على الرغم من تعدُّد المقاربات العسكرية والأمنية التي تتمّ بدعمٍ إقليميّ ودوليّ؛ فإنها لم تستطع وَضْع حَدّ لتمرُّد الحركات الإرهابية العنيفة والأزمة الإنسانية التي تترتب عليها في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
ولعلَّ عملية القتل الوحشي لأكثر من 100 فلاح من مُزارعي الأرز مِن قِبَل الجماعات المتطرفة المرتبطة بتنظيم بوكو حرام في ولاية بورنو النيجيرية تُمثّل إحدى أكثر الهجمات دمويةً في المنطقة منذ سنوات.
ومما يزيد الأمور تعقيدًا: اختطاف أكثر من 300 طالب من مدرسة ثانوية للبنين في ولاية كاتسينا بعد نحو ست سنوات على عملية اختطاف الطالبات في شيبوك في أبريل 2014م.
لقد تصاعدت حدَّة الأزمة الخاصة بالحركات المسلَّحة العنيفة والجماعات المرتبطة بها في شمال شرق نيجيريا، كما أنها امتدت إلى مناطق الجوار الجغرافي بما في ذلك بحيرة تشاد.
تمكّنت بوكو حرام، وهي إحدى الجماعات الإرهابية الأكثر دموية في العالم، من قتل أكثر من 50 ألف شخص، وتشريد الملايين منذ عام 2009م، ولا تزال تُواصل شنّ هجمات منتظمة في جميع أنحاء ولاية بورنو.
كل ذلك يدعو إلى التساؤل حول مدى نجاعة الاستجابات الأمنية؟، وكيف نفهم العقل الإرهابي للتنظيمات المتطرّفة التي استطاعت البقاء والتمدُّد عبر السنين؟
المتغير الأيديولوجي واختطاف الطلاب:
في يوم 11 ديسمبر 2020م، اقتحمت مجموعة كوماندوز مكوّنة في معظمها من عصابات محلية مدرسة داخلية في ولاية كانسينا التي ينحدر منها الرئيس بوهاري، واختطفت أكثر من 300 طالب ثانوي.
على أن الحكومة هذه المرة تحركت بشكل أسرع عن تحركها السابق في شيبوك عندما تم اختطاف أكثر من 200 طالبة، حيث استغرق الأمر أسابيع من الدعوة داخل نيجيريا وخارجها (حملة أعيدوا فتياتنا) قبل أن تعترف الحكومة بأن الفتيات قد اختُطِفْنَ وتقوم باتخاذ بعض الإجراءات.
خلال هذه المدة، أُتيحت الفرصة لبوكو حرام لوضع الفتيات في مجموعات أصغر، ونقلهن بعيدًا؛ بحيث يصعب العثور عليهن.
أما في حالة طلاب كاتسينا فقد نشرت الحكومة قواتها بسرعة بعد اختطاف الطلاب، ووجد الخاطفون أنفسهم محاصرين.
ومن الواضح أنه تمَّ إجراء اتصالات غير مباشرة مع الخاطفين؛ للتأكُّد من أنه يمكن للقوات الأمنية المُضِيّ قُدُمًا في عملية الإفراج عن المختطفين دون الإضرار بهم.
ولعلَّ أحد أبرز دلالات عمليات اختطاف طلاب المدارس -بعيدًا عن طلب الفدية أو تحدّي السلطات الحاكمة- هو التوكيد على أهمية أيديولوجيا حركة بوكو حرام التي تعني حرفيًّا أن التعليم الغربي حرام. إذ تهدف الجماعة إلى ترويع الأهالي؛ بحيث يمتنعون عن إرسال أبنائهم للمدارس.
انشقاق بوكو حرام وصعود نجم أبو بكر شيكاو:
في عام 2016م، شهدت بوكو حرام انقسامًا أدَّى إلى وجود فصيلين: أولهما تنظيم الدولة في غرب إفريقيا التابعة لداعش، والفصيل الثاني جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد الموالي لشيكاو.
