افتتحت إفريقيا في بداية يناير الجاري منطقة التجارة الحُرَّة القارِّيَّة الإفريقيَّة (AfCFTA) التي تأسَّست عام 2018م؛ لتسهيل حرية التنقل والوصول إلى السِّلع والخدمات عبر القارة. وهذا يعني توسيع فرص العمل والدخل لجميع مواطني الدول الإفريقيَّة وخطوة مهمَّة نحو إيجاد سوق مشتركة بهدف تحقيق أجندة أكبر (أجندة الاتحاد الإفريقي لعام 2063).
وقد كانت اتفاقية التجارة الحُرَّة القارِّيَّة امتدادًا للمعاهدات الموجودة بالفعل والأُطُر القائمة بين البلدان الإفريقيَّة؛ حيث يمكن تتبّعها من اتفاقية الاتحاد الجمركي للجنوب الإفريقي (SACU) لعام 1910م، مرورًا إلى اتفاقيات حديثة كإعلان كيغالي لعام 2003م حول الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان. ومن أبرز الاتفاقيات والمعاهدات الإقليمية التي تعتمد عليها مجموعة شرق إفريقيا (EAC)، والمجموعة الاقتصاديَّة لدول غرب إفريقيا (ECOWAS)، والسوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (COMESA)، وغيرها.
وإذا كان العديد من الباحثين ومسؤولي الجهات الحكومية المعنية قد أصدروا أوراقًا وبيانات حول أهمية المنطقة التجارة الحُرَّة وإمكاناتها لتحويل اقتصادات القارة الإفريقيَّة؛ فإنَّ الأوضاع الاقتصاديَّة الحالية وأزمة فيروس كورونا الجارية، ودروسًا من تجارب الاتحاد الأوروبيّ تؤكد أن منطقة التجارة الحُرَّة -رغم التحديات التنفيذية المتوقعة- تقدّم فرصًا كثيرة لدول ذات تفكير تقدّمي وتوجّه استشرافيّ مستقبليّ, وخاصةً في مجال التجارة الإلكترونية ونظام التكنولوجيا المالية والشركات الناشئة، وتوفير الإقامة الرقميَّة من إفريقيا لروّاد الأعمال والمستثمرين غير الأفارقة.
منطقة التجارة الحُرَّة والشركات الإفريقيَّة الناشئة:
من الواضح أنَّ اتفاقية منطقة التجارة الحُرَّة تستهدف في الأساس الحدود والحواجز المادية؛ حيث أولت الحكومات الإفريقيَّة اهتمامًا بالغًا بتطوير شبكات طرقها داخل أراضيها ومع جيرانها. ومع ذلك, فإن تزايد الاعتماد على التكنولوجيا وتعميق تواصل الدول مع مواطنيها عبر الإنترنت يمنحان الشركات الناشئة فرص توفير حلول حديثة لتحديات طارئة.
وقد أثبتت عدة شركات ناشئة في كل من نيجيريا وجنوب إفريقيا وكينيا وغانا وغيرها قدراتها على أداء دور حاسم في أوقات الأزمات. فقد نجحت هذه الشركات في تخفيف تداعيات كورونا على المواطنين، والحدّ من انتشاره بمشاركة حكومية، ودعم من شركات التكنولوجيا العالمية؛ حيث عزّزت التزام المواطنين باللوائح الصحية والإرشادات الوقائية، وحفَّزت عمليات التسوق الإلكتروني، وسهّلت عمليات الدفع الرقمي مع إنشاء هويات رقمية وطنية في دول مثل نيجيريا.
ويمكن القول بأن منطقة التجارة الحُرَّة ستؤدي أيضًا إلى زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتمويل الشركات الناشئة في إفريقيا, وستفتح للمبتكرين والمستثمرين الشباب آفاقًا جديدة لمواصلة جهودهم في توفير حلول لقضايا سياسية واقتصاديَّة واجتماعية التي تنتج عن مساعي التكامل الاقتصادي وفتح الحدود المادية.
