كان عام 2019م مليئًا بالتغييرات السياسية والاقتصادية والبيئية الدراماتيكية في القارة.
فقد هزَّت الثورتان الجزائرية والسودانية أركان نظام حكم تليد في البلدين، وتمكنتا من الإطاحة برأس النظام، وخلخلة أركان الدولة العميقة.
كما امتدَّ الغضب العام والسخط إلى أقصى جنوب القارة في سبتمبر 2019م؛ حيث قام الغوغاء بنهب المتاجر المملوكة للأجانب في جنوب إفريقيا.
وفي محاولة للمصالحة في غرب إفريقيا؛ دعا رئيس الكاميرون “بول بيا” في سبتمبر إلى إجراء حوار وطني؛ لمناقشة القضايا التي يواجهها السكان الناطقون بالإنجليزية في المناطق الشمالية الغربية والجنوبية الغربية من الدولة؛ كما أمر بالإفراج عن أكثر من 300 من الانفصاليين وزعماء المعارضة، وتم منح وضعية خاصة للمناطق الناطقة بالإنجليزية.
ومن جهةٍ أخرى من المتوقع أن تتولى حكومة الوحدة الوطنية في جنوب السودان مهامها في فبراير من العام المقبل بعد مفاوضات استمرت نحو عام.
على الجبهة السياسية والاقتصادية، في نوفمبر الماضي، أعلنت ثماني دول من غرب إفريقيا سحب احتياطاتها من العملات الأجنبية من البنك المركزي الفرنسي. كانت هذه الخطوة مرتبطة بقرار استبدال الفرنك الإفريقي -وهو العملة المرتبطة باليورو، والمستخدمة في 14 دولة في غرب ووسط إفريقيا- بعملة مشتركة جديدة، تسمى “إيكو”.
ولعل السؤال المطروح، ونحن على مشارف عام جديد، يتعلق بتأثير مسارات الأحداث في عام 2019م على الاتجاهات الكبرى في عام 2020م.
احباطات متزايدة:
ستظل معدلات نُموّ اقتصادات إفريقيا الكبرى مخيّبة للآمال في 2020م؛ مما سيتسبّب في تراجع نسبة النمو في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى؛ وفقًا لصندوق النقد الدولي.
وهناك اتجاه رئيس سيستمر كذلك في العام المقبل، وهو كيفية إدارة البلدان الإفريقية لمديونياتها الخارجية؛ إذ يُحَذّر صندوق النقد الدولي من أنه بينما يستقر عبء ديون القارة على حاله، فإن البلدان المدينة قد تواجه مصاعب جمَّة مع تباطؤ معدلات النمو العالمي الذي يؤثر على الصادرات. هناك سبع دول إفريقية -من بينها: موزمبيق، جنوب السودان، وزيمبابوي- تعاني من أزمة الديون؛ وفقًا لصندوق النقد الدولي.
كما أن هناك تسعة آخرين، بما في ذلك: إثيوبيا، غانا، والكاميرون، مُعَرَّضُون بشدَّة لخطر ارتفاع الديون إلى مستويات غير مسبوقة.
كان عام 2019م هو العام الذي تركت فيه حالة الطوارئ المناخية أثرًا واضحًا في إفريقيا. فقد خلَّف الإعصاران اللذان ضربا ساحل موزمبيق -إعصار إيداي في مارس، وإعصار كينيث في أبريل- أكثر من 300 قتيل، وتسبَّبَا في فوضى ودمار في كلٍّ من ملاوي وزامبيا وموزمبيق.
وكما يقولون: “كل نازلة كاشفة”؛ فإن ما كشفته هذه الأحداث هو عدم استعداد دول الجنوب الإفريقي للتعامل مع الظروف الجوية القاسية.
فقد جاءت كل المساعدات المالية تقريبًا لمواجهة الكوارث من الخارج. ومن المرجَّح أن ترتفع درجات الحرارة العالمية بدرجة أكبر، وفقًا للتقرير الأخير الخاص بفجوة الانبعاثات الصادر عن الأمم المتحدة، والذي يشير إلى أن العالم يسير على طريق زيادة درجة الحرارة بمقدار 3.2 درجة مئوية بحلول عام 2100 وفقًا للوتيرة الحالية لانبعاثات الكربون. وهذا يعني أن الجنوب الإفريقي -والقارة ككل- يمكن أن يتوقَّعا حدوث ظواهر مناخية قاسية؛ مثل إعصاري ساحل موزمبيق، ولكن بمعدلات أشد قسوة وتدميرًا.
لقد ساعدتنا هذه النوازل البيئية، وعجز الإنسان عن مواجهتها، على فهم مدلولاتها بالنسبة للهجرة الجماعية.
وإن حدوث موجات العنف المتكررة والموجهة ضد الأجانب في جنوب إفريقيا يُمَثِّل اتجاهًا يدعو إلى القلق.
