أ. شيخاوي أحمد(*)
تثير (الديمقراطية التوافقية) نقاشاً واسعاً في البلدان ذات التركيبة الاجتماعية التعددية، ويشتد هذا النقاش مع تفاقم الانقسامات المجتمعية، الدينية والمذهبية، الفئوية والاجتماعية، التي تخترق هذه المجتمعات التعددية، وبرغم التجربة التي تتمتع بها بعض الدول في مجال تطبيق (الديمقراطية التوافقية) فإنّ هناك دولاً كثيرة تحاول تطبيق هذه الديمقراطية اعتقاداً منها أنها تحلّ المشكلات المتعلقة بالمشاركة الواسعة لمختلف الإثنيات المكوّنة للمجتمع.
(الديمقراطية التوافقية) نموذج حديث نسبياً، يُطرح كشكل من أشكال ممارسة السلطة في الدول المتعددة الإثنيات في تركيبتها المجتمعية أو المتنوعة اجتماعياً، والتي تعاني ضعفاً وتواتراً في الأزمات السياسية، لذلك فعملية إشراك جميع المكوّنات الاجتماعية، الأغلبية والأقلية، في صنع القرار السياسي يُعد – حسب مؤيدي هذا الشكل من الديمقراطية – ضماناً لعدم انزلاق هذه المجتمعات نحو المواجهات والحروب الأهلية.
وتُعد (الديمقراطية التوافقية) من أكثر المفهومات والمصطلحات تداولاً في عالم اليوم، وأضحت محلّ اهتمام مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية والثقافية والفكرية وقادة القوى السياسية بها، وذلك على الرغم من الفقر النسبي، خصوصاً في العالم الثالث، في عدد البحوث والدراسات التي تناولت هذه الديمقراطية بالدراسة والتحليل، لذا فإنّ البحث في (الديمقراطية التوافقية) يستوجب تحديد الأطر والمفهومات الأساسية التي تستند عليها هذه الديمقراطية من جهة، بغية معرفة مدى انسجامها مع واقع المجتمع غير الغربي، وبخاصة الإفريقي، بدراسة هذه التجربة على (دولة جنوب إفريقيا).
لقد عرفت القارة الإفريقية مطلع التسعينيات في القرن الماضي موجة من التحولات السياسية نحو الأخذ بالقواعد الديمقراطية، حيث شملت معظم دول القارة، كجزء من السياق العامّ المعروف باسم (موجة التحوّل الديمقراطي) التي عرفتها الدول النامية، من بينها دول إفريقية، فهذا التحوّل يعبّر عن أهم حدث في نهاية القرن العشرين في القارة.
اتجهت العديد من الدول الإفريقية إلى الأخذ بالديمقراطية الليبرالية، والتخلّي عن النظم القائمة على الأحادية الحزبية التي سادت خلال الستينيات، حتى انتهاء الحرب الباردة في ثمانينيات القرن الماضي، فدوافع ذلك التحوّل الذي اصطُلح على تسميته (التحوّل الديمقراطي) وأساليبه ونتائجه قد تباينت من مجتمع إلى آخر، الأمر الذي أثار جدلاً قاريّاً حول قضية التحوّل الديمقراطي في القارة وما تثيره من إشكاليات.
اتخذ التحوّل السياسي في العديد من الدول الإفريقية صورة انتقال السلطة من أنظمة سلطوية (مدنية أو عسكرية) غير منتخبة؛ إلى أنظمة – مبدئياً – منتخبة على نحو ما تشهده عدة دول، وهي الصورة المتداولة للتمييز بينها وبين غيرها من صور التحوّل السياسي غير الديمقراطي، سواء تمثّلت في انتقال سلطة من حكومات مدنية غير منتخبة إلى حكومات مدنية غير منتخبة أخرى، أو انتقال السلطة من حكومات عسكرية إلى أخرى عسكرية عن طريق الانقلابات، أي حالة التحوّل من الأعلى، والتي تكون عادة تعديلات شكلية تضمن استمرار نفس النظام في السلطة.
سندرس (دولة جنوب إفريقيا) من حيث طبيعة تحوّلها، والتي تفردت بملمح خاص يميزها عن الحالات المتداولة، وهو سياسة (الفصل العنصري) التي طُبقّت في المجتمع، وآثارها السياسية السلبية التي خلفتها على الأكثرية السوداء، وتراث الممارسة الديمقراطية للجماعة البيضاء فيما بينها في جنوب إفريقيا على النمط الليبرالي الغربي، والممارسة شبه الديمقراطية المحكومة لجماعة الملونين والهنود بمقتضى دستور 1983م، فالممارسة الديمقراطية لم تكن غائبة كلية عن مجتمع جنوب إفريقيا، ولكنها كانت مقصورة على فئة بعينها على حساب فئات أخرى كالسود، الأمر الذي جعل تجربة جنوب إفريقيا تميل إلى قضية الانتقال من نظام عنصري (إثنوقراطي) إلى نوع خاص من الديمقراطية (1).
ومن هنا كانت الإشكالية: إلى أي مدى تحقّق (الديمقراطية التوافقية) الاستقرار السياسي في ظلّ مجتمع متعدّد الأعراق والإثنيات؟
أولاً: مفهوم (الديمقراطية التوافقية) ومقوماتها:
تعرف (الديمقراطية التوافقية) تبعاً للخصائص المميزة لها، وهي كثيرة، يحصرها (آرنت ليبهارت) في أربع خصائص رئيسة، وهي: (الائتلاف الموسّع)، وهو العنصر المهمّ، فهو الحكم من خلال ائتلاف واسع من الزعماء السياسيين من جميع القطاعات المهمة في المجتمع التعددي، (الفيتو المتبادل) أو حكم الأغلبية المتراضية، والتي تُستعمل كحماية إضافية لمصالح الأقلية الحيوية، العنصر الثالث هو (النسبية) كمعيار أساسي للتمثيل السياسي في الانتخابات والتعيينات في جميع مجالات الخدمة المدنية وتخصيص الأموال العامّة، أما الخاصية الأخيرة فهي (الاستقلال الفئوي) لكلّ قطاعٍ في إدارة شؤونه الداخلية الخاصة.
