الكاتب: نيكيتا بانين
خبير في مركز الدراسات الإفريقية – الجامعة الوطنية للبحوث
الناشر: المجلس الروسي للشؤون الدولية
ترجمة: مروة أحمد عبد العليم
باحثة في الشأن الروسي
في شهر يناير عام 2002م، تحوَّلت مدينة “جوما” الواقعة شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى أنقاض، ولم يكن الأمر يتعلق بالحرب الإفريقية الكبرى[حرب الكونغو الثانية]، التي كانت في ذلك الوقت تهزّ البلاد لعدة سنوات؛ على الرغم من أنّ أوّل تمرُّد لها قد بدأ في هذه المنطقة، عندما قام البانيامولينج-التوتسي، في أغسطس 1998م بقيادة حليف سابق للتوتسي، رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتمكنت القبائل -بدعم من رواندا المجاورة؛ حيث يحكم بول كاجامي منذ الإبادة الجماعية عام 1994م- من السيطرة على جميع الموارد الحيوية تقريبًا في المقاطعات الواقعة في شمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. وبحلول بداية عام 2002م، كانت الأزمة تختمر تدريجيًّا في العلاقات بين رواندا والبانيامولينج الكونغوليين، وكان الصراع نفسه يقترب من بداية المفاوضات، التي سهَّلتها حكومة جنوب إفريقيا بشكل فعَّال.
وفي الشهر ذاته يناير 2002م، كانت مدينة “جوما”، الواقعة على الشاطئ الشمالي لبحيرة كيفو عند سفح جبال فيرونجا، لا تزال في أيدي المتمردين، لكن المدينة كانت أيضًا على بعد 14 كيلو مترًا فقط من بركان نيراجونجو، الذي لا تحتوي حممه على الكثير من السيليكات، مما يجعله سائلًا تمامًا، وبالتالي متحركًا، لتصل تدفقاته بسرعة إلى 100 كيلو متر في الساعة أثناء ثوران البركان. وفي غضون ساعات قليلة، وصلت الحمم البركانية إلى وسط المدينة، فدمَّرت بالكامل حياة أكثر من مليون من سكانها، وجعلت المنطقة أقرب إلى كارثة إنسانية لا رجعة فيها، وكانت المدينة على هذه الحافة أكثر من مرة.
وفي يناير 2025م، تصدَّرت المدينة عناوين الأخبار حول العالم، لكنْ في هذه المرة ليس بسبب البركان، مع أنه للوهلة الأولى، لم يتغيَّر سياق ما يحدث حول “جوما” كثيرًا. ففي الفترة من 25 إلى 26 يناير 2025م، شنَّت حركة M23 (التي نشأت في عام 2012م، وتكونت جزئيًّا من أنقاض التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية، الذي تمرَّد في عام 1998م)، عملية هجومية واسعة النطاق في مقاطعة شمال كيفو، وتمكَّنت من السيطرة على عدة نقاط رئيسية في المدينة وما حولها لعدة أيام، بما في ذلك جبل “جوما” المركزي والمطار ومحطة التلفزيون، ولكن ليس المدينة كلها. كما أصبح المتمردون قريبين من السيطرة على مدينتي ساكي ومينوفا المجاورتين المهمتين لتموين جوما، وبدأوا تقدُّمًا تدريجيًّا في جنوب كيفو باتجاه العاصمة الإقليمية بوكافو ومدينة نيابيبوي لتعدين القصدير؛ ونتيجة للاشتباكات، اشتعلت النيران في سجن مونزينزي، وهرب منه حوالي 3 آلاف سجين في نهاية المطاف، مما أدى إلى تفاقم الفوضى التي سادت ليس فقط في شمال شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، ولكن أيضًا في العاصمة.
وفي يوم الثلاثاء (28 يناير 2025م)، اجتاحت “كينشاسا” موجة من الاستياء؛ بسبب تقاعس المجتمع الدولي عن دعم الحكومة الكنغولية، مما أدَّى إلى تظاهرات أمام سفارات عدد من الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة وفرنسا، ويبدو أن الآمال في تهدئة العلاقات بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا قد انتهت؛ فالسفارات، مثل الحدود، مغلقة، والآن ليس فقط في كينشاسا، ولكن أيضًا على نطاق أوسع في العالم يقولون: إن “كيجالي” تقف وراء حركة M23، وبالمناسبة لا يزال بول كاجامي يحكم هناك، وأُعيد انتخابه في يوليو 2024م لولاية رابعة بنسبة 99.15% من الأصوات في الانتخابات، والتي بالمناسبة لم تثر أي شك حول شرعيتها في الدول الغربية.
في الوقت نفسه، وفي جوما، وفقًا للتقديرات الأولية، أُجبر واحد من كل خمسة من سكان المدينة التي يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة على مغادرة منزله، وكان هذا في الواقع قبل أن يصل الوضع إلى حدة النزاع الحالية، فلا توجد كهرباء، ولا يوجد ما يكفي من الماء والإمدادات الغذائية والوقود، كما أن الأنشطة الإنسانية التي تقوم بها الأمم المتحدة يتم تقليصها حتى الآن بدلًا من تعزيزها.
