميد مصطفى
باحثة دكتوراه/ معهد البحوث والدراسات الافريقية ودول حوض النيل – جامعة أسوان
مقدمة:
في عالمٍ يشهد تحوُّلات متسارعة في موازين القوى الاقتصادية والجيوسياسية؛ تظل القارة الإفريقية في صلب التنافس العالمي على النفوذ والموارد. ومع تزايد التحديات التي تواجهها الدول الإفريقية مِن قِبَل القوى الكبرى، برزت سياسات الحمائية الاقتصادية في مقدّمة الإستراتيجيات المتَّبعة مِن قِبَل العديد من الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. ففي مطلع أبريل 2025م، أقدمت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على فرض حزمة من الرسوم الجمركية الجديدة على بعض السلع الإفريقية، ما أثار موجة من الجدل حول دوافع هذه الخطوة، وأثار تساؤلات جوهرية بشأن تداعياتها على اقتصادات القارة الإفريقية.
بينما تبرر واشنطن هذه الإجراءات باعتبارها ضرورية لحماية الاقتصاد الأمريكي من “الممارسات التجارية غير العادلة”؛ إلا أن تأثيراتها قد تكون أكبر من مجرد ضغوط اقتصادية آنية. فقد تثير هذه الرسوم تحولات إستراتيجية قد تُعيد رسم خريطة العلاقات التجارية بين إفريقيا وأمريكا، وفي نفس الوقت تفتح بابًا أمام تقوية العلاقات مع قوى اقتصادية أخرى، خاصة الصين والاتحاد الأوروبي.
يهدف هذا المقال إلى تحليل أبعاد هذه الرسوم الجمركية على الاقتصادات الإفريقية، مع التركيز على فهم ما إذا كانت تمثل ضغوطًا اقتصادية موجهة أو تحولاً إستراتيجيًّا في العلاقات الأمريكية-الإفريقية. كما سيتناول ردود الفعل الإفريقية على هذه السياسات، ويستعرض الخيارات المتاحة للقارة في ظل التحديات الجديدة، محاولاً استشراف الطريق نحو إستراتيجيات تنموية أكثر استقلالية ومرونة.
ومن هذا المنطلق، يقسم المقال إلى خمسة محاور أساسية: أولاً، الخلفية العامة للقرار الأمريكي وأبعاده الاقتصادية المعلنة؛ ثانيًا، تحليل حالة التأثير الفعلي عبر دراسة حالة مملكة ليسوتو؛ ثالثًا، استعراض ردود الفعل الإفريقية والإقليمية والدولية على هذه الإجراءات؛ رابعًا، تحليل أبعاد القرار في ضوء الإستراتيجية الأمريكية العالمية، خاصة في سياق التنافس مع الصين؛ وأخيرًا، عرض الخيارات الإستراتيجية المتاحة أمام الدول الإفريقية لمواجهة هذه التحولات وتحقيق أكبر قدر من التوازن في علاقاتها التجارية الدولية.
أولاً: خلفية القرار الأمريكي
في مطلع أبريل 2025م، أعلنت الإدارة الأمريكية الجديدة، برئاسة دونالد ترامب، عن فرض مجموعة جديدة من الرسوم الجمركية على واردات متعددة، شملت منتجات حيوية مثل المنسوجات، والمعادن، والجلود، والتي تُعدّ من بين الصادرات الرئيسية لعدد من دول إفريقيا جنوب الصحراء. وقد شملت هذه الإجراءات دولًا إفريقية تستفيد تقليديًّا من الامتيازات الممنوحة بموجب قانون النمو والفرص في إفريقيا المعروف باسم AGOA، الذي يُتيح دخول السلع الإفريقية إلى السوق الأمريكية دون فرض رسوم جمركية منذ اعتماده عام 2000م. ورغم استفادة العديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء من هذا النظام التفضيلي؛ فإن الإدارة الأمريكية برَّرت استهدافها لواردات هذه الدول في الرسوم الجديدة باعتبارها خطوة نحو “تحرير الاقتصاد الأمريكي من المنافسة غير العادلة”، متهمةً بعض الدول بـ”الاستفادة المجانية من السوق الأمريكية دون معاملة بالمثل”.([1])
