دعاء عبدالنبي حامد
باحثة دكتوراه في الفلسفة الإفريقية الحديثة والمعاصرة، كلية الآداب، جامعة القاهرة.
الملخص
تتناول الدراسة إشكالية اللغة في الفلسفة الإفريقية؛ بوصفها قضية محورية ترتبط بالهوية الثقافية والتحرر من إرث الاستعمار. وقد فرضت القوى الأوروبية لغاتها على المجتمعات الإفريقية، مما أدَّى إلى تهميش اللغات الأصلية، وتقويض العلاقة بين الفلسفة الإفريقية وجذورها الثقافية.
تعكس إشكالية اللغة في الفلسفة الإفريقية التوتر بين استخدام اللغات الأوروبية وسيلةً للتعبير عن الفكر الإفريقي من جهة، ومحاولة استعادة الأصالة الفكرية باستخدام اللغات الإفريقية الأصلية من جهة أخرى.
كما تتناول الدراسة الصراع القائم بين الفلاسفة الأفارقة الذين يرون في اللغات الأوروبية أداة للانفتاح على الفكر العالمي، وبين أولئك الذين يرون أن الفلسفة الإفريقية لا يمكن أن تكون حرة ومستقلة ما لم تُعبِّر عن ذاتها من خلال لغاتها الخاصة.
تسعى هذه الدراسة إلى استكشاف مدى تأثير الاستعمار اللغوي على الفكر الفلسفي الإفريقي، وكيف يمكن حلّ إشكالية اللغة في الفلسفة الإفريقية من خلال طرح رؤى متعددة للفلاسفة الأفارقة.
مقدمة:
اللغة هي إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها الفلسفة، وهي الوسيلة التي يتم من خلالها التعبير عن الأفكار والمفاهيم والنظريات حول الوجود والمعرفة والأخلاق. في الفلسفة الإفريقية، تظهر إشكالية اللغة كمحور مُهِمّ للنقاش، ليس فقط من حيث قدرتها على نقل الأفكار، ولكن أيضًا فيما يتعلق بدورها في الحفاظ على التراث الثقافي والفكري للأمم الإفريقية.
تلعب اللغة دورًا محوريًّا ليس فقط كأداة للتواصل والتعبير عن الأفكار، بل أيضًا كمرآة تعكس طريقة تفكير المجتمعات وفهمها للعالم. وفي السياق الإفريقي، تتشابك إشكالية اللغة مع قضايا أعمق تتعلق بالهوية الثقافية والسياسية، والذاكرة الجمعية، والتحرُّر من إرث الاستعمار.
تاريخيًّا، كانت المجتمعات الإفريقية تعتمد في نقل معارفها الفلسفية والتقاليد الثقافية على الشفاهية، وهو ما منح اللغة الإفريقية الأصلية دورًا أساسيًّا في تكوين العقلية الفلسفية الإفريقية. ومع ذلك، فقد شهدت القارة الإفريقية تحوُّلًا جذريًّا إثر وصول المستعمرين الأوروبيين، الذين لم يكتفوا بفرض هيمنتهم السياسية والاقتصادية، بل سعوا أيضًا إلى إعادة تشكيل الهويات الثقافية واللغوية للشعوب الإفريقية.
وتشكل هذه العملية الاستعمارية -التي لم تكن مجرد عملية لغوية، بل كانت عملية ثقافية وفكرية أيضًا-، أرضية للإشكاليات التي يواجهها الفلاسفة الأفارقة في العصر الحديث. فأمامهم تساؤلات عميقة حول العلاقة بين اللغة والفكر؛ هل يمكن للفلسفة الإفريقية أن تنمو وتتطور وتُعبِّر عن نفسها بصدق من خلال لغات أوروبية مفروضة؟ أم أن اللغة الإفريقية الأصلية تمثل جوهر الفكر الإفريقي، ولا يمكن فصلها عن الفلسفة المحلية؟ علاوة على ذلك، يثير هذا التساؤل قضايا أوسع تتعلق بكيفية إعادة إحياء الفلسفة الإفريقية في إطار التحرر من رواسب الاستعمار اللغوي والثقافي.
لقد أدَّت هذه الإشكاليات إلى انقسام بين الفلاسفة الأفارقة. فبعضهم يرى في استخدام اللغات الأوروبية وسيلةً لتحرير الفكر الإفريقي من العزلة المحلية والانفتاح على العالم، بينما يرى آخرون أن ذلك يمثل استمرارية للهيمنة الاستعمارية، وأنه لا يمكن للفلسفة الإفريقية أن تكون حرة وأصيلة إلا إذا عادت إلى جذورها اللغوية والثقافية.
في النهاية، تهدف هذه الدراسة إلى استكشاف كيف يمكن أن يُسهم الفلاسفة الأفارقة في إعادة بناء الجسر بين اللغة والفكر، وكيف يمكنهم استخدام لغاتهم الأصلية أداةً لتحرير الفلسفة الإفريقية من القيود الاستعمارية والتعبير عن الرؤى الفريدة التي تحملها الثقافات الإفريقية.
ولأن اللغة تُعدّ إحدى القضايا المهمة في تاريخ الفكر الفلسفي؛ فينبغي لنا النظر إلى تلك الإشكالية من منظور إفريقي؛ إذ تُعدّ اللغة معضلةً رئيسيةً في الفلسفة الإفريقية الحديثة والمعاصرة. ولتحديد موقع الإشكالية في الفلسفة الإفريقية لا بد من توضيح ما تعنيه كلمة “إفريقي”، ومِن ثَم ما يعنيه مصطلح “فلسفة إفريقية”.
إن مصطلح “الإفريقي” هو كيان جغرافي عرقي. “إفريقيا” هي قارة يسكنها أشخاص من عرق معين، يمكن أن يكون أسود، أو أبيض، أو عربي، أو زنجي، وما إلى ذلك، ولكن بالتأكيد لديهم ثقافة وعادات وتاريخ مشترك من الخبرة الاستعمارية والوصاية. لذلك على الرغم من تنوع الأشكال في الثقافات الإفريقية، هناك سمات وأوجه تشابه مشتركة. و”الفلسفة الإفريقية” تعني ببساطة الفلسفة التي تتغذى من خلال التجربة الثقافية والتقاليد والتاريخ الإفريقي. وهناك دائمًا روح الفلسفة الإفريقية. والروح هي ذات التوجُّه الميتافيزيقي والروحي الذي يميل أكثر إلى التعايش مع الطبيعة بدلًا من الغزو، وإلى الجماعية بدلًا من الفردية، وإلى الشمولية بدلًا من الفردية.(([1]
الفلسفة الإفريقية تشير إلى البحث المنهجي في نظام الفكر أو النظرة العالمية للأشخاص الأفارقة. وهذا يشمل أولئك الموجودين ضمن الحدود الكبيرة لسكان القارة الإفريقية، أو أولئك الأفارقة المقيمين في الشتات. ومن ناحية أخرى، فإن أولئك الذين يتشاركون تجارب تاريخية مشتركة مع أولئك الموجودين في هذه القارة والذين ينتمون إلى نفس المجموعات العرقية، ولكنهم يميلون بشكل صحيح إلى إجراء تحقيقات منهجية في المآزق الإفريقي وإيجاد حل ممكن لها([2]).
أثر الاستعمار على اللغات الإفريقية:
يعود جزء كبير من إشكالية اللغة إلى تاريخ القارة الإفريقية وتأثير الاستعمار، الذي فرض اللغات الغربية على شعوبها، وأدى إلى تهميش اللغات المحلية. فقد أدَّى الاستعمار إلى فرض لغات أوروبية مثل الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية على حساب اللغات الإفريقية الأصلية. هذا التحول اللغوي لم يكن مجرد استبدال للغة، بل كان عملية تقويض للهوية الثقافية الإفريقية؛ حيث تم عزل الفكر الفلسفي الإفريقي عن جذوره اللغوية والثقافية.
ولأن اللغة من السمات الأساسية في تحديد هوية الشعوب؛ لذلك عمد الاستعمار إلى حرمان الأفارقة من التعامل بلغتهم الأصلية، وإجبارهم على التعلم والتعامل بلغة المستعمِر، بل عمد إلى حرمان الأفارقة بشكل عام، والزنوج بشكل خاص، منذ تجارة الرقيق من إمكانية التعبير والكلام باعتبار أنهم إذا تكلموا سيصبح لوجودهم قيمة، ومِن ثَم سعى الاستعمار إلى نفي أيّ قيمة للسود حتى لو بالكلام([3]).
وفي مجال العلم والمعرفة فقد عمد المستعمرون إلى إبقاء الشعب في جهل تام. متبعين عدة خطوات لتعطيل أيّ تقدُّم في إفريقيا، وهذه العوامل هي على التوالي: المدرسة، وهي من أهم العوامل التي استخدمها الاستعمار؛ فقد ارتبط التعليم المدرسي بتعزيز الدين بدلًا من نشر العلم، فكانت العديد من المدارس في واقع الأمر مدارس تبشيرية مسيحية. إلى جانب العامل التبشيري أيضًا؛ كان التوجه الأدبي هو الاتجاه العام في المدارس الاستعمارية، فكان الأدباء الغربيون نماذج يُحتَذى بها لدى تلاميذ المدارس الاستعمارية بدلًا من العلماء. أما العامل الثالث فتمثل في عنصر التغييب، فلم يكن هناك أحد في المدارس الاستعمارية يجرؤ على افتراض أن الأفارقة قد حاولوا عبور المحيط الأطلسي قبل كولومبس بقرون. مما أدَّى ذلك إلى أن أبناء القارة السمراء ينسون أنهم أصحاب منجزات علمية، بل أنساهم أنهم أصحاب حضارة أيضًا([4]).
يبدو أن تاريخ الاستعباد والظلم والاستغلال والبحث عن الهوية قد ترك إفريقيا تحت رحمة الأجناس الأخرى في العالم. ويُنظَر أحيانًا إلى إخضاع اللغات الإفريقية كوسيلة لإثبات الادعاء بأن الأفارقة يفتقرون إلى العقلانية؛ لأن اللغة هي إحدى علامات العقلانية؛ لأنها تضع البشر فوق الحيوانات الأخرى. وتقول الحجة: إذا كان التفوق الفكري للبشر يرجع إلى استخدام اللغة، فإن قمع لغة شعب ما هو أيضًا قمع كرامتهم([5]).
وللأسباب التاريخية السابقة، يكتب الباحث الإفريقي بلغات أجنبية. ولأن معظم لغات السكان الأصليين لا يتم تدريسها في المدارس، بل يتم التدريس باللغات الاستعمارية. لذلك، لا يستطيع الباحث حقًّا فَهْم وإتقان اللغات المحلية بما يكفي لتمكينه من وضعها في الكتابة لأغراض التعليم.