جذور الصراع:
بدأ تصعيد الوضع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية قبل وقت طويل من ظهور عناوين الأحداث المخيفة في الصحف مؤخرًا، والمشكلة “أقدم بكثير” من الأحداث الحالية، وفيما يلي إشارة مختصرة لأبرز المحطات الزمنية للأحداث:
- بحلول عام 2022م، بدأ الوضع يتصاعد تدريجيًّا بسبب توسُّع مناطق سيطرة حركة M23 في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.
- بحلول عام 2021م، تم إحياء حركة M23 بعد هزيمتها العسكرية في عام 2013م.
- بحلول عام 2012م، ظهرت حركة M23 لأول مرة، وكانت في ذروتها، وتمكنت من الاستيلاء على مدينة جوما للمرة الأولى.
وحتى أبعد من ذلك، وخلال الفترة الاستعمارية، عندما بدأت النزاعات العِرْقية المسبقة في التشكل على الأرض، والتي أصبحت الآن أكثر تعقيدًا فيما بعد، بسبب إضافة “طبقات” جديدة من الصراع.
وعند هذه النقطة، ربما يكون السؤال الذي يطرح نفسه هو: مَن هم البانيامولينج؟ ولماذا يرتبطون ارتباطًا وثيقًا برواندا؟
والحقيقة هي أن المنطقة المحيطة ببحيرة كيفو في شرق الكونغو كانت في معظم تاريخها متعددة الأعراق، ويمكن توحيد بعض المجموعات العرقية التي تسكنها، بناءً على مجتمعهم اللغوي، في المجموعة الشرطية “الكينيارواندية”؛ حيث يتحدَّث هؤلاء الأشخاص صيغًا مختلفة من نفس اللغة، ولا يعيشون فقط في منطقة كيفو، ولكن أيضًا في رواندا بالطبع، وهناك أيضًا هوية أساسية بين الكينيارواندية، سواء كانت من الهوتو أو التوتسي أو قبيلة توا الأقل شهرة، وبما أن المجموعات العرقية الأخرى التي تعيش في الكونغو، على المستوى اليومي (وفي بعض الأحيان السياسي)، لا تعتبر الكينيارواندية سكانًا أصليين (محليين)، ولذا فإن هذا يؤدي إلى الاحتكاك والصراع.
في حين يسعى الكينيارواندية الذين يعيشون في الكونغو إلى إظهار قواسمهم المشتركة مع الكونغو، وليس مع رواندا، وبالتالي يُفضّلون الأسماء الجغرافية للإشارة إلى أنفسهم، ومن هنا جاءت أسماؤهم “بانيابويشا”، و”بانياماسيسي”، و”بانيامولينج”، وغيرها. وقد تُرجمت كلمة “بانيامولينجي” إلى “الشعب في الأصل من مولينج”، وهي هضبة جبلية تقع فيما يعرف الآن بمقاطعة كيفو الجنوبية.
إن مسألة “الأوتوكثوني” ليست مسألة نظرية تمامًا وعلى المستوى اليومي، فإن فَهْم من هو محلي، ومن هو غير محلي يُحدِّد إمكانية الوصول الحقيقي إلى الموارد. وبما أن توازن القوى بين المجموعات العرقية المختلفة على الأرض يتغيَّر باستمرار، فضلًا عن الوضع السياسي العام في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فإن الهويات القائمة على السكان الأصليين تتغيَّر أيضًا. فعلى سبيل المثال، يعتبر الهوتو الذين يعيشون في جوما أنفسهم “محليين” أكثر من التوتسي.
أحد الأسباب وراء ذلك هو أن الهوتو والتوتسي انتهى بهم الأمر إلى الاجتماع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية في فترات زمنية مختلفة:
- وصلت الموجات الأولى من المستوطنين إلى كيفو قبل وصول المستعمرين (الألمان والبلجيكيين).
- أصبحت الموجة الثانية بالفعل جزءًا من سياسة الإدارات الاستعمارية، التي كانت بحاجة إلى إداريين محليين مخلصين (على سبيل المثال، بانيامولينج)، وكانت بحاجة إلى إشباع اقتصاد المزارع الذي كانوا ينشئونه بموارد العمل، ولم يكن هناك ما يكفي منهم في كيفو.
- في 1959-1963م اجتاحت رواندا “رياح الدمار” -وهي نوع من الثورة، ونتيجة لذلك تحولت رواندا-أوروندي، التي يسيطر عليها البلجيكيون بقيادة التوتسي، إلى جمهورية مستقلة؛ حيث بدأ الهوتو في العزف على الوتر الأول في السياسة.
- اضطر العديد من التوتسي، إلى مغادرة رواندا بسرعة والبحث عن ملجأ في كيفو؛ حيث بدأ يُطلَق عليهم منذ ذلك الحين اسم “التسعة والخمسون”.
- أخيرًا، بعد الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994م، عندما وجَّه الهوتو أسلحتهم ضد التوتسي، اضطر الهوتو “الخاسرون” (بانيارواندا) إلى البحث عن ملجأ عاجل في شرق الكونغو، الأمر الذي لم يُضْفِ الاستقرار على المنطقة في نهاية المطاف.
