د. رضوى زكريا رضوان
باحثة متخصصة في الشؤون الإفريقية
تعود أصول المسؤولية المجتمعية للشركات إلى تطوُّر المشاريع التجارية الحديثة عندما بدأت أوروبا عملية التحوُّل إلى التصنيع في القرن التاسع عشر. وما يُعرَف الآن بالمسؤولية المجتمعية للشركات يشمل الجهود المبذولة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين لتحسين ظروف العمل في منشآت صناعية محددة، ويشمل أيضًا الأنشطة الخيرية، مثل تمويل الأشغال العامة، وبناء ودعم المرافق المدرسية والصحية، ورعاية الفعاليات الثقافية المهمة، ومكافأة أصحاب الابتكارات العلمية (على سبيل المثال: من خلال جائزة نوبل). وتتضمن المسؤولية المجتمعية للشركات مجموعة واسعة من المبادرات، بما في ذلك: إنشاء البنية الأساسية الاجتماعية والمادية، ودعم أنشطة التدريب، وتعزيز برامج تطوير الموردين المحليين([1]).
ويعتبر قطاع التعدين قطاعًا حيويًّا للنمو الاقتصادي والتنمية، وأيضًا لدعم أنظمة العدالة الاجتماعية في إفريقيا؛ حيث توظّف صناعة التعدين في إفريقيا أعدادًا كبيرة من العمال المباشرين وغير المباشرين في المجتمعات المحيطة. كما تتطلب عمليات التعدين عددًا كبيرًا من الخبراء، مثل الجيولوجيين والميكانيكيين والكيميائيين وعمال المختبرات، والمدافعين عن البيئة، والمهندسين وعلماء المعادن والاقتصاديين، ومحللي السياسات، والبحوث، والمحاسبين. هؤلاء الأشخاص مسؤولون عن جميع جوانب تطوير التعدين، وإدارته، وتسويقه، واستخدامه. كما تشمل الوظائف غير المهنية: المساعدة المكتبية، والأمن، والقيادة، والتنظيف. وتشمل مهامّ سلسلة التسليم: توفير المكاتب والملابس وتوصيل الطعام والوقود، وقطع الغيار وصيانة المعدات، وغيرها.
جدير بالذكر أن 1٪ فقط من القوى العاملة في إفريقيا تعمل في صناعات المعادن والنفط والغاز. ومن المتوقع أن يُولّد التعدين الحِرَفِيّ أكثر من 8 ملايين وظيفة مباشرة، مما يدعم أكثر من 45 مليون شخص في جميع أنحاء القارة. كما تتصدر جنوب إفريقيا قطاع التعدين؛ من خلال توظيف ما يقرب من 293,650 شخصًا بشكل مباشر.([2])
وتوجد معايير دولية قوية داخل صناعة التعدين والمجتمع الدولي، وبصورة أعمّ فيما يتصل بالتنمية المستدامة، والمساءلة في كيفية استخدام الشركات والدول لعائدات الموارد، وكيف ينبغي للشركات أن تتصرّف تجاه المجتمعات المحلية أثناء التعدين. وقد تطوَّرت هذه المعايير وتعزَّزت على مرّ السنين منذ إعلان “ريو” بشأن البيئة والتنمية في عام 1992م، والذي قدَّم مفهوم التنمية المستدامة، ونص على أن الدول لها الحق السيادي في استغلال مواردها الخاصة لأغراض التنمية. وبعد عشر سنوات، اعترفت القمة العالمية للتنمية المستدامة في جوهانسبرغ في عام 2002م بمساهمة التعدين في التنمية المستدامة، وأكدت على دور المجتمعات المحلية في تنمية التعدين.
إن تبنّي متطلبات التنمية المجتمعية في قوانين التعدين يُمثّل خطوة نحو معايير تنظيمية أعلى؛ لأنها تتجاوز مجرد التخفيف من الآثار السلبية للتعدين على المناطق المحلية (من خلال -على سبيل المثال- تدابير التعويض والقوانين البيئية)، وتفرض عبئًا أكبر على الشركات والدول لتوفير السلع والخدمات العامة. وينطبق هذا بشكل خاص على الشركات؛ حيث تُلْزِم هذه المتطلبات الجديدة الشركات بإبرام اتفاقيات رسمية مُلْزِمة قانونًا مع المجتمعات المحلية، والمعروفة أيضًا باسم اتفاقيات التنمية المجتمعية.([3])
تعريف المسؤولية المجتمعية للشركات:
لا يوجد تعريف واحد يمكن أن يكون قادرًا على تقديم فكرة المسؤولية الاجتماعية للشركات بالكامل. ومع ذلك، فإن أحد أكثر التعريفات استخدامًا هو التعريف العام الذي اقترحته المفوضية الأوروبية: “مسؤولية الشركات عن تأثيرها على المجتمع”. والمعنى الواسع لهذا التعريف هو قوته؛ فهو يُغطِّي جميع جوانب المسؤولية. ولا يشير التأثير على المجتمع إلى التأثير الاجتماعي فحسب، بل يشير أيضًا إلى التأثير البيئي والاقتصادي. وعلى الرغم من أن مفهوم تحمُّل الشركات لمسؤوليات غير اقتصادية غالبًا ما يُنتقَد؛ إلا أنه يستمر في التطور سواء من الناحية النظرية أو العملية([4]).