ويُفهَم من خلال قراءة الخطاب الرسمي والتغطيات التحليلية المرتبطة بهذه الإجراءات، أن الرسوم الجديدة لا تندرج فقط في سياق تصحيح اختلالات الميزان التجاري الأمريكي، بل تعكس أيضًا استمرار التوجه الحمائي الذي ميَّز سياسات ترامب التجارية منذ ولايته الأولى، والمتمثل في إعادة التفاوض على شروط العلاقات الاقتصادية مع الشركاء التقليديين من منطلقات قومية واقتصادية([2]). وتبدو هذه الإجراءات امتدادًا طبيعيًّا للنهج الذي اتبعته الإدارة في علاقاتها مع الصين والمكسيك؛ والذي يقوم على إعادة التوازن التجاري باستخدام أدوات ضريبية لفرض ضغوط تفاوضية. ووفقًا لتحليلات مركز Atlantic Council، فإن ما سُمِّي بـ”رسوم يوم التحرير”(Liberation Day) Tariffs) ) تعكس تصميمًا أمريكيًّا على مراجعة التزاماتها التجارية العالمية بشكل جذري، بما في ذلك الشراكات مع الدول الإفريقية، وهو ما قد يحمل في طياته دلالات إستراتيجية عميقة تتجاوز الأبعاد الاقتصادية البحتة.([3])
ثانيًا: انعكاسات القرار على بعض الدول الافريقية
جاءت الرسوم الجمركية الأمريكية بمثابة صدمة للعديد من الدول الإفريقية، خاصةً تلك التي تعتمد بشكل كبير على السوق الأمريكية كوجهة رئيسية لصادراتها، خصوصًا في قطاعات النسيج والجلود والمعادن. وتظهر البيانات أن الأضرار لم تتوزع بشكل عشوائي، بل اتسمت بتفاوت ملحوظ في حجم التأثير بين الدول، بحسب درجة انكشاف اقتصاداتها على السوق الأمريكية وحجم صادراتها ضمن القطاعات المستهدَفة. ويبين الجدول (1) نِسَب الرسوم الجمركية الجديدة المفروضة على بعض الدول الإفريقية المتأثرة:
جدول (1) نِسَب الرسوم الجمركية المفروضة على بعض الدول الافريقية
المصدر:
The Africa Report. (2025, April 3). Trump’s trade war: Which African countries will be hit the hardest? https://www.theafricareport.com/380658/trumps-trade-war-which-african-countries-will-be-hit-the-hardest/
جاءت مملكة ليسوتو كأكثر الدول تأثرًا بهذه السياسات الجديدة؛ حيث يعتمد اقتصادها بشكل كبير على صادرات النسيج إلى الولايات المتحدة. وفق تقرير قناة “فرانس 24” (2025م)([4])، فإن ما يزيد عن 90% من صادرات ليسوتو من الملابس مُوجَّهة للسوق الأمريكية، ويشغل هذا القطاع نحو 45 ألف عامل، معظمهم من النساء.
تشير البيانات إلى أن فرض الرسوم الجديدة قد يؤدي إلى إغلاق العديد من المصانع، وارتفاع معدلات البطالة، وتراجع عائدات الدولة من النقد الأجنبي. وما يفاقم الأزمة أن هذه الإجراءات جاءت دون تنسيق مسبق أو إشعار للدول الإفريقية المعنية، ما أظهر هشاشة العلاقة التجارية القائمة على الامتيازات المؤقتة.
وتظهر الأرقام الواردة في الجدول إلى أن دولاً صغيرة مثل ليسوتو ومدغشقر وموريشيوس كانت الأكثر تضررًا من القرار الأمريكي؛ حيث تجاوزت الرسوم الجمركية المفروضة على وارداتها نسبة 40%، ما يُهدّد قدرة هذه الدول على الاستمرار في المنافسة داخل السوق الأمريكية. ويعود ذلك إلى طبيعة الصادرات القادمة من هذه الدول، والتي تتركز في الصناعات الخفيفة مثل المنسوجات والملابس، وهي صناعات تستند إلى هامش ربح محدود، ما يجعل أيّ زيادة في التكلفة الجمركية ذات أثر بالغ على قدرتها التصديرية.