وفي المقابل، تعاملت السلطات الكونغولية مع موجات مختلفة من “المهاجرين الروانديين” بشكل مختلف في أوقات مختلفة، اعتمادًا على المنفعة السياسية في تلك اللحظة وكقاعدة عامة، كان الأمر يتعلق بتغيير أحكام قانون الجنسية بطريقة تحرم مجموعات معينة من الحقوق السياسية، أو تمنحها، خاصة عشية الانتخابات، على سبيل المثال، في عام 1981م، تم إقرار قانون يُحدّد عام 1885م باعتباره “قطع الأراضي الأصلية”، وهي طريقة ملائمة لحرمان أغلبية البانيامولينج من حق التصويت، كما حدث في انتخابات عامي 1982 و1987م.
بينما ليس من الصعب أن نُخمِّن أن العُزلة السياسية والاجتماعية خلقت (وما زالت تخلق) أرضًا خصبة لتعبئة الناس للقتال، تحت ذرائع مختلفة، على سبيل المثال، في التسعينيات، انضم العديد من التوتسي الكونغوليين، الذين لم يكن لديهم أيّ ارتباط واضح بالكونغو، بسبب “مواطنتهم المهزوزة”، إلى صفوف “الجبهة الوطنية الرواندية” التي يتزعمها بول كاجامي نفسه، وسيطروا على شمال رواندا، ومِن ثَمَّ وضعوا حدًّا للإبادة الجماعية بدخول كيجالي. وبعد مرور عامين، دعمت جماعة البانيامولينج “تحالف القوى الديمقراطية من أجل حرية الكونغو-زائير” كابيلا، وبفضل ذلك تمكَّنت السلطات الرواندية الجديدة من حلّ مشكلة الهوتو الذين فرَّوا إلى الكونغو جزئيًّا.
وبعد أن فرَّت هذه الأخيرة من رواندا بعد الإبادة الجماعية، تحوَّلت تدريجيًّا إلى القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR)، وفي واقع الأمر، أدَّى ظهور “منظمات” الهوتو والتوتسي في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى نقل مواجهتهما، التي أدَّت إلى الإبادة الجماعية في عام 1994م، إلى ما وراء حدود رواندا إلى شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، والآن فقط أصبح بوُسْع سلطات جمهورية الكونغو الديمقراطية وسلطات رواندا أن تستغل ذلك لصالحها.
تم ذكر كل هذا في سياق الوضع الحالي فقط لإظهار مدى التركيب وعدم التجانس وتعدُّد الاتجاهات في مصالح المجموعات العرقية التي تبدو وكأنها مرتبطة ببعضها، والتي تعيش في منطقة بحيرة كيفو؛ حيث تشهد المنطقة منذ سنوات طويلة وضعًا متوترًا، وهناك عدد من “الفِرَق المسلحة”، وقد تعتبرهما كينشاسا وكيجالي وكيلتين عنهما، ولكنّ هذا لا يعني السيطرة الكاملة على دوافع وتصرفات هذه الحركات، التي يعتمد منطقها على أساس “المكاسب في اللحظة” والسياسة المحلية وليس الإقليمية.
الجمهورية البركانية:
على الجانب الآخر من الحدود من الكونغو -في رواندا-؛ فإن مسألة السكان الأصليين مليئة بمعناها الخاص، فغالبًا ما يعتقدون أن تقسيم “بانيارواندا” (“الناس في الأصل من رواندا” بدلًا من “كينيارواندا” – “الأشخاص الذين يتحدثون اللغة الرواندية”) إلى دولتين كان ثمرة الإبداع الاستعماري للمدن الكبرى السابقة، ولذلك فإن الحدود بين الدول في المنطقة نفسها تعتبر مصطنعة، وغالبًا ما تشير نسخة أكثر تطرفًا من هذا النهج إلى أن هذه الأراضي تم الاستيلاء عليها ببساطة من رواندا في وقت ما: “من بلد شاسع يمتد إلى شرق الكونغو، إلى جنوب أوغندا وإلى الشمال الغربي من تنجانيقا، وتحوَّلت رواندا إلى تلة صغيرة في وسط إفريقيا”، وفي عام 1996م، حظي هذا المنطق بدَعْم غير مباشر من الرئيس الرسمي لرواندا، بي. بيزيمونجو.
من الناحية العملية، هذه أسطورة تاريخية، أو على الأقل تبسيط كبير للوضع، مما لا يترك مجالًا لتحليل الاختلافات العرقية القائمة أو الاعتراف بحقيقة أن إقليم شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، في منظور تاريخي مستقر، لم تكن أبدًا تحت سيطرة حاكم رواندي، ليس قبل فترة الحكم الاستعماري أو بعدها ومهما كان الأمر، ولذا فإن أفكار “رواندا الكبرى” تخلق وتُغذّي المشاعر “الانتقامية” داخل الطبقة الحاكمة الرواندية.
ولذلك ليس من المستغرَب أن تنظر الكونغو في كثير من الأحيان إلى الجهود التي تبذلها السلطات الرواندية باعتبارها رغبة في إنشاء “جمهورية بركانية” (République des Volcans) في كيفو، وبالتالي الوصول إلى الموارد الحيوية التي تزخر بها المنطقة.
