اتخذت السنغال ما يراه البعض أصعب القرار, عندما صوّت مشرّعوها في سبتمبر 2012، لإقرار قانون إلغاء مجلس الشيوخ والحدّ من الاستخدام المفرط لأموال دافعي الضرائب من قبل “رجال الدولة”, وتوجيه تلك النفقات إلى المشاريع التنموية والاقتصادية الأكثر أهمية للمواطنين السنغاليين. إذ انتقِد مجلس الشيوخ السنغالي بأنه “أداة لهدر أموال الحكومة”، ودعم الفساد.
وجاءت النتيجة بأن ساعد إلغاء المجلس على توفير احتياجات ضحايا الفيضانات النازحين في تلك السنة، مع خطط لزيادة استخدام الأموال الموفرة لمنع حدوث مأساة مماثلة في المستقبل.
لقد حظي قرار السنغال الجريء في عام 2012 بثناء الأفارقة وتحليل الأكاديميين والسياسيين. غير أن للقرار في الأسابيع الماضية جولات أخرى على وسائل الإعلام الاجتماعية في نيجيريا, وذلك عندما وجد النيجيريون الصعوبة في التعامل مع الأخبار المريرة التي مفادها أن أعضاء مجلس الشيوخ في البلاد بصدد شراء سياراتهم “الرسمية” وهي سيارات تويوتا “جيب لاند كروزر 2016″, وأن المجلس يرفض مرة أخرى الموافقة على تعيين “إبراهيم ماغو” وتأكيده رئيسا للجنة الجرائم الاقتصادية والمالية (EFCC) – وذلك في محاولة لعرقلة جهوده ومساعي الحكومة لمكافحة الفساد والتي تتضمن مقاضاة الشخصيات السياسية والحكام.
إن سلوكيات الجمعية الوطنية, في ظل بحث طرق خروج البلاد من الأزمة الاقتصادية، إضافة إلى تحركات أخرى مشكوك فيها والتي لها علاقة بنوايا مجلس الشيوخ لإعاقة برامج حكومة الرئيس محمد بخاري، تدفع النيجيريين لطلب إعادة النظر فيما حدث في السنغال قبل أربع سنوات, والتأسي بها لكي تتمكن البلاد من توفير الأموال وتتيح للحكومة أيضا تنفيذ أجنداتها واسترداد الأموال المنهوبة ومحاكمة المتهمين بما فيهم أعضاء الجمعية الوطنية.
الجمعية الوطنية.. تاريخ من الاتهامات:
أنشئت الجمعية الوطنية النيجيرية بموجب المادة 4 من الدستور النيجيري. وهي هيئة تشريعية تتكون من مجلسين: مجلس الشيوخ ويتألف من 109 أعضاء, ومجلس النواب المؤلف من 360 عضوا. والجمعية الوطنية مخولة بإنشاء لجان لأعضائها لفحص مشاريع القوانين وسلوك المسؤولين الحكوميين.
لكن الحقيقة أن الجمعية الجمعية النيجيرية منذ عودة الحكم الديمقراطي في عام 1999 (الجمهورية الرابعة)، تنتقد بأنها مؤسسة تتسم بهدر الأموال – شهدتْ انتخاب وعزل العديد من رؤساء مجلس الشيوخ، ودائما ما تطال أعضاءها مزاعم الرشوة والاختلاس، إضافة إلى البطء في تمرير مشاريع القوانين، وخلق لجان “غير نشطة” لتلبية مصالح شخصية.
تجرّع النيجيريون الجرعة الأولى من الفساد الأخلاقي في الجمعية الوطنية في عام 1999 بعد وقت قصير من عودة الحكم المدني؛ وُجّه إلى رئيس الجمعية الأولى الحاج “ساليسو بخاري” تهمة تزوير الشهادة الأكاديمية. واتهم السيناتور “ايفان انويرم” رئيس مجلس الشيوخ في الجمعية الأولى نفسها، بادعاءات كاذبة تتعلق بهويته الحقيقية, ليتركا منصبهما على غرار هذه الاتهامات.
