تمهيد:
تمثل الشركات العائلية مشاريع تجمع بين السعي نحو الربح وبين قِيَم الأسرة، وهي ضرورية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة وأجندة الاتحاد الإفريقي 2063.
ولقد فرضت مؤسسات “بريتون وودز” خططها ووصفاتها المختلفة على البلدان الإفريقية، دون أن تراعي خصوصياتها الثقافية والتاريخية، ولو كانت راعت ذلك لنجحت.
تمثل تلك الشركات أكثر من ثلثي الاقتصاد الإفريقي، غير أنه ندرت الدراسات حولها، وبالأخص في سياق الفكر الفلسفي الإفريقي، الذي يُقدّم رؤًى حول كيفية نجاحها واستدامتها.
ومن هنا تحاول هذه الدراسة تناول الشركات العائلية الإفريقية بإيجاز؛ من حيث الحجم والاستدامة والتحديات التي تواجهها، مع عرض بعض النماذج لها؛ من خلال المحاور التالية:
أولًا: الرأسمالية والرأسمالية العائلية… تطابق أم تضادّ؟
ثانيًا: الشركات العائلية والتنمية في إفريقيا جنوب الصحراء.
ثالثًا: الشركات العائلية في الفكر الفلسفي الإفريقي.
رابعًا: الرأسمالية العائلية في إفريقيا جنوب الصحراء.
خامسًا: نماذج للشركات العائلية في إفريقيا جنوب الصحراء.
سادسًا: التحديات التي تواجهها الشركات العائلية في إفريقيا جنوب الصحراء.
خاتمة وتوصيات.
أولًا: الرأسمالية والرأسمالية العائلية… تطابق أم تضاد؟
من بين المشاهد المُلاحظة التي يتجلَّى من خلالها المأزق التاريخي للنظام الرأسمالي: التفكك الواسع للعلاقات الإنسانية؛ فالرأسمالية تقلب الأسرة إلى وحدات اجتماعية تخدم أهدافها. ومن خلال تصوراتها حول العمل المادي، وتحويله إلى قيمة في حدّ ذاته، وجعله هدفًا محوريًّا من وجود الإنسان مهما تأخرت راحته النفسية، وتأثرت أدواره الاجتماعية والأسرية؛ فالناس تحت مظلتها هم عمّال أحرار. كما أدَّى توسّع رأس المال، تحت شعار الرأسمالية الأول: “دعه يعمل، دعه يمر”، والذي يُحدّد قيمة الشيء بحسب ربحيته فقط، بالإضافة إلى انتشار العمل لقاء الأجور في مؤسسات الرأسمالية، إلى تحوُّل عميق في بنية الأسرة النواة ووظيفتها وأيديولوجية الحياة الأسرية. فبدأ نظام الإنتاج المنزلي في التقلص، وجُذِبَ الرجال والنساء من اقتصاد منزلي مُكتفٍ بذاته نحوَ نظام رأسمالي يعتمد على العمالة الحرة([1]).
وعلى الجانب المقابل تقدّم أدبيات الأعمال العائلية الشركات العائلية كشكل مهيمن من أشكال المنظمات في كلٍّ من الاقتصادات المتقدمة والنامية. ويزعم الباحثون أنها تُسهم في خَلْق فرص العمل وتوليد الثروة، وتتفوق على الشركات غير العائلية. غير أن هذه البحوث تنظر إليها من خلال عدسة ضيّقة للعائلة النووية التي تُؤثّر على العمليات التجارية. ويتجاهل هذا المنظور تضاريس تكوين الشركات العائلية عبر المساحات المؤسسية المختلفة؛ حيث يؤدي انخراط أفراد العائلة إلى زيادة الوصول إلى رأس المال والخبرة والمعلومات. ونتيجة لذلك، هناك حاجة إلى إعادة تركيز الاهتمام بعيدًا عن ملامح “الشركة العائلية” إلى مفهوم أكثر شمولًا لـ”عائلة الأعمال”، والتي بدورها يمكن أن تعمل كـ”مؤسسة”، في سياق منطقة جنوب الصحراء في إفريقيا([2]).
