تُمثّل “صوماليلاند” قصة نجاح إفريقية ظلت بشكلٍ متعمَّدٍ أسيرةَ الرواية الواحدة المهيمنة حول الدراما الصومالية كما صوّرتها وسائل الإعلام الغربية.
لم يتم البوح بهذه القصة وتفاصيلها على المستوى العربي والإفريقي لأسباب متعدِّدة؛ ترجع إلى مواريث ما بعد الاستعمار من جهة، وأيديولوجيات الوحدة والتكامل من جهةٍ أخرى.
سلكت صوماليلاند طريقًا مغايرًا يخالف الاتجاه العام في نطاقها الإقليمي الذي يُشَكِّل -وفقًا لأدبيات العلاقات الدولية- مركبًا أمنيًّا بالغ التعقيد؛ حيثُ تعاني دول الإقليم من الفقر والصراعات الممتدة.
ففي عام 1991م قرَّر أبناء الإقليم الشمالي في بلاد الصومال فكّ ارتباطهم مع الدولة التي كانت حُلمًا يُرَاود الصوماليين في جميع أنحاء القرن الإفريقي. وبعد مرور نحو ثلاثة عقود على هذا الإعلان تمكَّنت حكومة صوماليلاند -غير المعترف بها- أن تبني مؤسسات الحكم، وتُعيد تأهيل عشرات الآلاف من اللاجئين، كما أنها أرست تقاليد معتبرة على المستوى الإقليمي في الانتقال الديمقراطي.
يقولون في العربية: “إذا عُرِفَ السبب بطل العجب”؛ لقد تمَّت إدارة مرحلة ما بعد الصراع من خلال أساليب تقليدية محلية دون تدخُّل أطراف خارجية، مع الاقتصار فقط على نموذج مؤتمرات المصالحة الجامعة لزعماء العشائر وبتمويل من التجار وأثرياء القوم.
استندت الحكمة التقليدية التي شكَّلت مفتاح نجاح صوماليلاند في تحقيق السلم والاستقرار في الاعتماد كليًّا على جهود المصالحة المحلية، والابتعاد عن مبادرات السلام الخارجية التي تؤدي عادة إلى الفُرقة والانقسام؛ نظرًا لانطوائها على مصالح وأجندات متباينة.
مؤتمرات المصالحة الوطنية:
كان النظام العشائري محوريًّا في عملية تشكيل الدولة في صوماليلاند التي تتألف من ثلاث مجموعات عشائرية رئيسية: إسحق ودير (بشكل رئيسي جودابورسي وعيسى)، وهارتي دارود (دولباهانتي ووارسانجيلي)؛ حيث يشكل إسحق الأغلبية، ويمثلون 70 في المائة من سكان صوماليلاند.
اتفق زعماء هذه العشائر على وقف الأعمال العدائية، والقبول بمبدأ التعايش السلمي؛ من خلال سلسلة من المؤتمرات العشائرية، أشهرها برعو عام 1991م، وبوروما 1993م، وهرجيسا خلال الفترة من 1996-1997م، وهو الأمر الذي تمخَّض عن تشكيل مؤسسات الدولة المركزية.
في 18 مايو 1991م، خلال مؤتمر برعو للمصالحة وتقرير المصير، أعلن المشاركون من قادة حركة التحرير الوطنية وشيوخ العشائر الرئيسية وقادة الرأي والفكر في المجتمع فك الارتباط من جانب واحد عن الصومال، وإلغاء قانون الاتحاد لعام 1960م. ومنذ ذلك الوقت لم تعترف أيّ دولة باستقلال صوماليلاند التي تمارس كل مظاهر السيادة من خلال وجود قوات للجيش والشرطة، وتقديم الخدمات العامة الرئيسية. ومع ذلك تحتفظ صوماليلاند بعلاقات ثنائية منخفضة المستوى مع مجموعة من الدول (مثل إثيوبيا وجيبوتي وتركيا)، وروابط غير رسمية مع المنظمات السياسية الإقليمية والدولية.
النظام السياسي الهجين:
من خلال التنازلات التي تمَّ التوصل إليها في مؤتمرات المصالحة تلك؛ تمكنت السلطات الحكومية من الحصول على الموارد الضرورية لإدارة دفَّة الدولة؛ من خلال الإذن بفرض ضرائب على الواردات، أو من خلال الدعم المباشر من التجار وأبناء صومليلاند في المهجر.
في الوقت نفسه، تم إنشاء مؤسسات الدولة الجديدة التي تهدف إلى توزيع السلطة بين عدد أكبر من الجهات الفاعلة والعشائر. على سبيل المثال، خلال مؤتمر بوروما عام 1993م، تم إضفاء الطابع الرسمي على دور شيوخ العشائر من خلال تشكيل مجلس الشيوخ (غورتي) الذي يمثل الغرفة الأعلى في البرلمان.