ومن المنظور العالمي، فقد قام مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة World Business Council for Sustainable Development (WBCSD) بمراجعة تعريفه للمسؤولية المجتمعية للشركات بمرور الوقت. في البداية، تمَّت الإشارة إلى المسؤولية المجتمعية للشركات على أنها “الالتزام المستمر من جانب الشركات بالتصرف بشكل أخلاقي، والمساهمة في التنمية الاقتصادية مع تحسين نوعية حياة القوى العاملة وأسرهم، وكذلك المجتمع المحلي والمجتمع ككل”. وفي وقتٍ لاحق، غيَّر مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة هذا التعريف إلى “التزام الشركات بالمساهمة في التنمية الاقتصادية المستدامة، والعمل مع الموظفين وأُسَرهم والمجتمع المحلي والمجتمع ككل لتحسين نوعية حياتهم”([5]).
وتعتبر المسؤولية المجتمعية للشركات عملية تجارية تتبنَّاها الشركة من أجل خلق قيمة اقتصادية واجتماعية وبيئية مضافة للمجتمع، ولتقليل الآثار السلبية المحتملة من أنشطة الشركات. وتشمل المسؤولية المجتمعية للشركات: التفاعلات مع المجتمعات والموردين، والموظفين، والمستهلكين، والحكومة. ونلاحظ أن هناك اهتمامًا متزايدًا بالمسؤولية المجتمعية للشركات في جميع أنحاء العالم؛ نظرًا للقلق بشأن العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة اجتماعيًّا وبيئيًّا؛ حيث إنه لم يَعُد بإمكان الصناعة اليوم أن تعمل دون مراعاة احتياجات ومصالح المجتمع ككل([6]). ويتعين على قطاع الأعمال والمجتمعات المحلية والحكومة تنفيذ برامج المسؤولية المجتمعية للشركات المصممة جيدًا والمدروسة، والتي ستكون فعّالة في تقديم قيمة فورية وتحويل حياة غالبية الناس في المجتمعات الريفية، كما يتضح بالفعل من برامج المسؤولية المجتمعية للشركات التي تُنفّذها بعض المناجم الكبرى([7]).
وعلى الرغم من التنفيذ واسع النطاق لبرامج التنمية المجتمعية التطوعية من جانب شركات التعدين؛ فإن الدول الغنية بالموارد في مختلف أنحاء العالم تتَّجه بشكلٍ متزايد إلى فرض قوانين صارمة لإجبار شركات التعدين، وفي بعض الحالات الحكومة نفسها، على تنفيذ مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات المتضررة من التعدين. ومنذ منتصف الثمانينيات، كانت الدول تُمرّر قوانين تعدين جديدة، أو تُعدِّل القوانين القائمة، لإلزام الشركات والحكومات بنتائج اجتماعية واقتصادية إيجابية للمجتمعات المحلية المتضررة من عمليات التعدين. ومع ذلك، فقد تجاهل العلماء الذين يدرسون إدارة الموارد الطبيعية، والمسؤولية الاجتماعية للشركات، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية هذا الاتجاه التصاعدي إلى حد كبير([8]).
وتجدر الإشارة إلى أنه منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، اعتمدت 32 دولة من أصل 124 دولة بها قطاعات تعدين، قوانين تعدين جديدة، أو عدّلت قوانين التعدين القائمة، في حين تعمل تسع دول على تغيير قوانين التعدين الخاصة بها.
