يُلاحَظ أنّ عمق التفاعلات على جانبي البحر الأحمر (بين شبه الجزيرة العربية والحبشة بمفهوم أوسع) قبل ظهور المسيحية بفترات ممتدة، وإسهامها في صلات تجارية واجتماعية وسياسية وثيقة بين الكيانات السياسية في الإقليم يدلّ على وجود تجانس كبير في الإقليم، وأن انتشار المسيحية ثم الإسلام فيه لم يُمثِّل تهديدًا لهذا التجانس والتعاون المستمر؛ إذ ظلت الاتصالات بين الهضبة الحبشية في شمال شرق إفريقيا وشبه الجزيرة العربية -لقرون عدة- ركنًا ركينًا في تطور هذه المنطقة تاريخيًّا مع استمرار موجات من التجارة والتبادل الحضاري بينهما عبر البحر الأحمر، والتي أرست بدَوْرها حركة تدفقات تجارية منتظمة بين سكان جانبي البحر الأحمر.
من دامات إلى أكسوم: صعود المسيحية
تُعدّ مملكة “دامات” هي المملكة السابقة مباشرة على قيام أكسوم، والتي تطوّرت على أُسسها الأخيرة؛ كما تُعدّ المملكتان من أوائل الحضارات الإفريقية المهمة التي شهدت تعقيدات واضحة في تكوينها الاجتماعي وتنوع اتجاهات أو مسارات التطور الاجتماعي وقدرة “الدولة” فيهما على السيطرة على الأراضي الزراعية والتجارة الخارجية بشكل واضح ووفق قواعد مؤسسية صارمة.
كما كان لتطور تقنيات الزراعة في الشرق الأدنى تأثير في مملكة دامات Da’amat في تيجراي الواقعة في شمال إثيوبيا الحالية (980-400 ق.م)، وتنشيط التجارة معها بتقديم المملكة المذكورة منتجات مثل العاج والذهب والعبيد مقابل السلع تامة الصنع مثل الثياب والأدوات المعدنية المصنعة.
وكان استيراد تلك المناطق في شمال إثيوبيا (وفي دولة إريتريا الحالية لا سيما سواحلها) للعادات من شبه الجزيرة العربية إلى جانب أشكال التنظيم السياسي أثره في مولد دولة أكسوم الكبرى (800 ق.م -700 م)([1])؛ من مدينة تحمل الاسم نفسه، والتي قامت على أنقاض مملكة “دامات” لتصل إلى الاستيلاء على أغلب سواحل غرب البحر الأحمر جنوب مصر، وربطت أعالي الهضبة الحبشية بالجنوب الغربي من حافة البحر الأحمر.
وقامت هذه القوة السياسية الكبيرة بالاستيلاء على المنطقة المجاورة عبر إصدار عُملتها المحلية، وتعزيز تفوقها العسكري الإقليمي حتى في جنوبي شبه الجزيرة العربية.
كما عزَّزت أكسوم موقعها كشريك في التجارة الدولية المتوسطية في شرقي الإمبراطورية الرومانية حينذاك؛ وهي التفاعلات التي يسَّرت بدَوْرها (على مدار عقود متعاقبة) حركة انتقال المسيحية الأرثوذوكسية من الإسكندرية إلى أكسوم. غير أن نفوذ أكسوم تراجَع بقوة مع اضطرابات السكان غير المسيحيين في جنوبي شبه الجزيرة العربية، ثم فقدان السيطرة التدريجي على سواحل البحر الأحمر الغربية بعد صعود الإسلام في القرن السابع للميلاد.
ولم يستطع الإسلام الوصول لقلب الهضبة الحبشية؛ حيث بقايا مملكة أكسوم والتقاليد المسيحية الأرثوذوكسية، رغم استمرار ثقافة معقَّدة تأثرًا وتأثيرًا على امتداد طرق التجارية التي غذَّت الصلات بين سواحل شمال شرق إفريقيا ومناطقها الداخلية؛ لتشهد مرتفعات لاستا Lasta (في المرتفعات الحبشية نفسها) مولد أسرة ملكية جديدة وهي أسرة زاغو Zagwes (900-1270م)([2])، وهي فترة مشوشة إلى حدّ كبير لدى المؤرخين، وثمة روايات أن أكسوم سقطت على يد الملكة يوديت ابن ملك اليهود في مرتفعات سيمين في الحبشة في القرن العاشر للميلاد([3])؛ لكنَّ التحولات التي شهدتها الحبشة باتت محل اهتمام قادة الحملات الصليبية في تلك الفترة، كما اتضح في حرصهم على الالتقاء برسل من الحبشة لهذا الغرض في مدينة أنطاكية ([4]).
