تمهيد:
في خِضمّ تصاعد التوترات السياسية والعسكرية في منطقة الساحل الإفريقي؛ برزت الأزمة الأخيرة بين الجزائر وتحالف دول الساحل -المكوَّن من مالي، النيجر، وبوركينا فاسو-، كأحد أبرز ملامح إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي الإقليمي.
حادثة إسقاط الطائرة المسيَّرة المالية على يد الجيش الجزائري لم تكن سوى القشَّة التي قصمت ظهر العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين، فالمشكلة أعمق بكثير؛ حيث تتجذر في تحوُّلات السلطة داخل الدول الثلاث، وسعيها لفكّ ارتباطها بالتحالفات التقليدية لصالح محاور جديدة، أبرزها روسيا.
في الوقت ذاته، تبدو الجزائر، صاحبة التاريخ الطويل في الوساطة الإقليمية، وكأنها تُواجه اختبارًا عسيرًا لفرض نفوذها التقليدي في منطقة تتغير معالمها بسرعة. وتُعدّ الخطوات التصعيدية الأخيرة، كسحب السفراء وإغلاق المجال الجوي، إشارات واضحة على انحدار غير مسبوق في مسار العلاقات بين هذه الأطراف.
ما يزيد تعقيد هذه الأزمة أن لكل طرف روايته الخاصة لما جرى، مما يفتح الباب أمام سيل من الاتهامات والتأويلات، التي يصعب معها التوصل إلى صيغة توافقية في ظل التوتر الحادّ.
الجزائر من جانبها تُؤكّد أن المسيَّرة اخترقت مجالها الجوي، وهو ما يُبرّر إسقاطها، بينما ترى مالي، ومعها حلفاؤها في التحالف الجديد، أن الطائرة كانت ضمن حدودها، وأن ما جرى هو “عمل عدائي” ينتهك السيادة الوطنية ويُقوِّض العلاقات الأخوية بين الشعوب.
الاتهامات المتبادلة بدعم الإرهاب زادت من تأزيم الوضع، خصوصًا بعد وصف مالي للنظام الجزائري بأنه “راعٍ للإرهاب”، ما مثَّل قطيعة حقيقية في الخطاب السياسي المتبادل. هذه الاتهامات لا تُعبِّر فقط عن أزمة راهنة، بل تكشف عن تحوُّل عميق في موازين القوى وتوجهات السياسات الخارجية لهذه الدول.
وفي هذا السياق، يسعى المقال للإجابة عن التساؤل الرئيس للمقال: هل تؤدي التوترات الحالية بين الجزائر وكلٍّ من مالي وبوركينا فاسو والنيجر إلى تقويض حالة الاستقرار بالمنطقة؟ وذلك من خلال تناول عدد من المحاور فيما يلي:
المحور الأول: تدهور العلاقات بين الجزائر ومالي
شهدت العلاقات بين الجزائر ومالي تدهورًا حادًّا في الأشهر الأخيرة، بدأ بإعلان “باماكو” إنهاء اتفاق السلام المُوقَّع عام 2015م، والذي كانت الجزائر طرفًا رئيسيًّا في وساطته بدعم دولي. اعتبرت الجزائر هذا القرار تراجعًا خطيرًا عن مسار التسوية السياسية، بينما برَّرت مالي خطوتها باتهام الجزائر بـ”الأعمال العدائية” و”التدخل في الشؤون الداخلية”.
