توافد عشرات الزعماء والمسؤولين الأفارقة إلى مدينة يوكوهاما اليابانية في أواخر أغسطس الماضي لحضور النسخة السابعة من “مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الإفريقية” (TICAD)، الذي يُمَثّل حجر الزاوية لجهود اليابان الإنمائية تجاه القارة الإفريقية، ويُنظَّم بالتعاون مع عددٍ من الشركاء الدوليين؛ بما في ذلك الأمم المتحدة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك الدولي، ومفوضية الاتحاد الإفريقي.
وقد أكّد هذا المؤتمر الأخير على تعزيز تحوّل اليابان من تقديم “المساعدة المباشرة” إلى شراكة أكثر شمولية مع إفريقيا تنطوي على العمل مع القطاع الخاص في التنمية المستدامة والبنية التحتية الحيوية. وقد أعلن رئيس الوزراء الياباني “شينزو آبي” أنَّ القطاع الخاص الياباني سيستثمر 20 مليار دولار على مدار ثلاث سنوات قادمة في إفريقيا، وأن بلاده ستوفّر “دعمًا غير محدود” للاستثمار والابتكار والمشاريع وريادة الأعمال، بدعم من المؤسسات التي تدعمها الحكومة اليابانية.
وبغضِّ النظر عن وعود التعاون والشراكة، أصبح “مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الإفريقية” واحدًا من المؤتمرات التي يتكرَّر حدوثها في جميع أنحاء العالم باسم إفريقيا أو “مساعدة القارة” على التطوُّر والتنمية؛ حيث يجتمع الناس وتقدم البلدان تعهداتها مع جذب الشركاء الأفارقة لـ “المساعدة والتجارة والاستثمار”. ومع ذلك، فإن وجود الصين ونفوذها في إفريقيا أكبر من تعهدات المؤتمر؛ لأن الصين حاليًا تُعتبر أكبر شريك تجاري لإفريقيا وأكبر مُمَوِّل للبنية التحتية؛ ففي العام الماضي، تعهَّد الرئيس الصيني “شي جين بينغ” بتقديم 60 مليار دولار لمشاريع التنمية في إفريقيا.
ربط الاستراتيجية بمصالح السياسة الخارجية:
إنّ خطط اليابان بضخّ المزيد من الاستثمارات في مشاريع البنية التحتية إلى إفريقيا يعني أن التنافس الطويل بين الصين واليابان سينتقل مرة أخرى إلى إفريقيا؛ حيث الصين التي قدَّمت الأموال على مدى عقود للقارة الإفريقية ستراقب باهتمام نتائج وخُطَّة تنفيذ تعهُّدات اليابان وشراكتها مع قادة ومسؤولي 54 دولة إفريقية ومؤسساتها.
ومن ناحية الحجم والتأثير، فإنَّ استثمارات اليابان في إفريقيا، وتعهداتها الأخيرة، لم تكن بعدُ كافية لزعزعة هيمنة الصين، خصوصًا وأن استراتيجية اليابان التقليدية والسابقة هي تركيز جهودها في دبلوماسية القوَّة الناعمة، وذلك من خلال توفير مساعدات التنمية.
وقد شهدت هذه الاستراتيجية في الآونة الأخيرة تحولاً جذريًّا. والسبب يعود -في رأي البروفيسور “ج. بيركشاير ميلر” خبير شؤون شمال شرق آسيا- إلى أن اليابان -نظرًا لحجمها ومشاكلها الاقتصادية المحلية- تواجه صعوبة كبيرة في التنافس من حيث كمية التمويل مع لاعبين آخرين في القارة، وخاصة الصين. كما أن اليابان أدركت أهمية ربط مساعدتها واستثماراتها بمصالح سياستها الخارجية الأساسية؛ بما في ذلك تعزيز رؤيتها الحرة والمفتوحة في المحيط الهادئ (FOIP)، والتي تلعب فيها إفريقيا دورًا مهمًّا.
وتأمل اليابان أيضًا أن يساعد دعمها للتنمية المستدامة في إفريقيا في الحصول على دعم أعضاء “مؤتمر طوكيو الدولي للتنمية الإفريقية” الآخرين لإصلاح الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فقد حاولت اليابان -وهي أحد أكبر المانحين للأمم المتحدة– مرارًا الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، وحثَّت الدول الإفريقية -من بين دول أخرى- على دعم موقفها. وأَوْلَتْ إفريقيا أهمية خاصة في حملتها؛ نظرًا إلى عدد الأصوات (54 دولة) الإفريقية، ليتحوّل الهدف المشترك بين اليابان وحلفائها الدوليين –بما في ذلك الدول الإفريقية- تجاه الأمم المتحدة هذا العام إلى تأكيد جميع الأطراف على ضرورة “الإصلاح العاجل” للأمم المتحدة، وسعيهم إلى تحقيق ذلك.
توفير ثِقَل أيديولوجي مُوازَن للصين:
وإذ تجد اليابان تحدِّيًا في منافسة الاستثمار الصيني في القارة؛ لأن الصين تُمَوِّل مشاريع هائلة وبرامج واسعة كبيرة؛ فإن طوكيو تركِّز على نقاط قوتها الأساسية –تعزيز التنمية المستدامة- من خلال تمويل شراكات تهدف إلى تعزيز الابتكار التكنولوجي، والتصنيع، والاستثمار المؤثر، والبناء المؤسسي، والتكيُّف مع تغير المناخ. وتهدف استراتيجية اليابان أيضًا إلى توفير ثقل أيديولوجي موازن للصين، كما أعلن “آبي” في مؤتمر TICAD السادس في نيروبي عام 2016م، من خلال بناء شراكة “تقدر الحرية وسيادة القانون واقتصاد السوق، خالية من القوة أو الإكراه”.