في أوغسطس 2000, صوت البرلمان على عزل رئيس مجلس الشيوخ “تشوبا أوكاديجبو”، الذي خلف “ايفان انويرم “، وكانت الأسباب أيضا تتعلق بالفساد. ولكن من أكبر مزاعم الفساد التي هزت الجمعية الوطنية هو قضية الرشوة لحوالي 54 مليون نايرا (العملة النيجيرية) برئاسة السيناتور “أدولفوس وابارا” كرئيس لمجلس الشيوخ. حيث اُتهمت وزارة التعليم بتقديم المبلغ للجنة الخاصة بالتعليم في مجلس الشيوخ ومجلس النواب لتمكينهما من زيادة ميزانية الوزارة. وأدت هذة القضية إلى استقالة “وابارا” بعد الضغط من الرئاسة ومجلس الشيوخ.
في أوكتوبر 2007, أقيلت “باتريشيا إتيه” – أول امرأة تترأس مجلس النواب – من منصبها بسبب مزاعم مختلفة وجهت ضدها وضد بعض المسئولين الرئيسيين في المجلس.
أما “ديميجي بانكولي” الذي احتلّ المنصب بعد خروج “باتريشيا إتيه”, فقد اعتقل هو ونائبه “هون بايرو نفادا” في عام 2011, من قبل “لجنة الجرائم الاقتصادية والمالية” بعد أن انفجرت قنبلة اختلاسهما للأموال.
وإلى اليوم, تتوالت الاتهامات الموجهة إلى الجمعية الوطنية. بل صرّح الرئيس النيجيري السابق “أولوسيجون أباسانجو” العام الماضي, بأن الجمعية الوطنية مأهولة بعناصر فاسدة, وهو اعتراف أكّده عبد المؤمن جبرين، الرئيس المخلوع للجنة الاعتراضات في مجلس النواب، قائلا: إن ادعاء الرئيس السابق صحيح, وأن هناك ما أسماه “فساد مؤسسي” فى مجلس النواب.
وعلى حدّ تعبير جبرين، الذي اتَّهم رئيس مجلس النواب الحالي “ياكوبو دوغارا”، وثلاثة مسئولين رئيسيين آخرين في المجلس – بحشو وتزوير ميزانية عام 2016 لتصل قيمتها إلى أكثر من 400 بليون نايرا :
“هناك فساد .. في مجلس النواب. ليس فقط أن هناك فسادا، بل هناك فساد مؤسسي وهذه هي الأشياء التي يمكنني أيضا إثباتها وكلها ضمن الطبقة الثانية مما سيكون عليه نضالي (ضد مجلس النواب)”.
مجلس الشيوخ ولعبة السياسة:
في أواخر عام 2015, تورط “بوكولا ساراكي”، الذي كان سابقا حاكم ولاية كوارا والآن رئيس مجلس الشيوخ، في معارك قانونية واتهامات فساد مع مكتب مدونة قواعد السلوك النيجيري.
ووجهت اللجنة في 11 سبتمبر عدد 13 تهمة فساد إلى “ساراكي” مع دعوى بارتكاب جرائم تتراوح بين إعلان استباقي وكاذب للأصول في نماذج قدمها إلى مكتب اللجنة عندما كان حاكما لولاية “كوارا”.
إن محاكمة رئيس مجلس الشيوخ الحالي “بوكولا ساراكي” خطوة لم يسبق لها مثيل, وهي تبدو كأنها في الاتجاه الصحيح في المعركة من أجل التغيير. وقد أدى تعاون “ساراكي” مع الحزب الشعبي الديمقراطي (حزب المعارضة) كي يتولى منصب رئيس مجلس الشيوخ، إلى بعض التوتر بينه وبين أعضاء حزبه (حزب المؤتمر الشعبي) الذي ينتمي إليه الرئيس محمد بخاري.
بل غالبية المتابعين يرون أنه يعمل لصالح حزب المعارضة, وأنه يعاضد دائما أجندات حزبه والرئيس محمد بخاري ، على الرغم من أنهما ينتميان لحزب سياسي واحد.
وفي المقابل, هناك من يرى أن محاكمة “بوكالا ساراكي” كانت بسبب معارضته لاختيار حزبه لمنصب رئيس الشيوخ, وأن حزبه كان وراء القضية بدعم الرئيس بخاري, وهو ما نفاه الرئيس محمد بخاري من خلال المتحدث باسمه، الذي أشار إلى أن قضايا الفساد المقامة ضد “ساراكي” هي موضوعية تتعلق بسيادة القانون دون تدخّل من الرئيس بخاري.
