خلال أيام مضت, كان ما جاء في تصريحات رئيس الوزراء البريطاني “ديفيد كاميرون” محرجا بالنسبة لمراقبين دوليين, عندما سُرّب فيديو وهو يتحدث مع الملكة اليزابيث الثانية بأن الفساد في أفغانستان ونيجيريا كان “بشكل خيالي” ، و “ربما كانت الدولتان من أكثر دول العالم فسادا”. وقد صرّح بقوله هذا في حفلة قصر بكنجهام يوم الثلاثاء، في يومٍ قبل حدوث اجتماع قمة في بريطانيا حول موضوع الفساد, والذي شارك فيها كل من رئيس الدولتين المذكورتين.
بعد تلك التصريحات الحرجة من شخصية عالية, تناول محللون عبر تغريدات ومقالات مضمون الحديث وكيف ساهمت بريطانيا في تفاقم الفساد في المجتمع النيجيري, إلا أن البعض لم يُثِر ما جاء في الفيديو المسرّب دهشتهم, لأن هناك مشهدا آخر في مرئية أخرى مسربة من الحفلة نفسها, حيث سُمعت الملكة البريطانية وهي تصف أو ربما هي تشكو من سلوك المسؤولين الصينيين “غير المهذب” خلال زيارة رسمية في اكتوبر.
دافعت “الشفافية الدولية”, المؤسسة الرائدة في مكافحة الفساد، يوم الثلاثاء بقوة عن نيجيريا كدولة شهدت الكثير من التغيرات وما زالت تبذل جهدا كبيرا في القضاء على الفساد, مشيرة إلى أن تصريحات رئيس الوزراء البريطاني كانت نفاقية.
وفي تعليق “سواردت دي كوبو” ، العضو المنتدب في المنظمة على فيديو كاميرون، يرى أن المملكة المتحدة كانت “جزءا كبيرا من مشكلة العالم حول الفساد”.
“ليس هناك شك تأريخيا في أن لنيجيريا وأفغانستان مستويات عالية جدا من الفساد، والتي لا تزال موجودة حتى يومنا هذا.. لكن قادة تلك الدول قد أرسلوا إشارات قوية بأنهم يريدون أن تتغير الأوضاع، ومؤتمر لندن لقمة مكافحة الفساد يخلق فرصة لجميع الدول أن تشارك للتوقيع على عهد جديد.”
“هذا يؤثر على المملكة المتحدة بقدر ما يؤثر على الدول الأخرى: لا ينبغي لنا أن ننسى أنه من خلال توفير ملاذ آمن لأصول فاسدة, كانت المملكة المتحدة وأقاليمها فيما وراء البحار والأقاليم التابعة لمملكتها هي جزء كبير من مشكلة الفساد في العالم”, وفقا لردّ سواردت.
أما ردود أفعال النيجيريين تجاه الحدث, فلم يروا أن الوزير البريطاني أتي بجديد, لكنهم أحسوا بشئ من عدم الاحترام, وكأن ديفيد كاميرون يغمض عينيه عن محاولات وجهود نيجيريا منذ أن تولّى الرئيس محمد بخاري السلطة, في محاربة الفساد ورجاله وفروعها والتي بالفعل استردت نيجيريا حتى الآن مبالغ هائلة داخل نيجيريا وخارجها بالتنسيق مع عدة دول وبنوكها التي يوجد فيها أموال مهربة أو ممتلكات مخفية.
محمد بخاري.. فقدان حلقة التواصل بين الرئيس وشعبه
لا يوجد اختلاف في أن الذين انتخبوا الرئيس النيجيري الحالي في الانتخابات الماضية على أقسام؛ بعضهم صوّت لصالح محمد بخاري على خلفية سمعته ونشاطاته إبان رئاسته أثناء كونه عسكريا – وأغلبهم من الكبار والشيوخ, وهناك من أيدوه لكونهم يئسوا تماما من سياسات حكومة غولاك جوناثان – وجل هؤلاء من الشباب.