جاء الاتفاق الأصلي لإنهاء تمرُّد الطوارق في شمال مالي، عبر منح الإقليم حكمًا ذاتيًّا وتنمية اقتصادية، لكنّ المجلس العسكري الحاكم رأى أن الاتفاق يُكرِّس انقسامًا ويُضْعِف السيادة، خاصةً مع تصاعد النزاع مجددًا عام 2023م. واتهمت الجزائر السلطات المالية بالاعتماد على “المرتزقة” الروس وتبنّي “خيار عسكري” يُهدّد بوحدة مالي ويُغذِّي خطر حرب أهلية، في حين ردَّت مالي باتهام الجزائر بدعم جماعات العنف.([1])
وتتصاعد التوترات مع تبادل الاستدعاءات الدبلوماسية؛ حيث استدعت مالي السفير الجزائري أواخر 2023م احتجاجًا على استضافة الجزائر لقادة من الطوارق المتمردين وشخصيات معارضة، مثل الإمام محمود ديكو، الذي اعتُبرت زيارته للجزائر تحديًا مباشرًا لباماكو. من جهتها، انتقدت الجزائر ابتعاد المجلس العسكري عن تنفيذ اتفاق السلام، ووصفته بأنه “يُجهض جهود الوساطة الدولية”. كما أشارت إلى تقارب مالي مع روسيا عبر مجموعة “فاغنر”، والذي أدى إلى تصاعد العنف في شمال مالي بعد سيطرة القوات المالية المدعومة روسيًّا على مناطق الطوارق، مثل كيدال. وفي المقابل، اتهمت مالي الجزائر بتوفير ملاذ آمن للمتمردين وتسهيل تحركاتهم عبر الحدود المشتركة، مما عمَّق أزمة الثقة بين البلدين.([2])
لم يقتصر التدهور على الجانب الثنائي، بل امتد إلى السياق الإقليمي؛ حيث تزامن إعلان مالي إنهاء اتفاق السلام مع انسحابها من منظمة “إيكواس” إلى جانب بوركينا فاسو والنيجر، في خطوة رأتها الجزائر تعكس توجه الأنظمة العسكرية الحاكمة نحو عزلة إقليمية. ورغم أن الجزائر ليست عضوًا في “إيكواس”؛ إلا أنها عبَّرت عن قلقها من تفكُّك المنظمة وتأثيره على استقرار المنطقة، خاصةً مع اشتراك الدول المنسحبة في موجة انقلابات وصراعات داخلية. كما أثار التقارب المالي-الروسي مخاوف جزائرية من تغوُّل نفوذ أطراف خارجية على حدودها الجنوبية، في وقتٍ تسعى فيه الجزائر للحفاظ على دورها كوسيط إقليمي. وهكذا، أصبحت العلاقات بين البلدين رهينةً لصراعات السيادة والتحالفات الجيوسياسية المتشابكة، مع محدودية أفق الحلول الدبلوماسية في المدى المنظور.([3])
المحور الثاني: تراجع دور الجزائر في الساحل الإفريقي
شهدت الجزائر تراجعًا ملحوظًا في نفوذها بمنطقة الساحل الإفريقي نتيجة تحوّلات جيوسياسية عميقة، بدأت مع انسحاب القوات الفرنسية من عملية “برخان” عام 2022م، مما فتح الباب أمام صعود فاعلين جدد مثل روسيا عبر مرتزقة “فاغنر”، وتركيا المُزوِّدة بالطائرات المسيَّرة، والإمارات العربية المتحدة الداعمة للمجموعات العسكرية.
لم تتمكن الجزائر، التي اعتمدت تاريخيًّا على الوساطة والدبلوماسية كأدوات رئيسية، من مجاراة هذا التوجُّه العسكري المتصاعد، خاصةً مع تحالف دول الساحل (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) الذي ابتعد عن الإستراتيجيات التفاوضية لصالح الحلول الأمنية الصارمة. وأصبحت اتفاقية الجزائر للسلام عام 2015م -التي كانت تُعتبر إنجازًا دبلوماسيًّا- بلا قيمة مع تمسُّك الحكام الجدد بالشرعية العسكرية، ورفضهم أيّ تدخُّل خارجي، بما في ذلك الوساطة الجزائرية.([4])
ساهمت العوامل الداخلية في تعزيز تراجع الجزائر؛ حيث واجهت تحديات مرتبطة بضعف الاستثمار الاقتصادي في دول الجوار، وتراجع مصداقية خطابها القائم على “الأخوة الإفريقية” في ظل تنامي الشكوك حول أهدافها الحقيقية. وأظهرت التحقيقات حول الفساد داخل المؤسسة العسكرية، مثل قضية الجنرال عبدالرزاق شريف، مدى استغلال النفوذ في تعاملات حدودية غامضة، مما أضعف ثقة دول الساحل بالجزائر.
بالإضافة إلى ذلك، أدَّى الاعتماد المفرط على العائدات النفطية في زيادة الإنفاق العسكري (23.8 مليار يورو عام 2024م) إلى إهمال البُعْد التنموي، الذي كان يمكن أن يُعزِّز الشراكة مع دول المنطقة، وأصبح يُنْظَر إلى الجزائر على أنها تعتمد على “القوة الصلبة” دون رؤية استباقية.