“إنها خطوة بعيدة عن المساعدات التقليدية نحو مزيد من المشاركة التجارية، ومعها تركيز أقوى على خطط التنمية وبرامج الوكالة الإفريقية على نهج إرشادي أكثر تقليدية”؛ هكذا قال “كوبوس فان ستادن” باحث في العلاقات الصينية الإفريقية بمعهد جنوب إفريقيا للشؤون الدولية لموقع “كوارتز”.
وأضاف أنه في مؤتمر هذا العام، بدا أن المسؤولين اليابانيين حريصون على التقليل من أهمية الرواية والتقارير التي تقول إنهم يحاولون مواجهة الصين في إفريقيا. لكن الصين -كما أشار “فان ستادن”- قد لعبت دورًا كبيرًا في إقناع الجهات الفاعلة الدولية بأنه من الممكن إقامة علاقات تجارية ناجحة مع إفريقيا. بل بالنظر إلى تزايد عدد سكان القارة واعتمادهم السريع على التكنولوجيا وتحسين البنية التحتية والتعليم، فإن الفاعلين الخارجيين أصبحوا يدركون أن القارة ستكون قوة اقتصادية في القرن القادم.
توجيه الاستثمار في المجالات الحيوية
لقد أفادت وزارة الخارجية اليابانية بأن هناك 75،531 مكتبًا للشركات اليابانية في الخارج اعتبارًا من أكتوبر 2017م، ولكنَّ 796 مكتبًا أو ما يقرب من 1٪ فقط من هذه المكاتب تقع في إفريقيا. فبدأت السلطات باليابان تشجِّع شركاتها على العمل مع الشركات الناشئة في إفريقيا، وتحمَّلت تيسير وإقامة اجتماعات الشراكة، وتوقيع اتفاقيات التعاون مع هذه الشركات، وأصبحت الشركات اليابانية الآن -كنظيراتها الصينية- تنظر إلى إفريقيا كوجهة للاستثمار.
ونتيجة لتلك الجهود؛ استثمرت في العام الماضي شركة “تويوتا” لصناعة السيارات مليوني دولار في شركة “ Sendy” للوجستيات بكينيا، واستثمرت شركة “ Sumitomo” في شركة “ M-Kopa” للطاقة الشمسية التي تتخذ من نيروبي مقرًّا لها. وقامت شركة التأمين اليابانية “Sompo Holdings” بتمويل منصة الدفع “BitPesa“، بينما حصل تطبيق “Max” للدراجات النارية في نيجيريا على 7 ملايين دولار من شركة “Yamaha” اليابانية لصناعة الدراجات النارية.
وفي أواخر شهر أغسطس الماضي، أعلنت شركة “Mitsubishi” لصناعة السيارات عن توفير 50 مليون دولار لتمكين “BBOXX” من التوسع في آسيا، وهي شركة الطاقة الشمسية التي توفر حلول الطاقة النظيفة بأسعار معقولة لقارة إفريقيا، كما توفر الألواح الشمسية وبطاريات التخزين للمنازل باستخدام طريقة الدفع الفوري.
“اليابانيون يتبنَّوْنَ رؤية طويلة المدى للطاقة”؛ يقول “سيمون برانسفيلد غارث” -الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة أزوري تكنولوجيز” التي توفّر حلول الطاقة الشمسية خارج الشبكة في القارة- في مقابلة مع “فوبز”. وأضاف: “إن ذلك يعني تبنّي نظرة تقدمية للقطاع. زمام المبادرة الذي تأخذه الشركات اليابانية فيما يتعلق بإفريقيا هو: كيف يمكن إطلاق أحدث التقنيات هناك”.
ويفسِّر نظرة اليابان التقدمية أيضًا تصريح رئيس الوزراء “آبي” لوفد إفريقي في اليابان: “إننا في عصر ستحلّ فيه التحديات التي تواجهها إفريقيا من خلال العلوم والتكنولوجيا والابتكار”.
أما عن تحوّل اليابان في المؤتمر الأخير من المنهج القائم على تقديم “المساعدة” إلى المنهج القائم على الاستثمار وتعزيز التنمية المستدامة؛ حيث لم يصدر رئيس الوزراء الياباني “آبي” أي إعلانات أو بيانات بشأن المساعدات؛ فهذا يعود إلى تزايد الاهتمام العالمي بالفرص الاستثمارية بإفريقيا، ووجود بدائل أخرى للقروض، أو تزايد المخاوف حول الاقتصاد العالمي.
ويرى “كوبوس فان ستادن” أن ذلك قد يكون مؤشرًا على انخفاض الرغبة الإفريقية والدولية للحصول على القروض الكبيرة، خصوصًا وأن الصين تواجه انتقادات بأن ممارساتها للقروض تدفع الدول الإفريقية إلى الديون. وأضاف: “اليابان تشجّع استثمارات القطاع الخاص بدلاً من القروض والمساعدات، ولكنَّ مدى تأثير ذلك لم يتَّضح بعدُ”.