إن التأييد المثالي الذي حظي به الرئيس محمد بخاري في تلك الانتخابات يكفي – باتفاق العديد من الخبراء – لنجاح حكومة جديدة تحمل سياسات واقعية وخططا وطنية شاملة, وخاصة إذا ما أدركنا أن أهم ما يطلبه الجمهور النيجيري من رئيسهم هو (أ) القضاء على الفساد و (ب) الإصلاح الشامل للاقتصاد و (ج) خلق فرص العمل و (د) ثبات إمدادات الطاقة الكهربائية و (ه) التعليم المجاني.. ولئن أضفنا محاربة الإرهاب فهذا يعني أنها حاجة طارئة. وكل ما سبق ذكره مطالب لا يمكن فصلها عن أخرى.
لكن ما يجري في نيجيريا في الوقت الراهن, يخبر بأن هناك انقطاعا ما بين حكومة محمد بخاري ومواطنيه, وخاصة حول نشاطاته هو ووزراؤه, ناهيك عن التخبطات التي يقع فيها هو وحزبه, وأبرزها عدوله عن بعض الوعود التي وعد الشباب إياها في حملاته الانتخابية, إضافة إلى الأعذار المتكررة الدائمة من قبل متحدثيه ووزرائه بأن أسباب المشكلات والأخطاء الجارية تكمن في فشل الرئيس السابق. فالجميع يعرفون تماما فشل الحكومة السابقة ولذا اختاروا حكومة جديدة, وأن تتغنّي الحكومة الجديدة بأن أخطاءها وتخبطاتها تسببها حكومة سابقة يشعر المواطنين بأن هذه الحكومة غير صالحة للمهام الموكلة إليها.
بل يذهب كُتاب ومحللون إلى أن غاية ما يريده محمد بخاري وحزبه – عندما كانوا معارضين في حكومة جوناثان – الوصول فقط إلى السلطة دون قراءة متأنية لأوضاع البلاد ووضع برنامج سياسي ملائم وخصوصا إصلاحات اقتصادية حقيقية.. أو بالأحرى؛ نسي محمد بخاري أن نيجيريا التي شغل فيها منصب وزير البترول والموارد الطبيعية في عام 1976 ثم صار رئيسها في عام 1983, ليست هي نيجيريا اليوم, فالأشياء تغيرت والاقتصاد العالمي يتدهور, ومن ثَمّ على السياسات أن تتغير أيضا لتناسب الواقع المعاش.
تجدر الإشارة إلى أن الرئيس محمد بخاري يواصل تسجيل عدة انتصارات في حربه على الجماعة المعروفة بـ”بوكو حرام”, كما أن هناك شبه نجاح نسبي في حربه على الفساد, إذ يحاكم حاليا شخصيات وعشرات من المسئولين في الإدارة السابقة بتهم سرقة أموال الدولة وغيرها. ولكن من الناحية الاقتصادية, تتعرض حكومته لعدة انتقادات من المعارضين والمؤيدين على حد سواء.
كانت بداية الانتقادات عندما أعلن البنك المركزي بشكل فوري وقف بيع العملات الأجنبية والفوركس لمكاتب الصرافة وغيرها، كجزء من تدابير للحد من الضغوط على الاحتياطيات الأجنبية للبلاد. ومع أن لهذا القرار إيجابياته على اقتصاد البلاد, إلا أن الحكومة تغاضت عن حقيقة أن آباء ملايين النيجيريين في الخارج يدفعون رسوم أبنائهم للدراسة ويرسلون إليهم الأموال عن طريقه, وسيكون وقف البيع دون إيجاد مخرج أو حل آخر للطلبة البسطاء والمواطنين خارج الدولة كصناعة طرق أخرى للإجرام أو دفعهم إلى الفساد.