وتفرض هذه القوانين على الشركات والحكومات الوطنية تنفيذ مشاريع التنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمعات التي تقع بالقرب من مناطق التعدين. وتشمل هذه المشاريع: البنية الأساسية، وتوفير الخدمات الاجتماعية، فضلًا عن إنشاء صناديق ائتمانية لهذه الأغراض. كما تمثل هذه القوانين تقدُّمًا مهمًّا للمجتمعات المحلية المتضررة من التعدين، والتي غالبًا ما تكون الأكثر تضررًا من التأثيرات الخارجية السلبية للتعدين، بما في ذلك تدمير سُبُل العيش عندما تُستخدم الأراضي ومصادر المياه للتعدين؛ من خلال مخلفات التلوث، وتدفُّق العمال المهاجرين بصورة غير مشروعة.
إن التنمية المجتمعية في قوانين التعدين تمثل مسارًا مؤسسيًّا جديدًا لمحاولة التغلب على ما يسمى بلعنة الموارد؛ أي: التخفيف من النتائج السلبية الموثقة جيدًا لثروة الموارد من خلال تحسين إدارة الموارد الطبيعية، وتحويل اللعنة إلى نعمة. كما تستهدف هذه القوانين توزيع عائدات الموارد والفوائد على المستوى الوطني، وتفرض توفير السلع والخدمات العامة التي يمكن أن تُعزّز النمو الاقتصادي وتُحسِّن الرفاهة الفردية والجماعية([9]).
أمثلة على أنواع المسؤولية المجتمعية للشركات:
تميل صناعة التعدين إلى استخدام مصطلح “التنمية المجتمعية” لوصف الأنشطة التي يتم تنفيذها بشكل مباشر أو غير مباشر مع المجتمعات المحلية في المناطق الجغرافية القريبة من العمليات، والتي تهدف إلى تحقيق نتائج اقتصادية وبيئية واجتماعية إيجابية للمجتمعات التي تقع فيها العمليات. وتستخدم بعض الشركات أيضًا مصطلحات مثل “البرامج المجتمعية”، و”الدعم المجتمعي”. ويختلف نطاق النشاط من موقع إلى آخر، فإن الأنشطة المُدْرَجَة تحت مصطلح التنمية المجتمعية تميل إلى تضمين التوظيف المحلي (المباشر أو غير المباشر من خلال توريد السلع والخدمات)، والتدريب وتنمية المهارات، وتوفير البنية الأساسية (مثل الطرق ومرافق المياه والصرف الصحي)، وتقديم الخدمات (مثل الصحة والتعليم)، وتطوع الموظفين، والتبرعات، فضلًا عن الفرص غير المرتبطة بالتعدين، مثل برامج بناء القدرات. ويُصنّف بعض العلماء مثل هذه الأنشطة على أنها مشاركة مجتمعية للشركات أو استثمار مجتمعي.([10])
وعلى الرغم من القضايا المذكورة أعلاه؛ فقد أسهم قطاع التعدين في النمو الاجتماعي والاقتصادي للدول الإفريقية؛ حيث يساعد التعدين في التنمية الاقتصادية من خلال تعزيز الصناعات الأخرى، وكسب العملة الأجنبية، وخلق فرص العمل، وتوليد رأس المال، وتطوير البلدات والمدن الكبرى، وزيادة العلاقات الدولية، وتنويع الاقتصاد، وتحفيز نشاط البناء، وتوفير الطاقة. ويتم تحقيق ذلك لأن التعدين يُوفِّر مصادر مهمة للمواد الخام للصناعة، وبالتالي دعم البناء والابتكار، وحتى إنتاج الغذاء.([11])
كما تُسهم شركات التعدين في التخفيف من حدة الفقر؛ من خلال زيادة الدخل، وخلق آفاق النمو، وكذلك من خلال الاستثمارات التي تُمكِّن من تحسين الخدمات الاجتماعية، وتحفيز التحسينات في البنية التحتية المادية. كما يوفّر التعدين للحكومات الإفريقية النقد الأجنبي، ويمكن استخدام صافي النقد الأجنبي والضرائب المُدارة جيدًا في التعدين لتوسيع الاقتصاد الوطني وتمويل مشاريع، ودعم برامج الحد من الفقر.
كما يوفّر التعدين حوافز مالية لنمو الاقتصادات المحلية، من خلال توفير التدريب والخدمات الاجتماعية والمرافق العامة؛ مثل: المياه النظيفة، والنقل والطاقة، والبنية الأساسية. وتُعدّ ناميبيا وجنوب إفريقيا وغانا وبوتسوانا من الأمثلة على البلدان التي سيطرت بشكلٍ فعَّال على ضرائب النقد الأجنبي والتعدين واستغلتها لتعزيز النمو الاجتماعي والاقتصادي([12]).