كما أن مشروعات توليد الطاقة التي تسبّب الجفاف عند سد كاريبا في حوض نهر الزامبيزي والتي تُعَرِّض توليد الطاقة الكهرومائية لزيمبابوي وزامبيا للخطر؛ مما أدَّى إلى انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع. وعلى جانب آخر يمسّ قطاع الصحة؛ فإن المناطق الأكثر حرارة تزيد من احتمال خطر الإصابة بالملاريا.
القوى الصاعدة في شرق إفريقيا:
في الوقت نفسه ثمة ملامح أخرى للصورة في شرق إفريقيا؛ حيث يظهر على السطح سباق الموانئ ومحاولات السيطرة على طرق النقل والتجارة الاقليمية.
تبذل تنزانيا ورواندا جهودًا حثيثة لإبعاد كينيا كمحور عبور إقليمي. وبالفعل يقوم الرئيس التنزاني جون ماجوفيلي ببناء خط سكة حديد للقطارات فائقة السرعة بقيمة 2.5 مليار دولار بمساعدة رواندا في محاولة للسيطرة على التجارة الداخلية لشرق إفريقيا وقيادتها عبر ميناء دار السلام.
ومن المتوقع اكتمال مشروع السكة الحديد هذا في عام 2022م؛ حيث يمتد من مدينة إساكا بغرب تنزانيا ليصل إلى العاصمة الرواندية كيغالي، وهو ما يضعه في منافسة مباشرة مع طريق مومباسا على بعد 500 كم فقط من الساحل. وتساهم قطر هي الأخرى في تهديد مكانة كينيا كطريق عبور إقليمي؛ حيث قامت حكومة الدوحة بتوفير الأموال لرواندا من أجل بناء مطار دولي ضخم في كيغالي، مقابل الحصول على حصة بنسبة 60٪ من المشروع، إلى جانب أن يكون لقطر موطئ قدم في قطاع النقل والمواصلات الطموح في شرق إفريقيا.
ولا شك أن هذا الوجود القطري سوف يُمثّل منافسة كبيرة لكينيا، التي أضحت خطوطها الجوية في حالة يرثى لها بالنظر إلى الخسائر القياسية التي تكبَّدتها في عام 2019م.
في العام المقبل 2020م، يَتوقع صندوق النقد الدولي أن تستمر معدلات النمو في كل من إثيوبيا وتنزانيا بنسبة 7.2 ٪ و4.5٪ على التوالي.
على أن النمو الاقتصادي في البلدين سوف تحكمه قيود السيولة والتنافس السياسي؛ حيث تشهد البلدان انتخابات عامة. فمن المقرر إجراء الانتخابات في إثيوبيا بحلول شهر مايو، بينما يخطّط ماجوفيلي، الذي أدت سياساته الحمائية إلى غضب المستثمرين والشركاء، إلى الترشح لإعادة انتخابه في أبريل.
وتبدو فرص آبي أحمد في إعادة انتخابه كبيرة. لقد نجح الزعيم الشاب ذو العقلية الإصلاحية في رسم رؤية إيجابية لمستقبل إثيوبيا وإفريقيا، والتي يتردّد صداها خارج إفريقيا. لقد بات زعماء أمثال رامافوزا ومنانغاغوا، وبوهاري وكأنهم رموز الجيل القديم الذي عفا عليه الزمن.
ولا شك أن حصول آبي أحمد على جائزة نوبل للسلام تقديرًا لجهوده الناجحة في حلّ النزاع المستمر منذ عقود مع إريتريا؛ سوف تعزّز من صورته الإقليمية والدولية كزعيم إصلاحي.
ومع ذلك فإن التوترات السياسية والعرقية المستمرة المرتبطة بإصلاحاته الدراماتيكية يمكن أن تُشكّل تحديًا خطيرًا لزعامته، وتهدّد استقرار البلاد إلى حد كبير في عام 2020م.
لكنَّ يدَ الغرب الحانية على استعداد لتقديم المساعدة لمن تريد؛ حيث يستعد صندوق النقد الدولي للموافقة على قرض قيمته 3 مليارات دولار لتعويض أزمة السيولة في إثيوبيا التي تعاني من ضائقة مالية.
ربما يساعد ذلك آبي أحمد الذي يسعى إلى احتواء القوى القومية العرقية، والفوز في الانتخابات القادمة. وكما أن قضية السلام مع إريتريا في حالة جمود ولا تبرح مكانها؛ فإن الإصلاحات الاقتصادية، بما في ذلك الخصخصة، لا تزال حبرًا على ورق.
وعليه إذا استطاع رئيس الوزراء أن يثبت قدرته على الإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد، فلسوف تكون إثيوبيا من نجوم شرق إفريقيا اللامعة على مدار الأعوام المقبلة.
هل تقود المغرب ومصر وتونس الثورة الصناعية في شمال إفريقيا؟
وخارج الصورة القاتمة التي تقدّمها الأزمة الليبية، والانتقال القلق في الجزائر؛ تبدو باقي دول الشمال وكأنها تقود قاطرة الثورة الصناعية الثانية. إذ يتقدم قطاع الصناعات التحويلية في المغرب بشكل لافتٍ مع استمراره في جَذْب الاستثمار الأجنبي المباشر.