خلال يومين ماضيين, انخفضت العملة النيجيرية إلى أدنى مستوياتها منذ سنوات مقابل الدولار. وكأكبر منتج للنفط في أفريقيا, يواجه البلاد أسوأ أزمة مالية منذ سنوات, مما ساهم في غلاء الحاجيات والأطعمة البسيطة. وقد عزا مسؤولو مكاتب الصرافة أسباب ذلك إلى تزايد ندرة الدولارات والجنيهات الاسترلينية في السوق النيجيري, بالإضافة إلى انخفاض سعر برميل النفط عالميا – المصدر الرئيسي لإيرادات نيجيريا. وكما تشير عدة مؤسسات مالية داخل نيجيريا وخارجها, فإن الحل في هذه المرحلة هو أن تقوم الحكومة بتخفيض رسمي لقيمة عملة البلاد “نايرا”, لكن الحكومة بدلا من التخفيض، فهي تقيد الحصول على العملة الأجنبية وتحظر لائحة طويلة من الواردات، وهي خطوة – وفقا لمدير قسم أفريقيا في صندوق النقد الدولي “أنطوانيت سايح” – “تضر جدا” بالبلاد. بل الرئيس “بخاري” يرفض رفضا قاطعا دعوات لتخفيض قيمة العملة – مع أنه أسلوب ساعد الدول الأفريقية الأخرى على التعامل مع الضغوط الاقتصادية.
ومما أثار استغراب الناس أيضا؛ سيناريوهات ميزانية البلاد لعام 2016, وكيف كان الرئيس ومجلس الشيوخ يتبادلان اللوم بسبب التلاعب في الأرقام والنقص المخزي الموجود في الميزانية. بالإضافة إلى أن الرئيس لا يستجيب أو لا يؤتي أمره بعجالة كافية لحوادث تهدد استقرار وأمن البلاد, فقد رأيناه يعزي بلجيكا في مارس بعد حوالي يومين فقط من الهجوم الذي تعرضت له, لكن الرئيس صامت لحوالي أسبوعين على حوادث عرقية قد تهزّ وحدة الوطن, بل لم يصدر أية أوامر إلا بعد مقتل العشرات وطالته عدة انتقادات المواطنين.
من الملاحظ أيضا أنه يشعر بشيء من الراحة عندما تحاوره القنوات الغربية والأجنبية, ويعطي مقدمي تلك القنوات أثناء الحوار معلومات قيمة جديدة لم يُسمِعها شعبه وإعلامهم, والذي من المفترض أن يحدثهم إياها كي يكونوا على دراية عن واقع البلاد, الأمر الذي يخفف من الضغوطات عليه ويريح بال الكثيرين أنه يبذل قصارى جهده. فقد لزمت إدارته بالسكوت منذ حوالي سنة من توليه للرئاسة بشأن طبيعة وكمية الأموال المستردة من المتهمين بالفساد, غير أن الجميع تفاجأوا صباح يوم السبت وهو في المملكة المتحدة قائلا: “سأكشف عن كمية المسروقات التي تم استرجاعها وأسماء الذين سرقوها والوزارات أو القطاعات التي قاموا بها في يوم 29 مايو” , مما أثار غضب الإعلاميين النيجيريين وخاصة الذين يؤيدونه من مقدمي الإذاعات المحلية, وذلك لأنهم يقدّمون خطابات بشكل مستمر لمحاورته لكن مسئوليه يقابلونهم بالرفض.
صحيح أن شعبية الرئيس بخاري تشهد انخفاضا ملحوظا بين المجتمع النيجيري, لكن ما أدى إلى ذلك قد يكون فقدان بخاري حلقة التواصل مع المواطنين. ومع ذلك, ما زال ملايين النيجيريين يرون الأمل في حكومته حتى بعد مكوثه سنة في الرئاسة ولم يروا ما وُعد به .