وفي العديد من مناطق العالم، تهيمن الشركات العائلية على الاقتصاد، وفي إفريقيا جنوب الصحراء، تشير الأدلة إلى أن أكثر من 90٪ من جميع الشركات غير المملوكة للدولة هي شركات عائلية؛ إلا أنه لا تُوجَد معلومات شاملة حول أداء تلك الشركات في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، وبشكل أكثر تحديدًا، فإن تعريف وتكوين “الأسرة” في المجتمعات والثقافات الغربية مختلفان بشكل ملحوظ ومبنيان بشكل ضيق مقارنةً بتعريفات المجتمعات الإفريقية؛ حيث إن المجتمعات الجماعية في إفريقيا تحدد الأسرة على نطاق أوسع، وبالتالي، فإن المعايير والالتزامات والتوقعات الخاصة بالأسرة في المجتمعات والثقافات الإفريقية محددة على نطاق واسع وممتدة مع آثار مهمة على بنية وتكوين وديناميكيات الشركات العائلية.
وأشارت الأدبيات حول قاعدة المعرفة حول الشركات العائلية في إفريقيا إلى أنه لا يوجد عمل شامل يتناول الموضوع بأبعاده المختلفة. وبالنسبة للأبحاث التي حدَّدت الأعمال العائلية، فقد ذكرت جميعها تقريبًا المعايير الثلاثة التالية للشركات العائلية([3]):
- ملكية العائلة للأعمال: لم يكن هناك ذِكْر صريح لعتبة النسبة المئوية لملكية الأسهم أو الأسهم مِن قِبَل العائلة في معظم الكتابات، إلا أن بعضها أشار إلى أنه يجب أن تمتلك عائلة واحدة ما لا يقل عن 51٪ من الأعمال.
- مشاركة العائلة في الإدارة و/أو مشاركة أفراد العائلة في الأعمال؛ إما كأعضاء في مجلس الإدارة أو كموظفين؛ و
- نقل ملكية و/أو إدارة الأعمال بين الأجيال بمرور الوقت.
ثانيًا: الشركات العائلية والتنمية في إفريقيا جنوب الصحراء
تحقق الشركات العائلية استدامة وأثرًا اقتصاديًّا إيجابيًّا ملموسًا عندما تنجح في المواءمة بين النجاح المالي بما يمكنها من الاستدامة الاقتصادية، والتمسك الأخلاقي بالقِيَم كالثقة والالتزام واستمرار الصلات والحرص على حُسْن السُّمعة بما يحافظ على علاقاتها المتينة مع المجتمع الذي تنتمي له العائلة. وليس من شك أن المحرّك الأهم للاقتصاد العالمي هو «العائلة». وقد بينت الأدبيات أهمية «الرأسمالية العائلية» كأداة اقتصادية كفؤة منذ القدم، حتى في حقبة الثورة الصناعية وما تلاها، كما أن الملكية العائلية نَشطة في الدول النامية والمتقدمة على حدٍّ سواء، والوقائع تثبت أنها شملت كل الأنشطة الاقتصادية، وتجددت الحاجة عقب الأزمة المالية العالمية الأخيرة لأنماط جديدة، لا تتعلق فقط باقتصادات السوق، بل ترتكز على أهمية التضامن والتنظيم الذاتي، وتتمحور حول السلوكيات الأخلاقية. ولعل «الرأسمالية العائلية» تحقق ذلك وتمثل بديلًا ملائمًا ومجربًا([4]).
يمكن للشركات العائلية، التي تم تعريفها بأنها “الشركات التي يمتلك فيها أفراد من نفس العائلة، أو فروع عائلية ذات صلة، حصة الأغلبية… ويمارسون تأثيرًا مهيمنًا على الاتجاه الإستراتيجي للشركة من خلال الملكية والحوكمة والإدارة والرؤية” أن تلعب دورًا حاسمًا في تسريع التقدم في إفريقيا نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة. ويمكن أن يكون لها أهمية بالغة لتحقيق تطلعات أجندة 2063م. إن كوريا الجنوبية تُقدّم مثالًا جيدًا لبلد لعبت فيه الشركات العائلية المعروفة باسم “تشايبول” دورًا رائدًا في التحول وخروجه من براثن الفقر. وهي تحتضن وتغذي العامل الرابع للإنتاج: ريادة الأعمال.
ومن المؤسف أن المناقشات السياسية المحددة حول أهميتها نادرة. وكثيرًا ما يتم تضمينها في المناقشات السياسية حول التصنيع، والتحول الهيكلي، والنمو الاقتصادي في القطاع الخاص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم. ووفقًا لتقرير حديث صادر عن معهد “انسياد”، فإن الشركات العائلية “تمثل ثلثي جميع الشركات، و70-89% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و50-80% من جميع الوظائف في معظم البلدان”.