1 – الائتلاف الموسّع:
على النقيض من اتجاه نموذج (وستمنستر) في تركيز السلطة التنفيذية في الحزب الواحد الحاصل على الأغلبية، واستحواذه على أغلبية الوزارات، فإنّ (الديمقراطية التوافقية) – من خلال مبدأ التوافق – تفتح المجال لمعظم الأحزاب للمشاركة في إدارة الحكم ضمن تحالف موسّع على مستوى البرلمان والحكومة(2)، فالسمة الأساسية في هذا النوع من الديمقراطية هي أنّ الزعماء السياسيين لكلّ قطاعات المجتمع التعددي تتعاون في ائتلاف واسع في حكم البلاد.
ويمكن توضيح وظيفة الائتلاف الواسع عبر وضعه ضمن سياق مبدأين متنافسين، هما: الحكم بالإجماع، وحكم الأكثرية في النظرية الديمقراطية المعيارية، فمن جهةٍ يكون الاتفاق الواسع بين جميع المواطنين أكثر ديمقراطية من حكم الأكثرية، ويعتبر من جهةٍ ثانيةٍ البديل الوحيد لحكم الأكثرية وحكم الأقلية، أو على الأقل فيتو الأقلية، فمعظم الدساتير الديمقراطية تحاول أن تحلّ هذا المأزق بالنصّ على حكم الأكثرية للمعاملات العادية عندما يرى أصحاب القرارات أنّ البتّ فيها ليس صعباً، وأكثرية استثنائية بالنسبة إلى القرارات الحيوية جداً؛ كاعتماد الدساتير أو تعديلها.
2 – الفيتو المتبادل:
إنّ المشاركة في الائتلاف الواسع يؤمّن ضمانة سياسية لقطاعات الأقلية، فالقرارات ينبغي أن تُتخذ في الائتلافات الواسعة على قاعدة الإجماع أو الاكثرية، وعندما تُتخذ هذه القرارات عبر أكثرية الأصوات؛ فإنّ تمثيل الأقلية في الائتلاف يمنحها فرصة لتقديم اقتراحاتها بأقصى ما يمكن من قوة لشركائها في الائتلاف، لكنها قد تُهزم مع ذلك أمام أصوات الأكثرية، وعندما تؤثر قرارات كهذه في المصالح الحيوية لقطاع الأقلية؛ فإنّ هذه الهزيمة تعتبر غير مقبولة، وتعرّض التعاون بين النّخب القطاعية للخطر، ولذلك فلا بد من إضافة (فيتو الأقلية) إلى مبدأ الائتلاف الواسع، ولا يمكن لغير هذا الفيتو أن يمنح كلّ قطاع ضمانة كاملة للحماية السياسية.
(فيتو الأقلية) هو مرادف لفكرة (الأكثرية المتراضية) عند (جون س كلوهن) John c. colhoun التي اعتبرتها أنها حماية لمصالح الأقلية وهدفها الأساسي، فهي تمنح كلّ قطاع القدرة على حماية نفسه، وتضع حقوق كلّ قطاع وسلامته في أولويات الحكم، أي تحت وصايته الخاصة(3).
3 – التمثيل الانتخابي النسبي:
النسبية من الخصائص الأساسية لـ (الديمقراطية التوافقية)، فالتمثيل النسبي هو خاصية النظام التعددي، يقوم بترجمة الانقسام الاجتماعي إلى تعدد وتمايز في النظام الحزبي، كما هو موجود في الأنظمة التعددية التي تميل إلى تمثيل الأحزاب الكبيرة بتمثيل أكبر والأحزاب الصغيرة بتمثيل أقلّ، والهدف الأساسي من (التمثيل النسبي) هو تقسيم المقاعد البرلمانية بين الأحزاب بما يتناسب مع الأصوات التي حصلوا عليها(4)، وتقتضي النسبية في التمثيل انعكاساً لأحجام هذه الجماعات على شتى مستويات الدولة، بمؤسساتها وأنشطتها، فتصميم النسبية عادة يقوم على مبدأ واضح، وهو العلاقة التناسبية بين عدد الأصوات وترجمتها إلى مقاعد(5).
يُعرّف (الحكم التوافقي) بناءً على قواعده التي يقوم عليها، فالائتلاف الواسع هو القاعدة الأساسية فيه، والتي يبقى التوافق عليها ضرورة للحكم، يُكمّل الائتلاف الموسّع بأدوات تساعد في مأسسة القواعد المتفق(6) عليها، فإنّ (الديمقراطية التوافقية)Democratie Consensuelle, Consociational Democracy كما تبلور مفهومها منذ عقود عن طريق (ليبهارت) نموذج بديل لـ (الديمقراطية التنافسية) Democratie competitive أو (الديمقراطية التمثيلية) القائمة على حكم الأغلبية، والتي عرفت تاريخياً من قبل جلّ النظم السياسية في سياق تكوّن دول ومجتمعات موسومة بقدر كبير من التلاحم البشري والانصهار الإثني والاستقرار السياسي، ومعززة لثقافة سياسية ديمقراطية تكرّس قواعد التنافس والتداول والتمثيل، و (الديمقراطية التوافقية) خلافاً لذلك ولدت ونبعت في شروط يطبعها الانقسام المجتمعي، والتباينات الإثنية والعرقية والجهوية، وضعف الوحدة الوطنية، وصعوبة الاستقرار السياسي، وتواتر موجات العنف الاجتماعي.