برز التنافس الدولي في الساحل كعامل حاسم في تقويض دور الجزائر؛ حيث نجحت دول مثل الإمارات وتركيا في اختراق النُّخَب الحاكمة عبر استثمارات اقتصادية وعسكرية مباشرة، بينما اعتمدت روسيا على تقديم الدعم الأمني السريع عبر “فاغنر”. في المقابل، حافظت الجزائر على نهج تقليدي قائم على مبدأ “عدم التدخل” و”احترم الحدود”، والذي بدا عاجزًا أمام تحالفات المنطقة الجديدة التي تبحث عن شركاء قادرين على تقديم حلول ملموسة لمشكلاتها الأمنية. كما أدى التقارب المغربي-الإسرائيلي إلى تعقيد المشهد؛ حيث سعت الرباط إلى توسيع نفوذها في الساحل عبر شراكات إستراتيجية مع دول مثل مالي، مستغلةً التراث الثقافي المشترك مع مجتمعات تمبكتو، مما زاد من عزلة الجزائر دبلوماسيًّا.([5])
وعلى الرغم من محاولات الجزائر للتكيُّف، مثل تعديل الدستور عام 2020م للسماح بتدخُّل عسكري خارجي، إلا أن فعالية هذه الخطوات تبقى محدودة في ظل غياب رؤية شاملة تجمع بين الأمن والتنمية. ويُشير تحسُّن العلاقات مع روسيا مؤخرًا إلى محاولة لاستعادة التوازن؛ لكنَّها لا تُعوّض عن فقدان الثقة مع جيرانها الأفارقة. لعلَّ المخرج الوحيد للجزائر يكمن في مراجعة عميقة لسياساتها، عبر تبنّي دبلوماسية اقتصادية أكثر جرأة، وإصلاح داخلي يَحُدّ من الفساد، وإعادة بناء التحالفات الإقليمية على أُسُس جديدة تُواكب تحوّلات الساحل، التي لم تعد تقبل بسياسات “الأخ الأكبر” أو الحلول الموروثة من حقبة ما بعد الاستعمار.([6])
المحور الثالث: تصعيد متسارع في أزمة إقليمية متشابكة
ضمن هذا المشهد المُعقَّد، لم تعد الأزمة حكرًا على الجزائر ودول الساحل، بل أصبحت ذات طابع إقليمي ودولي، بفعل دخول أطراف فاعلة جديدة على خط الأزمة، وعلى رأسها روسيا، التي أصبحت الحليف الأقرب للدول الثلاث بعد قطيعتها مع فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة. التحول في الحلفاء يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل الاستقرار في الإقليم، خاصةً أن الجزائر ظلت لسنوات تُمثّل صمام أمان في ملف الوساطة والمصالحة، لا سيما في القضية الأزوادية في شمال مالي. وها هي اليوم تجد نفسها في موقف الدفاع بدل القيادة، ما قد يدفعها إلى إعادة النظر في حيادها السابق تجاه حركات الطوارق، التي تجمعها بها روابط إثنية وتاريخية عميقة. وفي حال فقدت الجزائر موقعها كوسيط، فإن الفجوة بين أطراف النزاع ستتسع، ما ينذر بجولة جديدة من الصراع في منطقة هشّة أصلًا.([7])
الأزمة الحالية لا تنفصل عن السياق الأكبر الذي تشهده منطقة الساحل، والمتمثل في موجة الانقلابات العسكرية، وانهيار عدد من التحالفات التقليدية مثل “الإيكواس”، وتشكُّل كيانات جديدة مثل تحالف الساحل. هذا التحول يشير إلى تغيُّر جذري في طبيعة الأنظمة السياسية الحاكمة، التي باتت تُفضِّل الانغلاق السيادي والتحالفات العسكرية على حساب التعددية الإقليمية. هذه الديناميات، مع ما تحمله من تعقيدات أمنية، واقتصادية، وحتى إثنية، تضع الإقليم برُمّته أمام تحدٍّ مصيري: إما الانزلاق إلى حالة من الفوضى متعددة الأوجه، أو إعادة بناء نظام إقليمي جديد قائم على توازنات أكثر واقعية وشراكات غير تقليدية. ومن هنا، فإن ما يحدث بين الجزائر ودول الساحل لا يمكن النظر إليه كخلاف حدودي أو حادث عرضي، بل كعلامة فارقة على تغيُّر عميق في البنية الإقليمية لمنطقة غرب وشمال إفريقيا.([8])