وفي إفريقيا، تمثل حوالي 70% من الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم. وهي تختلف في الحجم ونوع الملكية والإيرادات. وقد توسَّعت الشركات العائلية في إفريقيا في الآونة الأخيرة بسبب عدد من العوامل، منها أ) تراجع الدولة في البلدان ذات التوجهات الاشتراكية سابقًا مثل تنزانيا، ب) العجز المتزايد للقطاعين الرسمي وغير الرسمي عن خلق وظائف لائقة ذات أجور جيدة، ت) الدخل غير الكافي من العمالة الرسمية، ث) الطموح إلى الثراء لتوفير ما يكفي من الرعاية للأبناء، ج) التوافر المحدود للضمان الاجتماعي الرسمي/معاشات التقاعد لكبار السن، ح) التعرض للخبرة الدولية، خ) المستويات العالية من الفساد والحاجة إلى غسل عائدات الفساد ([5]).
ثالثًا: الشركات العائلية في الفكر الفلسفي الإفريقي
ظل بحث الأعمال العائلية في إفريقيا راكدًا نسبيًّا، ففي الوقت الذي يؤكد فيه العلماء على أن المجتمعات الإفريقية لديها أنظمة معرفية متطورة للغاية تقدم توصيفًا لسبل عيش ووجود تلك المجتمعات. مع إدراك أن الكثير مما يعرفه الأفارقة عن أنفسهم يأتي في الغالب من وجهات نظر غربية وأوروبية بسبب تأثير الاستعمار على تاريخهم. لا تُلبِّي وجهات النظر تلك الفلسفات الإفريقية في العديد من الجوانب الثقافية، مثل الهوية والقِيَم والأسرة والمجتمع والقيادة. وتُوفّر هذه الاختلافات أرضًا خصبة لتعزيز دمج الفلسفات الإفريقية الأصلية في أنظمة المعرفة الأخرى من أجل النمو الاجتماعي والاقتصادي. والدعوة إلى التغيير في الهياكل المؤسسية لمنظمات الأعمال مثل الشركات العائلية الإفريقية([6]).
ومع تزايد الدراسات التي تتناول الشركات العائلية في القارة فإن هذه الدراسات لا تستكشف دور الفلسفات الإفريقية الأصلية، مثل “أوبونتو”، في هذا السياق. وهو أمر مستغرَب نظرًا لأن أوبونتو هو نظام فلسفي إفريقي ذو صلة بجميع القطاعات والمجتمعات الإفريقية. غير أن هناك محاولات للتحقيق في الأنظمة الثقافية والقيمية في الشركات العائلية الإفريقية الأصلية. فمنها مَن فحص دور القيم في تعزيز طول عمر الشركات العائلية، أو استكشاف دور الثقافة والأسرة فيها، أو البحث في السمات الثقافية والعوامل الأساسية التي تؤثر على السلوك الريادي.
ومع ذلك، فإن هذه الدراسات بها أوجه قصور، مثل عدم الاستعانة بتحليل أوبونتو بشكل شامل في الشركات العائلية الإفريقية. فمثلاً فحص فينتر (2008) “أوبونتو ورأس المال الاجتماعي في الشركات العائلية الكبيرة غير الأصلية في جنوب إفريقيا”. ودراسة لوانجو (2016)، التي تُوسّع منظور التضمين للشركات العائلية الإفريقية في جمهورية الكونغو الديمقراطية. غير أن معظم الدراسات التي تبحث في فلسفة أوبونتو هي مفاهيمية، وتفشل في تقديم تحليل تجريبي لدور أوبونتو ومظاهره في المساهمة فحص الشركات العائلية الإفريقية. ويُقدّم هذا المبدأ الإفريقي عدة تفسيرات لكيفية تطبيق أوبونتو على المنظمات التجارية مثل الشركات العائلية؛ حيث([7]):
- يمكن أن يساعد تبنّي فلسفة أوبونتو أصحاب الأعمال العائلية والقادة في تعزيز ثقافة تنظيمية إيجابية تتميز بالتعاون والشعور بالهدف المشترك بين الموظفين، مما يؤثر على الأداء التنظيمي.
- تُشجّع فلسفة أوبونتو ثقافة تؤدي إلى تحسين التواصل والتعاطف والتركيز على الرفاهية الجماعية، مما يؤثر بشكل إيجابي على كيفية تفاعل الشركات العائلية مع أصحاب المصلحة الخارجيين مثل العملاء ومجتمعاتهم.