والمتمردون أنفسهم يساعدون في تعزيز هذه الرواية، على سبيل المثال، رأى زعيم المؤتمر الوطني للدفاع الشعبي، لوران نكوندا (المؤتمر المنفصل عن التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية، الذي تمرد في عام 1998م، ويرتبط بشكل وثيق برواندا من خلال البانيامولينج التوتسي) أنه “بدون الاستعمار، لن يكون هناك استعمار ولن تكون هناك تشكيلات إقليمية مصطنعة جديدة، وهو ما يعني أن الكونغو اليوم لن تكون موجودة، ولكن سيكون هناك بويشا، وهي مقاطعة بركانية من رواندا القديمة”.
وهكذا، ظلت المتطلبات الأساسية للصراع على أُسُس عرقية، وحتى داخل المنطقة قائمة لفترة طويلة في المنطقة، اعتمادًا على الولاء السياسي الإقليمي أو الولاء الشخصي لمجموعة أو أخرى.
من هم M23؟
من أجل الإجابة عن هذا السؤال، سيتعين علينا إعادة تتبُّع تطوُّر الجماعات المتمردة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. نتيجة للحرب الكونغولية الأولى (1996-1997م)، تمرَّد متمردو التوتسي بقيادة لوران ديزيريه كابيلا[كان هو نفسه من قبيلة لوبا من جنوب شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية]، وتمكن –بدعم مفتوح من رواندا وأوغندا– من الإطاحة بموبوتو سيسي سيكو، الذي حكم منذ عام 1965م بفضل دعم الغرب، الذي ظل حليفًا كبيرًا له خلال الحرب الباردة. ولكن بحلول التسعينيات تغيَّر الوضع، ووصلت “فائدة” موبوتو إلى الصفر، وهذا ما سمح لـلوران ديزيريه كابيلا بتولي منصب الزعيم، وكانت المشكلة أنه كان يُنظر إليه في الكونغو على أنه تلميذ مباشر لرواندا، وعندما حاول “التخلص” من هذه السمعة، بدأت الحرب الثانية، التي تم الكتابة عنها في البداية.
ثم تمكنت رواندا وأوغندا جزئيًّا مرة أخرى من إنشاء حركة تعتمد على دعمهما؛ وهكذا ظهر “التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية” (RCD)، الذي شمل التوتسي، ولكن بمجرد وصول الصراع إلى طريق مسدود (ويرجع ذلك جزئيًّا إلى تدخُّل قوات تنمية الجنوب الإفريقي الإقليمية بمشاركة جنوب إفريقيا)، تفكك “الاتحاد”، وأصبح أقوى فصيل فيه هو “الفرع” في جوما، وكما قد تتخيل، ظل شمال وجنوب كيفو تحت سيطرتهم، على الرغم من أن السيطرة الحقيقية كانت من نصيب الجيش الرواندي.
وفي عام 2002م، تم إبرام اتفاقيات “صن سيتي”، التي سمحت لجوزيف نجل كابيلا بالبقاء في السلطة، كما أبرم التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية من جوما وحركة تحرير الكونغو المدعومة من أوغندا، والتي كانت تعمل في شمال جمهورية الكونغو الديمقراطية للحصول على صفة الفاعلين السياسيين الكاملين، وانسحبت القوات الرواندية والأوغندية من جمهورية الكونغو الديمقراطية.
بحلول عام 2006م، كان جوزيف كابيلا يسعى إلى تعزيز سلطته، لكن فوزه في انتخابات عام 2007م كلَّف البلاد اشتباكات في كينشاسا مع حركة تحرير الكونغو وانتفاضة جديدة في الشرق أطلقها التوتسي من المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب (CNDP)، الذي انبثق عن “فرع التجمع الكونغولي من أجل الديمقراطية في جوما، ولم يتمكن الجيش ولا قوات حفظ السلام المنتشرة في ذلك الوقت من كبح تقدُّم “الكونجرس”، الذي فرض سيطرته على الحقول الرئيسية والطرق اللوجستية، لكنه لم يستولي على جوما أبدًا. ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى افتقار المتمردين للقدرة التامة على السيطرة على تلك “المناطق الأصلية” ذاتها، أو بكل بساطة، عدم وجود دعم من السكان المحليين. ولكن بعد أن هدأ النزاع في أعقاب الاتفاق الذي تم التوصل إليه في 23 مارس 2009م بين “الكونجرس” والسلطات في كينشاسا؛ تمكّن المؤتمر الوطني للدفاع عن الشعب من أن يصبح رسميًّا حزبًا سياسيًّا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وظل ج. كابيلا في السلطة في كينشاسا.
وفي عام 2011م، فشل حزب المؤتمر فشلًا ذريعًا في الانتخابات البرلمانية، لكن ج. كابيلا ظل رئيسًا، رغم أنه بدا وكأنه فقد كل الدعم في شرق البلاد. وفي محاولة للتصرف قبل حدوث انتفاضة محتملة، قرر إعادة نشر متمردي حزب المؤتمر السابقين، الذين تم “دمجهم” في ذلك الوقت في الجيش الكونغولي، من شرق البلاد (وفي الوقت نفسه اعتقال زعيمهم بوسكو نتاجاندا[بحسب العرق، التوتسي، وُلِدَ في رواندا، ولكن سرعان ما انتهى به الأمر مع عائلته في جمهورية الكونغو الديمقراطية]، والذي صدرت بحقه مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية منذ عام 2006م)، ولكن هذا هو بالضبط ما أدى إلى اندلاع صراع جديد. وهكذا وُلِدَت حركة M23، التي سُمِّيت بهذا الاسم لأن الحكومة، في رأيهم، انتهكت شروط اتفاق 2009م في اليوم المذكور.