يُمثّل تطوُّر الأزمة بين الجزائر ودول الساحل الثلاث –مالي، النيجر، وبوركينا فاسو– تحوّلًا نوعيًّا في منسوب التوتر الإقليمي، خاصةً بعد سلسلة من الإجراءات التصعيدية المتبادلة التي عكست حجم الشرخ في العلاقات الثنائية. فاستدعاء السفراء من الجزائر لم يكن مُجرَّد موقف احتجاجي، بل خطوة دبلوماسية تحمل دلالات سياسية عميقة، تعكس القطيعة المتنامية وانهيار قنوات التواصل الرسمية. حادثة إسقاط الطائرة المسيّرة، التي اعتبرتها الجزائر انتهاكًا صارخًا لسيادتها، في مقابل إصرار مالي على أن الحطام وُجد داخل أراضيها، فتحت الباب أمام سجال خطير يضرب جوهر الثقة المتبادلة، ويُعزّز مناخ الريبة والتوجس بين الأطراف.([9])
اللافت أن الرد المالي لم يقتصر على الجانب الدبلوماسي فقط، بل تجاوز ذلك إلى إعلان الانسحاب من لجنة التعاون العسكري، في خطوةٍ تُعبِّر عن تآكل الثقة بالكامل، وتعكس توجهًا إستراتيجيًّا جديدًا لدى دول الساحل، يُعيد صياغة تحالفاتها وخياراتها الأمنية. بالمقابل، جاء التنديد الجزائري حادًّا؛ حيث وصفت الاتهامات الموجهة إليها بـ”الخطيرة وغير المقبولة”، مؤكدةً على أن ما قامت به هو دفاع مشروع عن السيادة الوطنية. هذه المعادلة المُعقَّدة التي تجمع بين النزاع الحدودي، والاتهامات المتبادلة بالإضرار بالأمن الإقليمي، والانسحاب من الأُطُر التعاونية، تنذر بانزلاق الأمور نحو مزيد من التوتر الذي قد يصعب احتواؤه دبلوماسيًّا في المستقبل القريب.([10])
المحور الرابع: تحوُّل الأزمة من ثنائية إلى مأزق إقليمي
بدأت الأزمة بين الجزائر ومالي كخلاف ثنائي ناتج عن تباين المواقف من اتفاق السلام في الشمال المالي، لكنَّ تطورات متسارعة دفعت هذه الأزمة نحو بُعْد إقليمي مع انخراط بوركينا فاسو والنيجر. فقد جاء إسقاط الجزائر لطائرة مسيَّرة مالية قرب الحدود بمثابة نقطة تحول، اعتبرتها مالي انتهاكًا لسيادتها، وردت عليها بسحب سفيرها، تبعتها بوركينا فاسو والنيجر تضامنًا، ما أفضى إلى تصعيد دبلوماسي متبادل. دخول هذين البلدين على خط الأزمة حوَّلها من نزاع محدود إلى مأزق إقليمي تمسّ تداعياته بنية التحالفات الجديدة في الساحل. ويعكس هذا التحول تصدعًا متزايدًا في العلاقات التقليدية، خاصةً في ظل الانحياز المتنامي لتحالف الساحل الجديد على حساب العلاقات التاريخية مع الجزائر.([11])
وقد أدَّى تأسيس “تحالف دول الساحل” من طرف مالي وبوركينا فاسو والنيجر إلى خلق واقع جديد في المنطقة يعيد رسم خريطة النفوذ؛ حيث تتحدى هذه الكتلة العسكرية الجديدة الدور التقليدي للجزائر كقوة إقليمية ضامنة للاستقرار. ودعم الجزائر لاتفاقيات السلام التاريخية مع حركات أزواد، ومحاولاتها للتوسط في نزاعات المنطقة، باتت تُقابل اليوم بتوجُّس من الحكومات العسكرية الجديدة التي ترى في الجزائر عقبة أمام سياساتها الأمنية الجديدة، خصوصًا في ظل التعاون الوثيق بينها وبين روسيا. وبهذا، تحوَّلت الجزائر من وسيط مقبول إلى طرف يُنظر إليه على أنه خصم محتمل، خاصة بعد الاتهامات الموجهة لها برعاية جماعات انفصالية وتهديد وحدة مالي.([12])