- يمكن أن تعمل أوبونتو كأداة للتحول التنظيمي الذي يمكن أن يؤثر بشكل محتمل على بقاء ونجاح الشركات العائلية الإفريقية الأصلية في المنظمات الحديثة. وإن إدارة التحول التجاري باستخدام فلسفة أوبونتو يمكن أن تؤدي إلى نتائج تجارية أكثر استدامة.
رابعًا: الرأسمالية العائلية في إفريقيا جنوب الصحراء
شهدت الشركات العائلية في إفريقيا جنوب الصحراء ارتفاعًا كبيرًا في الآونة الأخيرة، وهي تكتسب إمكانات سوقية متزايدة. وكذلك يُلاحظ زيادة في عدد الأفراد ذوي القيمة الصافية العالية للغاية، ومن المتوقع أن ينمو هذا العدد بنسبة 17٪ حتى عام 2028م([8]).
ستؤدي هذه الزيادة في الثروة حتمًا إلى إنشاء واستثمار مستمر في الشركات العائلية. ومع ذلك، فإن مفتاح النجاح المستمر والنمو وبقاء الشركات العائلية الإفريقية له عنصران أساسيان: الحوكمة الجيدة والتخطيط للخلافة؛ حيث يمكن أن يكون الافتقار إلى الحوكمة ضارًّا بفعالية الشركة العائلية.
في هذا الصدد، هناك فئتان عريضتان من الحوكمة: حوكمة الشركات وحوكمة العائلة. تشير حوكمة الشركات إلى إدارة الشركة. وتعالج حوكمة العائلة ملكية العائلة للشركة ومشاركتها فيها. في الشركات العائلية، تمتلك العائلة الشركة وتديرها، مما قد يؤدي إلى نزاعات. ومن المعروف أن العديد من الشركات العائلية لا تدوم بعد الجيل الثالث. ومع ذلك، فإن وجود حوكمة عائلية جيدة يمكن أن يساعد في معالجة المخاطر المحتملة التي قد تنشأ مع الشركات العائلية. 77٪ فقط من الشركات العائلية الإفريقية لديها شكل من أشكال هيكل الحكومة([9]). مع ارتفاع هذا الرقم إلى 76٪ في كينيا و58٪ في نيجيريا ويرتفع إلى 94٪ في جنوب إفريقيا([10]).
وعند النظر في مستقبل العمل، يحتاج أصحاب الشركات العائلية إلى النظر، في الطريقة التي يجب أن تشارك بها الأجيال الأصغر سنًّا في العمل عندما يكبرون، والمؤهلات التي سيحتاجون إليها للمشاركة في إدارة العمل، كما يجب وضع آليات للتعامل مع حل النزاعات. لكن الأمر المثير للقلق هو أن 21٪ فقط من الشركات العائلية الإفريقية لديها إجراءات لحل النزاعات. ينخفض هذا الرقم إلى 6٪ فقط في نيجيريا، ويزيد إلى 27٪ في جنوب إفريقيا. ويمكن أن تحدث النزاعات العائلية عادة بعد وفاة رئيس الشركة، مما يؤدي إلى وراثة العديد من الورثة. هذه الملكية المجزَّأة هي التي يمكن أن تؤدي إلى نشوء النزاعات، ويمكن أن يؤدي الصراع العائلي إلى انهيار الشركة إذا لم تكن هناك تدابير قائمة للتعامل مع النزاعات بشكل فعَّال. وكذلك التخطيط لمستقبل الشركة نظرًا لأن معظم الشركات العائلية لا تنجو عادةً بعد الجيل الثالث، فإن وضع تخطيط الخلافة المناسب أمر حيوي لضمان مستقبل الشركة([11]).
خامسًا: نماذج للشركات العائلية في إفريقيا جنوب الصحراء
تأسست شركة Bolaas عام 1743م على يد “فان دير ميرفي”، وهي أقدم شركة عائلية في جنوب إفريقيا. وقد كانت تلك العائلة تستخدم أراضيها الخصبة لرعي ماشيتها. وحاليًّا تستمد معرفتها وخبرتها من سلالة متواصلة من عشرة أجيال من المزارعين. تنتج مزرعة العائلة وتعبئ مجموعة متنوعة من الفواكه، ويتم تصدير 30٪ من إنتاجها إلى القارة الإفريقية. وهي الوحيدة من نوعها في البلاد.