وعلى الرغم من أن قوات حركة M23 كانت أقل عددًا من قوات حزب المؤتمر؛ (حيث كانوا حوالي 300 فرد في أبريل 2012م)، إلا أنها كررت مسارها ومحاولاتها بالفعل، بل وتمكنت من الاستيلاء على “جوما” في نوفمبر 2012م. لكنّ هذا أصبح خطًا أحمر بالنسبة للمجتمع الدولي الذي بذل قصارى جهده لإلحاق هزيمة عسكرية بحركة M23 بعد مرور عام على نشأتها، والتي بدا آنذاك أنه قرار لا رجعة فيه بسبب أنشطتها.
ومع ذلك، فمن المفارقة أن الجهود العسكرية لم يكن من المرجَّح أن تلعب دورًا حاسمًا في تدمير حركة M23، وبعد تكرار الصراع، فقد زعماء المتمردين الذين انتقلوا من التجمع إلى المؤتمر ومن هناك إلى حركة M23 رأسمالهم السياسي.
وعلى الرغم من أنهم يمثلون بالكلمات مصالح التوتسي الكونغوليين، ويدافعون عنهم ضد الهوتو من القوات الديمقراطية لتحرير رواندا (FDLR)، العدو الرئيسي للحكومة في كيجالي، إلا أنهم في الواقع قاتلوا من أجل تحقيق نفوذهم والتنافس فيما بينهم؛ وهذا بالفعل ما حدث، ففي شهر مايو، بعد شهر من بدء الانتفاضة، كان لحركة M23 زعيم جديد.
واعتمدت الحركة بشكل متزايد على الدعم المباشر من الجيش الرواندي، وفقدت أيّ شعبية متبقية بين السكان المحليين، وكان خطابهم، وخاصة الدعوة إلى الثورة في جميع أنحاء البلاد، شعبويًّا إلى أقصى حدّ، ولم يَحلّ المشكلات الحقيقية التي يواجهها التوتسي الكونغوليون، ولم تترجم السيطرة العسكرية إلى دعم سياسي، وبالتالي في 2012-2013م تم عزل الحركة وهزيمتها، فلجأت فلولها إلى الجانب الآخر من الحدود في رواندا. وأثناء هزيمة الحركة حدث تفككها، وأصبحت الفصائل المنشقة مجموعات شبه عسكرية محلية، خالية من المعنى الأيديولوجي، لكنها لا تزال مرتبطة بالجانب العِرْقي والمادي للقضية.
إن وجود العديد من الفصائل في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية وتقسيمها المستمر هو سبب آخر يجعل الصراع عبارة عن فسيفساء معقدة.
عنصر آخر منها هو “فاساليندو” (“الوطنيون”) شبه الحكوميين، الذين ينتمون جزئيًّا إلى “الماي ماي” السابقين الذين قاتلوا ذات مرة ضد “الكونجرس”، ويبدو أنهم يقفون على الجانب الآخر من الصراع ويعارضون حركة M23. ومع ذلك، في الواقع، لا يمثلون أيضًا قوة واحدة، بل يعملون بشكل منفصل ومحلي، ويستخرجون لأنفسهم في الوقت نفسه نفس الريع الذي تحصل عليه حركة M23 تقريبًا، ويزيدون من تأثيرهم على العمليات السياسية المحلية، وتم فرض عقوبات دولية على بعض قادتهم. وهذا يحدث بشكل خارج عن السيطرة تمامًا، لأنه كان من الأسهل على الحكومة في كينشاسا إضفاء الشرعية على وجودهم، وعسكرة إدارة المناطق الشرقية، بدلًا من محاولة إخضاع فازاليندو فعليًّا واحتمال الحصول على خطّ آخر من الاحتكاك.
لقد أدَّى سقوط جوما في عام 2012م إلى تحقّق ما كانت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية تحرص بوضوح على تجنبه في الوضع الحالي؛ ألا وهو المفاوضات المباشرة مع حركة M23، فقد دام حوار كمبالا نحو عام كامل، ولكن المفاوضات لا يمكن وصفها بأنها “سياسية” بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكان من الممكن التوصل إلى اتفاق رمزي ينص على أن “تتخلى حركة M23 عن الانتفاضة، وتستعد لنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج الاجتماعي”، حتى عندما هُزمت حركة M23 بالفعل لم تمثل طرفًا مقابلًا حقيقيًّا في المفاوضات.
هذا وأصبح “تسرب” بقايا الحركة إلى رواندا فيما بعد بالنسبة لسلطات جمهورية الكونغو الديمقراطية حجة إضافية لصالح ضرورة التفاوض مع رواندا، وليس مع المتمردين، الذين لا توجد بينهم وحدة وهدف سياسي محدد بوضوح. وفي معظم الأحيان، كان اهتمام قادة حركة M23 يقتصر على السيطرة على الموارد التي يمكن جني الأموال منها، وينطبق الشيء نفسه على الأعضاء العاديين في الحركة، مع الفارق الوحيد الذي لعبته المودة الشخصية لبعضهم تجاه القادة السابقين، الذين عرفوهم منذ زمن “الكونجرس” وما قبله.