ومنذ ذلك الحين، نفّذت ولاية داعش جميع الهجمات الرئيسية التي استهدفت معسكرات الأمن والثكنات العسكرية.
أما فصيل شيكاو فقد قام بعمليات قطع الطرق والنهب والاختطاف، وما إلى ذلك. كما لُوحظت بعض محاولات التفجير الانتحارية في مايدوغوري.. في بداية ديسمبر، أعلن فصيل شيكاو مسؤوليته عن الهجوم الدموي الذي نُفِّذ بالقرب من مدينة مايدوغوري، شمال شرق البلاد، وأدَّى إلى مقتل عشرات الفلاحين أثناء عملهم في حقول الأرز.
كما زعمت جماعة بوكو حرام مسؤوليتها عن اختطاف طلاب ثانوية كاتسينا من خلال شريط فيديو نشره الخميس 17 ديسمبر أبو بكر شيكاو زعيم الجماعة.
ولا شك أن هذه التطورات الأخيرة تثبت أنه على الرغم من الخلافات داخل المجموعة الإرهابية، لا يزال الزعيم الرمزي لبوكو حرام مؤثرًا هناك، ويوسّع من نطاق نفوذه. فهل نشهد عودة فصيل بوكو حرام الذي ظل مواليًا لـ”أبو بكر شيكاو”، ولكن بشكل أكثر قوة هذه المرة؟
تشير بعض الدلالات إلى أهمية الانشقاقات الداخلية داخل الجماعة. ربما يكون هذا التطوُّر مرتبطًا بالتوترات داخل ولاية تنظيم الدولة في غرب إفريقيا، التي شهدت عمليات تطهير داخلية.
ونتيجة لذلك؛ فمن المرجّح أن يكون بعض أعضائها قد عادوا إلى أحضان زعيمهم شيكاو مرةً أخرى، وأنه بدوره قد تعلّم في نفس الوقت من أخطائه.
ومن الواضح أن إعدام مامان نور في 2018م قد أثار توترات داخل فصيل داعش. لقد كان شخصية أيديولوجية مؤثرة للغاية. ولكن بعض الأعضاء الراديكاليين الأكثر تطرفًا في الجماعة انتقدوه؛ لكونه معتدلاً للغاية، وحتى قريبًا من السلطات النيجيرية.
وربما ترتّب على ذلك قيام بعض الساخطين من فصيل داعش، بالانضمام لاحقًا إلى شيكاو، وقد جلبوا معهم خبراتهم وأفكارهم إليه. ولعل ما يثبت ذلك هو التركيز على النشاط الدعائي الإعلامي المكثّف الذي يتم ملاحظته الآن داخل فصيل شيكاو.
تحالف بوكو حرام وقُطّاع الطرق:
أدَّت واقعة اختطاف الطلاب في مدينة كانكارا على بعد 600 كم من مايدوغوري، وهي في الواقع بعيدة جدًّا عن منطقة فصيل “أبوبكر شيكاو” المعتادة إلى إثارة التساؤلات حول تكتيكات البقاء والتمدّد التي تنتهجها الجماعة.
وتؤكد الكثير من المعلومات، بما في ذلك تلك الصادرة عن حاكم كاتسينا، أن قطاع الطرق وجماعات الجريمة المنظَّمة في المنطقة كانوا في مقدّمة عملية الاختطاف تلك.
لذلك فمن المعقول أن يكون شيكاو قد أرسل بعض رجاله كمستشارين للمساعدة في تنفيذ العملية.