كما يمكن للتعدين أيضًا أن يُسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في أنظمة الرعاية الصحية؛ حيث تُسهم صناعة التعدين ماليًّا في تطوير البنية التحتية للمستشفيات والمواد الصحية. على سبيل المثال، قامت شركة Bulyanhulu وGeita Gold Mines Limited في منطقتي Kahama وGeita في تنزانيا ببناء بنى تحتية مثل الطرق والمرافق الصحية للسكان المحليين في المناطق المجاورة. وعلاوة على ذلك، توظف شركات التعدين الأشخاص الذين لديهم إمكانية الوصول إلى الموارد المالية التي تسمح لهم بالحصول على الرعاية الصحية بسهولة. ويتمتع آخرون بتأمين صحي، مما يسمح لهم بتلقّي العلاج الطبي الجيد والاستشفاء عندما لا تتوفر المصادر المالية. كما يُوفّر التعدين المعادن مثل الحصى والرمل والجصّ والحجر الجيري، والتي تُستخدم في تطوير البنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والعيادات والمرافق الصحية.
كما يمكن لشركات التعدين أن تلعب دورًا مهمًّا في الحدّ من انتقال الأمراض بين موظفيها من خلال اتباع متطلبات الصحة والسلامة المهنية، وتحسين ظروف المعيشة، وتوفير الخدمات الصحية الكافية، والاستثمار في التدابير الوقائية. ومع ذلك، لا تزال هناك مشكلة أساسية في مراقبة الامتثال للمعايير الوطنية وإنفاذها، مما يؤدي إلى ارتفاع معدل الإصابة بالمرض؛ وذلك لأن تلوث الهواء والضوضاء والمياه المرتبط بالتعدين يمكن أن يُعرِّض صحة المواطنين للخطر.([13])
أما في مجال التعليم، فتقدم شركات التعدين برامج التدريب والتلمذة المهنية والمِنَح الدراسية والمساعدة المهنية والاستشارات، وكلها برامج تعمل على تحسين التعليم في البلاد. فعلى سبيل المثال، تدعم صناعة التعدين في زيمبابوي البرامج التعليمية في المجتمعات الريفية. وبسبب مساهمة قطاع التعدين في التنمية الاقتصادية، أنشأ دستور جمهورية الكونغو الديمقراطية الحق في التعليم المجاني في عام 2010م، وهي السياسة التي لا تزال سارية حتى اليوم. علاوة على ذلك، أطلقت شركات التعدين في غانا عددًا قليلًا من المشاريع، مثل بناء مدارس جديدة في مواقع إعادة التوطين الجديدة حيث تجري أنشطة التعدين.
كما تقدم شركات التعدين الأخرى مِنَحًا دراسية للمجتمعات المحلية في المدن القريبة. فعلى سبيل المثال، في عام 2012م، تبرعت شركة African Barrick Gold في تنزانيا بأكثر من 1.5 مليون دولار أمريكي في شكل سكن مجاني ورسوم دراسية ومعدات وإسكان للطلاب في المدارس المجاورة. كما أقامت جامعة Sokoine للزراعة شراكة مع الصناعة لتطوير دورات جديدة في التعدين والبيئة. وعلاوة على ذلك، تمنح شركة Anglo American Platinum Limited سنويًّا مِنَحًا دراسية للطلاب المقيمين في المجتمعات المضيفة ومناطق نفوذ الشركة لمواصلة التعليم بعد الثانوي في جنوب إفريقيا. وتُخصّص شركات التعدين الأخرى موارد مالية لتدريب الأفراد المؤهلين للقيام بمشاريع البحث والتطوير والابتكار في مؤسساتهم. فعلى سبيل المثال، نفذت شركة Geita Gold Mining Limited عددًا من المبادرات لتطوير موظفيها على جميع المستويات، من مستوى الدخول والخريجين إلى المديرين المتوسطين والمديرين التنفيذيين، فضلًا عن تعزيز التخطيط للخلافة لوضع المزيد من التنزانيين في مناصب قيادية والحد من الاعتماد على الخبرة الأجنبية. وتم تقديم التدريب الداخلي لحوالي 116 طالبًا من مختلف المؤسسات الأكاديمية العليا بين عامي 2020 و2023م. كما تمتلك الشركة نظام تدريب وتطوير قويًّا يُغطّي جميع جوانب عملياتها ووظائفها، بما في ذلك المهارات الفنية ومعايير السلامة والإدارة البيئية، ومراقبة الجودة، والامتثال، والأخلاق. من خلال المِنَح الدراسية وإجازة الدراسة، وتعويض الرسوم الدراسية، وتساعد الشركة أيضًا موظفيها على تعزيز تعليمهم ونموهم المهني.([14])
ولقد أسهمت شركات التعدين في توفير المياه في المناطق الإفريقية المجاورة. وبالمقارنة ببقية إفريقيا، حيث أسهمت معظم شركات التعدين في جنوب إفريقيا في تطوير خدمات المياه. وعلى سبيل المثال، تدعم بعض أكبر شركات التعدين في العالم مثل شركة جلينكور وشركة أنجلو أمريكان بلاتينوم المحدودة مشروع مياه بقيمة 1.5 مليار دولار أمريكي مع حكومة جنوب إفريقيا لتزويد عمليات البلاتين والكروم الرئيسية ومئات الآلاف من الأشخاص بمياه الشرب.