البراكين والمعادن:
في مايو 2021م، بدأ بركان نيراجونجو في الانفجار مرة أخرى. ومن الصعب أن يكون هناك أي صلة هنا، ولكن في نوفمبر 2021م، وُلِدَت حركة M23 من جديد “من الرماد”، وبعد عبور الحدود بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجدوا أنفسهم مرة أخرى في شمال كيفو، كما حدث في عام 2012م، حيث بدأوا توسعهم من روتشورو، وهي مدينة تبعد 30 كيلو مترًا عن رواندا؛ حيث يعيش كلّ من التوتسي والهوتو (انتهى الأمر بالعديد منهم هنا بعد الإبادة الجماعية في رواندا).
في حين توفّر السيطرة على روتشورو أيضًا فائدة مالية معينة لأولئك الذين يسيطرون على هذه المنطقة؛ حيث يوجد هنا في مستودع لويشي Lueshe بعض أكبر احتياطيات العالم من البيروكلور (أكسيد النيوبيوم، وهو ضروري للغاية في مجال الإلكترونيات وتكنولوجيا الطيران والفضاء وعلوم الصواريخ… إلخ)، بالإضافة إلى العديد من مناجم الذهب ودون الخوض في التفاصيل والعلاقات المباشرة، نلاحظ أنه في عام 2022م، أصبح النيوبيوم/ التنتالوم خامس أهم عنصر من الصادرات الرواندية- التاسع الأكثر أهمية في العالم (وتمثل رواندا 3.35٪ من الصادرات العالمية، في حين أن جمهورية الكونغو الديمقراطية تصدر أقل من 2%).
وبفضل النشاط البركاني، أصبحت المقاطعات المحيطة ببحيرة كيفو غنية بشكل خاص بالمعادن التي يتزايد عليها الطلب في الأسواق العالمية؛ حيث يتم استخراج التنتالوم، وحجر القصدير، والكوبالت، والتنجستن، والذهب، والماس، والتورمالين، والبيروكلور في شمال كيفو. المشكلة الوحيدة هي عدم وجود شفافية في عمليات التعدين، التي يتم تنفيذها في الغالب بطريقة حرفية دون وجود ضوابط بيئية وعمالية مناسبة (وفي كثير من الأحيان دون أيّ سيطرة).
إن اهتمام المجتمع الدولي بالكونغو، في ظل التنافس على الموارد الحيوية، لا يؤدي إلا إلى تفاقم حالة الصراع في المنطقة؛ حيث تعتمد الإيرادات الحكومية في جمهورية الكونغو الديمقراطية بنسبة 35-40% على تصدير مختلف المواد الخام المعدنية، كما أن صناعة التعدين نفسها هي مصدر للنمو الاقتصادي وركيزة للناتج المحلي الإجمالي. ومع ذلك، فإن الاتفاقيات مع الحكومة في كينشاسا لا تعني دائمًا أن المستثمرين سيتمكنون، في الممارسة العملية، من الوصول الحقيقي إلى الموارد، لأنه حتى داخل مقاطعة واحدة، يمكن أن يخضعوا لسيطرة متنافسة من قبل السياسيين الإقليميين، والجيش الكونغولي، والجماعات المسلحة المحلية والجماعات المسلحة، وأخيرًا متمردون بالوكالة من دولة مجاورة.
كما تزايدت صادرات الظل من المواد الخام من هذه المنطقة -بغض النظر عن الجانب الذي تمر به- بدلًا من أن تتناقص في السنوات الأخيرة، نتيجة لتزايد الطلب على المعادن الحيوية باطراد. وفي شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، بحسب التقديرات المتاحة، يوجد حوالي 2.5 ألف منجم مختلف، كل واحد منهم يُشكّل وقودًا لوجود الجماعات المحلية وسببًا إضافيًّا لتغير الوضع قليلًا على مر السنين.
ومنذ عام 2021م، اكتسب النقاش في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، حول “المعادن الحيوية” سمات أكثر وضوحًا: فقد ظهرت استراتيجية واضحة، وبدأ عقد شراكات نشطة مع دول مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، وتم اتخاذ تدابير لتعزيز تحسين أمن سلاسل التوريد للمواد الخام الحيوية، وكذلك خطوات تشكيل منصة مشتريات مشتركة، ودعونا نتذكر أنه في هذا الوقت تم إحياء حركة M23، وليس من الممكن استخلاص نتيجة مباشرة هنا، ولكن من الممكن تمامًا الافتراض أن الحفاظ على علاقات وثيقة بين الدول الغربية ورواندا، على الأقل، يسمح لكيجالي بالتصرف بثقة ودون عواقب وخيمة على صورتها الدولية.
ويمكن الافتراض أيضًا أن رواندا تمارس سيطرة غير مباشرة على موارد شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، من خلال حركة M23 التي تعتمد نجاحاتها الحاسمة بشكل مباشر على الدعم العسكري واللوجستي المباشر من رواندا، وإذا كان هذان الافتراضان صحيحين، فمن الممكن أن تجد الدول الغربية في رواندا شريكًا أكثر قابلية للتنبؤ به، ويمكنه تأمين مصالحها من الموارد في المنطقة، وهو الأمر الذي لم تتمكن كينشاسا، البعيدة جدًّا عن مركز الأحداث، من القيام به لسنوات عديدة.