تدهورت الثقة بين الجزائر والدول الثلاث، لا سيما بعد الخطاب الحاد الذي تبنته مالي، واتهامها الجزائر بـ”رعاية الإرهاب الدولي”، في حين ردت الجزائر بلهجة شديدة على ما وصفته بمحاولة تحميلها أزمات مالية الداخلية. وسحب السفراء وإغلاق الأجواء بين الجزائر وهذه الدول الثلاث شكَّل ضربة مباشرة للتنسيق الأمني والدبلوماسي في منطقة تُواجه تحديات إرهابية معقَّدة. وباتت المنطقة تشهد اصطفافًا حادًّا قد يعرقل جهود مكافحة الإرهاب ويُضعف آليات التعاون التقليدية، مع وجود مخاوف من امتداد النزاعات الحدودية وتزايد احتمال المواجهات غير المباشرة أو الحرب بالوكالة في منطقة شديدة الهشاشة.([13])
تحوّل الأزمة من بُعد ثنائي إلى مأزق إقليمي له تداعيات أوسع على المشهد الاقتصادي والسياسي في الساحل. الجزائر التي كانت تسعى لتعزيز نفوذها الاقتصادي من خلال مشاريع الطاقة والتبادل التجاري خاصة مع النيجر، تجد نفسها أمام مقاطعة دبلوماسية تعرقل مصالحها الإقليمية. في المقابل، يبدو أن تحالف الساحل يحاول تقوية استقلاله عن الفاعلين التقليديين لصالح شراكات جديدة مع روسيا وتركيا، ما يضع الجزائر أمام تحدّي إعادة بناء مكانتها الإقليمية. كما أن هذا التحوُّل يُهدِّد استقرار المنطقة بأكملها، إذ يمكن أن يقود إلى تهميش المبادرات السلمية لصالح المقاربات العسكرية، مما يُعمِّق من أزمات الهجرة والإرهاب وتدهور التنمية.([14])
المحور الخامس: تداعيات الأزمة الجزائرية ودول الساحل على المنطقة
تُشكِّل الأزمة المتفاقمة بين الجزائر وتحالف دول الساحل (مالي، النيجر، بوركينا فاسو) تهديدًا مباشرًا لحالة التوازن الهشّ في المنطقة الإفريقية، لا سيما في منطقة الساحل التي تعاني أساسًا من اختلالات أمنية وهيمنة جماعات مسلحة. هذه الأزمة، التي بدأت بإسقاط طائرة مسيرة وتطوَّرت إلى سحب السفراء وإغلاق الأجواء، تُضعف التعاون الأمني الإقليمي، وتُعزّز الاستقطاب السياسي، مما يمنح مساحة أكبر للتنظيمات الإرهابية للتحرك واستغلال الفراغات بين القوى الإقليمية. كما أن تشظي الجهود المشتركة سابقًا في مكافحة الإرهاب، يفتح الباب أمام صراعات بالوكالة، ويزيد من هشاشة الحدود الطويلة والمفتوحة، خاصةً في ظل تدهور الثقة بين الأطراف.([15])
الأزمة الحالية تضعف مشاريع التعاون الاقتصادي الكبرى، وعلى رأسها مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء، الذي كان من المفترض أن يربط بين نيجيريا والجزائر مرورًا بالنيجر. فالتوترات الدبلوماسية بين الجزائر ونيامي قد تعرقل تنفيذ هذا المشروع الإستراتيجي الذي يُعوَّل عليه في تنويع مصادر الطاقة الأوروبية وتقوية الشراكات جنوب-جنوب. وكذلك فإن تعليق المشاريع الجزائرية في مجال الطاقة وتوليد الكهرباء في النيجر، يُهدد أمن الطاقة في بلدٍ يعاني من انقطاعات متكررة واحتجاجات داخلية. مثل هذه التداعيات تُضعِف قدرة دول الساحل على مواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وتفتح المجال لتزايد الهجرة غير النظامية والفوضى الإقليمية.([16])