أما دول مثل جنوب إفريقيا وأنغولا، ورغم قوتها الاقتصادية النسبية مقارنة بجيرانها، فقد تأثرت أيضًا بنِسَب رسوم مرتفعة نسبيًّا تتراوح بين 30% و32%، ما يشير إلى أن القرار لم يقتصر على الاقتصادات الصغيرة والهشة، بل شمل شركاء تجاريين كبار للولايات المتحدة في القارة. وقد يُعزَى هذا الاتساع في نطاق التأثير إلى الرغبة الأمريكية في إعادة صياغة العلاقات التجارية بشكل أكثر شمولية ضمن سياق تنافسي عالمي متصاعد.
وتظهر الأرقام كذلك أن بعض الدول مثل نيجيريا وكينيا وإثيوبيا وغانا واجهت نِسَب رسوم أقل (10- 14%)، ما قد يعكس جزئيًّا تنوع صادرات هذه الدول أو قوة مواقفها التفاوضية أو حتى اعتبارات سياسية ترتبط بالعلاقات الثنائية مع واشنطن. إلا أن انخفاض نسبة الرسوم لا ينفي احتمال التأثير طويل الأجل، خاصةً إذا ما امتدت السياسات الحمائية لتشمل قطاعات إضافية أو دعمت بإجراءات غير جمركية.
وعليه؛ فإن الرسوم المفروضة تُعدّ مؤشرًا واضحًا على هشاشة البنية التجارية الإفريقية أمام قرارات أُحادية مِن قِبَل شركاء اقتصاديين كبار، ما يطرح تحديات أمام الدول الإفريقية لتقليل تبعيتها لأسواق بعينها وتنويع علاقاتها التجارية والاقتصادية على أُسس أكثر استدامة.
ثالثًا: موقف الدول الافريقية وردود الفعل الإقليمية
اتسمت ردود الفعل الإفريقية تجاه الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة بدرجة من الحزم والقلق المتزايد؛ إذ رأت العديد من العواصم الإفريقية أن هذه الإجراءات تتجاوز البُعْد الاقتصادي الضيق، وتُمثّل تهديدًا مباشرًا لفرص التنمية والاستقرار في القارة. وقد برز موقف جنوب إفريقيا بوصفه الأكثر صراحة؛ حيث دعت حكومة بريتوريا إلى إعادة تقييم شاملة لاتفاقياتها التجارية مع الولايات المتحدة، مشيرةً إلى أن الإجراءات الجديدة تقوّض مبدأ الشراكة العادلة، وتشكك في مصداقية التزامات واشنطن تجاه التنمية الإفريقية(([5]. وتبنَّت مواقف مشابهة دول أخرى متضررة مثل ليسوتو ومدغشقر وموريشيوس، التي بدأت بالفعل في مراجعة خياراتها التجارية والبحث عن بدائل في أسواق آسيا والاتحاد الأوروبي، وهو ما يعكس بداية تحوُّل تدريجي في إدراك الدول الإفريقية لمخاطر الاعتماد الأحادي على السوق الأمريكية.
أما على المستوى الإقليمي، فقد أعرب الاتحاد الإفريقي عن “قلق بالغ” إزاء الآثار السلبية لهذه الرسوم على مسار التكامل الاقتصادي القاري، خصوصًا في ظل الجهود الحثيثة المبذولة لإنجاح منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، والتي تهدف إلى تعزيز الإنتاج والتبادل التجاري البيني داخل القارة. واعتبر الاتحاد أن الإجراءات الأمريكية تُشكِّل عائقًا إضافيًّا أمام الدول الإفريقية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما تلك المتعلقة بتعزيز التصنيع، وتوفير فرص العمل، والحد من الفقر.([6]) وجاء هذا التحذير في سياق تراكمي من التحديات التي تواجهها القارة، بدءًا من تداعيات جائحة كوفيد-19، مرورًا بتقلبات سلاسل الإمداد العالمية، ووصولاً إلى ضغوط التغير المناخي، ما يجعل أيّ صدمة تجارية خارجية بمثابة تهديد مركب ومتعدد الأبعاد.