ومع ذلك، ليس كل شيء بهذه البساطة. كما أن التوسع التدريجي لمنطقة سيطرة حركة M23 يوسع أيضًا من إمكانيات فرض الضرائب على السكان المحليين؛ فبحسب التقديرات في نهاية عام 2023م، يمكن أن يحصل المتمردون على حوالي 69.5 ألف دولار شهريًّا من الضرائب المختلفة، ويلعب مصدر الإثراء هذا مقرونًا بثمار الزراعة الطبيعية، دورًا أكبر بكثير في دعم الأنشطة اليومية لحركة M23 من السيطرة على الموارد المعدنية، التي لا يُعدّ “تسييلها” عملية سريعة وسهلة، ويسيطر عليها المتمردون.. ويؤدي هذا إلى استنتاج مفاده أن استخراج المعادن قد يكون حافزًا للصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية وعاملًا ذا أهمية مباشرة من جانب اللاعبين الإقليميين ومن خارج المنطقة. ومع ذلك، لا يمكن اعتبارها متغيرًا مستقلًا، وبدونه سينتهي الصراع؛ حيث ستظل حركة M23 قادرة على جني فوائد مادية من سيطرتها على شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية.
لماذا اندلعت المرحلة النشطة من المواجهة الآن؟
بعد أن تجسَّدت حركة M23 من جديد، عملت تدريجيًّا على تهيئة الظروف الأكثر ملاءمة لنفسها لتحقيق اختراق حاسم، ورغم عدم وجود هذه الظروف، إلا أنها تصرَّفت بحزم، ولكن دون تجاوز خط التصعيد الذي من شأنه أن يلفت انتباه المجتمع الدولي إلى ما يحدث، كما كان الحال في 2012-2013م، عندما أدَّى ذلك إلى هزيمتهم.
وفي مايو 2022م، أجروا أول “اختبار قوة” لهم بالقرب من جوما، لكن الجيش الكونغولي وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة صدّوهم. وفي يونيو 2022م، تسبّبوا في كارثة إنسانية “صغيرة” بالقرب من حدود أوغندا؛ حيث استولوا على بلدة بوناجانا، التي فرَّ منها آلاف الأشخاص، بما في ذلك جنود من الجيش الكونغولي، وقد سمحت لهم هذه الخطوة بالتحكم في التدفقات التجارية بين جمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا، وبالتالي تعزيز موقفهم. وفي فبراير 2023م، تمكنوا من الاستيلاء على مدينتي موشاكي وروبايا؛ مما منَحهم السيطرة على الرواسب؛ حيث يتم استخراج حوالي نصف إجمالي كميات الكولومبيت-تانتاليت في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وبصفة عامة، إن السيطرة على المزيد والمزيد من الأراضي في كيفو الشمالية تسمح لحركة M23 بزيادة حجم صفوفها تدريجيًّا. وطوال هذا الوقت، كانت هناك مفاوضات وجهود وساطة مختلفة جارية. ففي أبريل 2022م، وافقت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية على المفاوضات المباشرة مع مختلف الجماعات المتمردة، والتي جرت في نيروبي، لكنها لم تُسفر عن أيّ نجاح. وفي يوليو 2022م، حاولت الدبلوماسية الأنجولية وقف إراقة الدماء، لكن اتفاق وقف إطلاق النار انتُهِكَ مرارًا وتكرارًا مِن قِبَل الأطراف. وفي مارس 2023م، تم التوصل إلى اتفاقيات جديدة، لكن لم يتم الالتزام بها لفترة طويلة. وفي ديسمبر 2023م، فشلت المفاوضات بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، الأمر الذي لم يكن من الممكن إلا أن يؤدي إلى تفاقم الوضع حول كيفو.
وفي الوقت نفسه، تزايد عدم الرضا عن “تقاعس” قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في المجتمع الكونغولي. فبحلول أغسطس 2022م، بدأت الاحتجاجات في جوما والمنطقة المحيطة بها ضد بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية (MONUSCO)، التي انطلقت في عام 1999م، وأصبحت أغلى مهمة في تاريخ الأمم المتحدة.
وفي أغسطس 2022م، جاءت فرقة إقليمية من مجموعة شرق إفريقيا لمساعدتهم، ولكن تم نشرها في جنوب كيفو بدلًا من شمال كيفو. وفي بعض الأحيان، لم تُؤدِّ أنشطتهم الفعلية إلى نزوح حركة M23 من المدن والمناطق التي احتلتها، بل أدت إلى “صدّها”، عندما كان بإمكان حركة M23 وقوات حفظ السلام التابعة لجماعة شرق إفريقيا “التعايش”، على سبيل المثال، كما كان الحال في بوناجان، وكان السكان المحليون ينظرون إلى الوحدات القادمة من بوروندي وكينيا على أنها نفس “المحتلين” تقريبًا مثل حركة M23 المرتبطة برواندا.
