ج. بونسا (*)
ترجمة :عبد الحكيم نجم الدين
في سياقات البلدان المعرضة للصراعات, كان المستثمرون الأجانب، خصوصا الذين كانت تصرفاتهم أثناء دخولهم بلدا معينا لا تخضع لضوابط وتوازنات، قد يقوضون الاستقرار السياسي والاضطرابات الاجتماعية. وتبعا لمستوى المسئولية في البلد المتلقي، قد يكون الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) نعمة وقد يكون نقمة.
في هذه الورقة، سأحاول تسليط الضوء على سياسة الاقتصاد الإثيوبي والخطة الموضوعة لدخول المستثمرين الأجانب .
السياق السياسي الغريب
على الرغم من الإعلان عن فوز 100٪ من قبل الجبهة الثورية الديمقراطية الشعبية الإثيوبية (ERPDF) الحاكمة، فما زالت الحقيقة هي أن إثيوبيا لم يكن لها قط حكومة تمثيلية بشكل كامل. وهذه حالة فريدة من نوعها لأن من السذاجة مناقشة شؤون إثيوبيا الحالية من خلال الخطاب القياسي, لأن ذلك لا يعبر عن حقيقة الوضع وخصوصيته. وعلى سبيل المثال، كانت العبارات المألوفة مثل “نظام ديكتاتوري” أو “الحكومة الشمولية” لا تعبر تماما عن واقع النظام السياسي الحالي في اثيوبيا.
إن المفتاح لفهم طبيعة حكومة (ERPDF) الغريبة، وهي ائتلاف من أربعة أحزاب، هو أن ننظر إليها كنظام “الحكم الاستعماري الداخلي” بقيادة حزبٍ قويّ، وهو جبهة تحرير شعب تيغري (TPLF). إذ من الواضح أن الكثيرين يعرفون أن “الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية” ERPDF)) تعني في جوهرها “جبهة تحرير شعب تيغري” (TPLF).
لقد كان ولاء الجهاز العسكري والأمني الإثيوبي تجاه “جبهة تحرير شعب تيغري” هو مصدر القوة الوحيد لـ “الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية” وتحكّم قبضتها على السلطة. وبدون مزيد من اللغط, يكفينا الذكر أن جنرالات الجيش وكبار الضباط في البلاد ينحدرون من تيغري، الموقع والموطن الجغرافي لجبهة تحرير شعب تيغري. وفي المقابل, أكسبت كفاءةُ الجيش الوحشية في نظام القيادة العسكرية والأمنية “جبهةَ تحرير شعب تيغري” سمعةً استثنائية ويدا سياسية عليا في نظر الأطراف الثلاثة الأخرى داخل الائتلاف.
من ناحية فنية, تعاني إثيوبيا بسبب ذلك نظاما سياسيا عكسيا: العالم مألوف بحكم الأغلبية وحقوق الأقليات، وإثيوبيا من ناحية أخرى نظام سياسي بدون ولو بعض حقوق الأغلبية. وجبهة تحرير شعب تيغري التي هيمنت اليوم على الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية بحاجة إلى التيقن من أن الغالبية لن تحصل على أدنى حقوق، لأن السماح بذلك قد يؤدي إلى ظهور الديمقراطية.
العمل على نحو غير عادي
نجمت عن عدم تكافؤ القوة السياسية والعسكرية لصالح حزب واحد انحرافاتٌ في الفرص الاستثمارية الاقتصادية والمحلية. وأدى ذلك إلى ظهور أبشع نوع من الرأسمالية المحسوبية المحلية. فـ”الصندوق الوقفي لتأهيل تيغري” (EFFORT) الذي يوجد تحت سيطرته أكثر من 50 شركة، له وجوده وهيمنته على الاتجاه المتنامي للرأسمالية المحسوبية المحلية.
في السنوات الـ25 الماضية برز (EFFORT) كأقوى تكتل للأعمال التجارية المحلية مسيطرا على صروح الاقتصاد الإثيوبي الشامخة. ويتراوح احتكاره على الاقتصاد الاثيوبي بين الهندسية الثقيلة والبناء والاستيراد والتصدير ( لرأس المال الرئيسي والمواد الخام بما في ذلك الأسمدة التي يعتمد عليها جميع المزارعين الإثيوبيين) إلى الشحن ونقل الركاب، والتجارة بالجملة والتجزئة. ومع ذلك، فإن القليل من المعلومات هو المتاح لعامة الناس حول (EFFORT).
سيكون من الخطأ وصف (EFFORT) كمجموعة الأعمال ” التابعة للحكومة “. لكنّ الاثيوبيين يعلمون أن أفراد المجموعات الذين يشغلون مناصب حكومية هم أنفسهم أصحاب الشركات الموجودة تحت (EFFORT).