4 – الاستقلال الفئوي الذاتي:
يُعد الاستقلال القطاعي الذاتي من أهم خصائص (الديمقراطية التوافقية)، حيث تحكم الأقلية نفسها في المنطقة التي تعني هذه الأقلية حصرياً، فهي لازمة لمبدأ الائتلاف الواسع، فكلّ الشؤون التي تعني الجميع ينبغي للقرارات أن تُتخذ فيها من قِبل كلّ القطاعات معاً وبدرجات متساوية تقريباً من النفوذ، أمّا في باقي الشؤون فيمكن للقرارات ولتنفيذها أن يوكل لقطاعات مختلفة لها صلة بهذا الشأن.
إن تفويض سلطات صناعة الحكم وتنفيذه إلى القطاعات الفئوية، مقروناً بالتوزيع النسبي للأموال الحكومية على كلّ قطاع، يشكّل حافزاً قوياً لمختلف المنظمات القطاعية، فمن أوجه تعريف (المجتمع التعددي) أنّ المنظمات التمثيلية للمجتمع تتبع الانقسامات القطاعية، معنى هذا أنّ الاستقلال القطاعي الفئوي يزيد من الطبيعة التعددية لمجتمع تعددي أصلاً، فمن طبيعة (الديمقراطية التوافقية) – في بدايتها على الأقلّ – أن تجعل المجتمعات التعددية أكثر تعددية، وهي لا تستهدف إزالة الانقسامات القطاعية أو إضعافها، بل الاعتراف بها صراحة وتحويل قطاعاتها إلى عناصر بناءّة للديمقراطية المستقرة(7).
وهناك شكل خاص من أشكال الاستقلال الفئوي أو القطاعي، وهو (الفيدرالية)، وهي عملية سياسية للحكم من خلال سيادة مشتركة عامّة، مع حكم ذاتي للأقاليم من خلال حكومات محلية، فهي تقوم على طريقة خاصة في تقسيم الحكم وتنظيمه من خلال الحفاظ على الوحدة من جهة، والتنوع من جهة أخرى(8).
ثانياً: (الديمقراطية التوافقية) في جنوب إفريقيا:
يُعد مجتمع جنوب إفريقيا من المجتمعات المعقدة من حيث التركيبة، حيث ينقسم المجتمع إلى عدة خطوط تفصل بين المكوّنات الاجتماعية، فالتمايز على أُسس: العرق أو الإثنية أو الطبقات أو الدين؛ هي أهم خطوط الانفصال.
وفي السياق المجتمعي لجنوب إفريقيا هناك اختلاف في المفهوم بين العرق والإثنية، حيث تقسّم المجموعات العرقية إلى أربعة أصناف سكانية بحسب تصنيف نظام (الأبارتهيد Apartheid):
1 – (السود) ويُطلق عليهم الأفارقة: وهم السكان الأصليون والقبائل المنتمية تاريخياً إلى هذه المنطقة.
2 – الآسيويون: الذين ينحدرون من شعوب جنوب آسيا، وهم غالباً هنود وباكستانيون.
3 – البيض Whites ذوو الأصول الأوروبية: ويصنفون بحسب اللون على أنهم أوروبيون.
4 – الملونون Coloureds: وهم مختلطو النسب، نتجوا من تزاوج بعض الإفريقيين والأوروبيين الأوائل، وتزاوج بعض الآسيويين والأوروبيين.
كما أنّ هذا التمايز العرقي قد يحتوي على خطوط تمايز أخرى، كالاختلافات الثقافية واللغوية الموجودة عند كلّ فصيل، كما حاول السياسيون فيما بعد (الأبارتهيد) تغيير بعض من الواقع التركيبي للمجتمع، خصوصاً على مستوى الطبقات الاجتماعية(9).
فأهم تصنيف إثني يتكوّن من:
– الإنجليز English.
– والكسوزا Xhosa.
– والأفريكانية Africanns.
– والزولو Zulu.
وهي كلها مجموعات إثنية Ethnic متمايزة بعضها عن بعض(10).
مرّت جنوب إفريقيا بمراحل عديدة في أثناء عملية التحوّل، انطلاقاً من التفاوض، ثمّ تشكيل الدستور الانتقالي، والذي يُعد (وثيقة سلام) حسب العديد من السياسيين في جنوب إفريقيا، باعتباره ينهي فترة نزاع طويلة، ويؤسّس لمرحلة انتقالية بقواعد حكم متفق عليها قبل صياغة دستور نهائي من مخرجات دستور 1993م، هي مرحلة انتخابات 1994م البرلمانية، والتي أفرزت نتائجها فوز (حزب المؤتمر الإفريقي) بأغلبية الأصوات، ومن ثمّ تشكّلت (حكومة وحدة وطنية) تحت رئاسة الحزب، وهي إحدى نتائج التوافقات التي أسس لها في جنوب إفريقيا، أي الحكم التشاركي القائم على مشاركة جميع الكتل السياسية في إدارة الحكم عن طريق بناء تحالفات موسّعة.
وشكّلت هذه الانتخابات البرلمانية الجمعية التأسيسية، والتي بدورها قامت بصياغة الدستور النهائي عام 1996م، والذي أسس لنظام حكم بمؤسسات جديدة متفق عليها، قضائية وسياسية، يقوم على (تقاسم السلطة) عن طريق مشاركة كلّ الأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات، تبعاً لنسبة المقاعد التي حصل عليها كلّ حزب، وهو ما يمثّل نظام (التمثيل النسبي) في النظام الانتخابي، بالإضافة إلى تقاسم السلطة بين المركز، وهي سلطة الحكومة المركزية المنبثقة عن الانتخابات البرلمانية، وبين (الحكومة المحلية) المنبثقة عن الانتخابات التشريعية المحلية، وتختص هذه الحكومة بتسيير الشأن المحلي، وتنفيذ سياسات محلية لا تتعارض مع التشريعات المركزية.