وعلى نحو مماثل، أشاد منتدى قيادة مناجم كيب الشمالية التابع لمجلس المعادن بإكمال المرحلة الأولى من مشروع ترقية مخطط إمداد المياه في فال جاماجارا؛ لضمان توفر المياه للمدن والعمال والمزارع والشركات الأخرى في المقاطعة. وعلاوة على ذلك، وكجزء من برنامج التنمية المجتمعية، دعّمت شركة كاهاما للتعدين المحدودة بناء نظام للمياه والصرف الصحي في القرى المحيطة ببوجاراما وإيلوغي في منطقة شينيانجا، في تنزانيا.
وعلى الرغم من ذلك نجد أن أنشطة التعدين قد أسهمت بشكل كبير في الضرر البيئي، وخاصةً في تلوث المياه؛ حيث يؤثر التعدين على جودة المياه السطحية والجوفية بسبب تصريف المناجم الحمضي، وتلوث المعادن الثقيلة والتسرب، والتلوث الناجم عن المواد الكيميائية المستخدمة في المعالجة، والتآكل والترسيب. ويُعدّ منع ومراقبة تلوث المياه السطحية والجوفية من الشواغل الرئيسية في صناعة التعدين. فعلى سبيل المثال، أفاد غوغيل نكوينتي، وزير المياه والصرف الصحي في جنوب إفريقيا، أن 118 منجمًا تلوث الأنهار، أو تفشل في اختبار التلوث، أو تلوث مجاري المياه بطريقة أخرى في جنوب إفريقيا. كما أدَّى التعدين في حزام النحاس الجنوبي في كاتانجا في جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى زيادة تركيزات المعادن والملوثات مثل الزئبق والرصاص والكادميوم والنحاس في المياه السطحية، وبالتالي تعريض الصحة العامة والتنوع البيولوجي للخطر.([15])
وقد أدَّت صناعة التعدين إلى تسريع نموّ الصناعات المحلية، مثل تلك الخاصة بالوجبات المُصنَّعة والسلع المصنَّعة. فعلى سبيل المثال، يحتاج موظفو التعدين إلى وجبات وملابس واقية مثل أغطية الرأس، ومعدات المطر، والبدلات، والسترات، بالإضافة إلى الخوذة والقفازات والأحذية والحشو الواقي. ويتم تلبية جميع هذه المتطلبات مِن قِبَل شركات التصنيع والمعالجة الأخرى. وتُعدّ Mine Africa Safety Solutions في جنوب إفريقيا، وMD Services Labour Brooker في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وGretpro Industrials في زيمبابوي، وEpiCro في كينيا وتنزانيا أمثلة على صناعات معدات السلامة في التعدين.
أما بالنسبة للخدمة المجتمعية في البنية التحتية، فإن الطرق المؤدية إلى المناطق الصناعية، وخدمات تصريف مياه الأمطار، وخطوط السكك الحديدية، والبنى التحتية الأخرى، كلها جزء من البنية التحتية للتعدين. وعلاوة على ذلك، شاركت صناعة التعدين بشكل مباشر أو غير مباشر في تحسين البنية التحتية، مثل الطرق والسكك الحديدية والمطارات. ووفقًا لخبراء التنمية، فإن دخل المعادن والنفط والغاز قد يساعد العديد من البلدان في دفع ثمن الطرق والجسور والسدود وغيرها من البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها من خلال الاستثمار المباشر الأجنبي لتحقيق النمو الاقتصادي المستدام والقضاء على الفقر.
ومع ذلك، لا يزال إنشاء شبكات البنية الأساسية المناسبة يُشكِّل تحديًا. فعلى سبيل المثال، أفادت شركات ومؤسسات التنقيب وشركاؤها من شركات التعدين التي لديها مشاريع تعدين ضخمة في جنوب وشرق تنزانيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي ورواندا، وأن الافتقار إلى البنية الأساسية أو الدول غير العاملة كانتا عقبة رئيسية. كما أن تحديث البنية الأساسية يتطلب الكثير من الجهد([16]).