الصدام اليهودي- المسيحي في عهد الملكة يوديت: تأصيل التأثير اليهودي
أورد عدد من الدراسات عن الإمبراطورة يوديت Yodit في الحبشة في القرن العاشر الميلادي تفاصيل الصلة اليهودية المسيحية في انتقال الحكم في ذلك الوقت، مؤكدة أن اليهود (الفالاشا لاحقًا) في مرتفعات سيمين Simen قد دخلوا في حروب مع المسيحيين، وتمكنوا من هزيمتهم وأَسْرهم، بل وإجبارهم على اعتناق اليهودية، وأنه بعد وفاة ملك اليهود المعروف باسم إيتاليا Italiya تُوِّجَت ابنته يوديت ملكةً حتى حاربها ملك الحبشة أنبيسا-ويديم Anbessa-Widim، لكنَّه واجَه الهزيمة أيضًا على يد قواتها، ثم تَوجَّهت يوديت إلى أكسوم وحرقتها، وقتلت ابن الملك، وقضت على أكسوم منذ ذلك الوقت.
غير أنه لا يجب أن تفوتنا ملاحظة تشوّش استخدام ألقاب الملك (الملكة) والإمبراطور (الإمبراطورة) في الحبشة؛ كونها شائعة إلى حد كبير حتى على الحكام الذين يُحْكِمُون سيطرتهم على مناطق صغيرة أو بدائية إلى حد كبير، على نحوٍ يعكس طبيعة الدولة في الحبشة.
وقد عزَّز التطور العمراني والإداري الكبير (نسبيًّا) الذي شهدته الهضبة الحبشية في ظل أسرة زاغو من احتمالات سَعْيها الجدي للاتصال بالقوى المتوسطية الأوروبية لتحقيق التعاون معها، إضافةً إلى مواجهة الضغوط المحلية التي واجهت حكم هذه الأسرة، مثل ضغوط جماعات الأورومو، وتوسعاتهم الكبيرة في ذلك الوقت نحو أطراف الهضبة التقليدية (فيما لم تكن ملامح دولة إثيوبيا الحديثة قد اتضحت بعدُ، وأخذًا في الاعتبار أن هذه النقطة لم تتحقق إلا في نهاية القرن التاسع عشر، أي بعد بَدْء حكم زاغو بأكثر من تسعة قرون كاملة)، وكذلك تهديدات انتشار الإسلام في المناطق المحيطة بالهضبة([5]).
وصف بنيامين التطيلي للحبشة: على حافة العالم المتمدن
يُلاحَظ أن صعود أسرة زاغو في الحبشة كان مُواكبًا -دون وجود صلات واضحة بالضرورة- لعصر الحروب الصليبية في بلاد الشام، وعلى أطراف البحر الأحمر، كما تزامن هذا الصعود مع مساعٍ أوروبية مِن قِبَل عدد من الرحالة والكُتّاب اليهود في القرن الثاني عشر، أبرزهم الرحالة اليهودي الإسباني بنيامين التطيلي أو دي توديلا Benjamin de Tudela؛ لإثبات وجود شعب أو مملكة يهودية في بلاد الحبشة([6]).
وقد سجَّل رحلته التي استغرقت ثماني سنوات في الثلث الأخير من القرن الثاني عشر، ويُرجّح أنها لم تبدأ قبل العام 1165م (أو في حدود 1165-1173م بحسب دراسة عبد الرحمن الشيخ التي تصدرت الترجمة العربية لهذه الرحلة عن العبرية مباشرة).
ومن شواهد رحلة بنيامين: “خولام Quilon (يعلق عزرا على اسم خولام: خولام أو كولم مدينة في أسفل شاطئ ملبار الغربي من الهند جنوبي بومباي. كانت في القرون الوسطى ثغر الهند التجاري بين بلاد العرب والصين. لكنَّ شأنها تداعى في العصور المتأخرة، ونقل البرتغاليون تجارتها على كالكتا (قالقوط) وغوا من مستعمراتهم) وهي أول بلاد المجوس عباد الشمس والكواكب من أبناء كوش. جميع سكانها سود البشرة، لكنهم مشهورون بالأمانة والصدق في الأخذ والعطاء. فإذا دخلت سفينة إلى المدينة، طلع إليها ثلاثة من كتبة السلطان، وسجلوا أسماء تُجّارها في سجلّ يعرضونه على السلطان. ثم يصدر أمان السلطان للتجار، فيتركون بضاعتهم في العراء، لا خوف عليها ولا حاجة بهم إلى مَن يحرسها. وفي هذه المدينة عدد زهيد من اليهود لا يربو على المائة. وهم سود البشرة مثل غيرهم من السكان (هم يهود كوشيين Cochin المنسوبين إلى الكورة المعروفة بهذا الاسم في ملبار من أعمال إيالة مدراس في الهند التي لجأوا إليها بعد خراب بيت المقدس في القرن الأول للميلاد واستقروا بها- عزرا؛ أو عدن موقعها في إقليم تلسار الوارد ذكره في التوراة).