وفي الآونة الأخيرة, ظهر احتمال آخر لاحتكار الأعمال في صورة المؤسسة العسكرية، نفس العسكر والذي قيادته العليا موالية لجبهة تحرير شعب تيغري أو تحت سيطرتها غير المباشرة. فشركة المعادن والهندسة الإثيوبية (METeC) وهي شركة يديرها الجيش الوطني، تمتلك مصلحة تجارية متطورة, بدءا من إنتاج أجهزة الكمبيوتر وشاشات تلفزيون المسطحة, إلى المعادن الثقيلة كتجميع السيارات والفنادق. وفي هذه المرة أيضا، لا يتاح للجمهور سوى القليل من المعلومات حول الطبيعة الدقيقة لإمبراطورية (METeC) التجارية.
الحصان الاسود
من ضمن هذا الواقع السياسي يحتاج المرء إلى النظر في الجوانب الاقتصادية، بما في ذلك الطريقة التي تنظم الحكومة بقيادة الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية الاستثمارَ الأجنبي المباشر. بل الجميع يعرفون أن المحسوبية – إلى حد كبير – هي العلامة التجارية للإدارة الاقتصادية للجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية على مدى العقدين الماضيين، بما في ذلك صفقاتها مع الشركات الأجنبية العاملة في البلاد.
وحتى لحظة كتابة هذه السطور، تفيد الأخبار أن المحتجين في منطقة “غوجي” بجنوب إثيوبيا و”ديمبى ديلو” في غرب إثيوبيا يستهدفون منجمي الذهب في المنطقة المملوكين لمجموعة (MIDROC ) إثيوبيا للاستثمار. ولفهم هذا الإحباط العام، فمن المهم أن نفهم بأن الشعب الإثيوبي ليس لديه أي معلومة حول إذا كان هذان المنجمان تمّ بيعهما لـ MEDROC في المقام الأول، لتقييم إذا كان الناس في المناطق التي تستخرج منها الموارد الطبيعية بشراسة يستفيدون منها بأي شكل من الأشكال. ومن المهم أيضا أن نفهم أن اسم MIDROC يعني “شركات محمد للبحوث التنموية والمنظمات الدولية، وهو الاسم الذي لا يعني شيئا عن طبيعة الأعمال الجارية تحت مظلته.
وبالتالي لكثير من الإثيوبيين، كانت MIDROC هي الحصان الأسود الذي ظهر على الساحة من لا مكان, ولكنها وسّع نفسها إلى جميع قطاعات الاقتصاد الاثيوبي في وتيرة تنذر بالخطر.
في أغلب فترات العقد الأول تحت حكم الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية، عانت اثيوبيا نكسة خطيرة في جذب الاستثمار الأجنبي. وللأجانب حق الحذر لمراقبتهم نظام الحكم غير الصحي لكونه خطرا لا يستحق مواجهته. ومع ذلك في تلك الأيام، غالبا ما تعرض مجموعة MIDROC كتغطية لجذب المستثمرين الأجانب الآخرين، ولإعطاء انطباع بأن حكومة الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية جديرة بالثقة وأن الاستثمار الأجنبي آمن للتدفق فيها. هذا, وقد ساهم يمين مجموعة MIDROC للولاء الدستوري للحزب الحاكم في إعطائها فرصة تمتع لا مثيل له بالموارد الطبيعية في إثيوبيا.
والسبب الأساسي لذلك أن الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية يمكنها الاعتماد على MIDROC كمستثمر أجنبي. وقد ذكر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية مرّة أن حوالي 60 في المائة من الاستثمار الأجنبي المباشر الموافق عليه في إثيوبيا لها علاقة بـ MIDROC.
بدأت توسعات MEDROC بالاستحواذ على العديد من المؤسسات العامة السابقة – فروع التصنيع، مزارع الدولة ، مناجم الذهب، و غيرها من الموارد المعدنية التي في الغالب هي خارج الرقابة العامة. وترتبط MIDROC كثيرا بالاستيلاء على الأراضي في أجزاء عديدة من “أوروميا”، في قلب أديس أبابا و غامبيلا، مما تسبب بالخراب لملايين الأسر من خلال إخلائهم من أراضي أجدادهم.
صفقات أخرى غامضة
إن التناقضات في بيئة الأعمال الإثيوبية محيرة إلى حد ما. فمن جهة, كان لنظام جبهة تحرير شعب تيغري الذي تهيمن على أديس أبابا موقف عدائي جدا لأصحاب الاستثمار الخاص المحليين. وقد كانت إثيوبيا في الجزء السفلي من تصنيف البنك الدولي لقائمة الدول التي تسهل فيها ممارسة الأعمال التجارية، لتحتلّ المرتبة 146 من بين 189 بلدا في عام 2015. ولكن امبراطوريات EFFORT و METeC و MDROC التجارية وفروعها معفاة من هذه القيود وعلى الشركات الصغيرة الخاصة في البلاد أن تنجو من الشركات الثلاث لخلق مكاسب اقتصادية ذات مغزى.