ومن المعروف أن هذا القطاع يساهم بأكثر من 20٪ من الناتج المحلي الإجمالي للمغرب، ويستخدم 11٪ من إجمالي القوة العاملة. وتشير الدلائل والاتجاهات العامة خلال عام 2019م إلى أنَّ كلاً من تونس التي اجتازت اختبار انتخاباتها العامة بنجاح، ومصر التي أضحت تمتلك عملة مستقرة وقوية، كما شهدت انخفاض التضخم ليصل إلى 3.6٪، قد يصبحان قِبْلَة للاستثمار الأجنبي.
ربما يدفع ذلك إلى أن يصبح ما يزيد على 100 مليون مصري بمثابة مركز صناعي قَوِيّ يُغَذِّي أوروبا. ولعل ذلك يُمثّل أحد الاتجاهات الإيجابيَّة المبشرة في عام 2020م.
مخاطر قائمة وآمال معقودة:
هناك بعض الأمل الذي ربما يتحقق للأجيال القادمة؛ فقد صدقت 54 دولة من أصل 55 دولة إفريقية على اتفاقية التجارة الحرَّة القارية في شهر مايو 2019م، وهو ما يَعِدُ بإنشاء واحدة من أكبر مناطق التجارة الحرة وأكثرها تنوعًا في العالم. إنها سوف تُحْدِثُ ثورةً في التجارة داخل القارة.
بيد أن الصفقة لا تزال، رغم أنها واعدة، بعيدة كل البعد عن التنفيذ الكامل؛ فمن غير المرجَّح أن يتم تفعيلها في أيّ وقت خلال العقد المقبل.
ومع ذلك، فإن توافر إرادة التوقيع والتصديق عليها تعني قبول الدول الإفريقية بأن الطريق الوحيد إلى السلام والازدهار القارِّيّ هو من خلال العمل المشترك. كما أنه يوضّح أيضًا أن إفريقيا مستعدة لمواجهة مخاطر وضغوط قوى العولمة الجديدة.
والأهم من ذلك أنه إذا كان بالإمكان تسخير هذه الروح لمعالجة التهديدات الوجودية؛ مثل انعدام الأمن عبر الحدود، والهجرة القسرية، وتغيّر المناخ؛ فقد تمتلك القارة فرصة حقيقية للنهوض.
وإذا ثبت أن هذا هو الإرث الدائم لعام 2019م من خلال توقيع اتفاقية التجارة الحرة القارية، فسوف يستحق هذا العام الاحتفال به في كتب التاريخ؛ لأنه حقَّق حُلم الآباء المؤسِّسين لحركة الوحدة الإفريقية.
وبعيدًا عن هذا الأمل المشرق؛ سوف تظل إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مُعَرَّضَة بشكلٍ خاصّ للمخاطر الإنسانية الجديدة أو المتفاقمة الناجمة عن الصراعات.
إن صراعات الإبادة الجماعية التي تهدف إلى القضاء على كلٍّ أو جزءٍ من مجموعة عرقية أو دينية أو عرقية، والنزاعات التي تسبّبها جرائم أخرى ضد الإنسانية –مثل: الطرد القسري على نطاق واسع للسكان- من المحتمل أن تؤدي إلى تزايد حركة الهجرة والاحتياجات الإنسانية الضخمة والعسيرة.
في العام القادم 2020م، سيبقى الإصلاح الديمقراطي بطيئًا وغير مكتمل في العديد من البلدان؛ بسبب مجموعة من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، لكن من غير المرجَّح أن يتمّ تحدِّي الديمقراطية؛ باعتبارها القاعدة المرجوة في إفريقيا.
ولسوف يواجه القادة الأفارقة مزيدًا من الضغوط مِن قِبَل منظَّمات غير حكومية دولية ومحلية ترغب في بعض الأحيان في القيام بخدمات معينة، بالإضافة إلى مخاطر شبكات إجراميَّة تعمل بحرية عبر الحدود، وتهديدات الجماعات العنيفة التي تعمل على إنشاء ملاذات آمِنَة.
بعض الدول قد تفشل، ولكن في حالات أخرى ربما تزداد المكاسب الديمقراطية. سوف يظهر جيل جديد من القادة الأفارقة في مختلف القطاعات، من الذين يشعرون بارتياح بالغ في ظل مناخ ديمقراطي مقارنة بأسلافهم. وربما يوفر ذلك قوة ديناميكية سياسية للتغيير للديمقراطي في المستقبل.
ومع ذلك سيبقى المتغير القيادي هو الورقة الأساسية، والتي يمكن أن تُحْدِث فرقًا كبيرًا وإيجابيًّا. إنه على الرغم من أن الدول ذات القيادة الضعيفة ستجد صعوبة أكبر في تجنُّب مخاطر السقوط والفشل، فإن الدول ذات القيادة الرشيدة التي تُعزّز مبادئ النظام والمؤسسات وحلّ النزاعات سيكون لديها فرصة أكبر للنهوض ولدفع مجتمعاتها نحو ركب التقدم والرقي.