ومن خلال تعزيز الإستراتيجيات وتخطيط استخدام الأراضي وتعزيز التراث الثقافي واستعادة المساحات الخضراء؛ فقد يُسهم قطاع التعدين في بناء المدن المستدامة وتنمية المجتمع. ومع ذلك، تتسبب معظم شركات التعدين الإفريقية في الصراعات من خلال تدمير الأصول الثقافية واحتلال المساحات الخضراء. فالتعدين، على سبيل المثال، هو نشاط بشري يُدمّر التراث الثقافي في تنزانيا. وعلاوة على ذلك، أدَّى استخراج المعادن في بعض مناطق منطقة “أكرا” الكبرى إلى تخطيط غير كافٍ، فضلًا عن تحديات حيازة الأراضي والمساحات الخضراء.([17])
كما يمكن للتعدين أيضًا ضمان كفاءة الطاقة؛ من خلال الاستفادة من الطلب على الطاقة من جانب الشركات لتوسيع نطاق الطاقة إلى المناطق المحرومة؛ من خلال الشراكات التي تُمكِّن من الاستخدام المشترك للبنية الأساسية للطاقة، وبالتالي المساهمة في تحقيق الهدف السابع من أهداف التنمية المستدامة (طاقة نظيفة وبأسعار معقولة). ويمكن للتعدين أن يُسهم أيضًا في تحقيق أهداف أخرى للتنمية المستدامة، مثل تحفيز النمو الاقتصادي والعمالة (الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة)، وتأسيس بنية أساسية أكثر مرونة (الهدف التاسع من أهداف التنمية المستدامة)، ومكافحة تغيُّر المناخ وتداعياته (الهدف الثالث عشر من أهداف التنمية المستدامة)([18]).
التطبيق على رواندا:
يلعب التعدين دورًا حاسمًا في خلق فرص العمل، وباعتبارها أكبر مصدر لعائدات التصدير في رواندا، فإنها تُوفّر حاليًّا وظائف زراعية لأكثر من 70.000 شخص، بدءًا من عمال المناجم والمهندسين إلى علماء المعادن، وعمال الصحة والسلامة، والمدافعين عن البيئة، والجيولوجيين
وعلى مدى السنوات الأربع الماضية، تم ضخ أكثر من 2 مليار فرنك رواندي (1.5 مليون دولار) لتمويل مشاريع التنمية بشكل مباشر في المجتمعات والمناطق الرئيسية التي تستضيف المناجم. على سبيل المثال، أسهم التعدين في بناء مركز صحي روهوند في منطقة بوريرا، وهو مرفق حديث يخدم المجتمعات المحيطة، وأضاف في النهاية جناحًا للولادة.
كما ساهم التعدين في بناء قرية نموذجية للنازحين داخليًّا؛ حيث حصلت 16 أسرة في منطقة كايونزا على منزل آمِن للسكن. كما ساهمت شركات التعدين في حماية البيئة عن طريق دعم حديقة جيشواتي-موكورا الوطنية ضد أنشطة التعدين غير القانونية في نغوروريرو.
أيضًا وكمثال على الزراعة المستدامة، تم بناء مصاطب تقدمية محسّنة على أكثر من 423 هكتارًا في مناطق بوريرا وروليندو. كما حصلت 59.545 أسرة في مناطق جاتسيبو وكاموني وروتسيرو على بنية تحتية محسّنة للمياه. كما ساهمت شركات تعدين في تحسين البنية التحتية للكهرباء؛ حيث أدى بناء خطوط الكهرباء في منطقة كاموني إلى جلب الطاقة إلى المزيد من المجتمعات.
أما على مستوى شركات التعدين، فيتم تنفيذ العديد من الأنشطة التنموية. وعلى سبيل المثال، تؤكد شركة GAMICO ، وهي واحدة من أفضل شركات إنتاج الكاسيتريت في البلاد، على إدماج النوع الاجتماعي حيث توظف ما مجموعه 1618 شخصًا منهم 1395 من الذكور يمثلون 86.2٪ من إجمالي العمال و223 من الإناث يمثلون 13.8٪ من إجمالي القوى العاملة.