الحكم المحلي:
المجلس الوطني للمحافظات هو المجلس الذي يقوم بتمثيل المحافظات لضمان أن تؤخذ في الاعتبار المصالح الإقليمية في مجال الحكومة الوطنية، حيث يمثّل الأقاليم للتأكد من مراعاة مصالحها في الفرع الوطني للحكومة، ويفعل المجلس ذلك بشكل رئيس عن طريق المشاركة في العملية التشريعية، وتوفير منبر وطني لإجراء مناقشات عامّة حول الأمور التي تؤثر في الأقاليم(11)، فهو مؤسسة تربط بين جميع مجالات الحكومة، فالحكومة المحلية قد ترسل وفداً للمجلس الوطني للمحافظات NCOP، وتفعل كلّ ما من شأنه جلب المصالح الإقليمية وتنبيه الحكومة الوطنية.
يتألف هذا المجلس من وفد واحد يضم عشرة مندوبين من كلّ إقليم، بحيث يضمّ هؤلاء العشرة:
– أربعة مندوبين خصوصيين، وهم: رئيس وزراء الإقليم، وفي حالة عدم وجوده يحلّ مكانه أي عضو من الهيئة التشريعية يعينه رئيس وزراء الإقليم، بشكل عام أو لمسألة خاصة، وثلاثة مندوبين خصوصيين آخرون.
– وستة مندوبين دائمين.
عهدته خمس سنوات، صوت واحد لكلّ إقليم، وينظر المجلس في التعديلات وتعديلها واقتراحها(12).
يحاول هذا المجلس ضمان التعاون والشراكة في التسيير، بحيث يمنع المحافظات من التصرف في عزلة، وأن تكون في استعداد لتلبية حاجات سكان المحافظة ومصالحهم، وفي المقابل ضمان أن تراعي التشريعات والسياسة الوطنية احتياجات المحافظات.
وفي هذا الجانب؛ تحتل قضية عدم الفصل بين السلطات(13) وضعاً خاصاً لدى السياسيين في محافظات جنوب إفريقيا، باعتبار التمثيل المزدوج في الحكومة المحلية والمجلس الوطني للمحافظات، فمهندسو الدستور في جنوب إفريقيا أرادوا من خلال ذلك إشراك الجهاز التنفيذي للمحافظة في عملية التشريع التي تخصّ محافظاتهم من خلال اقتراح مشاريعهم وتجسيدها مباشرة، فمسؤولية المجلس NCOP هو رصد العلاقات بين الدوائر الحكومية، فضلاً عن دوره في عملية التشريع، وكذلك عملية التنسيق بين المحافظات، وبخاصة المتجاورة منها، فله دور لاستكمال – وليس تكرار – دور الجمعية الوطنية.
وقد وجّهت انتقادات عديدة لهذا المجلس، منها أنّ دوره هامشي وتنسيقي، وأن تقييمه منذ إنشائه لم يبلغ الجدوى والنتائج التي بلغتها الجمعية الوطنية، ويرى المؤيدون لوجود المجلس أنه يمثّل ثنائية السلطة التشريعية لتحقيق التوازن في التمثيل؛ باعتبار أنّ آلية التمثيل في هذا المجلس تختلف عن الجمعية الوطنية، وأنه أحد الآليات التي تربط الحكومة المحلية المعبّرة عن التسيير الذاتي مع السلطة المركزية.
النظام الانتخابي النسبي:
لقد عكف العديد من الباحثين في علم السياسة على محاولة تصميم مؤسسات خاصة بالمجتمعات متعددة الإثنيات، من خلال التركيز في العديد من المتغيرات، أهمها النظم الانتخابية التي تضمن مخرجات تعمل على احتواء التعدد والصراع الناتج عنه، وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الانتقال الديمقراطي لم يتحقق في كثير من البلدان الإفريقية بسبب أنّ الانتخابات قد حدثت في إطار غير مناسب.
ويرتكز جزء كبير من أدبيات رسم مؤسسات خاصة بالمجتمعات متعددة الإثنيات على الهندسة الانتخابية، كعامل لتحقيق التمثيل من جهة، والاستقرار من جهة أخرى، وتؤدي الأسئلة المتعلقة بالتنوع دوراً بارزاً في مدى تحقيق هذه الأهداف.
إنّ الانتخابات الديمقراطية هي ترجمة لسياسات تعددية حزبية، وطريقة أسرع للتعبئة الجماهيرية، وكانت محوراً للمصالح المعبّر عنها في صيغ الهويات الإثنية، وهنا تبرز قدرة النظام الانتخابي على احتواء الصراعات الإثنية أو اللغوية وتبديدها، فبناء نظام انتخابي ملائم لواقع الانقسامات الموجودة في المجتمع سوف يكون عاملاً حاسماً في بناء مؤسسات ديمقراطية قادرة على البقاء.
ومن وجهة نظر النظرية الديمقراطية؛ فإنّ للنظام الانتخابي مبدأين يسعى لتحقيقهما، هما: (التمثيل الفعّال، والاستقرار الذي يُعد أهم التحديات التي تواجه المجتمعات الانتقالية)، فلا يمكن تحقيق أحدهما دون الآخر، فالتمثيل لا يكون فعّالاً ومتوازناً بين كلّ المكونات الاجتماعية إن لم تكن هناك مؤسسات راسخة بالقدر الذي يمكّنها من احتواء الانقسامات والانشقاقات، ولا يمكن تحقيق الاستقرار إلا إذا أحسّت معظم الفئات الاجتماعية بتمثيل عادل لمصالحها، وهذه العلاقة الارتباطية لها تأثير كبير في مشروعية النظام الانتخابي(14)، وفي الذين تمّ انتخابهم وفق هذا النظام.