الشِّق السياسي للأزمة يعمّق حالة الاستقطاب داخل القارة، فمع توجُّه دول الساحل نحو تحالف جديد مدعوم من روسيا؛ تقف الجزائر في مواجهة غير مباشرة مع نفوذ موسكو المتنامي في المنطقة. هذا التحوُّل يعكس تغيرًا في موازين القوى الإفريقية ويُقوِّض العمل المشترك داخل الكيانات القارية مثل الاتحاد الإفريقي، الذي يجد نفسه أمام معضلة الحياد أو الانحياز. كما أن هذا الوضع يزيد من صعوبة الوساطات المستقبلية ويقلص فرص التسوية السلمية للنزاعات، خاصة في ظل احتدام الخطاب السياسي وتبادل الاتهامات. ما يُهدِّد بجعل الأزمة أكثر تعقيدًا وامتدادًا، تتجاوز حدود الدول المتأثرة لتصل إلى عمق القارة وتهدد استقرارها ككل.([17])
المحور السادس: سيناريوهات الأزمة
في ظل انسداد أفق الحلول الدبلوماسية وتفاقم التوترات بين الجزائر وتحالف دول الساحل، تبرز عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل هذه الأزمة، تختلف في مستويات التصعيد أو الانفراج، وتترتب عنها تداعيات مباشرة على الاستقرار الإقليمي وأدوار الفاعلين المحليين والدوليين في الساحل الإفريقي، ولعل أبرز هذه السيناريوهات، ما يلي:
- استمرار التصعيد الدبلوماسي والعسكري: قد يتواصل التصعيد عبر مزيد من الإجراءات العقابية مثل توسيع الحظر الجوي، أو قطع العلاقات الاقتصادية، مما يُعمِّق القطيعة ويزيد من هشاشة المنطقة، دون أن يتطور إلى مواجهة عسكرية مباشرة بسبب توازنات الردع الإقليمي.
- وساطة إقليمية أو دولية لاحتواء التوتر: قد تتدخل أطراف مثل الاتحاد الإفريقي أو الأمم المتحدة للوساطة، مستغلة تآكل الثقة لطرح مبادرات تهدئة، خاصةً إذا استشعرت الأطراف أن الاستمرار في الأزمة قد يُهدِّد مصالحها الحيوية.
- انزلاق إلى مواجهة غير مباشرة أو صراع بالوكالة: في حال فشل الاحتواء، قد تُستخدم حركات انفصالية أو مرتزقة كأدوات ضغط متبادل، ما يفتح الباب لصراع بالوكالة في مناطق الحدود أو الشمال المالي، خاصةً في ظل ارتباطات الجزائر مع الطوارق وروسيا مع الأنظمة الحاكمة.
- إعادة تشكيل التحالفات والمواقف الإقليمية: تحت ضغط التحديات الأمنية والاقتصادية، قد تُعيد بعض الأطراف النظر في تحالفاتها الراهنة، فتنفتح مجددًا على الجزائر أو تُعيد التوازن في علاقاتها، خصوصًا إذا ثبت فشل المقاربات العسكرية في معالجة أزمات الداخل.
في الختام، يمكن القول: إن الأزمة الراهنة بين الجزائر وتحالف دول الساحل تمثل نقطة تحوُّل فارقة في معادلة التوازنات الإقليمية؛ إذ لم تعد مجرد خلاف دبلوماسي عابر، بل باتت تعبيرًا عن تصدُّع عميق في مفاهيم التحالف والنفوذ داخل منطقة الساحل التي تعيش على وقع أزمات متراكمة.
لقد كشفت الأزمة عن هشاشة الأُطُر التعاونية، وصعود فاعلين جدد يُغيِّرون قواعد اللعبة، في مقابل تراجع أدوار تقليدية كالدور الجزائري الوسيط. وبين تصاعد التوترات الأمنية وتدهور التعاون الاقتصادي والسياسي، تظل المنطقة مفتوحة على سيناريوهات معقدة، يتطلب تفكيكها إرادة سياسية جماعية تتجاوز الحسابات الضيقة نحو بناء منظومة أمنية وتنموية جديدة، أكثر واقعية واستيعابًا لتحولات الزمن الجيوسياسي الراهن.