النقطة المهمة هي أن اللغات الأصلية مقيدة، وهذا هو جذر مشكلة اللغة في الفلسفة الإفريقية. وتزداد مشكلة اللغة تعقيدًا لأن معظم اللغات الإفريقية محلية، في حين أن الفلسفة دراسة دولية. لذا فإن مسألة كتابة الفلسفة الإفريقية باللغات الإفريقية تُطرَح لغويًّا كإشكالية([6]). لذلك، برزت إشكالية اللغة كواحدة من أبرز التحديات التي تواجه الفلاسفة الأفارقة المعاصرين، الذين يجدون أنفسهم في مفترق طرق بين استخدام لغات المستعمِر للتعبير عن أفكارهم، أو العودة إلى لغاتهم الأصلية كجزء من محاولة استعادة هويتهم الفكرية.
طبيعة اللغة:
إن امتلاك اللغة هو أحد العوامل المميزة التي ترفع مستوى تفوق الإنسان. وتؤكد أندريا ناي Andrea Nye على هذه النقطة عندما أدرجت اللغة كواحدة من السمات المميزة والأساسية التي تميز البشر عن الأنواع الأخرى من الكائنات الموجودة في الكون. ولذلك فإن اللغة هي إحدى السمات المميزة للجنس البشري. ولا يمكن المبالغة في التأكيد على أهميتها في أنشطتنا اليومية؛ لأن اللغة هي شرط لا غنى عنه للوجود الإنساني؛ حيث يستخدم البشر اللغة لإعلام الأشخاص من حولهم بما يشعرون به وما يرغبون فيه، وما يطلبونه وما يطمحون إليه.
ويتم توصيل قراراتنا باللغة؛ حيث ينقل البشر مشاعرهم الأكثر جوهرية والأفكار ونقل المعرفة من خلال قوة اللغة. إذن فاللغة هي وسيلة الإنسان للتواصل والتعلم. وهكذا، فمن الواضح أن الإنسان، وهو الإنسان المتكلم، قد تم تعريفه على أنه الكائن الذي يمتلك اللغة([7]).
هذا، وقد بذلت محاولات كثيرة مِن قِبَل بعض العلماء البارزين في تعريف اللغة؛ حيث يرى سانغوينيتي Sanguineti وبولاني Polanyi أن اللغة هي نظام من الإشارات الشفهية أو المكتوبة المعقولة المستخدَمة لإنشاء واستحضار وتنظيم مفاهيم وأفكار البشر. وبالتالي فإن اللغة عبارة عن مجموعة من الرموز، تحكمها بعض القواعد، وهي نقل الرسائل بين الأفراد أو مجموعات الأفراد؛ تصف أندريا نيى Andrea Nye اللغة كأداة في تشكيل الأفكار الميتافيزيقية والمعرفية لتطوير الوعي الاجتماعي والأخلاقي للشعب.
بينما يرى بينكر Pinker في كتابه “غريزة اللغة” In The Language Instinct أن اللغة “نتاج لثقافة جيدة”. ويقول بينكر: إن اللغة هي غريزة إنسانية، تم توصيلها إلى أدمغتنا عن طريق التطور ويصف طبيعة اللغة اعتبارها “مهارة معقدة ومتخصصة تتطور لدى الطفل تلقائيًّا، دون جهد واعٍ أو تعليمات رسمية، ويتم نشرها دون وعي بمنطقها الأساسي”([8]).
والسؤال الذي يمكن طرحه الآن هو: هل هناك علاقة مفاهيمية بين اللغة والفكر والواقع؟
من الجانب الفلسفي، عند كانط، هناك صلة بين الفكر والواقع. على الرغم من أن الواقع بالنسبة لكانط هو عالم “نومينا” noumena الذي لا يمكن معرفته تمامًا، إلا أنه يعتقد أن وعي الفرد يخلق العالم الخارجي: “إن العالم الذي يدركه الناس، ويتعاملون معه، “العالم الظاهري”، هو خلق إنساني، وهو نتاج لعوامل أساسية”. ويزعم فون همبولت Von Humboldt بأن اللغة بالنسبة له مثل الكائن الحي؛ فهو يخضع للقواعد والقوانين، ولا يمكن للفكر أن يزدهر بدون لغة، كما أن اللغة لا يتم تعلمها حقًّا، وبالتأكيد لا يتم تدريسها ولكنها تتطور من الداخل، من تلقاء نفسها، من خلال عمليات أكثر.
ويعتمد هذا الرأي على فكرة في فلسفة كانط مفادها أن البنية الفطرية للعقل البشري تخلق صورة للعالم الخارجي مستقلة عن ماهية العالم الخارجي، والمعنى البسيط لهذا الرأي هو أنه بما أن الكلمات يتم إنشاؤها ومن خلال البنية الفطرية، تسبق اللغة الأشياء التي تصفها. وهذا يعني إذن أن الواقع مستقل عن الوعي أو الفكر. فالفكر إذن هو وسيلة إدراك الواقع، وليس خلقه. تختلف رؤية كانط مع لودفيج فيتجنشتاين والذي يزعم بأن حدود لغة المرء تحدد مدى مفاهيمه.
وفي منطق فيتجنشتاين، تسبق اللغة الأشياء التي تصفها، فإن بنية لغة الفرد هي التي تؤثر على طريقة تفكير المرء وإدراكه للعالم. فالمفاهيم هي تجريدات للوحدات المتصورة في الواقع. وبما أن الواقع يُوفّر البيانات التي نستخلص منها ونشكل المفاهيم، فإن الواقع هو مصدر كل الكلمات، وجميع اللغات([9]).
اللغة والمعنى أمران حاسمان في تطور الفلسفة؛ فاللغة هي نظام من الكلمات التي تنقل معنى معينًا. اللغة والمعنى مترابطان بشكل جوهري. لا يمكن أن تكون هناك لغة دون معنى. يعرّف جودفري أوزومبا Godfrey Ozumba اللغة بأنها سلاسل من الكلمات مرتبة نحويًّا ودلاليًّا لغرض وحيد هو توصيل الأفكار والحالات المزاجية ولشرح الأفعال. وهذا يعني أن اللغة عبارة عن نظام يحتوي على مفهوم أو رموز تسمح للشخص بوصف ظاهرة ما، والقيام بعمل ما، وإعلام الجمهور، وشرح شيء ما. لكن اللغة يمكن أن تؤدي أيضًا إلى التضليل الآخرين سواء عمدًا أو غير ذلك، لهذا السبب يؤكد إيمانويل إيو على ضرورة استخدام اللغة في سياقها المنطقي الصحيح في سياقات أخرى لتوصيل المعاني المقصودة. إن استخدام اللغة في سياقها المنطقي الصحيح يتجاوز مجرد الوضع المنطقي للعبارات والوصلات المنطقية كما دعا إليها المناطقة؛ يتعلق الأمر بالأفكار المضمنة فيه. ويُلاحظ جون أوستن أن الكلمات ليس لها معاني مستقلة ثابتة، ولكنها تحصل على معانيها من الجملة التي تظهر فيها. وهذا يعني أنه يمكن استخلاص معنى اللغة من الجمل المعروضة إما في أشكال مكتوبة أو شفهية. لكن اللغة بنفس القدر تجمع المعاني من الحالة المزاجية للمستخدمين. إذا تخلص المرء من هذا البعد، تفقد اللغة نكهتها ويجعل المعنى غامضًا حتى بالنسبة للناطقين الأصليين([10]).
في ضوء اللغة والهوية الإفريقية، تخلق اللغة كيانًا وتسميه أيضًا، وتجلب اللغة الحياة إلى الوجود وتجلب كل كائن موجود تسميه إلى الوجود. وبدون جوهر اللغة، لا يمكن قول أي شيء عن الوجود. للغة علاقة كبيرة بهوية الشخص وشخصيته ومشاعره وأفكاره وما إلى ذلك. وربما على هذا الأساس تكون الوظيفة التواصلية هي التي تقوم عليها الوظيفة الوجودية. إلى جانب حقيقة أن اللغة تصف الأشياء وتنقل مشاعرنا وأفكارنا، تعمل اللغات أيضًا كأداة لتقديم أنفسنا ككيان موجود. وهذا ما يُفسِّر جزئيًّا لماذا يتم التحدث باللغة في كثير من الأحيان على أنها “مرآة لواقع الثقافة([11]).
إن اللغة هي التي تجعل الفلسفة ممكنة. وهذا يعني أن الفلسفة مستحيلة بدون اللغة. وذلك لأن الفلسفة تهتم بالحقيقة والأفكار والمفاهيم والمعرفة والواقع، والتي يمكن فهمها بشكل أفضل باللغة. ولذلك فإن اللغة مهمة للفلسفة لأن كل ما يتعلق بنشاط الإنسان ينشأ من الفكر. تثير مشكلة اللغة في الفلسفة الإفريقية سؤالًا حول ما إذا كان التعبير عن تجربة الواقع الإفريقي باللغات الأجنبية يمكن أن يولد فلسفة إفريقية أصيلة. وبعبارة أخرى، تتمحور المشكلة حول ما إذا كان ينبغي استخدام اللغات الأجنبية للتعبير عن الأفكار الفلسفية الإفريقية أم لا.
وبحسب أوكولو فإن الفلسفة بطبيعتها تركّز على التوضيحات المفاهيمية وتحليل الأفكار والمفاهيم بلغة سليمة لسهولة الفهم. ويواجه الفلاسفة الأفارقة بعض المشكلات اللغوية الفلسفية المتمثلة في قراءة المعنى في مفاهيم أو أفكار السكان الأصليين الأفارقة، ضمن التقاليد المنهجية للبحث عن الحقيقة للشعب الإفريقي. ومِن ثَم، فإن الاهتمام الأساسي للفلاسفة الأفارقة فيما يتعلق باللغة هو توضيح المعاني في أفكارهم الإفريقية الأصلية في المجالات التالية، أشكالها ووظائفها النحوية، وظائفها ودلالاتها، صحة الفكرة المفترضة، وما إلى ذلك.
ووفقًا لإيغبونو Egbunu فإن السؤال الذي يتم التركيز عليه هو إلى أيّ مدى يمكن أن يحدث النقل عبر الثقافات لمعنى المصطلح في اللغة الأجنبية دون تدمير المعنى الأصلي للأفكار المُعبَّر عنها بلغة إفريقية معينة؟ فهناك مصطلحات إفريقية يصعب ترجمتها إلى لغة أجنبية على سبيل المثال في حالة رؤية إيجالا Igala للعالم فإن فكرة أومي أورو إي ديغوون Omi-oro e degwun؛ في معناها الأدبي الأصلي وبنيتها، تعني الكثير جدًّا بحيث لا يمكن ترجمتها دلاليًّا إلى لغة أخرى ولا تزال تحمل معناها الأصلي.
وبالتالي، إذا تمت ترجمة هذه الفكرة إلى أيّ لغة أخرى، فلن ينتهي الأمر بتدمير المعنى فحسب، بل سيؤدي في النهاية إلى إحداث فوضى كاملة في المعنى الدلالي للكلمة. وتكمن هذه المعضلة في حالة يتُوقع فيها من الفيلسوف أن يعيش ضمن السياق الإفريقي ونظام الفكر بينما يكتب بالعقلية الغربية.
وبعبارة أخرى، يكمن الخلاف في صعوبة ما إذا كان من المعقول القيام بالفلسفة الإفريقية الأصيلة بلغة غير اللغة الإفريقية؟ على سبيل المثال، لم تتم الأعمال الفلسفية لفيلسوف الإيغبو Igbo (أوغسطين تشيكا أوبي Augustine Chika Obi) مطلقًا بلغة الإيغبو، ولم يتم توثيق فكرة فلسفة البانتو Bantu (Tempels) حول شعب البانتو مطلقًا في لغة البانتو؛ وما إلى ذلك. غالبًا ما كانت مثل هذه الفلسفات مكتوبة بلغات أجنبية مختلفة([12]).
لقد أدت فكرة الفلسفة الإفريقية إلى ظهور مشكلة اللغة. والحجة هنا هي أنه لكي تكون الفلسفة إفريقية حقًّا، يجب أن تكون اللغة والشكل الذي يتم التعبير بهما يجب أن يكون إفريقيًّا. إن مسألة اللغة، من حيث صلتها بفكرة الفلسفة الإفريقية، هي أنه لا يمكن أن تكون هناك فلسفة إفريقية، حتى تكون هناك فلسفة باللغة (اللغات) الإفريقية، وليس مجرد ترجمة أو تفسير، وذلك لأن الفلسفة الإنجليزية، على سبيل المثال، مكتوبة باللغة الإنجليزية والصينية فلسفة باللغة الصينية، والفلسفة الفرنسية باللغة الفرنسية، والفلسفة الألمانية باللغة الألمانية، وما إلى ذلك، ولكن الفلسفة الإفريقية (مثل اليوروبا، أكان، الإيغبو، البانتو، فلسفة الهوسا) لا تزال تُكتب وتُنقل باللغات الأجنبية. إن هذه اللغات الأجنبية قد لا تصور الصورة الحقيقية للفلسفة الإفريقية. إن اللغات الأصلية هي التي تهتم حقًّا بقضايا الهوية والمشاعر والتعاطف والمعنى. ومِن ثَم، ينبغي أن تُكتب الفلسفة الإفريقية الأصيلة باللغة الإفريقية؛ لأن اللغة مجتمعية وتجريبية. ربما تكون مسألة اللغة مستوحاة من تأكيد ميجل أونامينو Unamino Miguel على أن “الفلسفة هي فقه اللغة”([13]). لقد أصبحت مسألة اللغة مهمة؛ لأن اللغة هي الأداة والوسيلة الأساسية للتعبير الفلسفي، ولكونها تلعب دورًا هامًّا في معرفة وفهم البشر. ويقال: إن لغة الشعب هي السمة الرئيسية التي تميزهم عن الآخرين([14]).
وبناءً على ما سبق، هناك ضرورة مُلِحَّة للكتابة باللغات الإفريقية المحلية، فإذا كانت اللغة تعبّر عن الواقع فإن اللغات الإفريقية أفضل وسيلة للتعبير عن الواقع الإفريقي؛ وذلك لأن اللغات الأصلية أداة أساسية للتعبير عن أفكار ومعتقدات الشعوب الأصلية. أيضًا إشكالية اللغة في الفلسفة الإفريقية تلقي الضوء على موضوع غاية في الأهمية؛ ألا وهو الترجمة. هل تستطيع الترجمة نقل الأفكار والمعتقدات من لغة إلى أخرى دون أن تفقد الفكرة معناها الأصلي في اللغات المنقولة إليها، بالفعل هناك اختلافات بين اللغات لذلك يوجد صعوبات في نقل الأفكار بمعانيها الأصلية من لغة إلى أخرى.
اللغة الإنجليزية والفلسفة الإفريقية:
اللغة الإنجليزية واحدة من أعظم صادرات المملكة المتحدة منذ الحقبة الاستعمارية. في الوقت الحاضر هي أكثر لغة عالمية مزدهرة على الإطلاق، وتسيطر على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم. وأصبحت اللغة الإنجليزية منذ الحقبة الاستعمارية لغة مشتركة لبعض البلدان الإفريقية، بما في ذلك نيجيريا وغيرها من البلدان الإفريقية. ومن هذا المنطلق، وصف المؤلف النيجيري أتشيبي اللغة الإنجليزية بأنها لغة مُوحّدة مُهمّة؛ ذلك لأن الكثير من الكتب مكتوبة باللغة الإنجليزية، ويتم قراءتها مِن قِبَل فئة كبيرة من الجمهور. لقد ظهرت الإنجليزية تدريجيًّا كلغة القوة والسياسة والهيمنة كما يراها مواطنو الدول الإفريقية المستعمرة سابقًا. وكان يُنظر إليها على أنها أداة في يد المستعمر للسيطرة بشكل فعَّال على مستعمراته وليس لصالح المستعمرين. وعلى الرغم من مزايا استخدام اللغة الإنجليزية وكذلك الفرنسية، إلا أن ضحايا الهيمنة الغربية الأفارقة على وجه الخصوص ينظرون إلى اللغة الإنجليزية واللغات الأجنبية الأخرى على أنها لغة أداة عنصرية غربية لإخضاع إفريقيا([15]).
منذ بداية تطور الكتابة الفلسفية الإفريقية، تمت كتابة الفلسفة الإفريقية حصريًّا باللغات الأوروبية. يكتب الفلاسفة الأفارقة باللغة الإنجليزية، والفرنسية، والبرتغالية، والألمانية، واللاتينية([16]). وبإلقاء نظرة على بدايات الفلسفة الإفريقية في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، وصل الفيلسوف أنطون فيلهلم أمو، قادمًا من أكسيم في غانا إلى ألمانيا عندما كان طفلًا في أوائل القرن الثامن عشر. درس القانون في جامعة هاله Halle، ثم الطب وعلم النفس في فيتنبرغ Wittenberg، حيث حصل على لقب “أستاذ الفلسفة والفنون”. حاضر في فيتنبرغ وفي جامعة جينا Jena. عاد إلى إفريقيا في منتصف القرن الثامن عشر([17]).
هذا وقد كتب “أمو” العديد من الأعمال الفلسفية باللغة اللاتينية، أهمها: (المحاضرة الافتتاحية عن قانون المغاربة في أوروبا، وهو نص غير موجود حتى الآن، و(محاضرة عن لامبالاة العقل البشري) و(رسالة في فن الفلسفة الدقيقة)؛ وهو عمل كبير يقع في 208 صفحات. ولا تزال أعمال “أمو” غير معروفة حتى يومنا هذا، على الرغم من أن اسمه أصبح شائعًا بين العلماء الأفارقة اليوم، ففي عام 1978م، نظم اليونسكو وحكومة غانا وجمهورية ألمانيا الديمقراطية مؤتمرًا لذكرى “أمو”.
الأعمال اللاحقة التي أشار إليها الفلاسفة الأفارقة والأمريكيون الأفارقة الحاليون مكتوبة أيضًا باللغات الأوروبية، مثل أعمال إدوارد دبليو بلايدن Edward W Blyden، وويليام إدوارد بورغارت دو بوا William Edward Burghardt Du Bois. الكتابة الفعلية للفلسفة الإفريقية في القرن العشرين، بدءًا من أعمال رواد حركة الزنوجة، مثل سنغور Senghor وسيزارCésaire، مرورًا بالعمل الرائد لـ Placide Tempels، فلسفة البانتو، الذي نُشر عام 1945م باللغة الفرنسية، وصولًا إلى أعمال أهم الفلاسفة الأفارقة اليوم، مثل هنري أوديرا أوروكا Henry Odera Oruka، وكواسي واريدو Kwasi Wiredu، وبيتر بودونرينر Peter Bodunrin، وفنسنت إيف موديمبي Vincent-Yves Mudimbe، على سبيل المثال لا الحصر. استخدم هؤلاء الفلاسفة اللغات الأوروبية لكتابة الفلسفة الإفريقية([18]).
وعلى الرغم من أن جميع الفلاسفة الأفارقة كتبوا باللغات الأجنبية؛ إلا أن حقيقة ذلك يعود لطبيعة تعليم هؤلاء الفلاسفة. إن معظم الفلاسفة الأفارقة تعلموا لغات مختلفة، ومثل هؤلاء الفلاسفة الأفارقة في أعدادهم تلقوا تعليمًا متمركزًا في أوروبا بسبب حقيقة ووجود الأنشطة الاستعمارية.
ويمكن أيضًا إرجاع بعض هذه العوامل إلى الظروف التاريخية مثل التبعية الاقتصادية والسياسية، مما يُسهم في حقيقة الضعف الدولي للغات الإقليمية، والطبيعة متعددة اللغات للدول الإفريقية وما إلى ذلك.
وهذا ليس هو الحال بالنسبة للغات الإفريقية فحسب، بل أيضًا للفكر والدين الإفريقي. وقد جلب الاستعماريون التعليم الغربي إلى إفريقيا، وهو ما أصبح السبب الرئيسي وراء عدم حصول الكتاب الأفارقة الأوائل على خلفية جيدة في الكتابة أو التعبير عن فكر عملي في الفلسفة الإفريقية بلغات أصلية. في الواقع إن معظم الفلاسفة الأفارقة المحترفين، يتخلون تمامًا عن صراعات استخدام اللغات الإفريقية في ممارسة الفلسفة الإفريقية بسبب خلفيتهم في الأيديولوجية الغربية([19]).
إشكالية الفلسفة الإفريقية باللغة الإفريقية:
يقول هايدجر: “إن الاستخدام الصحيح للغة أمر بالغ الأهمية؛ إذا كان على المرء أن يصف الواقع في شكله الأكثر أصالة. وللقيام بذلك، لا بد من العودة إلى الاستخدام الأصلي للمفاهيم التي يتم من خلالها وصف الواقع. ولهذا السبب بدأ هايدجر تحليله للوجود من خلال فحص المفهوم في اللغة الأصلية للفلاسفة اليونانيين القدماء.
وقد عمد هيدجر في تحليلاته المعرفية إلى العودة للوراء؛ حيث الحضارة اليونانية من أجل أن يؤسس نشاطه على أسس عملية، وهذا يتجلى في حُبّه للعودة بالكلمات إلى معناها الأصلي، ويبدو ذلك واضحًا في كتاباته لمصطلحات تعود إلى زمن اليونانيين مثل اسم الحقيقة (الثيثيا)، وهي في اللغة اليونانية تشير إلى عدم التخفي، وفي نظره أننا بالعودة للكلمة اليونانية المسموعة نكون في حضرة الشيء الواقع أمامنا مباشرة لا في حضرة معناه فقط. في التقاليد الفلسفية الإفريقية، لا يتم التنازل عن الحاجة إلى استخدام اللغات الإفريقية الأصلية كأداة أساسية في تطوير الفلسفة الإفريقية وتقدمها”([20]).
وقد انقسم الفلاسفة والمفكرين الأفارقة حول اللغات التي يجب أن تُكتَب بها الفلسفة الإفريقية إلى اتجاهين رئيسيين:
الاتجاه التقليدي المؤيد اللغات الإفريقية
يرى معظم العلماء الأفارقة أن ممارسة الفلسفة الإفريقية بلغة غير اللغات الإفريقية يُعدّ بمثابة ضرر للتجربة الإفريقية للواقع. وهذا يثير التساؤل حول ما إذا كان بإمكاننا الحصول على فلسفة إفريقية أصيلة خالية من اللغات الإفريقية.
وفي محاولة لمعالجة هذه القضية الإشكالية، جادل بعض العلماء الأفارقة مثل نغوجي وا ثيونغو، وفرانسيس أوجونمودي، وصوفي أولوول، ومجموعة أخرى من الباحثين بأنه لكي تكون الفلسفة إفريقية حقًّا، يجب التعبير عنها بلغة إفريقية. وبعبارة أخرى، فإن استخدام اللغات الإفريقية يعطي الشرعية للفلسفة الإفريقية.
في ظاهر الأمر، يبدو أن مثل هذا الموقف قد وضع حدًّا للخطاب حول اللغة في الفلسفة الإفريقية، ولكن بالفحص النقدي، تظهر المزيد من الأسئلة يترتب عليها المزيد من المخاوف لدى بعض الفلاسفة على سبيل المثال، بأي لغة إفريقية معينة ستمارس بها الفلسفة الإفريقية؟ وبعبارة أخرى، ما هي اللغة الخاصة التي ينبغي تفسير التجربة الإفريقية بها؟
إن القارة الإفريقية متعددة اللغات، لا توجد لغة إفريقية موحدة بل لغات متنوعة. هل نأخذ إحدى هذه اللغات ونجعلها اللغة الإفريقية العامة؟ لكن إذا اخترنا أن نتفلسف باللهجات المختلفة التي تشكل إفريقيا، فإن السؤال الذي سيطرح هنا هو: هل اللغات الإفريقية متطورة بما فيه الكفاية؟ وقد دفعت هذه المخاوف بعض العلماء مثل كواسي وييردو Wiredu Kwasi، وأولوسيجون أولاديبو Olusegun Oladipo، وتشينوا أتشيبي Chinua Achebe، من بين آخرين، إلى القول بأن اللغة المستخدَمة في التعبير عن تجربتنا مع الواقع غير ذات أهمية، بقدر ما نستطيع التعبير عن أفكارنا. يرى كواسي واريدو، على سبيل المثال، أنه سيكون من غير المجدي إبعاد اللغات، الأجنبية المستخدَمة في الفلسفة الإفريقية؛ لأننا لم ندرك بعد فكرة وجود لغة مشتركة قارية. ولا يوجد إجماع بين العلماء الأفارقة حول اللغة التي يجب استخدامها في الفلسفة الإفريقية([21]).
يكمن جوهر مشكلة اللغة في الفلسفة الإفريقية، في السعي لتقييم مدى إمكانية نقل المعنى المقصود أصلاً في اللغات الإفريقية في اللغات الأجنبية السائدة، مثل الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية، والتي تُستخدم في التعبير عن وجهات النظر العالمية الإفريقية. وقد أعرب العلماء الأفارقة عن وجهات نظر متباينة حول القضايا الإشكالية المتعلقة باللغة في الفلسفة الإفريقية([22]).
اللغة الإفريقية لا غنى عنها. يتحدث مبيتي Mbiti في كتابه “الديانات الإفريقية والفلسفة” (1969) عن اللغة كمفتاح لفهم الفلسفة الإفريقية فقال: “هناك إمكانيات كبيرة لدى العلماء الأفارقة الذين يدرسون الديانة والفلسفة الإفريقية التقليدية، بمساعدة الأدوات والمنهجية العلمية ومع مزايا كونهم جزءًا من شعوب إفريقيا، مع إمكانية الوصول غير المحدودة تقريبًا إلى المعلومات والتحدث باللغات التي تُعد مفتاحًا للبحث الجاد وفهم الأديان والفلسفة التقليدية”([23]). أيضًا كتب إيديه Edeh: “إن نظرنا الموجز للغة الإيغبو يقودنا إلى ثقافة الشعب لأنه من الواضح أنه لا يمكن فصل اللغة عن الثقافة التي تعبر عنها”.
ووفقًا لكانو Kanu فإن التركيز على اللغة كعنصر لا غنى عنه للقيام بالفلسفة الإفريقية العميقة واضح جدًّا في الموقف الفلسفي للفلاسفة العرقيين، الذين ينظرون إلى الفلسفة الإفريقية باعتبارها الفكر الفلسفي للأفارقة كما يمكن استخلاصه من وجهات نظرهم العالمية المختلفة، والأساطير، والأمثال، وما إلى ذلك. بمعنى أنها الفلسفة الأصلية للأفارقة، غير الملوثة بالأفكار الأجنبية.
وفي دراسة الفلسفة العرقية، تتضح العلاقة الوثيقة بين اللغة والفلسفة. يزعم كانو أن هناك حاجة لإنهاء الاستعمار المفاهيمي لتعميق الفلسفة الإفريقية. ويجب على أولئك الذين يمارسون الفلسفة الإفريقية أن يكونوا قادرين على الدخول إلى عالم اللغة الإفريقية ليحصلوا من هناك على وجهات نظر العالم الإفريقي حول الواقع. وإذا تم إهماله، فإن الكثير من الفكر الإفريقي سوف يظل مخفيًّا؛ لذلك فإن ما يجب أن يهتم به الفلاسفة أكثر فيما يتعلق بمشكلة اللغة في الفلسفة الإفريقية هو تأثير الاستعمار على اللغات الإفريقية والحاجة إلى نهضة ثقافية من أجل التعبير بشكل أفضل عن الفلسفة الإفريقية بلغة تعكس الواقع الإفريقي بعمق. وتنشأ هذه المشكلة من الحاجة إلى ضمان عدم تشويه المعاني الإفريقية أثناء عملية تحليلها ضمن الأطر المفاهيمية للغات الأجنبية([24]).
أيضًا يناقش فرانسيس أوجونمودي Francis Ogunmodede مشكلة اللغة في دراسة بعنوان “الفلسفة الإفريقية باللغة الإفريقية.” وفقًا له، لا يمكننا أن نفسر التجربة الإنسانية بشكل نقدي جيد بما فيه الكفاية لإفريقي باستخدام لغة أجنبية، مثل الإنجليزية أو الفرنسية. استخدام اللغة الأجنبية لشرح التجربة والثقافة الإفريقية، هو أن نكون مغتربين ثقافيًّا، وأن نعيش حياة غير حقيقية، ونصبح غير ذي صلة بمجتمعنا. مستشهدًا بكتاب الشيخ أنتا ديوب “حضارة أم همجية؟”، ويدعم أوجونمودي حجته أكثر عندما يكتب: “الهروب من لغة المرء هو أسرع طريق مختصر إلى الاغتراب الثقافي”([25]). النقطة التي أُثيرت هنا هي إذا لم نستخدم اللغة الإفريقية في التعليم، وخاصة في الفكر والخطاب الفلسفي، فإن تحررنا من الهيمنة الاستعمارية يظل غير مكتمل([26]).
ولأهمية اللغة أيضًا خصص فرانز فانون الفصل الأول من كتابه “بشرة سوداء أقنعة بيضاء” لمسألة اللغة، وفيه يوضح أن اللغة هي أول حالة يُستبعد منها المستعمر. إن استبعادك من عالم اللغة يعني استبعادك من عالم الإنسان، وهو المجال الذي يتم فيه التعامل مع البشر كبشر وتشكيلهم على هذا النحو([27]). أيضًا كان إحدى أهم القضايا الرئيسية التي دافع عنها الشيخ أنتا ديوب، وأكد على أنها جوهر النهضة الإفريقية هي اللغة، وجادل بأن الأفارقة فقدوا هويتهم وكرامتهم وتقرير مصيرهم من خلال السماح لأنفسهم بتغيير لغتهم التي كانت الوسيلة الوحيدة التي كانت واضحة في التواصل، لذلك فإن تطوير لغاتنا الأصلية هو شرط أساسي لنهضة إفريقية حقيقية، وكان تبرير ادعائه هو أن اللغات الأجنبية كانت تتطلب من الإفريقي بذل مجهود مضاعف لاستيعابها، وكان من مخاطر التنوع اللغوي والثقافي الذي كان من أعمال المستعمر، يضرب ديوب مثلًا بلغته (الولوف) التي فقدت أصالتها بسبب الاستعمار([28]).
ودعا ديوب إلى وحدة ثقافية لإفريقيا، وطالب بتوحيد إفريقيا حول لغة واحدة تكون وسيلة للتواصل بين جميع أنحاء القارة، وعن خطوات النهضة المطلوبة للنهوض بإفريقيا بخلاف التحكم في لغتنا التاريخية، يجب أن يكون لدينا اكتشاف واستجواب لتراثنا؛ بحيث لا يسمح الأفارقة للآخرين بأن يكونوا المترجمين الرئيسيين لتاريخنا، أيضًا لا بد من التخلي عن كل أشكال الهيمنة الثقافية؛ فالأفارقة ليسوا من الدرجة الثانية رغم محاولة الاستعمار للأفارقة واستعبادهم([29]).
إن استعباد إفريقيا وشعوبها بدأ مع السيطرة على عقولهم، لذلك، فإن أساس التحرر الإفريقي والنهضة الإفريقية، يجب بالضرورة أن يبدأ بإنهاء استعمار العقل الإفريقي من خلال استعادة التاريخ الإفريقي. لذلك أكد ديوب على ضرورة العودة إلى اللغات الإفريقية، وضرورة وجود لغة إفريقية موحدة. كما طالب بصياغة التاريخ السنغالي باللغة الإفريقية([30]).
ينبع مفهوم نجواجي وا ثيونغو Ngugi Wa Thiongo لمشكلة اللغة في الفلسفة الإفريقية من المنظور السياسي. وهو من أشد المنتقدين لاستخدام اللغات الأجنبية في التعبير عن الأفكار والفلسفة الإفريقية. بالنسبة له، فإن الاستخدام المستمر للغات الأجنبية في التعبير عن وجهات النظر الإفريقية العالمية لا يشوّه النظرة الإفريقية للعالم فحسب، بل يشير أيضًا إلى شكل من أشكال الاستعمار الجديد. ويرى وا ثيونغو أن “أيّ أدب إفريقي حقيقي يجب أن يُكْتَب باللغات الإفريقية، وإذا لم يكن كذلك فإن الكُتّاب الأفارقة سيصلون إلى طريق مسدود”([31]). وهذا يعني ببساطة أنه لكي يتم اعتبار أيّ عمل إفريقي حقيقي، يجب أن يتم إنتاجه والتعبير عنه باللغة الإفريقية؛ حيث تحدد اللغة صحة الفكر المُعبَّر عنه.
إن فكرة “وا ثيونغو” هي إلى حد كبير فرع من فهمه للعلاقة الجوهرية بين اللغة والثقافة. فاللغة والثقافة وجهان لعملة واحدة في فكر وا ثيونغو. ويؤكد أن اللغة ليست مجرد وسيلة اتصال، ولكنها أيضًا حاملة للثقافة. ويعتقد أن اللغات الأجنبية تمت إزالتها من البيئة الإفريقية، وبالتالي لا تعكس الثقافة الإفريقية.
وبعبارة أخرى، فإن اللغات الأجنبية، بغضّ النظر عن مدى إتقانها واستخدامها، في التحليل النهائي، تفصل الإفريقي عن التجربة الإفريقية الفريدة للواقع. وقد تم استخدام هذه اللغات الأجنبية إلى حد كبير كأدوات للإخضاع.
ولذلك، يرى نغوجي وا ثيونغو أنه لتحقيق إنهاء استعمار العقل الإفريقي، يجب علينا أن نبدأ بالانفصال عن اللغات التي تم استخدامها كأدوات للإخضاع، وأن يقرر الأفارقة التعبير عن أفكارهم بلهجاتهم المحلية فقط، وبدأ هو بنفسه حيث اقتصر على استخدام الجيكويو والسواحيلية؛ وكتب في كتابه “إنهاء استعمار العقل”: “هذا كتاب إنهاء استعمار العقل هو وَدَاعي للغة الإنجليزية كوسيلة لأيّ من كتاباتي. من الآن فصاعدًا، أصبحت لغة الجيكويو والسواحيلية على طول الطريق([32]).
إن المعنى الضمني المزدوج لهذا القرار الذي اتخذه نغواغي وا ثيونغو هو أن اللغات الإفريقية التي يستخدمها، تم تطويرها مع مرور الوقت، وتأكدت بنفس القدر من الحفاظ على سلامة المفاهيم الإفريقية. تتوافق آراء نجوجي وا ثيونغو مع موقف مفكرين مثل كواسي وايردو، وكريس أورو، وكوامي جييكي، وغيرهم ممن يعتقدون أن العودة إلى اللغات الإفريقية في الكتابة والتأملات الفلسفية من شأنها أن تجعل عملية إنهاء الاستعمار كاملة. لكن أنه في حين أن واريدو يشارك نغواغي وا ثيونغو اقتناعه بأن الفلسفة الإفريقية يجب أن تتم باللغات الإفريقية، إلا أنه لا يشارك نغواغي في التحول إلى الكتابة باللغات الإفريقية فقط.
وعن هذا المعنى يكتب كريس أوروه Chris Urohتصبح المشكلة أكثر تعقيدًا عندما تكون اللغات الأجنبية ذات وجهات نظر عالمية مختلفة بشكل ملحوظ فرضت على شعب بدلاً من لغتهم الخاصة. في هذه الحالة، يضطرون إلى رؤية أنفسهم من خلال شاشة ثقافية غريبة، والتي لا بد أن تُشوّه صورتهم. وسوف يعاني مثل هؤلاء الناس من أزمة هوية؛ لأنهم لن يكونوا مثل “أنفسهم” حقًّا، ولن يكونوا مثل الثقافة التي يقلدونها([33]).
أيضًا إيو Eyo وأوبنجا Ibanga لهما نفس الاتجاه المحافظ؛ بما أن اللغة المستخدمة في كيفية ممارسة الفرد للفلسفة مهمة؛ لأنها بمثابة أداة للتحليل والتفسير، وكذلك للنقل الفعال إلى المجتمع المقصود.
وتُعد لغة ممارسة الفلسفة ضرورية للغاية؛ لأن الفلسفة مرتبطة بالثقافة. ولهذا السبب يتم التعبير عن الفلسفات في أوروبا وآسيا باللغات الأصلية لتلك المجتمعات. وفي الصين وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وروسيا يعبر فلاسفتهم عن أفكارهم الفلسفية باللغات الصينية والألمانية والفرنسية والإنجليزية والروسية على التوالي. ولم تكن هناك مناسبة نقَل فيها فيلسوف صيني أو فيلسوف ألماني معرفته الفلسفية بلغة اليوربا أو أكان. يُعبِّرون دائمًا عن أفكارهم بلغتهم الأصلية. إن أفكار هؤلاء الفلاسفة متجذرة في الأطر المفاهيمية في بيئاتهم الثقافية، وبالتالي، لا يمكن التعبير عنها بشكل أصيل إلا بلغة تلك الثقافات.
بالإضافة إلى ذلك، يدرك الفلاسفة أنهم يقومون بتحليل القضايا الثقافية، إلى حد أنهم يخاطبون أيضًا الناس في مجتمعاتهم. ومِن ثَم فإن القيام بذلك بلغة أجنبية عن مجتمعاتهم من شأنه أن يُقوِّض قدرة أفكارهم الفلسفية على تحقيق الأغراض المقصودة. ولا يستطيع الفيلسوف الإفريقي أن ينحرف عن هذا المسار أو النمط. المعرفة الإفريقية جزء لا يتجزأ من اللغات الإفريقية الأصلية. وإن العديد من الأمثال والمفاهيم والأفكار والتصورات والتعابير والمبادئ التي يستخدمها الفيلسوف الإفريقي للقيام بالفلسفة الإفريقية هي جزء لا يتجزأ من مجموعة اللغات الإفريقية الأوسع، ويتم التعبير عن معانيها بشكل أفضل في تلك اللغات الأصلية. علاوة على ذلك، يقوم الفيلسوف الإفريقي بتفكيره بلغته الأم، ولكنه يترجمها إلى لغة أجنبية فقط عندما يترجمها إلى شكل مكتوب.(([34]
وبالنظر لرؤية كواسي واريدو فقد ساهم في تطوير الفلسفة الإفريقية من خلال فكرته حول “إنهاء الاستعمار المفاهيمي”. في الأساس، يعتبر إنهاء الاستعمار المفاهيمي محاولة لفصل التراث الفلسفي الإفريقي عن التأثيرات الثقافية غير الضرورية للاستعمار. وهي إعادة بناء فكرية من خلال الفهم والتوضيح المفاهيمي([35]). ولا شك أن اللغة هي محور هذا المشروع؛ لأن المفاهيم هي نتاج اللغة.
وبصفته مدافعًا في الخطوط الأمامية عن استخدام اللغة الإفريقية في ممارسة الفلسفة الإفريقية؛ يؤكد وريدو أن “الطريقة التي تعمل بها لغتك يمكن أن تؤهلك للعديد من الأمور”.
ووفقًا لوريدو فإن إنهاء الاستعمار المفاهيمي له معنيان متكاملان؛ أحدهما سلبي والآخر إيجابي. يعتبر إنهاء الاستعمار المفاهيمي أمرًا سلبيًّا عندما يتضمن “يتجنب الوعي الذاتي المفاهيمي النقدي، الاستيعاب غير المدروس في فكرنا (أي، في فكر الفلاسفة الأفارقة المعاصرين) للأطر المفاهيمية المضمنة في التقاليد، الفلسفية الأجنبية التي كان لها تأثير “أي التأثير على الحياة والفكر الإفريقي”. على الجانب الآخر، يُعدّ إنهاء الاستعمار المفاهيمي أمرًا إيجابيًّا عندما يتعلق الأمر “باستكشاف مصادر مخططاتنا المفاهيمية المحلية، في تأملاتنا الفلسفية حول المشكلات الأكثر تقنية للفلسفة المعاصرة”؛ بهذا يعني وريدو أن اللغات الإفريقية تمتلك مواد فكرية غنية، وعلى هذا النحو يجب أن تكون نقطة انطلاق لأي فعل فلسفي إفريقي أصيل([36]).
يناقش وريدو قضية اللغة من خلال التناقض الواضح بين فكرتي العالمية والخصوصية في الثقافة الإنسانية. في كتابه “الثقافة والعالمية” 1996م، يرى وريدو أنه من الممكن التوصل إلى مفاهيم ذات أهمية عالمية، والتي يمكن فصلها عن النسبية الثقافة. بالنسبة له، فإن الطبيعة العالمية لبعض المفاهيم تجعلها مفهومة ضمن مجموعات ثقافية مختلفة. وفي رأيه أن هناك عالميات وتفاصيل في الفلسفة والدين والثقافة. العالميات في النهاية تعتمد على الطبيعة البشرية، وهو أمر شائع، في حين أن التفاصيل -وفقًا لوريدو- تنبع من بعض الاختلافات العرضية في الثقافة. ويعتقد وريدو أن هناك عالميات، وبحكم كونها مفاهيمية بطبيعتها، فهي مفهومة عبر الثقافات. وعلى أساس وضوح المفاهيم العالمية بيَّن أن الفلسفة يمكن أن تكون عالمية، على الرغم من أنها نسبية ثقافية في الواقع، وحجته هي “لنفترض أنه لم تكن هناك ثقافة عالمية، فسيكون التواصل بين الثقافات مستحيلاً. ولكن، هناك تواصل بين الثقافات. لذلك، هناك عالميات ثقافية”([37]).
إن الجنس البشري مرتبط عالميًّا بالهوية البيولوجية ومعايير الفكر والتواصل. بالنسبة لوريدو إن العالميات، التي تم تصورها بشكل صحيح في ضوء هويتنا البيولوجية المشتركة، لا تتعارض مع الخصوصيات الثقافية، وهي في الواقع ما يجعل التواصل بين الثقافات ممكنًا. وعلى النقيض من التكهنات الشائعة بأن أشياء مثل التاريخ أو الثقافة أو الأيديولوجية تُوحِّد البشر، فإن حجة وايردو هي أن هذه المميزات هي أسباب التنوع وليس توحيد البشر. لذلك يؤكد وريدو أن دستورنا البيولوجي هو الأساس لقواسمنا المشتركة، وأن اللغة هي نقطة ارتكاز فكرة العالميات الثقافية([38]).