ويذكر محقق الترجمة العربية للرحلة عزرا حداد أن بنيامين قد اختلط عليه الأمر هنا؛ إذ قال ياقوت الحموي: “عدن مدينة مشهورة على ساحل بحر الهند من ناحية اليمن. رديئة لا ماء بها ولا مرعى وشربهم من عين بينها وبين عدن مسيرة نحو يوم. وهذا الموضع مرفأ مراكب الهند والتجار يجتمعون إليه لأجل ذلك”.
أما تلسار الواردة في التوراة (2 ملوك 19: 12، وإشعيا 37: 12) فموقع في الجزيرة يظن المنقب رولنسن أنه قبيلة تدعى “بني عدن” كانت تقيم بتلسار، وهذا ما جعل بنيامين يخلط بين بني عدن ومدينة عدن، ويوحي هذا الخلط بعدم موضوعية بنيامين التطيلي بالأساس واعتماده على صياغات توراتية متكررة في كافة مواضع الرحلة تقريبًا وربطها بوجود يهود من عدمه حتى لو شخص يهودي واحد([7])؛ ممَّا يُفسّر تناوله للحبشة ومسعاه إثبات وجود جماعة يهودية بها وأراضيها وعرة المسالك، فيها عدد غفير من اليهود يقيمون في المعاقل الحصينة على رؤوس الجبال، لا يخضعون لغير رؤسائهم. ويخرجون للغزو في بلاد النوبة، فيعودون بالغنائم إلى معاقلهم وبعضهم يزور مصر وبلاد العجم.
وعلى مسيرة عشرين يومًا منها: أسوان([8]) الواقعة في طرف الصحراء عند شواطئ نهر فيشون Phishon المعروف بنهر النيل. ومخرج هذا النهر بلاد يسكنها الزنوج، عليهم ملك يدعى “سلطان الحبش”. وهم متوحشون يشبهون الحيوان بجميع الوجوه. فطعامهم الحشائش النامية على شاطئ النيل، ومناخهم شديد الحر. لذا يعيشون في الأراضي المكشوفة، عراة الأبدان، وعاداتهم مستقبحة تخالف سائر أحوال البشر، فهم يطأون من النساء أخواتهم أو أيّ امرأة تتيسر لهم. وأهل أسوان يخرجون لصيد العبيد في أراضي هؤلاء الزنج. وهم إذا خرجوا حملوا معهم الخبز والزبيب والتين. فيجتذبون الزنوج ويرغبونهم، ثم يبيعونهم في أسواق النخاسة بمصر وما جاورها من البلدان. وهؤلاء هم السودان من بني حام([9]).
وإلى جانب سياقات عصر الحروب الصليبية والمجتمع الإسباني الذي ينحدر منه التطيلي؛ فإن صبغ الرحلة برصد مبالغ فيه لليهود وأعدادهم وتواريخهم في المواضع التي زارها التطيلي (الذي لم يزر الحبشة مباشرة، وإنما مر بسواحل البحر الأحمر القريبة منها حسبما يُفْهَم من طرحه)؛ يبرّر أفكاره عن وجود جماعات يهودية في هذه المنطقة كما بقية المواضع التي سبقت الإشارة لها (في آسيا وأوروبا وإفريقيا).
خلاصة:
يُفسّر وجود صراعات يهودية-مسيحية في الهضبة الحبشية في القرن العاشر للميلاد وما بعده (حسب سرديات إثيوبية ويهودية) إلى حد كبير استمرار وجود تأثيرات يهودية واضحة في معتقدات الشعوب الإثيوبية حتى الوقت الحالي، كما تكشف القراءة النقدية لكتابات رحالة يهود وغيرهم عن الحبشة كون السلطة السياسية في تلك الهضبة بالغة المحدودية من جهة التأثير الاجتماعي في المناطق التي تسيطر عليها الأسر الحاكمة، ووجود ما يمكن تسميته بنخبوية الثقافة المسيحية في تلك المناطق واقتصارها على فئات محدودة للغاية فيما ظلت جموع الشعوب المحكومة مِن قِبَل هذه السلطات في مراحل متدنية اجتماعيًّا إلى جانب تهميشها سياسيًّا واقتصاديًّا كمُكوّن عضوي في بنية الدولة الإثيوبية تجلت قسماته حتى عقود قريبة في إثيوبيا الحديثة، في عهد الإمبراطور هيلا سيلاسي، كما في التهديد بمزيد من إقصاء الإقليم الصومالي (الأوجادين)، وإعادة تسميته لطمس هويته في عهد رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد.