كانت مسؤولية غورتي الرئيسية هي تعزيز السلام عن طريق حلّ النزاعات العشائرية، وإبقاء ميليشيات العشائر تحت السيطرة.
وقد شهدت صوماليلاند منذ مؤتمر المصالحة الوطنية الأخير في هرجيسا (1996-1997م)، تغيرات سياسية واقتصادية كبيرة، بما في ذلك نمو اقتصادي كبير، والانتقال من التمثيل القائم على العشائر إلى التعددية الحزبية.
ولا شك أن وجود مجلس الشيوخ كإطار تنظيمي للعشائر وهو ما يعني الاعتراف بالقبيلة كمبدأ تنظيمي رئيسي في المجتمع جعل النظام السياسي ذا طابع هجين. إنه يقدم نموذجًا للدولة التي تجمع بين العناصر الرسمية وغير الرسمية في إطار تفاعلاتها وحركتها العامة.
أسَّس دستور عام 2001م دعائم نظام الحكم الهجين؛ حيث يوجد رئيس منتخب لمدة خمس سنوات يرأس ويعيّن مجلس الوزراء بعد موافقة البرلمان على الأقل من الناحية النظرية. كما يتألف المجلس التشريعي من مجلسين؛ مجلس الشيوخ وهو غير منتخب يمثل العشائر الرئيسية، ومجلس النواب، الذي يتم انتخابه مباشرة لمدة ست سنوات. ويتعين موافقة مجلس النواب على جميع التشريعات والميزانية السنوية، ويمارس إجراءات الرقابة على السلطة التنفيذية التي تحظى بسلطات واسعة.
على مرّ السنين، قامت صوماليلاند، التي تفتقر إلى أي مساعدة دولية يُعتدّ بها، بإجراء سلسلة من الانتخابات الديمقراطية الحرّة والنزيهة؛ حيث تم تداول السلطة بشكل سلمي بين خمسة رؤساء مختلفين. وفي بعض الأحيان حقَّق زعيم المعارضة الفوز على الرئيس المنتهية ولايته. وطبقًا لتقديرات مؤسسة فريدوم هاوس تحقّق صوماليلاند معدلات معقولة في احترام حرية الصحافة والحقوق والحريات الأساسية بشكل يفوق ما تحققه دول أخرى في الاقليم مثل جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا.
وفي عام 2005م زارت بعثة الاتحاد الإفريقي لتقصّي الحقائق صوماليلاند، وبقيت في البلاد لمدة أربعة أيام. لقد أجرت البعثة تقييمًا شاملاً لوضع المنطقة، وانتهت في تقريرها إلى القول بأن سعى صوماليلاند من أجل الاعتراف الدولي هو أمرٌ فريدٌ ومبرَّر ذاتيًّا، ولذلك تم تقديم التوصية إلى الاتحاد الإفريقي بإيجاد طريقة خاصة للتعامل مع هذه الحالة ولا يذرها كالمُعَلَّقة أبد الدهر.
ما الذي حدث خطأ؟
حصلت صوماليلاند، المحمية البريطانية السابقة على استقلالها في 26 يونيو عام 1960م، وتم الاعتراف بها من قبل 34 دولة من أعضاء الأمم المتحدة، بما في ذلك الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن، باعتبارها دولة مستقلة ذات سيادة. ومع ذلك كان حلم الصومال الكبير يراود أبناء الصومال الذين تجمعهم روابط الدم والثقافة وحتى وحدة النشاط الاقتصادي. لم تستمر هذه السيادة طويلًا، وفي غضون خمسة أيام دخلت صوماليلاند في رابطة اتحادية مع الصومال الايطالي لتشكل جمهورية الصومال. لكن سرعان ما بدا أن هذا الزواج غير المقدَّس لم يحقق الآمال المرجوة. فقد أدت سنوات الحكم العسكري بزعامة سياد بري إلى ارتكاب مظالم ومآسٍ يشيب لها الولدان بحق أبناء الاقليم الشمالي الذين ضحوا بسيادتهم من أجل بناء الأمة الصومالية الواحدة. وعليه فإن أبناء صوماليلاند يحاججون اليوم بأنهم لا يشكّلون حركة انفصالية، ولكن إعلان فك الارتباط والعودة لحالة ما قبل الأول من يوليو عام 1960م.
نتيجة المظالم الكبرى والتفاوت في تقاسم السلطة، واستئثار مقديشو بجميع موارد الدولة على حساب أهل الشمال؛ حاولت مجموعة من صغار الضباط في صوماليلاند القيام بانقلاب عسكري في ديسمبر 1961م؛ يهدف فك الارتباط، وإعلان استقلال الإقليم مرة أخرى. ومع ذلك، لم تنجح المحاولة وباءت بالفشل.