أما من حيث التعليم، فتجري شركة GAMICO Ltd تدريبًا على العنف القائم وجلسات تدريب على الإسعافات الأولية لعمالها؛ حيث تم تدريب 625 من عمال المناجم حتى الآن. كما يقدم المنجم تدريبًا داخليًّا ومِنَحًا دراسية للطلاب المحليين. كما تعطي الأولوية للصحة والظروف الاجتماعية لموظفيها؛ حيث يتم تأمين جميع عمال المناجم مِن قِبَل التأمين الصحي المجتمعي ومجلس الضمان الاجتماعي في رواندا. ويحتوي المنجم على غرفة إسعافات أولية مجهزة تجهيزًا جيدًا.
كما تعد شركة Interafrican Mining Corporation (IMC) ، مثالًا آخر على ما تفعله شركات التعدين في رواندا من حيث أنشطة التنمية المجتمعية. وتعمل شركة IMC في المقاطعة الجنوبية، في مقاطعة موهانجا، قطاع كاباكوزي. ولقد أنشأت الشركة طريقًا يبلغ طوله حوالي 2 كم، يربط قرية نياروسانجي في مقاطعة كامونيي وقرية بويوجا في مقاطعة موهانجا، وتُخطّط أيضًا لإنشاء خط كهربائي بطول 3 كم سيعمل على إمداد أكثر من 50 منزلًا بالكهرباء، وقد تم الانتهاء من دراسة جدوى هذا المشروع، وهي الآن تنتظر التنفيذ.
من حيث حماية البيئة، تمتلك شركة IMC مشتلًا للأشجار يتم فيه زراعة 10000 شجرة كل عام لاستعادة النظام البيئي الذي أصبح متدهورًا بسبب التعدين وفي المناطق الأكثر عرضة للتآكل، وخاصةً التلال والمنحدرات الشديدة، وعلى طول الجداول والأنهار. وتم تغطية أرض تبلغ مساحتها حوالي 100 هكتار بزراعة الأشجار في منجم IMC.([19])
التحديات التي تواجه الشركات في تحقيق مسؤولياتها تجاه المجتمع:
جدير بالذكر أن من أكبر التحديات التي تواجه الشركات في تحقيق مسؤولياتها تجاه المجتمع: هي سياسة التنفيذ الرئيسية التي تفتقر إلى التنسيق والتوافق مع خطط التنمية الحكومية على المستوى الوطني والمحلي، إلى جانب ضعف الرصد والتعاون مع الإدارات الحكومية ذات الصلة على المستويات الوطنية والإقليمية والمحلية. وأيضًا في كثير من الأحيان، تُركّز برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات على أهداف موجهة نحو الأعمال التجارية، والتي لا تتكامل بشكل كامل مع خطط التنمية الأوسع نطاقًا على مستوى الدولة([20])ـ ومن التحديات الأخرى ضعف توافق السياسات مع خطط التنمية الرئيسية.([21])
كما تشمل التحديات الافتقار إلى اللوائح والمعايير الواضحة؛ حيث يُعدّ غياب اللوائح والمعايير الواضحة للمسؤولية الاجتماعية للشركات في العديد من البلدان الإفريقية أحد التحديات الأساسية. ويمكن أن يؤدي هذا إلى ممارسات غير متَّسقة وانعدام المساءلة.
أيضًا الموارد والقدرات المحدودة؛ حيث تفتقر العديد من الشركات الإفريقية إلى الموارد والقدرات اللازمة لتنفيذ برامج المسؤولية المجتمعية للشركات الفعّالة. وقد يكون هذا بسبب عوامل مثل القيود المالية، ونقص الموظفين المهرة، والوصول المحدود إلى المعرفة والخبرة.
ومن التحديات الأخرى: قضايا الفساد والحوكمة؛ حيث يمكن أن يؤدي الفساد والحوكمة الضعيفة إلى تقويض جهود المسؤولية المجتمعية للشركات. ويمكن أن تُعِيق الرشوة والمحسوبية والافتقار إلى الشفافية التخصيص الفعال للموارد وتنفيذ الممارسات المسؤولة اجتماعيًّا.
أيضًا هناك تحديات ثقافية واجتماعية يمكن أن تُشكّل تحديات لمبادرات المسؤولية المجتمعية للشركات. وقد تشمل هذه العوامل التصورات المختلفة للمسؤولية المجتمعية للشركات، والحواجز اللغوية، والمشاركة المجتمعية المحدودة.
كما تشكل الضغوط الاقتصادية في العديد من البلدان الإفريقية، تحديًا قد يجعل من الصعب على الشركات إعطاء الأولوية للمسؤولية المجتمعية للشركات؛ حيث إن الحاجة إلى تحقيق الأرباح والبقاء في المنافسة يمكن أن تطغى أحيانًا على المخاوف الاجتماعية والبيئية.