وفي رأي النيجيرية “تيتي أكينسانمي”، خبيرة الاقتصاد الرقمي والسياسة؛ فإن جزءًا من نجاح اتفاقية التجارة الحُرَّة يعتمد على التكنولوجيا. كما أن الاتفاقية ستخلق ثروة من الفرص لشركات التكنولوجيا المالية ومنصات التوزيع والخدمات اللوجستية القائمة على التكنولوجيا وصناعة الترفيه في إفريقيا.
“تحدث بالفعل في إفريقيا عملية الدفع العابر للحدود. لذا فإن المطلوب الآن هو البناء على البنية التحتية الحالية، وجعل تحويل الأموال من بلد إفريقي إلى آخر أقل صعوبة”؛ هكذا قالت “تيتي”, مضيفة أن البنوك الإفريقيَّة “قد أَبْلَتْ بلاءً حسنًا، ولكن المرحلة التالية قد تكون فقط للشركات الإفريقيَّة الطموحة مثل Paystack و Flutterwave ، وذلك لتعميق البنية التحتية لعملية الدفع بإفريقيا”.
جدير بالذكر أن عدم الاستقرار الاقتصادي، وتقلبات العملات الوطنية، وأزمة كورونا؛ كل ذلك قد أدَّى في العام الماضي إلى لجوء مواطنين في نيجيريا إلى اختيار التمويل اللامركزي كـ “بيتكوين”. وقد أدَّى إلى انخفاض تكلفة التحويلات للحكومة, ولكنَّها أيضًا سهَّلت عملية التحويل والدفع والتسوق الإلكتروني لمستخدميها. ويعني هذا أيضًا أنه بإمكان الشركات الناشئة التوسُّع في بلدان أخرى استنادًا على الفوائد الاقتصاديَّة المحتملة وتخفيفًا للعبء الذي قد تشهده القارة في المرحلة المقبلة.
منطقة التجارة الحُرَّة وتوفير الإقامة الرقمية من إفريقيا:
توفّر اتفاقية التجارة الحُرَّة القارِّيَّة أيضًا فرص التمتع بنفوذ اقتصادي عبر توفير الإقامة الرقمية للشركات الكبيرة والناشئة, وذلك استنادًا إلى تجربة إستونيا ذات عدد سكان قليل في شمال أوروبا، والتي مكَّنها تطوير خدمات حكومية تحويلية وتكامل اقتصادي اعتمد على التكنولوجيا من منافسة الدول الأوروبية الأخرى.
فقد أطلقت إستونيا في ديسمبر 2014م الإقامة الرقمية (e-Residency) لتوفير الوصول إلى السوق الأوروبية والخدمات الحكومية لأصحاب المشاريع في دول أخرى من خلال إصدار هوية رقمية حكومية للمقيمين إلكترونيًّا, ما سمح لهم بتأسيس شركة داخل الاتحاد الأوروبي بدون أوراق مع إمكانية الوصول الكامل إلى السوق الأوروبية دون زيارة إستونيا أو أيّ دولة عضو أخرى في الاتحاد الأوروبي.
وقد تمكّنت إستونيا من تقديم هذه الخدمة لاعتمادها شبه الكامل على الإنترنت والاستثمار المبكر في المنافذ الرقمية التي يصوّت مواطنوها ويدفعون الضرائب ويتلقون الوصفات الطبية وغيرها من خلالها اليوم دون مغادرة بيوتهم.