هناك علاقة قياسية بين الفكر والتواصل والمجتمع؛ فبدون التواصل يكون المجتمع مستحيلاً، وبدون الفكر يكون التواصل مستحيلاً. وبدون بعض القواعد المشتركة للحديث يكون التواصل مستحيلًا، لذلك، بدون بعض المعايير الفكرية المشتركة يكون المجتمع البشري مستحيلًا. إذا كان الهدف الأساسي هو التواصل ومشاركة المعاني أو الدلالات، فيجب أن تكون المعاني أو الدلالات متاحة بشكل موضوعي لجميع الأشخاص الذين ينخرطون في تلك الممارسة الإنسانية الأساسية والمحددة. إن المعاني تتجاوز محدودية مرجعياتها أو أشكال تعبيراتها اللغوية المحددة ثقافيًّا. فهي موضوعية، وبالتالي يمكن لأي شخص من خلال التواصل الوصول إليها([39]).
إن تفسير الثقافة عند وريدو لا يقتصر على أنها الأشكال الاجتماعية والمعتقدات والممارسات العرفية لمجموعة بشرية فحسب، بل تشمل أيضًا ظاهرة اللغة والمعرفة والتواصل وطرق نقل القيم من جيل إلى آخر، ويؤكد وريدو أن امتلاك لغة واحدة مِن قِبَل جميع المجتمعات البشرية يُشكّل عالمية ثقافية بامتياز. وبما أن اللغة ضرورية لأيّ مجتمع بشري، فإن ما تتكون منه لغة معينة هو مسألة نسبية. وكما يصر وريدو على وجود عالميات ثقافية، فإنه يَعتقد أيضًا أن الفلسفة يمكن أن تكون عالمية، على الرغم من أنها نسبية للثقافة في الواقع([40]).
وفقًا لدي ماسلو D. A. Masolo فقد أسهم وريدو في إضفاء لهجة إفريقية إلى الاهتمامات الفلسفية من خلال وجهة النظر القائلة بأن المعنى لا يمكن فَهْمه بمصطلحات منطقية بحتة دون القاعدة الاجتماعية الجماعية والعلائقية التي تجعل فكرة المعنى نفسها ممكنة. إن المعاني، والعقل، ضمنيًّا، موضوعية بمعنى أنها أصبحت ممكنة بيولوجيًّا، وليس بمعنى أنها موجودة ككيانات مستقلة عن الفعل التواصلي.
بخلاف ماسلو؛ يعتقد كاظم Kazeem أن هناك تناقضات وعيوبًا متأصلة في موقف وريدو. يحاول وريدو في كتاباته الأخيرة استكشاف إنهاء الاستعمار المفاهيمي كوسيلة لتأكيد الإنسانية الكاملة للشعب الإفريقي. وهو يرى في هذا الصدد العناصر الفاصلة في الحضارة والثقافة العالمية على أساس الخصوصية المفاهيمية.
وفي الوقت نفسه، يسعى إلى التأكيد على القواسم المشتركة بين الأفارقة وبقية العالم، من خلال تأكيده على المفاهيم العالمية. يزعم وايردو أن أجندته للفلسفة الإفريقية المعاصرة إنهاء الاستعمار المفاهيمي، لديها القدرة على كشف الكليات الزائفة، بحيث قد يتبين أن التناقضات المفاهيمية المفترضة مثل تلك التي بين المادية والروحية، والجوهر والصفات، ومجموعة أخرى ليست ضرورة عالمية للفكر الإنساني. كما تهدف أعماله حول إنهاء الاستعمار المفاهيمي باستخدام نظام فكر أيًّا كان كأساس له إلى تفسير الهوية الذاتية الإفريقية. ومع ذلك، عندما ينظر المرء بشكل نقدي إلى فكرة وريدو حول إنهاء الاستعمار المفاهيمي، فإنه يترك المرء في شكٍّ حول ما إذا كان إنهاء الاستعمار مُصمَّمًا للوصول إلى التفاصيل الإفريقية أم للعالمية الثقافية([41]).
يعترض باري هالين على موقف وريدو، ويرى أن الفلسفة الإفريقية لا يمكن أن تكون ممكنة إلا عندما نشرح ونفهم ونعطي معنى للمفاهيم باستخدام اللغة الإفريقية. ويصر على أنه في حين أن افتراض عالمية المعنى الذي يمكن التفاعل اللغوي بين الثقافات يمتلك فائدة واضحة لعالم لغوي ميداني يواجه الحاجة إلى ترجمة لغة غريبة، فإن الدليل الناتج إذا تمت ترجمته لا يمكن أن يمنع التحيز العرقي؛ حيث إن المترجم “من المرجح أن يُفضّل معنى لغته الأم الإنجليزية على سبيل المثال، مما يُعمّمها بشكل فعال في المقترحات، ثم يشرع في فرض المعاني الإنجليزية على اللغات الأخرى من خلال عملية الترجمة”([42]).
يبدو دحض هالين لمفاهيم وريدو العالمية معقولًا. ويثبت أن الترجمة غالبًا ما تكون مشكلة في التواصل بين الثقافات. فقد أظهر وريدو في العديد من كتاباته أن هناك مفاهيم معينة غير قابلة للترجمة عبر الثقافات. وهكذا عندما ننخرط في ترجمة مثل هذه المفاهيم من لغة إلى أخرى، فإننا نواجه تحدي التفسير والترجمة غير الدقيقة.
من وجهة نظر كاظم يمكن اعتبار استخدام اللغة الأصلية في الفلسفة الإفريقية المعاصرة أمرًا جيدًا في حد ذاته. وقد يكون أيضًا مفيدًا في تقييم مستوى الإعجاب بتعلم اللغات الإفريقية حتى من قبل غير المتحدثين باللغة. لا يسع المرء إلا أن يلاحظ العدد الكبير من علماء هايدجر الناطقين باللغة الإنجليزية الذين وجدوا أنه من المفيد تعلم قراءة اللغة الألمانية من أجل تقدير أعماق ودقة كتابات هايدجر، ومع ذلك فقد تمكنوا من جعل ذلك واضحًا للجمهور المتكلم باللغة الإنجليزية.(([43]
بناءً على ما تقدم يمثل الاتجاه المحافظ ضرورة التمسك باللغات الإفريقية حفاظًا على الهوية الثقافية للقارة الإفريقية. وعلى الرغم من وجود فلاسفة كثيرين يمثلون هذا الاتجاه نحو ضرورة استخدام اللغات الإفريقية في الكتابة والتعبير عن الفلسفة الإفريقية، إلا أن هناك اتجاه آخر يؤيد استخدام اللغات الأجنبية للتعبير عن الأفكار الفلسفية الإفريقية؛ نظرًا لانتشار تلك اللغات ووجود قاعدة جماهيرية كبيرة تمثلها.
الاتجاه التقدمي المؤيد لاستخدام اللغات الأجنبية:
يرى هذا الاتجاه وجود قصور في اللغات الإفريقية، ومِن ثَم فليس هناك ما يمنع من استخدام اللغات الأجنبية للتعبير عن أفكار الأفارقة. يعتقد نجوكو Njoku أن المشكلة تكمن بوضوح في رأي مؤيدي استخدام اللغات الإفريقية؛ ولأن اللغات الأجنبية تشوّه الهوية الثقافية والنضالات التاريخية الإفريقية؛ فإنهم يرون أننا بحاجة إلى التحرر من هيمنة اللغات الأوروبية مع استمرار التحدث باللغات الأوروبية في الحفاظ على التعليم والثقافة والفن الأوروبي في فترة الاستعمار الجديد، ومِن ثَم يدّعي البعض أن الفلسفة الإفريقية يجب أن تتم باللغة الإفريقية.
وقد حاول نجوكو الإشارة إلى أن وجود العديد من اللغات في إفريقيا بين شعب يتقاسم نفس السقف السياسي يمثل مشكلة، وأنه حتى بعض اللهجات متشابهة، مما يجعل من الصعب معرفة مكان رسم الحدود بين اللغات. ويؤكد أن عدم وجود هذه الوحدة اللغوية يتعارض مع الرغبة أو الحديث عن الوحدة الإفريقية. والسؤال الأساسي الذي يطرحه تحليله هو: بأي لغة ستكُتب الفلسفة الإفريقية؟ وخاصة في وضع مثل إفريقيا حيث يوجد العديد من اللغات([44]).
من وجهة نظر أتشيبي Achebe لا يوجد أيّ شر في استخدام اللغة المتاحة لنا للتواصل والتأمل على ثقافتنا، سواء كان ذلك أجنبية أو محلية. يؤكد أتشيبي أنه “يجب على الكاتب الإفريقي أن يهدف إلى استخدام اللغة الإنجليزية بطريقة تبرز رسالته بشكل أفضل دون تغيير اللغة بشكل كبير بحيث تفقد قيمتها كوسيلة للتبادل الدولي، ويجب أن يهدف إلى تشكيل لغة إنجليزية مناسبة تمامًا”.
إن “أتشيبي” متعاطف مع استخدام اللغات الأجنبية إلى حد أن اللغة قادرة على نقل التجربة الإفريقية الفريدة للواقع. وهذا يضع أتشيبي على النقيض من المفكرين مثل وريدو ونغوجي وا ثيونغو، ومع ذلك، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن تشينوا أتشيبي يعارض تمامًا استخدام اللغات الأصلية في التعبير عن وجهات النظر الإفريقية العالمية؛ حيث يدافع “أتشيبي” عن استخدام اللغات الأجنبية في الأدب والفلسفة الإفريقية على أسس عملية فقط. ويرى أن “السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان الأفارقة يستطيعون الكتابة باللغة الإنجليزية، ولكن ما إذا كان ينبغي لهم ذلك. هل من الصواب أن يتخلى الرجل عن لغته الأم من أجل لغة شخص آخر؟ يبدو الأمر وكأنه خيانة مروعة وينتج عنه شعور بالذنب. ولكن بالنسبة لي، ليس هناك خيار آخر، لقد أعُطيت هذه اللغة وأعتزم استخدامها. بالنسبة لأتشيبي فإن الجاذبية العالمية للغات الأجنبية تجعلها أدوات ضرورية يجب على الكاتب الإفريقي أن يتبناها لأغراض عملية([45]).