وفي نهاية المطاف، طالبت حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية بسحب فرقة شرق إفريقيا بحلول ديسمبر 2023م. وفي الشهر نفسه، وبعد مطالبات مستمرة من رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارًا بشأن انسحاب بعثة منظمة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية من جنوب كيفو، وخفض عدد القوات وأنشطة البعثة في المحافظات المتبقية، وبحلول نهاية عام 2024م، كان من المقرر أن يتم إنهاء المهمة تدريجيًّا بالكامل.
ومن الواضح أن إخفاقات عمليات حفظ السلام الدولية، والمماطلة واليأس في عمليات التفاوض، بغض النظر عمَّن يرعاها ومَن يمارس الضغط على رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، كلها أمور تصبُّ في مصلحة حركة M23، ولم يكن هناك حتى الآن وحدة في صفوفهم، ولكن كان هناك فهم بأن اللحظة المناسبة كانت تقترب. وحتى وجود قوات حفظ السلام التابعة لسادك في المنطقة، والتي حلت محل فرقة شرق آسيا، لم يُشكّل عقبة كبيرة. وإن جنوب إفريقيا تعاني من عدد من المشكلات والتناقضات الخاصة بها، كما أن الاستعداد للمشاركة بشكل كامل في الأحداث الجارية في جمهورية الكونغو الديمقراطية لا يزال في حده الأدنى، ويعتبر الرأي العام أن خسارة جنود جنوب إفريقيا غير مبررة، وأن القوات المسلحة غير مستعدة لعمليات معقَّدة تتطلبها جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وخلال عام 2024م، تمكَّنت حركة M23 من تنفيذ كافة الأعمال التحضيرية، التي ضمنت تقدمها السريع نحو “جوما” في يناير 2025م. وفي فبراير 2024م، دخلت إلى مدينة شاشا، التي يمر عبرها الطريق من جوما إلى “العالم الخارجي”، وحتى ذلك الحين، كادوا أن يستولوا على ساكي، التي أصبحت في نهاية المطاف تحت سيطرتهم في عام 2025م. لكنّ الهجمات الدورية على ساكي لم تتوقف طوال هذا الوقت، وكانت نصف أراضي ماسيسي تحت سيطرة حركة M23 بحلول مايو 2024م، والأكثر دلالة هو الخريطة التي توضح كيف توسعت سيطرة حركة M23 حول كيفو منذ “ذروة” قوتها في عام 2012م؛ عندما استولت على جوما، ويتبين من الخرائط أنه وفق هذا المنطق فإن تقدم حركة M23 باتجاه جوما كان حتميًّا.
ويبدو أن حركة M23 (وربما رواندا) كانت قادرة على التعلم من الهزيمة التي مُنِيَتْ بها في عام 2013م. ثم، كما كتب بالفعل، كانت المشكلة هي أن الحركة لم يكن لديها زعيم سياسي ولا برنامج خاص بها، باستثناء برنامج وهمي دعا إلى الثورة في جميع أنحاء جمهورية الكونغو الديمقراطية، والآن وصل كورني نانجا إلى جوما التي يسيطر عليها المتمردون. ولعدة سنوات، ترأس اللجنة الانتخابية الوطنية لجمهورية الكونغو الديمقراطية، وكان هو الذي أكَّد فوز فيليكس تشيسكيدي في انتخابات عام 2018م، على الرغم من أن نتائجها، كما بدا للكثيرين، كانت غامضة.
وفي عام 2023م، أدى احتكاكه مع تشيسكيدي إلى معارضته للرئيس الحالي والانضمام فعليًّا إلى حركة M23، بالنسبة لهم، أصبح أول شخصية سياسية على “النطاق الوطني” دون أيّ صلة عرقية بالتوتسي. بالإضافة إلى ذلك، لدى “نانجا” رؤيته الخاصة للوضع: “ظهرت العديد من الجماعات المسلحة في الكونغو، لأنه لا توجد دولة هنا نريد إعادة بناء الدولة”.
ومِن ثَم، فإن الهدف الرئيسي للتكرار الحالي للصراع قد يكون الصراع من أجل الاستيلاء على كينشاسا، وهذا بدوره يُعيدنا إلى مسار حرب الكونغو الأولى. ويبدو أن جميع الوسطاء والوسطاء العديدين والمحتملين (مثل تركيا، وأنجولا) رأوا أن المفاوضات بين الطرفين في الوقت الحالي قد وصلت إلى طريق مسدود. أما جنوب إفريقيا التي عانت من تبعات سوء السمعة (التي أدَّت بالفعل إلى احتكاك مع رواندا)، ودبلوماسية القمم الطارئة لمجموعة شرق إفريقيا والسادك، والدبلوماسية المكوكية لفرنسا؛ كل هؤلاء يبدو أنهم يبحثون عن حلول مختلفة، ويتصرفون بشكل منفصل (“ماذا لو حالف شخص ما الحظ لحل هذا النزاع؟”).
من جهة أخرى، وفي محاولتها لحل مشكلاتها على طول الطريق، تتصرف حركة М23 بثقة أكبر؛ إذ تريد أن تظل إلى الأبد “هي المسيطر” على شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتعتزم أن يكون لها، على الأقل، حليف في كينشاسا.
_______________________________
رابط التقرير:
https://russiancouncil.ru/analytics-and-comments/analytics/goma-gorod-na-vulkane/