غودلاك جوناثان ..الغائب الحاضر
إذا كان للإنسان نصيب من اسمه, فهذا ينطبق تماما على الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان, وذلك منذ دخوله في السلك السياسي, إلا أن الحظ وحده لا يكفي لإدارة قرية صغيرة فضلا عن دولة كنيجيريا. فقد كان اسمه غودلاك باللغة الإنجليزية يعني “حظا طيبا”. وبالفعل كان من أوفر رؤساء نيجيريا السابقين حظا في كل وسائل وأدوات النجاح, لكن إدارته من أكثر الحكومات الماضية فسادا وتقهقرا.
لم يمرّ شهران منذ أن ترك جوناثان رئاسة نيجيريا إلا ويرد اسمه في المحاكم أثناء مقاضاة المسئولين والسياسيين الذين كانوا أعضاء في حزبه أو وزراء في حكومته, مما يجعل الكثيرين يتساءلون عن حقيقة ما قدمته حكومة غودلاك جوناثان لنيجيريا. فقد كان للنفط قيمة عندما كان رئيسا خلافا لانخفاض أسعاره اليوم, ومع ذلك لم يقدم أي سياسات اقتصادية مستدامة لإنقاذ اقتصاد البلاد من الهاوية التي تشهدها اليوم.
إن فشل غودلاك جوناثان واستشراء الفساد لم يكن صدفة, حيث سبق أن أدلى بتصريح مخيب للأمل, عندما قال في عام 2014 أثناء حواره الرئاسي مع وسائل إعلام البلاد : ” لا يوجد فساد في نيجيريا, بل ما يوجد هو مجرد سرقة”. فرئيس البلاد لا يرى أي علاقة بين السرقة والفساد, وما على العاملين تحته سوى النهب والسرقة لأنه لا يوجد حكومة تحاسبهم. فصارت النتيجة بعد مجيئ بخاري محاكمة العشرات واحتجاز المئات من قبل لجنة الجرائم الاقتصادية والمالية بتهم متباينة لها ارتباط وثيق بالفساد.
في فترة حكومته, اشترت وزيرةٌ سيارتين فقط مضادتين للرصاصة بـ 255 مليون نايرا، وهذا برأي جوناثان سرقة فقط وليس فساد, واختفى أيضا 20 مليار دولار من خزانة الدولة دون مساءلة قضائية. وما قضية وزيرة البترول والمليارات التي استخدمتها للحفاظ على الطائرات الخاصة ببعيد.
انتقدت وزيرة خارجية الولايات المتحدة في مقابلة علنية مع “ايه بي سي نيوز” منذ عامين، الحكومة النيجيرية أيام رئاسة جوناثان, قائلة: “لقد أهدروا ثرواتهم النفطية، وسمحوا لتفاقم الفساد والآن يفقدون السيطرة على أجزاء من أرضهم لأنهم لم يقوموا بالخيارات الصعبة”.
فقد تكون الوزيرة صادقة في بعض أقوالها, ولكنها مخطئة في البعض الآخر, إذ أن نيجيريا حاليا تواجه لحظات الحقيقة, ومما يبدو أن رئيسها الجديد ونائبه وعدد من وزارئه تعنيهم هموم المواطنين. وقد يكونوا قد ارتكبوا أخطاء في بعض خطواتهم ولكنه ما زال هناك وقت للتصويب.
أو بعبارة الرئيس محمد بخاري في الشهر الماضي: “نحن مصممون على إنجاز الأمور بشكل صحيح هذه المرة وإن شاء الله سننجح.. نحن نعمل بجد لتصحيح أخطائنا كوطن. سنقوم بإعادة تأهيل وتوسيع البنية التحتية الوطنية، والمضي قدما في أسرع وقت ممكن”.
فما على المواطنين سوى إعطاء حكومته الوقت والدعم الكافي, وألا يستعجلوا الأمور لكي لا تتخذ – أي الحكومة – قرارات لا تحمد عقباها. فإن أنجز مسئولوها وعودهم فهذا يعني أنهم وطنيون أحرار. وإلا, فسيخرجون من الأبواب التي دخلوا منها.. ألا وهي الانتخابات!