وتشمل الممتلكات التاريخية أيضًا طاحونة مياه، ومصنع صابون، ومخبزًا، وعربات. كما سعت أيضًا إلى أنشطة إبداعية ومبتكرة على مر السنين لضمان استمرارية أعمالها. على مدى العقود الماضية، تنوعت أعمالها من خلال الاستحواذ على مزارع أخرى وأعمال تجارية جديدة. كما تقدم خدمات تتعلق بتخطيط حفلات الزفاف والمجوهرات والضيافة، ومؤخرًا اهتمت بإنتاج القنب. وتُوظّف ما يقرب من 1000 موظف، وقامت بإنشاء أول محطة للطاقة الشمسية العائمة في إفريقيا([12]).
ويُعتبر قطاع الأعمال العائلية في كينيا هو المحرك الرئيسي للاقتصاد. وأبرز تلك الشركات Asoko 490، وهي شركة عائلية تعمل في مجموعة واسعة من الصناعات. وعلى الرغم من كونها مساهمًا حيويًّا في اقتصاد البلاد، إلا أن الشركات العائلية في كينيا تواجه عددًا من التحديات المحددة؛ حيث تم تصنيف الفساد كأهم مشكلة تؤدي إلى إبطاء الأعمال، والافتقار إلى هياكل الخلافة القوية، مما يحد من النمو ويقلل من عمر الشركة؛ 30% من الشركات العائلية تنجح في الجيل الثاني، و13% فقط تنجح في الجيل الثالث.
جميع الشركات العائلية الرائدة في كينيا هي ضمن الأجيال الثلاثة الأولى من الملكية. أقدمها، رامكو، التي يعود تاريخها إلى عام 1948م. وتعمل الشركات العائلية الكينية البالغ عددها 22 شركة والتي تكسب أكثر من 100 مليون دولار عبر قطاعات مختلفة، من البنوك إلى شركات الشحن الجوي والخدمات اللوجستية. هذا التنوع لا يشبه البلدان الأخرى في إفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث تتركز في قطاع التصنيع الصناعي. بدأت أغلب هذه الشركات عملياتها في السنوات التي أعقبت الاستقلال، حيث بدأت أقدم شركة مدرجة عملياتها في عام 1948م. هناك أيضًا مستوى من نشاط الدمج والاستحواذ داخل قطاع الشركات المملوكة للعائلات؛ حيث تتطلع الشركات إلى توسيع نطاقها وهيمنتها([13]).
وبتحديد بعض الأمثلة للشركات الإفريقية العائلية التي تبلغ إيراداتها السنوية 50 مليون دولار أو أكثر؛ حيث يكون رأس المال المساهم الذي يسيطر عليه أفراد الأسرة في جيله الثاني على الأقل، وتسيطر الأسرة على ما لا يقل عن 30٪ من حقوق الملكية والتصويت. تشمل هذه الشركات العائلية الإفريقية الأكثر نجاحًا السلع الفاخرة والبناء والزراعة والخدمات المصرفية والتجزئة، مثل([14]):
- شركة ريمجرو التي تأسست عام 1941م بجنوب إفريقيا على يد أنطون روبرت في عام 1941م، بدأ أنطون روبرت، رجل الأعمال الأفريكاني من جنوب إفريقيا، في تصنيع السجائر من مرآبه باستثمار قدره 10 جنيهات إسترلينية. وأصبحت شركة السجائر التي أسَّسها، رامبرانت، واحدة من أكبر شركات التبغ في إفريقيا. ومع نمو رامبرانت، قام روبرت بعد ذلك بتنويع الشركة من تصنيع التبغ إلى قطاعات السلع الصناعية والسلع الفاخرة. وفي عام 1988م، انضم ابنه يوهان إلى رامبرانت، وقسمها إلى قسمين: ريمجرو، وهي شركة استثمارية مدرجة في بورصة جوهانسبرغ، ولديها حصص في قطاعات البنوك والرعاية الصحية والصناعة. وريتشمونت، وهي شركة سلع فاخرة مقرها سويسرا.
- شركة تشيكرز لتجارة التجزئة للأغذية في جنوب إفريقيا: تأسست على يد “رايموند أكيرمان” تأسست عام 1966م، كانت تُتاجر تحت اسم Pick n Pay. وهي واحدة من أكثر منافذ البيع بالتجزئة شهرة وأكبرها من خلال بناء سمعة قوية ومحاربة كارتلات الموردين في الخبز والبنزين والسجائر والعديد من الصناعات الأخرى. تمتلك الآن ما يقرب من 800 متجر في جنوب إفريقيا. تنحَّى رايموند أكيرمان عن منصبه كرئيس تنفيذي للشركة في عام 2010م، مما أفسح المجال لابنه البكر “جاريث أكيرمان”، وتعد ثاني أكبر شركة بقالة في جنوب إفريقيا.