وكردّ فعل لمحاكمة رئيسه, رفض مجلس الشيوخ مرتين خلال ثلاثة أشهر، الموافقة على تعيين “إبراهيم ماغو” – الذي يقوم بصفته التمثيلية كرئيس “لجنة الجرائم الاقتصادية والمالية” (EFCC) منذ أن عينه الرئيس بخاري لأول مرة في نوفمبر 2015.
وكان الرفض يستند إلى الادعاءات الواردة في رسالة من دائرة خدمات الدولة تتهمه فيها بالفساد وأنه يفتقر إلى النزاهة لقيادة الحكومة في محاربة الفساد.
إن رفض إبراهيم ماغو رئيسا للجنة مكافحة الجرائم المالية, من قبل مجلس الشيوخ ليس شيئا غير متوقع, لكن التقارير تفيد بأن بعض النيجيريين ذوي الرتب العالية هم بالفعل من أوقفوا تعيين “ماغو” كرئيس اللجنة لأنه قد كشف ارتكاب العديد منهم لمخالفات. ووفقا لأخبار متداولة، كانت لجنة مكافحة الجرائم المالية – التي يقودها “ماغو” – هي التي في الواقع جمعت الأدلة والشهود في المحاكمة الجارية لرئيس مجلس الشيوخ “بوكولا ساراكي”، أمام محكمة قواعد السلوك. كما أن “ماغو” ساعد على إحباط جميع الجهود التي بذلها “ساراكي” لوقف المحاكمة.
يضاف إلى ما سبق، أن لجنة مكافحة الجرائم دعت زوجة رئيس مجلس الشيوخ، وهي “تويِنْ ساراكي”، لاستجوابها بشأن اتهامات تتعلق بالفساد، وهو الأمر الذي قوبل باستهجان مجلس الشيوخ باعتباره إهانة كبرى أخرى لقيادة الجمعية الوطنية. وقال مصدر رفيع المستوى إن “مجلس الشيوخ كان لديه تحفظات ضد ماغو منذ دعوة زوجة رئيس مجلس الشيوخ للتحقيق معها, إذ رأى أعضاء مجلس الشيوخ أنه تدنيس للغرفة.
“على الرغم من أن رئيس مجلس الشيوخ، الدكتور بوكولا ساراكي، يزعم أنه قد غفر لإبراهيم ماغو، إلا أن استجواب زوجته ما يزال عالقا في الذاكرة . وهناك دائما مخاوف من أن ماغو سيكون أكثر خطورة فى عمله إذا تمت الموافقة (على تعيينه كرئيس دائم للجنة)”.
لم يقف إبراهيم ماغو إلى ذلك الحدّ, إذ واصل عمله لينصبّ على نحو سبعة حكام ولايات وبعض السياسيين البارزين الذين انضموا في النهاية إلى مؤامرة لرفضه في رئاسة اللجنة بسبب موقفه الذي لا هوادة فيه ضد الفساد. وكما أفاد تقرير محلي, فإن ماغو استدعى غضب الحُكّام بعد تحقيقه المستمر فى تحويل مبلغ 19 مليار نايرا من قرض نادي باريس.
“فشلت جميع المحاولات الرامية إلى إيقاف ماغو من التحقيق (في الأموال) ولم يكن أمام الحكام أي خيار سوى المشاركة في الضغط من أجل عرقلة تأكيد تعيينه. غير أن حاكما من الشمال الشرقي بذل قصارى جهده لإقناع زملائه بترك ماغو وشأنه، وتعهد بعض الحكام بعدم المخاطرة والمشاركة فى إيقاف تعيينه,” يقول مصدر.