ويرى “جيفري ماسون” – الباحث في معهد “تشارتر سيتيز”, أن تحقيق أي دولة إفريقيَّة لمثل ما حقّقته إستونيا التي أصبحت المزود الرائد للوصول إلى السوق الأوروبية وغير الأوروبية؛ يتطلب خطوة استباقية واستثمارًا هائلاً في خدمات رقمية عالية الجودة. كما أن تكرار أيّ دولة إفريقيَّة لهذا الإنجاز سيجعلها بوابة رئيسية لأصحاب المشاريع من جميع أنحاء العالم لإشراك الشركات والمستهلكين الأفارقة بسهولة, بينما يستفيد روّاد الأعمال الأفارقة أيضًا من إمكانية الوصول إلى الأماكن الصعبة والبعيدة فقط باستخدام الإنترنت.
ويرى “جيفري” أيضًا أنَّ مثل هذا الإنجاز سيكون مبنيًّا على أُسُس الحوكمة الرشيدة, وأن عددًا من الدول الإفريقيَّة مرشَّحة لتكون المدخل الرقميّ لإفريقيا، وعلى رأسها: غانا ورواندا وموريشيوس.
تُعَدُّ غانا من الديمقراطيات المستقرة في غرب إفريقيا مع نموّ اقتصاديّ وخبرات في إدارة ثروتها النفطية، ما يعني أن تنفيذ برنامج الإقامة الرقمية قد يكون مصدرًا مُرَحَّبًا للبلاد وقفزة هائلة لنشاطها الاقتصادي إلى جانب عائدات الموارد الطبيعية. إضافةً إلى أن كونها عضوًا في الجماعة الاقتصاديَّة لدول غرب إفريقيا وقربها من نيجيريا -أكبر دولة إفريقيَّة من حيث عدد السكان والمركز التكنولوجي الرئيسي في القارة– تقدم لها مزايا إضافية كأفضل مرشَّح لتنفيذ برنامج الإقامة الرقمية.
وقد شهدت رواندا أيضًا تطورًا ملحوظًا في أدائها الاقتصاديّ واعتمادها على التكنولوجيا والاستقرار السياسي في عهد الرئيس “بول كاغامي”، رغم الانتقادات الموجَّهة إليه بسبب تعامله مع معارضيه ومنتقديه. واليوم يمكن تسجيل الأعمال والشركات الجديدة في رواندا عبر الإنترنت لبضعة أيام فقط وبشكل مجاني. وهذا النظام يمكن إدراجه تحت إدارة برنامج الإقامة الرقمية للمستثمرين.
أما موريشيوس, فهي أيضًا من بين أفضل البلدان في العالم من حيث سهولة بدء عمل تجاري, وبرزت الدولة الجزرية كمركز ماليّ دوليّ رائد لإفريقيا, كما تُعتبر دولة ذات دخل مرتفع، ما يعني أن لها الإمكانات والموارد والخبرة الفنية لتنفيذ برنامج الإقامة الرقمية لاستقطاب روّاد الأعمال الدوليين، وخاصة من المناطق غير الإفريقيَّة القريبة إليها كالهند وأجزاء أخرى من آسيا.
وعلى ما سبق؛ فإن الاستفادة من مزايا وفوائد منطقة التجارة الحُرَّة القارِّيَّة الإفريقيَّة قد تستغرق وقتًا طويلاً حسب استعداد كلّ دولة وطبيعة سياساتها؛ ونظرًا لأنها مرحلة فقط لتحقيق رؤية طويلة المدى لعام 2063م. وما على الحكومات الإفريقيَّة في أولى خطواتها نحو تنفيذ الاتفافية سوى التركيز على السياسات اللازمة والبنى التحتية المهمَّة, بما في ذلك تحسين الحكم الرشيد وأنظمة السكك الحديدية وأنظمة الدفع والإنترنت.
__________________
للمزيد:
These three countries are in the lead to be Africa’s e-hub after the free trade agreement:
Five years of e-Residency: past, present and future:
Africa’s ‘smart reopening’ through technology is urgent for AfCFTA:
The African Continental Free Trade Agreement: An Opportunity for The e-Commerce/Fintech Ecosystem:
How Africa’s AfCFTA agreement will impact startups and policymakers:
Kigali Declaration, 2003: