أ.د. عمر عبد الفتاح
أستاذ بقسم اللغات الإفريقية بكلية الدراسات الإفريقية العليا– جامعة القاهرة
يُعدّ نجوجي واثيونجو Ngũgĩ wa Thiong’o، أحد عمالقة الأدب الإفريقي الحديث؛ ذلك الراوي الحكّاء الذي رفض أن يُكبّله السجن والمنفى والمرض. والذي امتدت أعماله على مدار ما يقرب من ستة عقود، وثّقت في المقام الأول تحوُّل بلاده -كينيا- من دولة مستعمَرة إلى دولة ديمقراطية، كما جسَّدت أعماله واقع وتحديات وآمال وأحلام الشعوب الإفريقية.
لقد رُشِّح “نجوجي” للفوز بجائزة نوبل للآداب مرات كثيرة، تاركًا معجبيه في حالة من الاندهاش كلما أفلتت منه الجائزة. ورغم ذلك سيظل “نجوجي” يُذْكَر ليس فقط ككاتب يستحق جائزة نوبل عن جدارة، بل أيضًا كمدافع ومناصر شرس للأدب المكتوب باللغات الإفريقية الأصلية.
وُلِدَ “نجوجي” باسم جيمس ثيونجو نجوجي عام 1938م، خلال الفترة التي كانت كينيا تخضع فيها للحكم الاستعماري البريطاني. ونشأ في بلدة ليمورو Limuru لعائلة كبيرة من العمال الزراعيين ذوي الدخل المحدود. وادَّخر والداه المال ليتمكنا من دفع رسوم دراسته في مدرسة “أليانس” Alliance الداخلية التي يديرها منصرون بريطانيون.
وفي إحدى المقابلات مع “نجوجي”، ذكر أنه عند عودته ذات يوم إلى منزله من مدرسة “أليانس” في نهاية الفصل الدراسي وجد أن السلطات الاستعمارية قد دمّرت قريته بالكامل. وأصبح أفراد عائلته من بين المئات والآلاف الذين أُجبروا على العيش في معسكرات الاعتقال خلال حملة القمع التي مارستها السلطات الاستعمارية ضد حركة الماو ماو Mau Mau، وهي حركة المناضلين من أجل الاستقلال.
وقد أثّرت انتفاضة الماو ماو -التي استمرت من عام 1952م وحتى عام 1960م-، على حياة نجوجي بطرق عديدة. وفي واحدة من أكثرها قسوة، قُتل جيتوجو Gitogo شقيق نجوجي، برصاصة في ظهره لرفضه الامتثال لأمر جندي بريطاني؛ حيث إن جيتوجو لم يسمع ولم يُنفّذ أمر الجندي البريطاني؛ لأنه كان أصمّ!!
وفي عام 1959م، وبينما كان البريطانيون يضغطون لإحكام قبضتهم على كينيا، غادر نجوجي بلاده للدراسة في أوغندا. والتحق بجامعة ماكيريري Makerere، التي لا تزال تُعدّ واحدة من أعرق الجامعات في إفريقيا.
وخلال مؤتمر للكُتَّاب في ماكيريري، شارك “نجوجي” مخطوطة روايته الأولى مع الكاتب النيجيري المرموق تشينوا أتشيبي Chinua Achebe. وقام أتشيبي بإرسال مخطوطة الرواية إلى ناشره في المملكة المتحدة، ونُشرت الرواية، التي تحمل عنوان “لا تبكِ أيها الطفل” Weep Not, Child في عام 1964م. ونالت الرواية استحسان النقاد، واعتُبرت أول رواية بارزة باللغة الإنجليزية يكتبها كاتب من شرق إفريقيا.
وقد أتْبَع نجوجي روايته الأولى سريعًا بروايتين شهيرتين أخريين، هما رواية “حبة قمح”A Grain of Wheat، ورواية “النهر الفاصل” The River Between. وفي عام 1972م، وصفت صحيفة التايمز البريطانية نجوجي، الذي كان عمره آنذاك 33 عامًا، بأنه “واحد من أبرز كُتّاب إفريقيا المعاصرين”.
ومع حلول عام 1977م، بدأت فترة جديدة في حياة نجوجي، شهدت تحولًا هائلًا في حياته ومسيرته المهنية. فبدايةً من هذا العام، تخلَّى نجوجي عن اسم ميلاده “جيمس”، وأصبح اسمه نجوجي وا ثيونجو. وقد قام نجوجي بهذا التغيير لأنه أراد اسمًا إفريقيًّا خالصًا بعيدًا عن التأثير الاستعماري. كما تخلّى نجوجي أيضًا عن اللغة الإنجليزية كلغة أساسية في أعماله الأدبية، وتعهَّد بالكتابة فقط بلغته الأم، لغة الكيكويو Kikuyu. وقام بنشر آخر رواياته باللغة الإنجليزية، وهي رواية “بتلات الدم” Petals of Blood في ذات العام 1977م.
وقد كانت أعمال نجوجي السابقة تنتقد الدولة الاستعمارية، لكنّ رواية “بتلات الدم” قامت بانتقاد ومهاجمة القادة الجدد لكينيا المستقلة، مصورةً إيّاهم على أنهم طبقة نخبوية خانت المواطنين الكينيين العاديين. ولم يتوقف نجوجي عند هذا الحد. ففي العام نفسه، شارك في تأليف مسرحية بعنوان “سأتزوج متى شئت” Ngaahika Ndeenda، والتي كانت تمثل نظرةً لاذعةً وحادة على الصراع الطبقي في كينيا. وقد تم إغلاق المسرح، وتم وقف عرض مسرحية نجوجي، بقرار من حكومة الرئيس جومو كينياتا Jomo Kenyatta آنذاك، وسُجن نجوجي في سجن شديد الحراسة لمدة عام دون محاكمة.
وخلال سنة السجن هذه، كتب نجوجي روايته الأولى بلغة الكيكويو تحت عنوان “شيطان على الصليب” Devil on the Cross. ويُقال: إنه استخدم ورق التواليت لكتابة الرواية بالكامل؛ لأنه لم يكن مسموحًا له بالحصول على أوراق للكتابة. وأُطلق سراح نجوجي بعد أن أصبح دانيال أراب موي Daniel arap Moi رئيسًا لكينيا بدلًا من جومو كينياتا.
وقد ذكر نجوجي في أحد لقاءاته أنه بعد أربع سنوات من هذه الحادثة، وفي أثناء وجوده في لندن لحضور حفل تدشين واحد من أعماله، علم بوجود مؤامرة لقتله عند عودته إلى كينيا. ومنذ ذلك الحين، بدأ نجوجي رحلة منفاه الاختياري في المملكة المتحدة، ثم في الولايات المتحدة، ولم يعد إلى كينيا لمدة 22 عامًا.
وعندما عاد نجوجي أخيرًا لوطنه، خرج آلاف الكينيين للترحيب به واستقبلوه استقبال الأبطال، لكن عودته إلى الوطن شهدت اقتحام مهاجمين لشقته، واعتدوا عليه بوحشية واغتصبوا زوجته. وأصر نجوجي على أن هذا الاعتداء لم يكن جنائيًّا بل كان اعتداء “مُسيَّسًا”.
وبعد ذلك، عاد نجوجي إلى الولايات المتحدة؛ حيث عمل أستاذًا في عدة جامعات؛ منها جامعة ييل Yale ونيويورك New York، وكاليفورنيا إيرفين California Irvine. واشتهر نجوجي سواء في المجال الأكاديمي أو خارجه، بأنه أحد أبرز دعاة الأدب الإفريقي المكتوب باللغات الإفريقية.
وطوال مسيرته المهنية -وحتى يومنا هذا-، هيمنت على الأدب الإفريقي الأعمال المكتوبة بالإنجليزية أو بالفرنسية، وهما اللغتان الرسميتان في معظم دول القارة الإفريقية. وفي هذا السياق طرح نجوجي سؤالًا في كتاب له ضمَّ مجموعة مقالات مؤثرة وحماسية بعنوان “إنهاء استعمار العقل” Decolonizing the Mind، حول “ما الفرق بين السياسي الذي يقول: إن إفريقيا لا تستغني عن الإمبريالية، والكاتب الذي يقول: إن إفريقيا لا تستغني عن اللغات الأوروبية؟”.
كما تجدر الإشارة إلى أنه في أحد فصول هذا الكتاب، انتقد نجوجي “تشينوا أتشيبي” -الكاتب الذي ساهم في انطلاق مسيرته المهنية-؛ لكتابته باللغة الإنجليزية. ونتيجةً لذلك، توترت صداقتهما بشكل كبير.
وبعيدًا عن مسيرته الأدبية، تزوج نجوجي -وطلق- مرتين. وكان لديه تسعة أطفال، أربعة منهم مؤلفون لهم أعمال منشورة. وقد علَّق نجوجي على ذلك مازحًا في مقابلة له مع صحيفة لوس أنجلوس تايمز عام 2020م قائلًا: “لقد أصبحت عائلتي من منافسيّ الأدبيين”.
وقد ادعى ابنه، موكوما وا نجوجي Mukoma wa Ngũgĩ، ذات مرة أن والدته تعرَّضت لعنف جسدي على يد والده؛ حيث كتب في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي “أذكر ذات مرة منذ فترة طويلة أنني ذهبت لزيارة أمي في منزل جدتي؛ حيث كانت تبحث عن مكان تلجأ إليه”، ولم يعلق نجوجي على هذا الادعاء مطلقًا.
وفي وقتٍ لاحقٍ من حياته، تدهورت الحالة الصحية لنجوجي بشكل كبير، وخضع لعملية جراحية بالقلب في عام 2019م، كما بدأ يُعاني من الفشل الكلوي. وفي عام 1995م كان قد أُصيب بسرطان البروستاتا، وصرح الأطباء بأنه لم يتبق له سوى ثلاثة أشهر للعيش، لكنَّ نجوجي تعافى من مرضه، مُضيفًا السرطان إلى قائمة صراعاته الطويلة التي تغلَّب عليها.
والآن، وبعد هذه الرحلة الطويلة التي استمرت لنحو 87 عامًا، رحل أحد منارات الأدب الإفريقي، -كما وصفته الكاتبة النيجيرية شيماندا نجوزي أديتشي ذات مرة-؛ تاركًا عالم الكلمات أكثر قتامةً وظلمةً.
……………..
تم نشر هذا المقال على موقع الـ BBC بتاريخ 28/5/2025م تحت عنوان:
Giant of African literature Ngũgĩ wa Thiong’o dies aged 87، على الرابط التالي:
https://www.bbc.com/news/articles/ce999kwxn1ro?fbclid=IwZXh0bgNhZW0CMTEAAR7HTN7CjbuZpBgd3q91Jp9B1GJh7dMBC0108bBGtq5lPPGlY2UhGo-L-aDbbQ_aem_zVXkZeCdRwmy9lD31yEsPQ&sfnsn=scwspwa