لكن على كل حال يبدو أن أسلوب الهجوم والاختطاف لم يَسبق له مثيل من قبل خارج ولاية بورنو. كما لا تمتلك العصابات المسلحة وقُطَّاع الطرق رؤية أو أهدافًا سياسية، فما الذي يدفعها للتحالف مع بوكو حرام؟ هل تسعى لاقتسام الغنائم والحصول على الأرباح من التجارة غير المشروعة؟
وعلى أيّ حال تمكَّن شيكاو من تحقيق هدفه بالعودة إلى مركز الصدارة. لقد وضع الحكومة الفيدرالية في موقف محرج؛ حيث هاجم المدرسة الثانوية أثناء زيارة الرئيس بوهاري للمنطقة، كما أنه أرسل إشارة إلى مختلف مكونات التيارات العنيفة في نيجيريا بأنه لا يزال عنصرًا فاعلاً ومؤثرًا بالغرب والساحل الإفريقي. ومن جهة أخرى أثبت تصاعُد العمليات الإرهابية وتغيُّر تكتيكات بوكو حرام أن الدولة غير قادرة على توفير الأمن وحماية المدنيين.
انعدام الأمن الإنساني وفشل المقاربة العسكرية:
ينتشر الجيش النيجيري في أكثر من عشرين ولاية؛ من خلال عمليات أمنية مكثفة، ويواجه تحديات ضخمة وضغوطًا أمنية هائلة. وعليه مَهمة حماية مناطق النفط في دلتا النيجر، ومواجهة الحركة الانفصالية في الجنوب الشرقي، بالإضافة إلى التصدّي لأعمال اللصوصية وقُطّاع الطرق في جميع أنحاء البلاد.
إنَّه جيش يعمل تحت الضغط، ويعاني من مشكلات الفساد وضعف التمويل، وتدني معنويات الجنود.
خلال مرحلة صعود بوكو حرام في 2014م، عندما وصلت عناصرها إلى المناطق القروية، كانت وحدات الجيش تفرّ في بعض الأحيان من أمامها على الفور.
تمكّن الجيش من سحب حامياته في المناطق النائية إلى مواقع أكثر تحصينًا، وهو ما ترَك المجال لبوكو حرام لكي تتمدَّد في هذه الفراغات الأمنية.
ويبدو أنَّ غياب التنسيق الإقليمي في القوة المشتركة متعدِّدة الجنسيات على الرغم من تحوُّلها إلى عملية دائمة قد أضعف من فعاليتها في مواجهة بوكو حرام، كما أن دول الجوار تنتقد المسلك النيجيري بسبب إحجام الحكومة النيجيرية عن الانخراط الجدّي في منطقة بحيرة تشاد.
هذا الفتور في المواجهة العسكرية، وضعف التنسيق الإقليمي يأتي في الوقت الذي قد تنسحب فيه القوات الأمريكية، وهو ما قد يؤدّي في نهاية المطاف إلى تمدُّد الجماعات العنيفة في المنطقة. كل ذلك يفرض أهمية البحث عن مقاربات بديلة قد تتضمن الحوار مع بوكو حرام.
يمكن القول إجمالاً: إن بوكو حرام تُعدّ حركة تمرُّد ذات دوافع دينية، ولها تاريخ معقّد في نيجيريا، وتجد جذورها في مايدوغوري الحضرية شمال شرق نيجيريا.
وقد أظهرت بوكو حرام خلال معظم فترات تطورها تركيزًا على المناطق الحدودية: المناطق الحدودية بين نيجيريا والنيجر، وجبال ماندارا على الحدود مع الكاميرون، والسواحل والجزر على طول بحيرة تشاد.
يعني ذلك من خلال استرجاع الخبرة التاريخية للمنطقة أن بوكو حرام كظاهرة حدودية تعكس هجرة الشيخ عثمان دان فوديو، ولكنها تعبّر أيضًا عن أشكال منظَّمة من العنف وتكوين الثروة التي ميَّزت سلوك النُّخَب الحاكمة في المنطقة.
علاوةً على ذلك، هناك استمرار للإجراءات والجهات الفاعلة المرتبطة بالمراحل السابقة للعنف على الحدود والعمليات التي تشارك فيها بوكو حرام اليوم.
وهذا يشير إلى أن بوكو حرام لن تُهزَم قريبًا، بل بالأحرى فإن المنطقة ستشهد عودة إلى أشكال العنف الحدودي التي كانت سائدة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.