- مؤسسة دانتاتا: تأسست عام 1910م على يد بطريرك عائلة دانتاتا، الحسن دانتاتا، الذي بدأ في تجارة السلع مثل جوز الكولا والكاكاو والخرز والفول السوداني في لاغوس وأكرا تحت اسم الشركة، الحسن دانتاتا وأولاده المحدودة، وهي تكتُّل كبير له مصالح في التنقيب عن النفط والتصنيع والخدمات المصرفية والتمويل والاستيراد والتصدير والزراعة، بالإضافة إلى التسويق وتجارة السلع الأساسية، وتتجاوز الإيرادات السنوية للمجموعة 300 مليون دولار سنويًّا.
- شركة محمد إنتربرايز المحدودة: وهي واحدة من أكبر التكتلات الصناعية في شرق إفريقيا. أسس “غلام دوجي” التكتل منذ عقود كشركة لتجارة السلع الأساسية. يتجاوز حجم مبيعاتها مليار دولار، مدفوعة بشكل أساسي بوحدات تصنيع المنسوجات والصابون، لكنَّ ديوجي الأصغر قام أيضًا بتوسيع مصالح الشركة لتشمل الخدمات المالية وتجارة التجزئة وتسويق البترول.
- في عام 1918م، أسَّس “مولجيبهاي مادهفاني” في شرق أوغندا، مصنعًا للسكر. Kakira Sugarworks، هو اليوم أكبر مُنتِج للسكر في منطقة شرق إفريقيا؛ حيث ينتج ما يقدر بنحو 165 ألف طن متري من السكر سنويًّا، ويعمل به أكثر من 8000 شخص. كما أسَّس لشركة الرائدة لمجموعة Madhavani، وهي مجموعة أوغندية كبيرة تمتلك العديد من الفنادق ومزارع الشاي وشركات البناء والتأمين والتوزيع. كما تمتلك وتدير مطار Kakira. يشغل “مايور مادهفاني”، الابن الأصغر لمولجيبهاي مادهفاني، حاليًّا زمام الأمور كرئيس تنفيذي للمجموعة، وهو المنصب الذي تولاه بعد وفاة إخوته الأكبر سنًّا. لعب مايور دورًا حاسمًا في تنشيط المجموعة، وهو مسؤول عن تنويع اهتمامات مادهفاني من التصنيع إلى الصناعات المرتبطة بالخدمات. ويتم إعداد ابنته الصغرى لتولي المنصب.
سادسًا: التحديات التي تواجهها الشركات العائلية في إفريقيا جنوب الصحراء
إن الشركات العائلية الإفريقية مقيدة بعددٍ من العوامل، بعضها خارجي والبعض الآخر داخلي. وتشمل التحديات الخارجية: أولًا الوتيرة السريعة للتغير التكنولوجي والعولمة التي جعلت التجارة عبر الحدود ممكنة، مما يُعرّض الشركات العائلية لمنافسة عالمية أكبر من الشركات العائلية في أجزاء أخرى من العالم أثناء نشأتها.
ثانيًا: تواجه العديد من البلدان الإفريقية بيئة اقتصادية كلية غير مواتية للغاية، مع ارتفاع أعباء الديون، وارتفاع التضخم، ونقص النقد الأجنبي، وكل ذلك يؤثر سلبًا على قدرة الشركات العائلية على البقاء أو المنافسة أو التوسع. كما أنها مُعرَّضة بشدة لعدم اليقين السياسي، وقد وقع العديد منها ضحية لارتفاع النزعات العرقية. كما تتعرض البلدان لضغوط لتعبئة موارد محلية إضافية لتمويل أهداف التنمية المستدامة وأجندة 2063، وفي سعيها لتحقيق هذه الغاية، فرضت ضرائب جديدة، وهي الإجراءات التي تعرقل نموّ الشركات العائلية. وأخيرًا، تجعل المهارات والمعرفة غير الكافية الترقية التكنولوجية صعبة ومكلفة للشركات العائلية.