يتفق جودوين ازينابور Azenabor Godwin مع موقف أتشيبي بضرورة استخدام اللغات الأجنبية؛ إذ يرى أن مشكلة اللغة هي في الأساس مشكلة التباين اللغوي في الكلمات، خاصة عندما يتعلق الأمر بمسألة الترجمة. قد لا تكون هناك كلمة مقابلة في اللغة الإفريقية للكلمات الإنجليزية أو الفرنسية والعكس صحيح (على سبيل المثال، في معظم اللغات الإفريقية لا يوجد ضمير مثل “هي” في اللغة الإنجليزية). ولكن هناك دائمًا مفهوم لكلمة أو شيء ما في أي لغة. والفلسفة هى في الأساس صياغة المفاهيم ليست كلمات. بالإضافة إلى أن الفلسفة تتعامل مع الأفكار والتي تسبق اللغة. و”تبين التجربة أن هناك العديد من الأفكار التي ليس لدينا كلمات لها، وكذلك الكلمات التي لا تتوافق تمامًا مع أفكارنا. وفي الختام يمكن القول بأن مشكلة اللغة ليست في الحقيقة مشكلة فلسفية، بل لغوية، وظهورها هو نتيجة للدلالات والمفردات. “في تفسير اللغة، يقول بيركلي: إن اللغة بمثابة إبداع مصطنع، يجب الاحتفاظ به بشكل أساسي([46]).
كما يرى ازينابور أن الفلسفة الإفريقية ليست وحدها التي تستخدم اللغات الأجنبية للتواصل في الدراسات الإفريقية. وهناك تخصصات أخرى مثل التاريخ الإفريقي والأدب الإفريقي وما إلى ذلك، والتي لا تزال تُكتب وتُنقل باللغتين الإنجليزية والفرنسية. لماذا إذن يجب أن تكون الفلسفة مختلفة؟ لا نحتاج إلى الكتابة باللغات الإفريقية حتى نكتب فلسفة إفريقية أصيلة. ما نحتاج إليه هو التعبير عن أفكارنا بلغة مفهومة عالميًّا. علاوة على ذلك، فإن التعلم والفهم والكتابة باللغة الإفريقية ليس هو ما يهم حقًّا؛ بل ما يهم هو تبادل تجارب الشعوب الإفريقية.
لكن هذا لا يعني أن الفلسفة الإفريقية باللغة الإفريقية خاطئة، بل كل ما نقوله هو أن اللغة لا تحدد أصالة الفلسفة الإفريقية. قد يفسّر هذا سبب عدم وجود أيّ فيلسوف إفريقي يكتب بلغة إفريقية. من المفيد ملاحظة أن الفلسفة ليست إفريقية على أسس عرقية أو لغوية، ولكن ما يجعل الفلسفة إفريقية هو تقاليد الفلسفة التجربة الثقافية الإفريقية، التاريخ والتقاليد، مع أسس في علم الوجود الشمولي، الذي هو أكثر من التعايش مع الطبيعة، بدلاً من الغزو، وأكثر من الجماعية، بدلاً من الفردية، وأكثر من الشمولية بدلاً من الأحادية، وأكثر من التوليف بدلاً من التحليل. السمة الأخرى للفلسفة الإفريقية التي تميزها عن الفلسفة الغربية هي استخلاصها من الماضي التقليدي الإفريقي. وهذا الرسم من المصدر التقليدي للفلسفة الإفريقية هو الفرق الثاني بين الفلسفة الإفريقية وأي فلسفة أخرى([47]).
ووفقًا لإزينابور لا يوجد مانع من استخدام اللغات الأجنبية طالما تؤدي هدف توصيل الفكرة بصورة صحيحة، كما لا يوجد مانع من استخدام اللغات الإفريقية للتعبير عن الفلسفة الإفريقية. موضحًا أن الفلسفة الإفريقية لها ما يُميِّزها عن غيرها من فلسفات أخرى كونها تنبع من أصالة الثقافات الإفريقية التقليدية.
يتبنى الفيلسوف النيجيري إنوسنت أسوزو Innocent Asouzu أيضًا وجهة نظر مماثلة، وفرضيته هي أن الدعوة إلى كتابة الفلسفة الإفريقية باللغات الإفريقية الأصلية من شأنها أن تُقوِّض نمو الفلسفة الإفريقية وتقدمها. ووفقًا له، “كل الذين يشاركون في عملية الاتصال يتركون دائمًا شيئًا غير منقول، ويكون لديهم دائمًا شيء يتعلمونه من بعضهم البعض. بالنسبة له، “في جميع المواقف التي تتعلق بالبشر، لا يوجد معنى كامل، ويمكن قول الشيء نفسه عن المعنى المقصود، ويرى أيضًا أن المعنى لا يصبح أكثر وضوحًا لأنه تمت ترجمته بلغة أجنبية أو لغة أصلية وأن التفكير الفلسفي يتجاوز اللغة نفسها. ويؤكد أنه من أجل توصيل المعاني الفلسفية بشكل فعال، يجب النظر إلى الأفكار الفلسفية على أنها حلقات مفقودة واعتبارها مكملة للأفكار الموجودة في التقاليد اللغوية الأخرى. ولأن أوسوزو يتبنى النهج التكميلي يعتقد أن الجمع بين اللغات يوضح الحلقة المفقودة([48]).
كما يتبنى ماكيندي Makinde وجهة نظر مماثلة أيضًا، في حين أنه يتفق مع وجهة نظر فيتجنشتاين القائلة بأن الحد الأقصى للغة الناس هو الحد الأقصى لعالمهم، فإنه يشارك أيضًا الموقف القائل بأن اللغة لها تأثير مهم على فهم الناس للثقافة والواقع وفي النهاية الفلسفة. إن معرفة اللغة تستحث الواقع بطريقة تشبه إلى حد كبير الثقافة التي هي لغتها. في الواقع، بالنسبة لماكيندي، فإن أفضل طريقة لنشر فلسفة الشعب وثقافته هي من خلال لغتهم.
لكن في السياق الإفريقي، يرى ماكيندي أن هناك نقصًا في اللغة المتطورة القادرة على إيصال الأفكار العلمية وسعة الاطلاع الفلسفية. في كلماته “في الوقت الحاضر، لا تعتبر أيّ لغة إفريقية مُرضية بما يكفي لاعتمادها كلغة قارية، وغنية بما يكفي للفلسفة التحليلية والعلوم. لقد نجحت معظم دول العالم المتقدمة في نشر أفكارها وثقافاتها، خاصة عن طريق فلسفتها وعلمها ودينها، إلى أجزاء أخرى من العالم من خلال لغتها المتطورة… وقد أدَّى فقر اللغات الإفريقية إلى فقر الأفكار العلمية والمساهمات الهادفة في تطوير الفلسفة والعلوم والتكنولوجي”([49]).
في الحقيقية هناك علاقة قياسية بين الفكر والتواصل والمجتمع؛ فبدون التواصل يكون المجتمع مستحيلاً، وبدون الفكر يكون التواصل مستحيلاً. وبدون بعض القواعد المشتركة للحديث يكون التواصل مستحيلًا، لذلك، بدون بعض المعايير الفكرية المشتركة يكون المجتمع البشري مستحيلًا. إذا كان الهدف الأساسي هو التواصل ومشاركة المعاني أو الدلالات، فيجب أن تكون المعاني أو الدلالات متاحة بشكل موضوعي لجميع الأشخاص الذين ينخرطون في تلك الممارسة الإنسانية الأساسية والمحددة. إن المعاني تتجاوز محدودية مرجعياتها أو أشكال تعبيراتها اللغوية المحددة ثقافيًّا. فهي موضوعية، وبالتالي يمكن لأي شخص من خلال التواصل الوصول إليها([50]).
ونظرًا للعلاقة الجوهرية بين اللغة والفكر والواقع، غالبًا ما يفُترض أنه عندما يستخدم المرء لغة معينة، وخاصة اللغات الاستعمارية، فإنه سيتبنَّى بالضرورة الأفكار والمثل الاستعمارية. وهذا ما تؤكده مقولة فيتجنشتاين بأن “حدود لغتك هي حدود عالمك”. ومع ذلك، فقد أظهرت التجربة أنه يمكن إجراء تشعب واضح بين اللغة الاستعمارية والأفكار الاستعمارية.
وبعبارة أخرى، يمكن للمرء استخدام اللغات الاستعمارية، على سبيل المثال، اللغة الإنجليزية، دون الحاجة إلى قبول المُثُل والأفكار الإمبريالية التي قد تُجسِّدها اللغة. ويتجسد هذا في الانتقادات المختلفة للمُثُل الاستعمارية من قبل الفلاسفة الأفارقة حتى عندما يتحدثون (الفلاسفة الأفارقة) أو يكتبون باللغة الإنجليزية.
وهناك اعتبار آخر، غالبًا ما يتجاهله المحافظون أو لا يعترفون به بشكلٍ كافٍ، وهو أن ما يسمى باللغات الاستعمارية قد ساهمت في المناقشات الفلسفية القوية التي تميز الفلسفة الإفريقية الآن. وذلك لأن هناك الآن لغة مشتركة يمكن للدول الإفريقية استخدامها للتواصل. على هذا النحو، يستطيع النيجيري، على سبيل المثال، فهم مفهوم “الأكان” للحقيقة والأخلاق؛ لأنه تم تقديمه بلغة في متناوله([51]).
إن مسألة اللغة ستظل قائمة طالما بقيت اللغات الإفريقية متخلّفة ولا تحظى بالتقدير. وهذا لا يعني أن كل عالم يحمل وجهة نظر تقدمية يعارض تمامًا استخدام اللغات الإفريقية في الفلسفة الإفريقية. على الرغم من أن النقطة المركزية التي تم استخدامها لدعم الحجج ضد استخدام اللغات الإفريقية في الفلسفة الإفريقية هي أن اللغات الإفريقية لها جمهور محدود. وعلى الرغم من أن هذا صحيح في كثير من الأحيان؛ لأن بعض الأفارقة لا يستطيعون التحدث أو الكتابة أو حتى القراءة بلغتهم الأم، إلا أن أصالة الفلسفة لا تتحدد بحجم جمهورها. ويجب أن ننتقل الآن نحو البحث عن حلول ممكنة لهذا المأزق الفلسفي على ما يبدو([52]).
بناء على ما سبق، يبدو أن الاتجاه التقدمي يسير في طريق الانفتاح على اللغات الأجنبية، ومِن ثَم الانفتاح على الثقافات الأخرى. يرى أنصار هذا الاتجاه في اللغات الأوروبية الأكثر انتشارًا وسيلة جيدة للتعبير عن الأفكار الإفريقية، كما أنها وسيلة للانتشار؛ نظرًا لسعة الرقعة البشرية المستخدمة لتلك اللغات.
ومن جانب آخر، يرى أنصار هذا الاتجاه وجود قصور في اللغات الإفريقية مما يجعلها تعاني من صعوبة الانتشار عالميًّا، وذلك بخلاف العدد الكبير من اللغات المحلية الإفريقية.