وفي هذا الإطار تبرز إشكالية تحقيق الهدفين في العملية نفسها، وهو التمثيل المناسب والاستقرار الكافي، فالأنظمة التوافقية، والتي تعتبر النظام الانتخابي مبنياً على أساس التمثيل النسبي على كلّ المستويات المؤسساتية، تتناسب كثيراً مع حقّ التمثيل ما دام أنها تترك للناخب حرية الاختيار.
لكن (جيوفاني سارتورني) Giovani Sartori يرى أنّ نظام التمثيل – من الناحية العملية – يؤدي إلى الجمود التشريعي في الأنظمة الرئاسية، كما أنّ الحكومات الائتلافية تبقى غير مستقرة في الأنظمة البرلمانية(15)، لكن يبقى هذا النظام الانتخابي أهم المرتكزات الأساسية في (الديمقراطية التوافقية)، رئاسية كانت أو برلمانية.
وهناك مَن ينتقد هذا النظام لكونه يكرّس الانقسام ويعززه؛ لأنّ الناخبين حتى إن لم يصوّتوا على أساس إثني لا يشكّلون عراقيل أمام المرشحين الذين يعتمدون في حملاتهم الانتخابية على الورقة الإثنية، وتشكيل ائتلاف لأحزاب كبيرة لا يترك أي هامش للأحزاب الصغيرة التي تمثّل الأقليات في ممارسة نشاطها بكلّ فعالية.
إنّ هذا النظام أكثر الأنظمة في توليد التأييد للنظام السياسي ضمن الأقليات الإثنية، حيث إنّ النظام النسبي – بخلاف الأنظمة الانتخابية – يفرز مخرجات تناسبية جداً، ويسهّل دخول الأحزاب الصغيرة للبرلمان، ويضمن انتخاب أحزاب الأقليات الإثنية(16).
نظام تقاسم السلطة:
تُعد مسألة تقاسم السلطةPower Sharing مظهراً آخر في التحوّل الديمقراطي لجنوب إفريقيا، حيث أثارت مسألة اقتسام السلطة العديد من الأسئلة الخاصة بفاعلية السلطة المقسمة والديمقراطية المطبقة، فالمؤيدون الذين يناصرون هذه الفكرة وضعوا استراتيجية لتوظيف هذا العنصر في الديمقراطية المستقبلية لجنوب إفريقيا، فالمفاوضات التي خاضتها الجمعية التأسيسية حول موضوع التقاسم تمّت بالرجوع إلى ثلاث نقاط، وهي: (التسوية، وتبنّي حلول وسط في تقاسم السلطة، والتوافق والتحكم في كيفية التقاسم)، فالسلطة التي تتصف بالوحدة يمكن اقتسامها أفقياً، والتي يتم التفاوض حولها، سواء في أثناء المفاوضات أو تلك المنصوص عليها في أحكام الدستور الانتقالي، كما أنّ فكرة التقاسم في الجمعية التأسيسية عرفت تطوراً ونقاشاً سياسياً داخل (حكومة الوحدة الوطنية).
ففكرة التقاسم يجب أن تكون ديناميكية عامّة تشمل التعامل بين القوى داخل الحكومة نفسها بين أصحاب الأغلبية والأقلية من جهة، وبين الحكومات المحلية من جهة أخرى، فهي عملية نظامية تحتاج إلى شروط؛ من بينها: الاستقرار، والتوافق في الأهداف على جميع المستويات الحكومية، المحلية منها والوطنية(17).
تمّ تأكيد تجسيد الفكرة حرصاً من الحكومة الجديدة على استبعاد فكرة الإقصاء المتداولة في الحكومات السابقة، وإصلاح الأوضاع المترتبة على سياسة الفصل العنصري عبر مجموعة من الاستراتيجيات، وهي:
– تحسين ظروف الحياة السياسية للسود.
– التقليل من تدخّل الدولة في الاقتصاد
– تداول السلطة في جميع المستويات، وبخاصة المحلية، لتوسيع المشاركة.
– هيكلة الصراع السياسي داخل المؤسسات السياسية، ودفعه باتجاه التنافس السياسي الديمقراطي السلمي.
تجسدت فكرة تقاسم السلطة بشكل أعمق في الدستور الانتقالي على مستوى السلطة التنفيذية، فظهرت تحت مفهوم (حكومة الوحدة الوطنية) Gouvernement d’ Unité Natinal (GNU) في الباب السادس لتنظيم السلطة التنفيذية الوطنية، فبعض خصائص تقاسم السلطة (التسوية – التوافق) يمكن تمييزها دون الحكم المسبق على عمل الوزارة، فالنصّ الكامل، ونتيجة التسوية، ينصّ على أنّ تقاسم السلطة التنفيذية من القضايا الأساسية في التحوّل نحو الديمقراطية(18).
وعلى مستوى الرئاسة؛ رئيس جنوب إفريقيا هو رئيس الحكومة ورئيس الدولة، ويُنتخب من طرف الجمعية الوطنية بالأغلبية المطلقة لأعضاء الجمعية في أول جلسة تعقدها، بمساعدة نائبَيْن، يتمثّل دورهما في القيام بمراقبة أعمال الرئيس (Executive Deputy President)، يُعيّن هذان النائبان من الحزبين اللذين حصلا على أكثر من ثمانين مقعداً في الجمعية الوطنية (20% من عدد مقاعد الجمعية الوطنية)، وهذا يُعد اقتساماً للسلطة على مستوى الرئاسة؛ لأنّ المشرّع اشترط أن يكون النائبَان من الحزبَيْن المواليين للحزب الفائز والحائزَيْن على أكثر من 80 مقعداً في الجمعية.