وعلى الصعيد الدولي، تلقى القرار الأمريكي انتقادات من مؤسسات بحثية وخبراء اقتصاديين؛ حيث رأى البعض أن الإجراءات تحمل في طياتها تناقضًا مع الخطاب الأمريكي المعلن حول دعم التنمية في إفريقيا، وتكشف عن إستراتيجية تتسم بقدر من الانكفاء القومي على حساب الشراكات التنموية.([7]) واعتبر آخرون أن هذه الخطوة تتيح فرصة أمام قوى اقتصادية أخرى، وعلى رأسها الصين، لتعزيز نفوذها التجاري في القارة، من خلال تقديم شروط أكثر استقرارًا في علاقاتها التجارية مع الدول الإفريقية، لا سيما في ظل ما تُبديه بكين من مرونة في التفاوض وتمويل البنية التحتية وتعزيز قدرات التصنيع المحلي.([8])
إن هذا التفاعل الإفريقي المُوحَّد نسبيًّا يعكس إدراكًا متناميًا بأن مستقبل القارة الاقتصادي ينبغي ألا يرتهن بتقلبات السياسات الأمريكية، كما يعكس تحولًا محتملاً في أولويات القارة باتجاه شراكات تجارية متعددة الأقطاب وأكثر توازنًا.
رابعًا: السياق الدولي: أمريكا والصين في إفريقيا
يصعب فصل الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة عن التحولات الأوسع في النظام التجاري العالمي، خصوصًا في ظل اشتداد التنافس الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ الاقتصادي في إفريقيا. ففي الوقت الذي تواصل فيه بكين ترسيخ حضورها الإستراتيجي في القارة عبر الاستثمار في مشاريع البنية التحتية، وتطوير الموانئ، وتمويل مشاريع الطاقة والنقل والتكنولوجيا الرقمية، تتبنَّى واشنطن مسارًا مغايرًا عبر فرض قيود تجارية على عدد من صادرات الدول الإفريقية، ما قد يضعف من موقعها التنافسي في الأسواق الإفريقية ويَحُدّ من جاذبية شراكاتها.
وتشير تحليلات المجلس الأطلسي إلى أن هذه السياسات لا تقتصر على الجانب الاقتصادي الضيق، بل تُعبِّر عن توجُّه أمريكي متزايد نحو استخدام أدوات التجارة كوسائل ضغط سياسي وإعادة صياغة التحالفات العالمية وفق مصالح إستراتيجية. وتفهم الرسوم الجمركية الأخيرة في هذا السياق على أنها جزء من أجندة سياسية أوسع لإعادة تشكيل موازين القوى التجارية، خاصةً بعد أن أصبحت إفريقيا إحدى ساحات التنافس الرئيسية بين القوى الكبرى. ويؤكد المجلس أن إدارة ترامب –في نسختها الثانية– تسعى إلى تقييد تمدُّد النفوذ الصيني عبر توجيه رسائل مزدوجة لشركاء واشنطن التقليديين، مفادها أن العلاقات الاقتصادية ينبغي أن تخضع للاعتبارات السياسية والأمنية للولايات المتحدة.([9])
ويبدو أن الرهان الأمريكي على “إعادة ضبط” العلاقات التجارية في إفريقيا، عبر سياسات الانكماش والانغلاق، يضعف من جاذبية الولايات المتحدة كشريك اقتصادي مقارنة بالصين، التي تُقدِّم نفسها كطرف لا يتدخل في السياسات الداخلية للدول، وتوفر تمويلًا سهلًا لمشاريع تنموية حيوية. كما أن هذه التحولات تأتي في وقتٍ تواجه فيه الدول الإفريقية تحديات كبيرة في تحقيق التعافي الاقتصادي بعد جائحة كورونا، ما يزيد من هشاشتها أمام التحولات الخارجية، ويجعلها أكثر ميلًا للبحث عن شركاء أكثر استقرارًا وديمومة.
ويظهر المشهد الحالي أن الولايات المتحدة، بخلاف الصين، تفتقر إلى إستراتيجية متماسكة طويلة الأجل تجاه إفريقيا. ففي حين تمثّل مبادرة AGOA نافذة تقليدية للتبادل التجاري التفضيلي، فإن الإجراءات الحمائية الأخيرة تقوّض هذه المبادرة وتُفقدها كثيرًا من فعاليتها، ما قد يدفع الدول الإفريقية إلى إعادة النظر في جدوى استمرارها في إطارها الحالي.