في الحقيقة إن إشكالية اللغة إشكالية هُويَّة من الدرجة الأولى؛ حيث تَكمن هُوية القوم في لغتهم، إذن فالحفاظ على اللغات المحلية هو حفاظ على الهوية الثقافية للشعوب، ومِن ثَم فإن التفريط والتقليل من شأن اللغات الأصلية للشعوب ما هو إلا تنازل صريح عن الهوية الثقافية لتلك الشعوب. ربما توجد مشكلات كثيرة بخصوص اللغات الإفريقية، لكن على الفلاسفة والمفكرين الأفارقة العمل على حلّها مع ضرورة الحفاظ على الهوية من جانب وعدم اتخاذ موقف متعصب تجاه اللغات الأجنبية وقطيعة معرفية من جانب آخر.
خاتمة:
تُعدّ إشكالية اللغة في الفلسفة الإفريقية إحدى القضايا الأساسية التي تربط بين الفلسفة، والهوية الثقافية، والذاكرة التاريخية. فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل في الفلسفة، بل هي حامل للثقافة والمعرفة، ووسيلة تعبير عن الرؤى والتصورات التي تُشكّل وعي الإنسان بالمحيط الذي يعيش فيه.
هذه الإشكالية تعود إلى تأثير الاستعمار الأوروبي على إفريقيا؛ حيث فرضت القوى الاستعمارية لغاتها (كالإنجليزية والفرنسية والبرتغالية) على المجتمعات الإفريقية، مما أدى إلى تهميش اللغات المحلية، وتشويه العلاقة بين الفكر الفلسفي الإفريقي وأصوله الثقافية.
بالنسبة للفلسفة الإفريقية، تتداخل إشكالية اللغة مع الصراع من أجل الحفاظ على الهوية الإفريقية في ظل الهيمنة اللغوية الأوروبية. فالفلاسفة الأفارقة المعاصرون يواجهون تحدي التفكير في كيفية التعبير عن مفاهيمهم وقضاياهم الخاصة باستخدام لغات غير أصلية؛ حيث يخشون أن يؤدي ذلك إلى فقدان الروح الإفريقية في فلسفتهم. لذلك تُمثّل إشكالية اللغة تحديًا مستمرًّا في سياق سعي الفلاسفة الأفارقة للحفاظ على أصالة أفكارهم ومفاهيمهم في مواجهة تأثيرات الاستعمار اللغوي.
وتُظهر نتائج الدراسة أن هناك تباينًا في الآراء بين الفلاسفة الأفارقة حول استخدام اللغات الأوروبية أو الأصلية، مما يعكس الصراع بين الانفتاح على الفلسفة العالمية والحفاظ على الهوية الثقافية. بينما يرى بعض الفلاسفة في اللغات الأوروبية أداة للتواصل مع الفكر العالمي وتوسيع نطاق الحوار الفلسفي، يؤكد آخرون على ضرورة استعادة اللغة الإفريقية كوسيلة لتحرير الفكر الفلسفي الإفريقي واستعادته لأصالته.
في الختام، يجب على الفلاسفة الأفارقة مواصلة الجهود نحو تطوير فلسفة تعكس تجاربهم الثقافية بلغةٍ تُعبِّر عن هويتهم بصدقٍ. ويجب أن تكون هذه الفلسفة قادرة على التفاعل مع الفكر العالمي دون أن تفقد جوهرها الثقافي. وإن إعادة تأهيل اللغات الإفريقية وتفعيلها في المجال الفلسفي يمثل خطوة حيوية نحو تحقيق هذا الهدف. كما أن تعزيز الحوار بين الفلسفات المختلفة والتأكيد على القيمة الفريدة للفلسفة الإفريقية في السياق العالمي يمكن أن يُسهم في إثراء الفكر الفلسفي بشكل عام، وتعزيز فهم أعمق للتنوع الثقافي والفكري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لائحة المصادر والمراجع
[1] – Azenabor, Godwin. (2000). The Idea of African Philosophy in African Language. Indian Philosophical Quarterly XXVII No 3. P. 231.
[2] – Ameh, A. S. & Ikechukwu, M. R. (2021). African Philosophy and The Problem of language. OWIJOPPA VOL. 5, NO. 1. P. 129.
([3])- Mbembe, Achille. (2011). Fragile Freedom (Experiences of Freedom in postcolonial literatures and cultures). Routledge Taylor& Francis Group, London and New York, first published. P. 20.
[4] – Mazrui, Ali A. & Ajaya, J.F. Ade. (1993). (TREND IN PHILOSOPHY AND SCIENCE IN AFRICA) General History of Africa. Africa since 1935, Heinemann. California, first published, VIII. P. 340: 343.
[5] – Eke, H. A. (2018). The Problem of Language in African Philosophy: an enigma. Vol.2. No. 1. P. 16. https://journals.aphriapub.com/index.php/TMP/article/view/13
[6] – Azenabor, Godwin. (2000). The Idea of African Philosophy in African Language. Indian Philosophical Quarterly XXVII No 3. P. 224.
[7] – Eke, H. A. (2018). The Problem of Language in African Philosophy: an enigma. P. 17.
[8] – Eke, H. A. (2018). The Problem of Language in African Philosophy: an enigma. P.18, 19.
[9] – Kazeem, Fayemi, Ademola. (2013). The problem of language in contemporary African philosophy: some comments. Inkanyiso Journal of Humanity and Social Sciences, vol. 5. no. 1. P. 2.
[10] -. Eyo, Emmanuel Bassey& Ibanga, Diana-Abasi. (2018). African Indigenous Languages and the Advancement of African Philosophy. P. 210.
[11] – Ameh, A. S. & Ikechukwu, M. R. (2021). African Philosophy and The Problem of language. P. 134.
[12] -Ibid. P. 128.
[13]– Yai, Olabiyi. (19770). “Theory end Pratice in African Philosophy”. Vol. VI No.2. p.13
[14]– Charles Uroh, Charles. (1994). “Colonialism and the Language Question – A Reply of Godfrey Tangwa” in Quest Philosophical Diceuccions. Vol. VIII, No.2. p.138.
[15] – Eke, H. A. (2018). The Problem of Language in African Philosophy: an enigma. Vol.2. No. 1. P. 15. P.22. https://journals.aphriapub.com/index.php/TMP/article/view/13
[16] – Rettová, Alena. (2002). The role of African languages in African philosophy. P. 129. https://www.cairn.info/revue-rue-descartes
[17] – Rettová, Alena. (2002). The role of African languages in African philosophy. P. 131.
[18] – Ibid P. 132.
[19] – Ameh, A. S. & Ikechukwu, M. R. (2021). African Philosophy and The Problem of language. P. 135.
[20] – Eyo, Emmanuel Bassey& Ibanga, Diana-Abasi. (2018). African Indigenous Languages and the Advancement of African Philosophy. Africology: The Journal of Pan African Studies, vol.12, no.5. p. 209.
[21] – Theophilus, Ocheja& Polo, E. P. (2023). An Evaluation of the Problem of Language in African Philosophy. International Journal of Social Sciences and Humanities. Volume 10, Issue 10. P. 138.
[22] – Eke, H. A. (2018). The Problem of Language in African Philosophy: an enigma. P. 23.
[23] – مبيتي، جون. (2023). الأديان الإفريقية والفلسفة. ترجمة: طه، إيناس. القاهرة: المركز القومي للترجمة. ص 36.
[24] – Kanu, Ikechukwu Anthony. (2021). African Philosophy and the problem of Language. Jos Journal of Religion and Philosophy (JJRP). Vol. 3. No. 1. P. 21, 23.
[25]– Ogunmodede, Francis. (1995). “Of History and Historiogrphy in African Philosophy”. the International Conference on African Philosophy held at the Scminmy of SS Peter and Paul, Bodija, Ibadan, 27th-31st March.
[26] – Wiredu. Kwasi. (1980). Philosophy and An African Culture. London: Cambridge University Press. p.34
([27])- Mbembe, Achille. (2011). Fragile Freedom (Experiences of Freedom in postcolonial literatures and cultures). P. 20.
[28] – Maruma, Phemelo Olifile. (2018). Mbeki on African Renaissance: A Vehicle for Africa Development, African Renaissance, vol. 15, no.4. p. 180, 181.
[29] – Asante, Molefi K. (2018). Meeting Cheikh Anta Diop on the road to Africa. International journal of African Renaissance Studies. vol 13. No. 1. p 9:10.
[30] – Ankomah, Baffour. (2020). The African fact Book. Published by the book of African records, first published. P. 6.
[31] – Thiong’o, N. W. (1986). Decolonizing the mind: the politics of language in African Literature. London: James Currey and Heinemann. P. 22.
[32] – Ibid. P. 9, 13, 14.
[33]– D. A. Masolo. D. A. (1994). Afriean philosophy in Search Identity. Bloomington: Indiana University Press. P. 139.
[34] – Eyo, Emmanuel Bassey& Ibanga, Diana Abasi. (2018). African Indigenous Languages and the Advancement of African Philosophy. P. 213, 214.
[35] – Fayemi, A. K. (2013). The Problem of Language in contemporary African Philosophy: Some Comments. P.5.
[36] – Wiredu, K. (1995). Conceptual decolonization in African Philosophies – Essays. Ibadan: Hope Publications. P.22.
[37] – Fayemi, A. K. (2010). Cultural Universals and Particulars in the Philosophy of Kwasi Wiredu: Some Comments. Thought and Practice: A Journal of the Philosophical Association of Kenya (PAK) New Series, Vol.2 No.2. p. 23.
[38] – Ibid. P. 23, 24, 44.
[39] – Ibid. P. 26.
[40] – Ibid. P. 29.
[41] – Ibid. P. 29, 31.
[42] – Ibid. P. 34.
[43] – Fayemi, A. K. (2013). The Problem of Language in contemporary African Philosophy: Some Comments. Inkanyiso Journal of Humanity and Social Sciences, vol. 5. no. 1. P. 10.
[44] – Eke, H. A. (2018). The Problem of Language in African Philosophy: an enigma. P. 26.
[45] – Achebe, A. (1975). The African writer and the English Language. Morning yet on creation day. New York: Anchor Press. P. 83, 84.
[46] – Azenabor, Godwin. (2000). The Idea of African Philosophy in African Language p. 225.
[47] – Ibid. p. 226.
[48] – Asouzu, I.I. (2007). Ibuaru: The Heavy Burden of Philosophy Beyond African Philosophy. Zurich: LIT VERLAG GmbH & Co. KG Wien. P. 182.
[49] – Kazeem, Fayemi, Ademola. (2013). The problem of language in contemporary African philosophy: some comments. P. 8.
[50] – Fayemi, A. K. (2010). Cultural Universals and Particulars in the Philosophy of Kwasi Wiredu: Some Comments. P. 26.
[51] – Theophilus, Ocheja& Polo, E. P. (2023). An Evaluation of the Problem of Language in African Philosophy. P. 144.
[52] – Ibid. p. 145.