كما تواجه تحديات داخلية وأهمها الحوكمة، وغالبًا ما تفشل في وضع هياكل حوكمة داخلية كافية وقوية لدفع الأعمال إلى التقدم بعد مرحلة ريادة الأعمال أو البقاء على قيد الحياة بعد وفاة المؤسس. إن نموّ هذه الشركات قد يكون مقيدًا بقاعدة المعاملة بالمثل في المجتمعات التقليدية ونظام الأسرة الممتدة في إفريقيا؛ حيث من المتوقع أن يقوم المؤسّس بتوظيف أفراد الأسرة والأقارب والأصدقاء دون مراعاة الكفاءة والاحترافية. كما أن ارتفاع معدل الفقر ونسبة الإعالة المرتفعة الناتجة عنه يخلق حالة؛ حيث يتم تفسير ملكية الشركة على أنها دليل على الثراء.
كما أن إرسال الأبناء إلى الغرب للحصول على التعليم العالي، وهو ما يوافق ميول أثرياء إفريقيا، يمثل خطرًا على بقاء الشركات العائلية؛ حيث قد لا يعود بعض هؤلاء الأبناء أبدًا لمواصلة وتنمية الأعمال التجارية. كما يمكن أن يكون التمويل مصدرًا آخر لتهديد بقاء الأعمال التجارية المملوكة للعائلات الإفريقية. فبعض الأعمال التجارية العائلية الأكبر حجمًا إما أن تكون “تحولًا” أو تحويلًا للإثراء الفاسد مِن قِبَل المسؤولين الحكوميين السابقين أو منتجات البحث عن الريع من قِبَل المؤسسين. وتموت بعض هذه الأعمال التجارية عند وفاة المؤسس؛ حيث تغلق القنوات. ونظرًا لصعوبة نقل رأس المال، فإن وفاة المؤسس قد تؤدي إلى إيقاف تدفق الأموال الفاسدة و/أو الريع التي كانت مصدر نمو الأعمال التجارية([15]).
وسوف تحتاج الشركات إلى مراعاة مجموعات جديدة من أصحاب المصلحة الذين لديهم توقعات مختلفة حول ما يبني الثقة، والذين يستهلكون المعلومات بطرق مختلفة تمامًا؛ حيث كانت النتائج الرئيسية التي توصلت إليها دراسة PwC حول الشركات العائلية في إفريقيا 2023م. كانت الثقة ولا تزال ميزة تنافسية حيوية تُميِّز الشركات العائلية عن الشركات الأخرى. ويؤكد مقياس الثقة Edelman أن الشركات العائلية تحظى بثقة أكبر من الشركات الأخرى؛ حيث إن درجة الثقة لديها أعلى بست نقاط مئوية من الشركات بشكل عام. ومع ذلك، فقد فقدت ميزة الثقة عندما تمَّت المقارنة بين عامي 2013 و2023م.
إن مستويات الثقة الأعلى قد تؤدي إلى أداء أفضل، كما أثبتت دراسة حديثة أجرتها شركة PwC، -والتي أظهرت ارتباطًا قويًّا بين الثقة والربحية- أن إيجاد طرق لحماية ورعاية هذه الثقة أمر ضروري لتحقيق الأهداف الطموحة طويلة الأجل التي يقول المشاركون في الاستطلاع إنهم يسعون إلى تحقيقها([16]).
لقد ركزت الشركات العائلية تقليديًّا على الأمد البعيد، وكانت تتجنَّب المخاطرة، ولكن الواقع الجديد وطريقة إدارة الأعمال، مثلاً نتيجة لوباء كوفيد-19، أدَّى إلى إعادة تقييم العائلات لغرضها، وكذلك إعادة تأكيد قيمها والدور الذي تلعبه في المجتمع الأوسع. بالإضافة إلى ذلك، هناك تركيز متسارع على الخلافة ودور الجيل القادم في الحوكمة والملكية والقيادة. لذلك من الأهمية بمكان وضع خطة خلافة مفصلة لضمان الاستعداد الكافي لمستقبل غير مؤكد. يزداد هذا التحدي بسبب الانفجار التكنولوجي والرقمي، ويتطلب من العائلات أن تُصبح أكثر توجُّهًا نحو ريادة الأعمال في عملياتها التجارية([17]).