وأيضًا يُعتبر الافتقار إلى المساءلة والشفافية في تقارير المسؤولية المجتمعية للشركات تحديًا، مما يجعل من الصعب تقييم فعالية المبادرات وتحديد مجالات التحسين.
وكذلك قد يكون التعامل مع مجموعة متنوعة من أصحاب المصلحة، بما في ذلك المجتمعات والحكومات والمنظمات غير الحكومية والموظفين، أمرًا صعبًا. يمكن أن يؤدي إلى سوء التواصل وانعدام الثقة في المشاركة الفعالة لأصحاب المصلحة.
أيضًا قد يكون قياس تأثير مبادرات المسؤولية المجتمعية للشركات أمرًا صعبًا، وخاصة في البلدان النامية ذات البيانات المحدودة وقدرات البحث. وهذا يمكن أن يجعل من الصعب إثبات قيمة المسؤولية الاجتماعية للشركات وتبرير الاستثمارات في مثل هذه البرامج.
وللتغلب على هذه التحديات؛ يجب على شركات التعدين إعطاء الأولوية للمشاركة المجتمعية والتنمية المستدامة والشفافية. من خلال العمل بشكل وثيق مع أصحاب المصلحة، وتنفيذ الممارسات المسؤولة، والاستثمار في مبادرات التنمية المجتمعية؛ حيث يمكن لشركات التعدين المساهمة في التنمية المستدامة لإفريقيا.
وعلاوة على ذلك، من المهم للحكومات في البلدان الإفريقية وضع لوائح ومعايير واضحة للمسؤولية المجتمعية للشركات وخلق بيئة مواتية لممارسات التعدين المسؤولة. كما يمكن للمنظمات الدولية أن تلعب دورًا في تعزيز التعدين المسؤول ودعم مبادرات التنمية المجتمعية.
وفي الختام، يتمتع قطاع التعدين في إفريقيا بالقدرة على أن يكون قوة فعّالة من أجل الخير. ومن خلال تبنّي ممارسات الشركات المسؤولة والاستثمار في التنمية المجتمعية؛ يمكن لشركات التعدين أن تُقدّم مساهمات كبيرة في التنمية المستدامة للقارة.
………………………………………………………………………….
[1] – Mr. V. R. Gapare and others , Corporate Social Responsibility in the mining sector, The Chamber of Mines of Zimbabwe, White Sands Communications (Pvt) Ltd, Harare, p. 8
[2] – Benatus Norbert Mvile, Obadia Kyetuza Bishoge, Mining and sustainable development goals in Africa, Resources Policy, Volume 90, 2024, p.7
[3] – Kendra E. Dupuy, Community development requirements in mining laws, The Extractive Industries and Society (2014), p. 202
[4] – Mateusz Kurowski1 , Katarzyna Huk, Corporate Social Responsibility and the Mining Industry: Areas of Use and Opportunities to Reduce the Negative Effects of Activity, European Research Studies Journal, Volume XXIV, Issue 3, 2021, p. 113
[5] – Busisipho Siyobi, Corporate Social Responsibility in South Africa’s Mining Industry: An Assessment , African perspectives, global insights, POLICY BRIEFING 142, Governance of Africa’s Resources Programme, September 2015, p.2
[6] – Mr. V. R. Gapare and others , Op.Cit., p. 2
[7] – Ibid.p. 4
[8] – Kendra E. Dupuy, Op.Cit., p. 200
[9] – Ibid., 201
[10] – Deanna Kemp, Mining and Community Development: Problems and Possibilities of Local level
Practice, Community Development Journal, Vol 45, No. 2, April 2010, p. 204
[11] – Benatus Norbert Mvile, Obadia Kyetuza Bishoge, Mining and sustainable development goals in Africa, Resources Policy, Volume 90, 2024, p. 1 – 2
[12] – Ibid., p. 2 – 3
[13] – Benatus Norbert Mvile, Obadia Kyetuza Bishoge, Op.Cit., p. 4
[14] – Ibid.,p. 5
[15] – Ibid., p.6
[16] – Ibid.,p.9
[17] – Ibid., p.10
[18] – Ibid., p. 13
[19] – Gamico and IMC, How The Mining Sector Contributes To Community Development Initiatives, Forbes Africa, February | March , 2024 FORBESAFRICA.COM
[20] – Busisipho Siyobi, Corporate Social Responsibility in South Africa’s Mining Industry: An Assessment , African perspectives, global insights, POLICY BRIEFING 142, Governance of Africa’s Resources Programme, September 2015, p. 1
[21] – Ibid., p.2