وبناء عليه، فإن الرسوم الجمركية الجديدة تُعدّ مؤشرًا على انزياح إستراتيجي في السياسة التجارية الأمريكية تجاه إفريقيا، لا ينبني على دعم تكاملي أو تنموي بقدر ما يتغذى على ديناميات المواجهة العالمية، خاصة مع الصين، في لحظة حرجة من تاريخ العلاقات الإفريقية الدولية.
خامسًا: خيارات إفريقيا في ظل التحديات الجديدة
في ظل التحولات العالمية السريعة والمتسارعة، تواجه الدول الإفريقية تحديًا إستراتيجيًّا يتطلب منها إعادة تقييم شاملة لنماذجها التنموية وعلاقاتها التجارية الدولية. إن تأثير الرسوم الجمركية الأمريكية يتجاوز مجرد زيادة تكاليف التصدير؛ حيث يمتد ليشكل تهديدًا كبيرًا لفرص التنمية الإفريقية التي تعتمد على الوصول التفضيلي إلى الأسواق الكبرى، وبخاصة السوق الأمريكية في إطار مبادرة”AGOA” .([10]) وبالتالي، يصبح من الضروري أن تعمل الدول الإفريقية على تعديل إستراتيجياتها الاقتصادية بما يتماشى مع هذه التغيرات العالمية، لضمان استدامة التنمية الاقتصادية وتعزيز قدرتها على التكيف مع هذه المتغيرات.
ويُعدّ تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA) خطوة إستراتيجية حاسمة نحو تعزيز التكامل الاقتصادي الداخلي بالقارة الإفريقية. فهي تهدف إلى زيادة التجارة البينية بين الدول الإفريقية، مما يساعد على تقليل الاعتماد على الأسواق الدولية المتقلبة. كما أن التفعيل الفعال لهذه الاتفاقية يمكن أن يسهم في بناء سلاسل قيمة إقليمية تعزز من مرونة الاقتصاد الإفريقي تجاه الصدمات الاقتصادية الخارجية، مما يُعزّز استقلالية اقتصادات القارة ويحقق نموًّا مستدامًا.( ([11]
وفي هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تنويع الشراكات الاقتصادية مع القوى الاقتصادية الناشئة مثل الصين، الهند، وتركيا، وهي دول تتبنَّى سياسات تعاونية تقوم على الاستثمار طويل الأجل، ونقل التكنولوجيا، وتطوير البنية التحتية، مع عدم فرض شروط سياسية صارمة. وتُعدّ الصين في مقدمة هذه القوى؛ حيث تستثمر بشكل مكثَّف في القطاعات الإستراتيجية مثل البنية التحتية والطاقة، مما يُعزّز من العلاقات التجارية مع إفريقيا. كما أن الشراكات مع الهند وتركيا تظهر تطورًا مستمرًّا؛ حيث تسعى هذه الدول إلى تعزيز التعاون في مجالات الصحة، الطاقة، والصناعات التحويلية، بما يتماشى مع الاحتياجات التنموية للقارة.([12])
لكن على الرغم من هذه الشراكات الجديدة، لا بد من إعادة النظر في النموذج الاقتصادي القائم على تصدير المواد الخام. فاقتصادات إفريقيا، التي تعتمد على تصدير السلع الأولية، تعرض نفسها لمخاطر التقلبات السعرية في الأسواق العالمية وسياسات التجارة الحمائية من القوى الكبرى. وبالتالي، تصبح تعزيز القدرة التصنيعية المحلية أحد العوامل الحاسمة لاستدامة النمو الاقتصادي. يشمل ذلك تطوير السياسات الصناعية الوطنية التي تركز على التصنيع المحلي، وتحسين سلاسل التوريد الإقليمية، والاستثمار في التعليم والتكنولوجيا لتعزيز الابتكار. علاوة على ذلك، يتطلب التحول نحو سياسات صناعية مستدامة تطوير بنية تحتية قادرة على دعم الإنتاج والتوزيع المحلي بكفاءة.([13])
إن استجابة إفريقيا لهذه التحديات يجب أن تكون جماعية واستباقية، بحيث تستند إلى رؤية تنموية شاملة، تضع مصالح القارة في المقام الأول. فبدلاً من الاستجابة لتحولات القوى الكبرى، ينبغي لإفريقيا أن تبني اقتصادًا مرنًا resilient يتكامل داخليًّا، ويفاوض خارجيًّا من موقع قوة، قادر على تحديد أجندته الاقتصادية والسياسية بما يخدم مصالحها على المدى الطويل.