خاتمة وتوصيات:
إن الشركات العائلية في إفريقيا جنوب الصحراء هي مدارس حقيقية لإنتاج رواد الأعمال، في تلك المجتمعات التي لها خصوصيتها. ومع اندثارها تضيع مجموعة المعرفة والخبرة التي لا يمكن تعويضها، مما يشكّل خسارة كبيرة للدول التي تسعى إلى إنشاء فئة من رواد الأعمال لتعزيز حدود تنميتها وتحويل اقتصاداتها. ومِن ثَم يتعين على الحكومات الإفريقية أن تعمل بنشاط على تعزيز الشركات العائلية في حد ذاتها، وليس كشركات صغيرة ومتوسطة الحجم أو كيانات تابعة للقطاع الخاص، نظرًا للدور الحاسم الذي تلعبه في احتضان وولادة رواد الأعمال الجدد وتعزيز النمو الاقتصادي. كما يتعين عليها أن تصمّم وتنفّذ سياسات وحوافز ولوائح مناسبة لتعزيز نموّها وخفض معدلات اندثارها. وكذلك توفير البيانات الخاصة بها بشكل منتظم للمساعدة في البحث وصنع السياسات المناسبة لاستدامتها.
كما أن التجارة الدولية تُشكّل أهمية أساسية لنموّ الشركات العائلية وبقائها، ولذلك يتعين على الحكومات الإفريقية أن تُنفّذ بجدية منطقة التجارة الحرة كمحرّك إضافي لنمو الأعمال. وتعمل على تحسين الإدارة الاقتصادية؛ حيث أثرت البيئة الاقتصادية الكلية السيئة، وخاصةً نقص النقد الأجنبي، في العديد من البلدان الإفريقية، سلبًا على الشركات العائلية، وخاصةً تلك التي تفتقر إلى “رأس المال الاجتماعي” كما ينبغي تحفيز الشركات العائلية على الإدراج في البورصات الثانوية.
………………………………………………
[1]) سامح عودة، لماذا تكره الرأسمالية الأسرة وتسعى لتفتيتها؟ 28/6/2018. متاح على الرابط:
https://www.ajnet.me/midan/intellect/sociology/2018/6/9
[2]) William Murithi, Natalia Vershinina, Peter Rodgers. Where less is more: institutional voids and business families in Sub-Saharan Africa. International Journal of Entrepreneurial Behaviour and Research, In press,pp.1-11. at: https://www.emerald.com/insight/content/doi/10.1108/IJEBR-07-2017-0239/full/html
[3]) Moses Acquaah (ed), Family Businesses in Sub-Saharan Africa Behavioral and Strategic Perspectives (New York: Palgrave Macmillan,2016.pp.1-2.
[4]) حسان بوحليقة، الأثر الاقتصادي للشركات العائلية. متاح على الرابط: https://www.alarabiya.net/aswaq/2015/11/24/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AB%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D8%A6%D9%84%D9%8A%D8%A9
[5]) Aloysius Uche Ordu, Foresight Africa Top Priorities for the Continent in 2024.at:
[6]) Welcome Kupangwa, The African philosophy of Ubuntu and family businesses: a perspective article.pp.1-11.at:
https://www.emerald.com/insight/content/doi/10.1108/JFBM-10-2023-0216/full/html
[7]) Idem.
[8]) Liam Bailey(ed), 18th Edition of the Knight Frank Wealth Report 2024.at: https://content.knightfrank.com/resources/knightfrank.com/wealthreport/the-wealth-report-2024.pdf
[9]) pwc, Africa Family Business Survey 2023.at:
https://www.pwc.co.za/en/publications/family-business-survey.html
[10]) Julie Howard and Aakash Mohindra, The key to successful African Family Businesses? Good governance & succession planning, 08 Jul 2024.at: https://www.boodlehatfield.com/articles/the-key-to-successful-african-family-businesses-good-governance-succession-planning/
[11]) Idem.
[12]) Chair of Succession and Family Enterprise, BOPLAAS 1743 .at: https://chaireentreprisefamiliale.hec.ca/en/boplaas-1743/
[13]) asokoinsight, Kenya’s Leading Family-Owned Businesses, 2019.at: https://www.asokoinsight.com/content/market-insights/kenya-s-leading-family-owned-businesses
[14]) Mfonobong Nsehe, The 10 Leading Family Businesses In Africa, 2014.at: https://www.forbes.com/sites/mfonobongnsehe/2014/01/08/the-10-leading-family-businesses-in-africa/
[15]) Aloysius Uche Ordu, Op.cit.
[16]) https://www.pwc.co.za/en/publications/family-business-survey.html
[17]) kpmg, African Family Business Barometer African Family Business Barometer – Third Edition | November 2020.at: https://kpmg.com/ng/en/home/insights/2021/01/african-family-business-barometer.html