…………………………….
[1]– راجع في تفاصيل السمات المشتركة بين دامات وأكسوم وموقعهما في تاريخ الحضارة الإفريقية:
- Catherine D’Andrea, Andrea Manzo, Michael J. Harrower and Alicia L. Hawkins, The Pre-Aksumite and Aksumite Settlement of NE Tigrai, Ethiopia, Journal of Field Archaeology, Summer, 2008, Vol. 33, No. 2 (Summer, 2008), pp. 151-176
[2]– صبغت الكنيسة الإثيوبية جميع ملوك أسرة زاغو بالقداسة والفروسية كنخبة عسكرية مكتملة الأركان في العصور الوسطى؛ مما يبين أهمية هذه الأسرة في توطيد المسيحية في الحبشة حينذاك:
- Aregay, Merid W. Military Elites in Medieval Ethiopia, Journal of Ethiopian Studies, June 1997, Vol. 30, No. 1 (June 1997), pp. 31-73
[3]– في تفاصيل دور الملكة يوديت في القضاء على مملكة أكسوم وصراعاتها مع السلطة المسيحية في الحبشة؛ راجع دراسة اعتمدت على الجمع بين المصادر التاريخية والروايات الشفهية في المسألة:
- Andersen, Knud Tage, The Queen of the Habasha in Ethiopian History, Tradition and Chronology, Bulletin of the School of Oriental and African Studies, University of London, 2000, Vol. 63, No. 1 (2000), pp. 31-63
[4] Jesse Sargent, Following in Jesuit Footsteps: British Expeditions to Ethiopia in the Early Victorian Era (in: Robert Aleksander Maryks and Festo Mkenda, editors, Encounters between Jesuits and Protestants in Afric ) pp. 34-5.
[5] Negash, Tekeste, The Zagwe Period and the Zenith of Urban Cuture in Ethiopia, CA. 930-1270 AD, Africa: Rivista trimestrale di studi e documentazione dell’Istituto italiano per l’Africa e l’Oriente , Marzo 2006, Anno 61, No. 1 (Marzo 2006), p. 135.
[6]:Molvaer, Reidulf K. The Defiance of the Tenth-Century Empress Yodït (Judith) of Ethiopia from an Unpublished Manuscript by Aleqa Teklé (Tekle-Ïyesus) of Gojjam, Northeast African Studies , 1998, New Series, Vol. 5, No. 1 (1998), pp. 47-58
[7] – رحلة بنيامين التطيلي (الرحالة الرابي بنيامين بن يونه التطيلي النباري الأندلسي) 561- 569 هـ/ 1165- 1173م، ترجمة وتعليق وحواشي عزرا حداد (عن العبرية)، دراسة وتقديم عبد الرحمن عبد الله الشيخ، ص ص 345-346.
[8]– قدم ماركوس ناثان آدلر Marcus N. Adler في ترجمته الرائدة لرحلة بنيامين التطيلي إلى الإنجليزية (1907) تعليقات مهمة على مجمل تفاصيل الرحلة كان منها المتعلقة بالمزاوجة بين كلمتي كوش والحبشة لدى التطيلي، ووجود جملة خاصة بالحبشة خارج سياق تناوله لمدينة أسوان، وأنه كان يجب إرفاقها بجملة سلطان الحبشة الواردة في النص المنقول عاليه من الترجمة العربية، ربما في دلالة على اضطراب سياقي للتطيلي في النص في مواضع أخرى لا سيما أن ترجمة آدلر أرفقت أرقام الصفحات بالمخطوط العبري إلى جانب الصفحات المترجمة باللغة الإنجليزية:
- Adler, Marcus Nathan, The Itinerary of Benjamin of Tudela: Critica Text, Translation and Commentary, Oxford University Press, London, 1907, pp. 68-9.
[9]– رحلة بنيامين التطيلي (الرحالة الرابي بنيامين بن يونه التطيلي النباري الأندلسي) 561- 569 هـ/ 1165- 1173م، ترجمة وتعليق وحواشي عزرا حداد (عن العبرية)، دراسة وتقديم عبد الرحمن عبد الله الشيخ، ص ص 345-347.