وعلى مستوى الحكومة؛ نجد أنّ أهمّ الخصائص المكوّنة لاقتسام السلطة، وهي (التسوية – المراقبة – التوافق)، تتجسد من خلال توزيع الحقائب الوزارية، ففي حالة وجود خلافات بين الرئيس المنتمي لـ (ANC) صاحب الأغلبية وبين أحد الوزراء المنتمي إلى حزب آخر، أو رئيس لحزب أقلية، وجب على الرئيس دراسة الثقل السياسي وأثر أي إجراء قبل اتخاذه، مثل استبعاد هذا الوزير، فاقتسام السلطة تبعاً لدستور 1993م يجسّد مبدأ التسوية والمراقبة في اتخاذ القرارات، والتوافق كمبدأ عام في كلّ الحالات بين الرئيس وكلّ الموظفين، والبحث عن التوافق يجب أن يكون ضرورة عند الأغلبية المؤهلة، وذلك لتجنّب شلل العمل التنفيذي، فالدستور لم يطلب من الأغلبية التي فازت أن تتخلى عن حقّها كقوة أولى، وإنما العمل كأغلبية مؤهلة وفعّالة للعمل التشاركي مع الأحزاب المشاركة في الحكم، والتي تعمل بمبدأي التسوية والتوافق بوصفهما إطاراً للعمل الحكومي(19).
ثالثاً: مشكلات (الديمقراطية التوافقية):
يرى التوافقيون أنّ (الديمقراطية التوافقية) تُعد أحد النماذج المقترحة لمعالجة مسألة المشاركة في المجتمعات التعددية أو المتعددة، فهي – خلافاً للديمقراطية التمثيلية القائمة على حكم الأكثرية – لا تستند إلى عناصر التنافس في البرامج والاستراتيجيات، والاحتكام إلى منطق الأغلبية الحاكمة والأقلية المعارضة، والاعتماد المتواتر على أسلوب الاقتراع أو الانتخاب، بل تعتمد أساساً على مواصفات بناء التحالفات الكبيرة التي تضمن للمكوّنات الأساسية فرص التمثيل والمشاركة في صنع القرار من أعلى هرمه إلى أسفله؛ من دون الخضوع لسلطة الأغلبية، إذ تحتفظ الأقلية بحقّ النقض أو الاعتراض، ما يجعل قدرتها على مواجهة الأغلبية وتجنّب هيمنتها متاحة وممكنة على صعيد الممارسة، وهو ما لا تتيحه (الديمقراطية التمثيلية) على الرغم من اعترافها بشرعية المعارضة، وضمان حقوقها الدستورية في النشاط والعمل من أجل التحول إلى أغلبية بدورها.
ويُعد بناء التحالفات الكبرى من المبادئ المهمة في (الديمقراطية التوافقية)، حيث كان هذا المبدأ مطبقاً في بداية التحوّل عبر تشكيل (حكومة الوحدة الوطنية)، فهو أكبر ائتلاف حكومي تشكّل في جنوب إفريقيا لممارسة الحكم، فهذا التحالف كان المسؤول عن تسيير الفترة الانتقالية عبر تسيير تشاركي واسع من خلال مشاركة كلّ الأحزاب والكتل السياسية.
لكن بعد صياغة الدستور النهائي وبدء العمل به، ونتيجة لحصول (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي) على أغلبية الأصوات، والفوز بمعظم الحقائب الوزارية لعدم حصول معظم الأحزاب الصغيرة على 20% التي تؤهلهم للحصول على حقائب وزارية، تعرّض الحزب للنقد من طرف الأحزاب الأخرى التي اتهمته بالتفرد بالحكم، برغم انتهاجهم لقواعد التمثيل النسبي في الجمعية العامة والجهاز التنفيذي، في حين يرى الحزب الحاكم أنها نتائج ديمقراطية، حيث تمّت وفق قواعد متفق عليها ومنصوص عليها دستورياً، باعتبار أنّ نتائج الانتخابات أفرزت هذه التشكيلة النيابية والحكومية، لأنه يملك أغلبية الأصوات باعتباره ممثلاً لأغلبية السكان وهم السود.
تُعد الآليات المشكّلة من حكومة موسّعة معبّر عنها بحكومة الوحدة الوطنية، والتحالفات الموسّعة التي تضمن التشاركية في صنع القرار، والحكم المحلي، أهم الخصائص المعبّرة عن الحكم التوافقي، لكن على مستوى تطبيق هذه الآليات في جنوب إفريقيا ظهرت الكثير من الاختلالات، فحكومة الوحدة الوطنية – مثلاً – بقيت الوجه الوحيد للائتلاف الموسّع على الرغم من أنّ معظم الأحزاب شاركت فيه، فحزب المؤتمر له أغلبية تجعله يطبق برامجه دون اللجوء إلى بقية أعضاء الحكومة من غير (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي)، ولم يستطع أي حزب منافس تقاسم الوعاء الانتخابي المشكّل من السود، والذي يسيطر عليه (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي).
نظام (التمثيل النسبي) أحد المبادئ المهمة في إدارة هذا النوع من الديمقراطية، وقد اتخذته دولة جنوب إفريقيا لتناسبه مع التركيبة الاجتماعية للسكان، ولأنه يؤمّن التمثيل لمعظم الإثنيات حتى الأقليات الصغيرة.
وكانت المعارضة تسعى لتبنّيه في الدستور لضمان مشاركتها في الحكم، وكان (حزب المؤتمر الوطني) يريد من خلاله إعطاء شرعية للنظام السياسي الجديد داخلياً، وإسكات المعارضة داخلياً وخارجياً لكسب التأييد، باعتبار أنه يضمن المرتبة الأولى في النتائج الانتخابية لظروف التعبئة الانتخابية للأفراد المبنية على العامل الإثني، وهو يعتبر نفسه الممثل الوحيد للإثنية السوداء بناءً على شرعية تاريخية اكتسبها بعمله المدافع عن السود لاسترجاع حقوقهم ضد التفرقة العنصرية.