هذا، وفي ضوء المعطيات والتحولات التي استعرضها المقال، يمكن القول: إن التوترات المتصاعدة بين الجزائر ودول الساحل الثلاث تُنذر فعليًّا بتقويض حالة الاستقرار في المنطقة. فالأزمة لا تتعلق فقط بخلاف سياسي أو حادثة عسكرية، بل تُعبِّر عن تصدُّع هيكلي في التحالفات الإقليمية، وانهيار لقنوات الحوار التقليدية.
فضلً عن أن تراجع الوساطات، وتزايد الاستقطاب الجيوسياسي، وغياب الثقة بين الأطراف؛ جميعها عوامل تؤدي إلى فراغ أمني وسياسي، تستغله الجماعات المسلحة والإرهابية لتوسيع نفوذها. كما أن تأثر مشاريع الطاقة والتعاون الاقتصادي يزيد من هشاشة المنطقة، ويعمق التحديات الاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي، فإن استمرار هذا المسار التصعيدي دون تدخُّل فعَّال سيُفضي إلى مزيد من الفوضى ويفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة تُهدِّد أمن القارة ككل.
………………………………….
[1]– إسماعيل عزام، الجزائر- مالي.. كيف تدهورت العلاقة بسبب النزاع مع الطوارق؟ إذاعة صوت ألمانيا. https://tinyurl.com/3ewp9cb8
[2]– الجزائر- مالي.. كيف تدهورت العلاقة بسبب النزاع مع الطوارق؟ المرجع السابق.
[3]– الاحتقان بين الجزائر ومالي يصل إلى ذروته، الشرق الأوسط. https://tinyurl.com/3j53uauy
[4] Frédéric Bobin and Benjamin Roger, The fading of Algeria’s star in the Sahel region, lemonade. https://www.lemonde.fr/en/le-monde-africa/article/2025/01/14/the-fading-of-algeria-s-star-in-the-sahel-region_6737018_124.html
[5] The fading of Algeria’s star in the Sahel region, ibid.
[6] The fading of Algeria’s star in the Sahel region, ibid.
[7]– حبيب الله مايابى، سؤال وجواب.. أسباب وتداعيات الأزمة بين مالي والجزائر، الجزيرة الإخبارية. https://tinyurl.com/2bh5zena
[8]– توتر جديد في الساحة الإفريقية.. الجزائر تثير أزمة مع تحالف الساحل، العربي بوست. https://tinyurl.com/36hnyeb6
[9]– Sahel alliance recalls ambassadors from Algeria over Malian drone downing, Rédaction Africanews. https://www.africanews.com/2025/04/07/sahel-alliance-recalls-ambassadors-from-algeria-over-malian-drone-downing/
[10]– سؤال وجواب.. أسباب وتداعيات الأزمة بين مالي والجزائر، مرجع سابق.
[11] Baba Ahmed, Algeria says it downed a drone near its border with Mali as tensions simmer between the 2 countries, Washington post. https://www.washingtonpost.com/world/2025/04/01/mali-algeria-drone-shot-down-tensions/cd5ca170-0f54-11f0-b319-ba9d1af23a2f_story.html
[12] Algeria says it downed a drone near its border with Mali as tensions simmer between the 2 countries, ibid.
[13] Claire Parker, Heed lessons of Libya, Algerian foreign minister says after Niger coup, Washington post. https://www.washingtonpost.com/world/2023/08/15/niger-volatile-algeria-foreign-minister-ahmed-attaf-interview/
[14] Algeria/Mali: Flights, energy and the economic fallout of an unprecedented crisis, the Africa report. https://www.theafricareport.com/381174/algeria-mali-flights-energy-and-the-economic-fallout-of-an-unprecedented-crisis/
[15] Algeria/Mali: Flights, energy and the economic fallout of an unprecedented crisis, ibid.
[16] Algeria closes airspace to Mali aircraft as drone row escalates, Al Jazeera Media Network. https://www.aljazeera.com/news/2025/4/7/alliance-of-sahel-states-recall-ambassadors-as-tension-with-algeria-rises
[17] Drone downing sparks diplomatic fallout between Algeria and Sahel countries, Associated Press. https://apnews.com/article/mali-algeria-sahel-alliance-drone-a42b34f060eb91edb28da49687cf8c5a