وتلقى حلم الصومال الكبير طعنة أخرى بعد أن حصلت جيبوتي على الاستقلال من فرنسا عام 1977م ورفضت الانضمام إلى الاتحاد، مفضِّلة أن يكون لها كيانها المستقل.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن كينيا احتفظت بالإقليم الشمالي الذي تسكنه أغلبية صومالية، واعتبرته جزءًا من أراضيها كما ضمت إثيوبيا منطقة الأوغادين؛ فإن ذلك يعني خيبة أمل لمن آمنوا بحلم الصومال الكبير.
إن عدم رضا صوماليلاند عن قانون الاتحاد، وتقاسم السلطة لم يحظَ باهتمام الحكومات المدنية المتعاقبة، وقد تفاقم الوضع تمامًا عندما وصل محمد سياد بري إلى السلطة في انقلاب عسكري بعد اغتيال الرئيس عبدالرشيد شارمركي.
لم يقتصر سياد بري على تهميش صوماليلاند سياسيًّا فحسب، بل حرم مدنها من عوائد التنمية الاقتصادية. دفَع هذا الوضع المتردي مجموعة من الطلاب ورجال الأعمال وموظفي الخدمة المدنية والسياسيين لتأسيس الحركة الوطنية الصومالية التي تحوَّلت بعد ذلك إلى جبهة تحرير مسلحة. خلال حقبة الصراع المستمر بين قوات حركة التحرير الصومالية والجيش الصومالي، وقعت العديد من الفظائع والجرائم بحق شعب صوماليلاند خلال الفترة بين مايو 1988 ومارس 1989م؛ حيث كانت الطائرات العسكرية الحكومية التي يقودها مرتزقة من جنوب إفريقيا وروديسيا تقصف المدارس والمناطق السكنية في مدن صوماليلاند، وهو ما أدَّى إلى مقتل أكثر من 200 ألف مدني بشكل عشوائي. وفي نهاية المطاف تم هزيمة نظام سياد بري من قبل قوات الحركة الوطنية الصومالية في عام 1991م؛ ليبدأ فصل جديد في دراما الحلم الصومالي الكبير.
أثناء زيارتي لهرجيسا لاحظت وجود نصب تذكاري لسنوات الحرب يتكون من طائرة مقاتلة من طراز ميج -وهي طائرة حقيقية- أُسقطت في عام 1988م، وتم تركيبها على قاعدة في شكل لوحة فنية على طول الطريق الرئيسي في المدينة. ولا شك أن هذا النصب التذكاري يجسّد الذاكرة الحية لأبناء هرجيسا، ويُعدّ جزءًا من سلسلة طويلة من الأحداث، معظمها مأساوية، وهو ما يفسّر المأزق الحالي الغريب للصومال.
خيار الدولتين ومعضلة فك الارتباط:
ظل أبناء صوماليلاند يحلمون بالاعتراف الدولي؛ حتى لو اضطرتهم الظروف للانتظار مائة عام. استمرت القطيعة مع مقديشيو حتى تمكَّن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد من عقد اجتماع تشاوري بين الرئيس الصومالي محمد عبدالله فرماجو ورئيس صوماليلاند موسى بيحي في أديس أبابا في فبراير الماضي. على أن اجتماع المتابعة المخطط له في هرجيسا، الذي هندسه رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، فشل في الانعقاد بسبب الخلاف الشديد من قبل الفاعلين السياسيين في صوماليلاند. ومع ذلك عُقد في 14 يونيو 2020م في جيبوتي الاجتماع التشاوري الثاني بين فرماجو و موسي بيحي برعاية رئيس جيبوتي إسماعيل غيلة وحضور رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وممثلين عن الاتحاد الإفريقي والإيجاد والاتحاد الأوروبي. وكما هو متوقع لم يكن هناك وجود للجامعة العربية بالرغم من وجود الصومال رسميًّا في قائمة أعضائها. من الواضح أن ثمة ترتيبات لتطبيع العلاقات بين الصومال وصوماليلاند؛ حيث تقف وراءها ضغوط إقليمية ودولية.
ومن اللافت أن الرئيس موسى بيحي أكد في خطابه على خيار حلّ الدولتين، والاعتراف بصوماليلاند كدولة مستقلة، كما أنه قبل اعتذار الصومال عما ارتُكِبَ من جرائم بحق أبناء صوماليلاند. ولعل ذلك كله يشير إلى أن منطقة القرن الإفريقي سوف تشهد عملية إعادة تشكيل جيواسترتيجي جديدة.
ولكي يتم استثمار الوقت والجهد والاستفادة من دروس الماضي؛ يجب ألا تُبْنَى هذه المفاوضات على أساس المباراة الصفرية، مثل خيار الوحدة في مواجهة خيار الاستقلال، وربما يكون هناك خيار ثالث مثل الدخول في علاقة كونفدرالية فضفاضة أو حتى كومنولث يجمع كل الشعوب الناطقة بالصومالية.