أحد المبادئ الأساسية في (الديمقراطية التوافقية) التي تمّ إدراجها في الهندسة الدستورية هي (الحكومة المحلية)، حيث كانت المعارضة تضغط بشدة على تطبيق هذا المبدأ لضمان ممارسة الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية دون الرجوع إلى المركز الذي قد يستأثر به (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي)، وهو ما ترفضه المعارضة، وبخاصة حزبا (إنكاثا الحرة) و (الحزب الوطني).
وتُعد (الحكومة المحلية) الضامن لممارسة الحكم تبعاً لخصوصية كلّ إقليم، والذي يحتوي على إثنيات معينة، وهو بذلك يضمن الاستقلالية النسبية في التسيير الإداري والأنشطة الاقتصادية والحرية الثقافية، على ألا تتقاطع مع سياسات الحكومة المركزية وبرامجها، لكن بعد مدة من الحكم بهذه الآلية انتقدت؛ على اعتبار أن مبدأ (الحكومة المحلية) يجب أن تصاحبه قوة اقتصادية محلية تضمن له الموارد المالية لتطبيق برامجه وتسير شؤونه المحلية لتحقيق الاستقلالية التي استُحدثت من أجلها هذه الآلية، وهو ما لم يتوفر منذ تطبيقه بعد دستور 1996م، حيث إنّ بعض المقاطعات أصبحت تابعة كلياً للاعتمادات التي ترصدها حكومة المركز، مما جعل الاستقلالية أمراً صعب التطبيق في التسيير، وجعلها تابعة مباشرة للمركز، وهو ما يثير التساؤل حول جدوى وجود حكومة محلية قائمة بذاتها قانونياً، فالمبادئ العامة للديمقراطية التوافقية منصوص عليها دستورياً، كنظام التمثيل النسبي والحكومات المحلية، لكن يبقى تطبيقها معرّض للنقد بحجة أنّ الجدوى التي استُحدثت من أجلها هذا المبادئ لم تحقّق النتائج المراد الوصول إليها، وهي التشاركية في الحكم بين المركز والحكومات المحلية، والمشاركة في صنع القرار بقدر التمثيل الذي تشكّله كلّ إثنية.
خلاصة:
إنّ اتخاذ (حكومة الوحدة الوطنية) لمبادئ (الحكم التوافقي)، بعد عملية التحول الديمقراطية واتفاق جميع الإثنيات المكوّنة للمجتمع على ذلك ضمن دستور 1996م، لم يجعلها تحظى بمستويات عالية في الممارسة الديمقراطية، ولم يجعلها في منأى عن النقد، يرجع ذلك إلى أنّ اتخاذ الإطار القانوني والدستوري للمبادئ التوافقية لم يكتمل في شقّه الخاص بالممارسة والتطبيق، فقد شهدت العملية السياسية العديد من الانحرافات والإخفاق، حيث أُفرغت المبادئ التوافقية المؤطّرة دستورياً من محتواها، فغلق (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي) للممارسة السياسية عبر احتكاره للحكم وإقصاء المنافسين من داخل حزبه ومن خارجه، وإدارته للعملية السياسية بعقلية حكم الأغلبية وتحت قواعد التوافقية، جعل مبدأ (الائتلاف الموسّع) مجرداً وغير واقعيٍّ في إدارة الحكم، بالإضافة إلى مبدأ التمثيل النسبي الذي أصبح تمثيلاً دون مشاركة فعلية في الإدراة، حيث احتكر النصاب القانوني في تمرير المشاريع والقوانين، وهو ما جعل من الأحزاب الأخرى في البرلمان والحكومة مجرد تابع لا يمكنه الوقوف بندّية ضد ممارسات (حزب المؤتمر الوطني الإفريقي).
واتخاذ (الحكم المحلي) دون تطوير الأنشطة الاقتصادية والتنمية المحلية جعل منه مبدأً غير قابل للفعالية، باعتبار أنّ الاستقلالية الاقتصادية والمالية شرط أساسي للحكم المحلي المستقلّ والفعّال.
عملت تجربة الحكم في جنوب إفريقيا بمبادئ (الديمقراطية التوافقية) على وضع أطر مؤسسية وقانونية تحتوي جميع الأطياف المكوّنة للمجتمع، لكن على مستوى الممارسة السياسية وتطبيق هذه المبادئ ظهرت الكثير من الانحرافات، بدليل النقد الموجّه إليها من طرف الأحزاب المعارضة، حتى من داخل الحزب ذي الأغلبية، وهو ما يجعل الاستفادة من هذه التجربة في إفريقيا يحمل شقّين بالنسبة إلى الدول الإفريقية التي توجد بها التركيبة الاجتماعية المشابهة للمجتمع الجنوب إفريقي، والقائمة على التعدد والتنوع والاختلاف، مثل دولتي بورندي ورواندا، فالإطار المؤسساتي القانوني بُني على إجماعٍ من طرف جميع المكونات الاجتماعية، وهو ما يجعل منها تجربة يُعتد بها ضمن مراحل الهندسة الدستورية لما بعد التحول، لكن – على مستوى الممارسة – لا بد من إيجاد وسائل قانونية وآليات تدعم الممارسة الفعّالة لهذه القواعد؛ لتجنّب الإخفاقات التي أعاقت الممارسة الديمقراطية في دولة جنوب إفريقيا.
الإحالات والهوامش:
(*) جامعة الدكتور الطاهر مولاي – سعيدة – الجزائر، البريد الإلكتروني: chikhaouiahmed28@gmail.com
(1) محمد عاشور مهدي: الديمقراطية في إفريقيا، تجربة التحول الديمقراطي في جنوب إفريقيا، مجلة دفاتر السياسة والقانون، العدد الأول، جامعة قاصدي مرباح، جوان 2009م، ص (100 – 101).