خاتمة وتوصيات:
تبرز الرسوم الجمركية الأمريكية الجديدة اتجاهًا متصاعدًا نحو توظيف التجارة كأداة للنفوذ الجيوسياسي، في سياق تنافسي عالمي يحتدم بشكل خاص في إفريقيا. فبينما تتذرع واشنطن بالدفاع عن مصالحها الاقتصادية، تشير التحليلات إلى أن الإجراءات الحمائية الأخيرة تتجاوز البُعْد التجاري، لتعكس تحوّلات في التوجه الإستراتيجي الأمريكي نحو القارة، في مواجهة تصاعد النفوذ الصيني وشراكات جنوب–جنوب المتنامية.
لقد أثبتت الأزمة أن الهشاشة البنيوية لاقتصادات إفريقية عديدة ما زالت قائمة، في ظل الاعتماد المفرط على الأسواق الخارجية والتخصص في صادرات المواد الخام، مما يجعل القارة عُرضة لتقلبات السياسات الاقتصادية للقوى الكبرى. وعلى هذا الأساس، تصبح ضرورة تنويع الشراكات وتعزيز التكامل الاقتصادي الإفريقي أمرًا غير قابل للتأجيل.
وفي ضوء ما سبق، تبرز جملة من التوصيات:
- تعزيز تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، كإطار بديل لبناء قدرات إنتاجية إقليمية وتوسيع الأسواق الداخلية.
- تنويع الشراكات الدولية عبر التوسع في التعاون مع قوى ناشئة كالصين والهند وتركيا، بما يضمن شروطًا أكثر توازنًا واستقلالية.
- إعادة تقييم السياسات التنموية، بحيث تتحوّل من نماذج قائمة على التصدير الخام إلى أخرى تستند إلى التصنيع المحلي وسلاسل القيمة الإقليمية.
- تعزيز القدرات التفاوضية الجماعية لإفريقيا في المنتديات التجارية الدولية، عبر موقف مُوحَّد يُعبِّر عن مصالح القارة في مواجهة السياسات الحمائية.
- توسيع نطاق الاستثمار في القطاعات الإنتاجية والصناعية، لا سيما في مجالات التكنولوجيا، والتعليم الفني، والبنية التحتية، بما يرفع من مرونة الاقتصادات الإفريقية في مواجهة الصدمات.
إن التعامل مع التحديات الناجمة عن الرسوم الجمركية الأمريكية لا يتطلب فقط ردودًا دبلوماسية، بل رؤية إستراتيجية شاملة لإعادة صياغة موقع إفريقيا في النظام التجاري العالمي، بما يُحقّق السيادة الاقتصادية والتنمية المستدامة.
…………………………..
[1] Atlantic Council. (2025, April 4). Experts React: How the world is responding to Trump’s Liberation Day tariffs. Atlantic Council. https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/experts-react/experts-react-how-the-world-is-responding-to-trumps-liberation-day-tariffs/
[2] The Africa Report. (2025, April 3). Trump’s trade war: Which African countries will be hit the hardest? https://www.theafricareport.com/380658/trumps-trade-war-which-african-countries-will-be-hit-the-hardest/
[3] Atlantic Council. (2025, April 4). Experts React: Op.cit.
[4] France24. (2025, April 3). Lesotho hardest hit as new US tariffs rattle Africa. France24. https://www.france24.com/en/live-news/20250403-lesotho-hardest-hit-as-new-us-tariffs-rattle-africa
[5] The Africa Report. (2025, April 3). Op. cit.
[6] Atlantic Council. (2025, April 4). Op. cit.
[7] Ibid.
[8] Reuters. (2025, April 5). US tariffs raise tensions with Africa.Reuters Business Channel. https://www.reuters.com/video/watch/idRW450505042025RP1/?chan=business
[9] Atlantic Council. (2025, April 4). Op. cit.
[10] Ibid.
[11] United Nations Development Programme. (n.d.). AfCFTA: The African Continental Free Trade Area. United Nations Development Programme. Retrieved April 6, 2025, from https://www.undp.org/africa/afcfta
[12] Reuters. (2025, April 5). Op., cit.
[13] Atlantic Council. (2025, April 4). Op. cit.