من ناحية أخرى كانت إثيوبيا معروفة بتقديم تنازلات غير عادية لجذب المستثمرين الأجانب، وخاصة خلال العقد الماضي. ومن هنا يأتي السؤال – لماذا هذه المعاملة الفضولية للمستثمرين الأجانب بينما يضطر العمل الخاص لأكل التراب؟ الجواب يكمن في افتراض أن الحكومة غالبا ما تعمل لمصلحة المقربين إليها محليا – وهناك حاجة للمستثمرين الأجانب كي تتمكن الحكومة من تمويه توسعات EFFORT العدوانية. إن الصفقات لربط EFFORT مع الشركات الأجنبية محاطة بالأسرار المظلمة؛ تفاصيلها غير متوفرة لعامة الناس.
وغالبا ما يتم إغراء المستثمرين الأجانب للمشاركة في مشاريع مشتركة مع شركات محلية مملوكة أو تابعة لحزب.
ويؤكد على ذلك الصفقة الأخيرة التي قدرت قيمتها بـ 30 مليون دولار بين شركات الأدوية المحلية التي يملكها EFFORT وبين شركة أجنبية. فالتداخل بين عمليات الشركات الاحتكارية المحلية ونظيراتها الأجنبية كبير إلى حدّ يجعل من الصعب معرفة نقطة نهاية إحداها ونقطة بداية الأخرى.
إن الانفصال الأخير بين حكومة إثيوبيا وشركة “كاروتوري جلوبال ليميتيد” كشف عن طبيعة صفقات الاستثمار الأجنبي الغامضة في إثيوبيا والتي دفعت الكثيرين إلى التلخيص بأن ” في إثيوبيا، كان الاستثمار الأجنبي كلمة مزخرفة لسرقة الأراضي “.
في عام 2010، مُنحت “كاروتوري” امتياز تطوير ثلاثمئة ألف هكتار من الأراضي الزراعية في غامبيلا. ومع ذلك، ففي ديسمبر عام 2015، انهارت الصفقة عندما “ألغت وكالة الاستثمار في الأراضي التابعة لوزارة الزراعة الامتيازَ على أساس أن شركة “كاروتوري” بحلول عام 2012 لم تطوّر سوى 1200 هكتار فقط من جملة الأراضي في فترة السنتين الأولى من العقد”.
وهناك الكثير في الانفصال أكثر مما نظن, أقله مصير مئات الآلاف من السكان الأصليين الذين أجبروا على التخلي عن أراضيهم ليفسحوا المجال لصفقة لا يعرفون عنها شيئا.
غير أن إحدى التفاصيل المقلقة التي انبثقت بسبب هذا الفشل الذريع, هي ادعاء إدارة “كاروتوري” أن الأرض أُجبِرت عليهم من قبل السلطات المحلية على الرغم من إصرارهم على خلاف ذلك.
وللوهلة الأولى قد يبدو هذا محرجا، وكأن المستثمر الأجنبي والسلطات الإثيوبية غيّرا موقفهما أثناء المساومة. ومع ذلك، فمن السهل لمن كان على دراية عن عمليات ممارسة الأعمال التجارية في إثيوبيا أن يدرك السبب وراء إجبار المسؤولين الاثيوبيين المستثمرَ الأجنبي لتحمّل 30 مرة أكثر من إمكانيته التي يمنكه القيام بها. وكانت إحدى التفسيرات قبولا لدى الكثيرين هي أنه بما أن حجم الأراضي التي تم الاستيلاء عليها من قبل المقربين للحكومة خلال العقود السابقة كبير، وجدت السلطات أنه من الحكمة استخدام المستثمر الأجنبي كوسيلة لمواصلة مصادرتها للأراضي.
في أعقاب إمكانية استمرار احتجاجات الاثيوبيين، قد يبدو للغرباء أن استهداف المحتجين للشركات الأجنبية العاملة في إثيوبيا فوضوية. ولكن, ما دام أن الشعب الإثيوبي ليسوا على دراية عن طبيعة صفقات حقيقية بين الشركات الأجنبية وحكومة يعيبها الائتلاف الحزبي غير المتماثل، فلا ينبغي أن تكون حوادث الغضب الشعبي الذي يستهدف شركات أجنبية مختارة بمثابة صدمة.
وهذا التفسير أيضا ينطبق على مصادرة الأراضي لمزارع الزهور والحدائق الصناعية في أوروميا، وخاصة في المناطق القريبة من أديس أبابا. ولهذه الأسباب وُضعت خطة أديس أبابا الرئيسية الشائنة، حيث تتطلع إلى الاحتفاظ بمزيد من الأراضي التي سيتم تحويلها إلى مجمعات المخلفات الصناعية بدعوى جذب الاستثمار الأجنبي الذي ستكون طبيعته سرا مكتوما عن الشعب الذي يتأثر بذلك بشكل كبير.
(*) يمكن الاطلاع على المقال الأصلي من هنا