(2) Arend Lijphart, Patterns of Democracy , first publication, New haven: Yale university press,1999, p 34 – 35.
(3) آرنت ليبهارت – مرجع أجنبي سابق-: الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد، ترجمة حسني زينة، الطبعة الأولى، بيروت: معهد الدراسات الاستراتيجية، 2006م، ص (64 – 66).
(4) Arend Lijphart, Patterns of Democracy, op.cit, p 37 – 38.
(5) Micheal Gallagher, Proportionality. ed by: Pul Baryy Clarke and Joe Foweraker, first edition, New York: Routledge, 2011, p 307.
(6) إضافة إلى القواعد العامة السابقة هناك؛ يستقي (آرنت ليبهارت) بعض القواعد الخاصة بتجارب معينة كالاتحاد الأوروبي، وسويسرا، وبلجيكا، فيضيف (ليبهارت) مثلاً توازن السلطة بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، النظام التعددي على مستوى التمثيل، فمثلاً في البرلمان الأوروبي هناك اشتراكيون وديمقراطيون، التعاون بين جماعات المصالح، نظام تشريعي ثنائي قوي يقوم على نظام الغرفتين، دستور جامد لا يمكن أن يعدل بطريقة عادية باعتبار أنه أنشئ بعد مشاورات طويلة ومعقدة، ويحتوي على اتفاقات قد تفضي إلى إثارة خلافات في حالة مراجعتها، المراجعة والمراقبة القضائية للحقوق التي تتمتع بها الأقليات، وحمايتها من الخرق، استقلالية البنك المركزي في تسييره، انظر: (Arend Lijphart, Patterns of Democracy, op.cit, p 35 – 36).
(7) آرنت ليبهارت، مرجع سابق، ص (50 – 51).
(8) Robert Agranoff, “Federalism”, the Encyclopedia of political science, ed by: George Thomas Kurian, Washington: copres, 2011, p 567.
(9) Franco Barcheisi, “Classes, multitudes and the politics of community Movements in post-apertheid south africa”, Durban, South Africa: centre for soceity Resaerch Report n°20, August 2004, p 11.
(10) Jessica piombo, “Political Parties, Social Demographics and the decline of Ethnic Mobilization in South Africa 1994 – 1999”, London: SAGE Publications, VOL 11. No.4, 2005, p 453 – 454.
(11) Christina Murry, ” Republic of south Africa”, iccf-international association of centers of federal studies, forum des federations, 2005, p 4.
(12) Republic of South Africa, Constitutional law, “Constutition of the republic of south africa” N°108 of 1996, p 1882 – 1885.
(13) الفصل بين السلطاتSeparation of powers : أحد المعايير المهمة التي تطبقها الأنظمة الديمقراطية، كما أنه من المحددات التي تُصنّف على أساسها الأنظمة، فالحكومات تقوم بثلاث وظائف، هي: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وفي إطار الفصل الصارم بين السلطات تحدد صلاحيات كلّ سلطة تجنباً للتداخل، الفرضية الكامنة وراء استحداث نظام الفصل هو أنّ الجمع بين السلطات في يد واحدة واستحواذ حاكم واحد عليها يؤدي إلى الاستبداد، باعتبار أنه يملك جميع السلطات، ولا يمكن لطرف آخر مساءلته أو محاسبته، فالفصل بين السلطات جاء لمنع تجميع السلطات في جهة واحدة، ومن ثمّ منع قيام الاستبداد، وحماية الحريات، وهناك هدف آخر ذو صلة وهو منح تشريع القوانين للبرلمان، والذي بدوره يشرف على مراقبة الحكومة باعتباره ممثلاً للشعب، والهدف النهائي هو ترك المجال للحكومة للعمل بكفاءة وفعالية عن طريق حصر صلاحياتها ووظائفها، والأساس القوي في ذلك هو اختلاف الوظائف بين السلطات، ويُعد (مونتسكيو) أول مَن طرح فكرة الفصل كأساس لحماية الحريات في العصر الحديث، حيث طور أطروحته في كتاب (القوانين) بعد دراسته لإنجلترا، كما كان لكتاباته تأثيراً كبيراً في المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية، خصوصاً في (جيمس ماديسون) الذي رأى أنّ تركيز السلطات في يده يدفعه للاستبداد.
انظر:
– Andrew J. Wroe, “Separation of Powers”, Encyclopedia of Democratic Thought, ed by: Paul Barry and Joe Foweraker, first edition, London and New York: Routledge, 2001, p 797 – 799.
(14) فاطمة بدروني: التحول الديمقراطي والهندسة الانتخابية في المجتمعات المتعددة الإثنيات، مجلة دفاتر السياسية والقانون، جامعة سيدي بلعباس، أفريل 2011م، ص (387 – 388).
(15) Staffan I Lindberg «consequences of electoral systems in Africa ,a preliminary in quiry», Departement of political science, sweden :Limd university, 2005, p 45 , 46.
(16) فاطمة بدروني، مرجع سبق ذكره، ص 388.
(17) Nicole Bolleyer, «Consociationalism and Intergovernmental Relations –Linking Internal and External Power-Sharing in the Swiss Federal Polity”, Florence :copyright, Swiss Political Science Review 12 (3), 2006, p 4 – 5.
(18) Robert B. Horwitz, «Communication and Democratic Reform in South africa, communication society and politics», first publication, UK: Cambridge university press, 2004, p 87.
(19) Raphael porteilla, «le Nouvel Etat sud-Africaine: des Bantoustans Aux provainces 1997 – 1998», paris: L’harmattan, 1998, p 294 – 295.