وعلى حدّ تعبير غوردون تشيكا ننوروم، المعلق العام والكاتب من ولاية أبيا: “رفض مجلس الشيوخ تأكيد ماغو رئيسا للجنة الجرائم الاقتصادية والمالية, فهذا يعني أن لدى أعضاء مجلس الشيوخ هياكل عظمية يخفونها في خزائنهم مما يجعلهم يريدون تجنب التحقيق والملاحقة القضائية لممارسة الفساد في الحكم .. ومن المؤسف أن هذه الحكومة الحالية بينما تعمل بجد لمكافحة الفساد، يحاول بعض أعضاء مجلس الشيوخ الذين لم يقوموا بعمل جيد في السابق وقفَ الكفاح الطيب من قبل الرئيس محمد بخاري لإنهاء الفساد في الحكم.”
ويقول المراقبون إن رفض التأكيد أيضا من قبل مجلس الشيوخ قد يكون تداعيات معركة طويلة من أجل التفوق بين الكتل المختلفة فى حكومة محمد بخاري, وأن “العصبة السرية” في حكومته يبذلون قصارى جهدهم لإفشال الحرب على الفساد.
أما الرئاسة النيجيرية, فهي ما زالت مصرّة على أن إبراهيم ماغو سيظل رئيس لجنة الجرائم الاقتصادية والمالية طوعا أو كرها. كما أن “ماغو” نفسه تعهد بعدم الخوف والتقاعس فى حربه ضد الفساد. وفى حديثه للصحفيين بعد رفض مجلس الشيوخ الأخير, قال “إن أولويتى هى محاربة الفساد. كنا دائما نقوم بواجبنا. وسأعمل حتى اليوم الأخير سواء تم التأكيد أم لا.
ويضيف ماغو “إن أكبر انتهاك لحقوق الإنسان هو جريمة ضد المجتمع والإنسانية، ولكن على الجميع واجب ومسؤولية مكافحة الفساد، أتحمل أنا أيضا المسؤولية. وأؤكد لكم أننا سنقاتل حتى النهاية,”.
مطالب بإصلاح مجلس الشيوخ:
وفقا للمحللين الماليين، تنفق نيجيريا 24 مليون نايرا لرعاية عضو واحد في مجلس الشيوخ لمدة شهر, مما يجعل أعضاء مجلس الشيوخ النيجيريين أعلى المسؤولين الحكوميين أجورا في العالم أجمع. بل إن أجور أعضاء مجلس الشيوخ أكثر بكثير من أجور الأطباء في نيجيريا – وهذا يبين الكثير عن وضع القطاع الصحي بنيجيريا. والسيارات الفاخرة والأشياء الباهظة الأخرى التي يتسلمونها، تجعل صيانة مجلس الشيوخ أكثر تكلفة دون أي تأثير إيجابي واضح على المستوى الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
في حين يدعو الكثيرون إلى إلغاء مجلس الشيوخ النيجيري وتبني نظام أحادي المجلس, هناك آخرون ينتقدون ذلك بدعوى أن الدول في جميع أنحاء العالم التي تختار نظاما أحادي المجلس للحكم لا تملك سوى مناطق جغرافية أقل اتساعا، فضلا عن كون هذه الدول أقل سكانا من نيجيريا. غير أن الحقيقة أن ما يستدلون به ليس شرطا أساسيا لأن حجم بلد ما قد لا يتطابق بالضرورة مع سكانه وقد لا يحدد عدد المجموعات العرقية التي يمثلها.
فقد تكون البلدان التي تطبق مجلسا تشريعيا من مجلس واحد فقط – كالسنغال والكاميرون وغانا وكرواتيا، والدانمرك وغيرها – أصغر حجماو إلا أن نيجيريا كانت “أكبر” من معظم هذه البلدان فقط في عدد السكان، وليس هناك مانع من غرفة واحدة بهدف خفض التكاليف الاقتصادية، وإنهاء بقعة مؤسسية للفساد وعدم المساواة، وتحسين الوضع الاقتصادي في البلاد.. إذ من الأفضل للحكومة أن تتصرف فيما يخدم مصالح الشعب إذا كان مجلس الشيوخ يكلف أكثر مما تستطيع البلاد تحمله.
وعلى الرغم من أن مهمة حلّ مجلس الشيوخ النيجيري قد تكون شاقة بالنظر إلى الاعتبارات القانونية وغير القانونية التي لا بد من تقديمها، إلا أنه لا توجد حاليا طريقة مؤثرة أخرى يقتنع بها النيجيريون للقضاء على الفساد والأنشطة المدمرة من قبل المشرعين في البلاد.