تمهيد:
أجرى رئيس الوزراء الإسباني (بيدرو سانشيز) في 27 أغسطس الماضي، زيارةً مُهمَّة لغرب إفريقيا؛ لمناقشة آليات الحد من المهاجرين غير الشرعيين من هذا الإقليم الجغرافي نحو أوروبا، وشملت الزيارة التي أجراها (سانشيز) دول (موريتانيا، السنغال، جامبيا)، والتي تُعدّ الدول الأساسية في طريق الهجرة نحو جزر الكناري؛ إذ تُعدّ أزمة الهجرة غير الشرعية من غرب إفريقيا نحو إسبانيا من القضايا المتشابكة ومتعددة الجوانب؛ كونها مدفوعة بمزيج من العوامل الاقتصادية والسياسية والبيئية والاجتماعية، وغيرها.
وتواجه إسبانيا -كونها نقطة عبور رئيسية نحو أوروبا-، تحديات في كيفية إدارة التعامل الهائل مع المهاجرين أمام معضلة الالتزامات الدولية والحفاظ على الأمن القومي.
وأمام هذا التحدي تحاول إسبانيا منذ سنوات أن تتعامل مع هذه الأزمة عبر برامج وخطط تعاون مع الدول الإفريقية، وبخاصة الواقعة في غرب إفريقيا على خطوط طريق الهجرة غير الشرعية. لذلك تحاول هذه الورقة أن تُسلِّط الضوء على موقف إسبانيا من قضية الهجرة غير الشرعية من إفريقيا، وبخاصة تجاه الدول الثلاث التي شملتها الزيارة.
أولًا: نحو تأريخ أزمة الهجرة غير الشرعية من غرب إفريقيا نحو إسبانيا
تُعدّ ظاهرة الهجرة غير الشرعية من غرب إفريقيا إلى أوروبا من الظواهر التي لها عوامل متشابكة ومترابطة ما بين اجتماعية وسياسية واقتصادية وبيئية. تطورت هذه العوامل عبر أنماط تاريخية، وشكَّلت فيما بينها مزيجًا معقدًا نتج عنه صعوبة في التعامل معه؛ سواء مِن قِبَل الدول الإفريقية نفسها أو من الدول الأوروبية.
كما يُعدّ العامل الاستعماري للقارة الإفريقية بشكلٍ عام، وغرب القارة بصورةٍ خاصة، أحد العوامل التي أسهمت بشكل كبير في ظاهرة الهجرة غير الشرعية هناك؛ فقد أدَّى تشكيل ورسم الحدود السياسية بين الدول الإفريقية أثناء فترة الاستعمار إلى أزمة هيكلية ظهرت بعد الاستقلال في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي؛ تمثلت في أزمات التنمية الاقتصادية، وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، والتي يُؤرّخ من خلالها لبداية ظهور فكرة الهجرة غير الشرعية في إفريقيا ككل([1]).
شجَّعت السياسات الأوروبية -التي اتُّخِذَت بعد إنهاء الاستعمار عن القارة- الشباب الأفارقة نحو زيادة ظاهرة الهجرة بشقَّيْها الشرعي وغير الشرعي؛ حيث كانت أوروبا بحاجة للأيدي العاملة، وبات بإمكان المهاجر أن يندمج وبسهولة مع المجتمع الأوروبي، ويحصل على المزايا التي تُعطَى للمواطن الأوروبي، واستمر الأمر كذلك حتى منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
تغيَّرت نظرة الدول الأوروبية للمهاجرين من دول إفريقيا خلال بداية منتصف الثمانينيات، مرورًا بحقبة التسعينيات والألفية الجديدة؛ حيث كانت الدول الأوروبية قد بدأت تُفكِّر فعليًّا في كيفية التعامل مع المهاجرين القادمين إليها. وبعد أن انضمت إسبانيا لاتفاقية “شنجن” عام 1991م كان ذلك الأمر بمثابة تحدٍّ قويّ للحكومة في كيفية إدارة الهجرة غير الشرعية؛ حيث إن الاتفاقية جعلت منها منطقة عبور نحو أوروبا. مما دفَعها نحو اتخاذ مجموعة من الإجراءات بهدف حماية حدودها أهمها تطبيق نظام المراقبة الخارجية المعروف بـ the Integrated External Surveillance System (SIVE) وطبَّقت إسبانيا هذا النظام في عام 1995م؛ لمراقبة السواحل البحرية على طول الساحل الإسباني، وبخاصة في مضيق جبل طارق، كما وقّعت في ذلك العام أيضًا اتفاقيات مع الدول التي تشهد مُعدلات عالية من هجرة أبنائها بشكل غير شرعي؛ بحيث يعطي لها الحق في ترحيل أي مهاجر غير شرعي([2]). وعلى الرغم من هذا النظام ظلت إسبانيا محطة انتقال للمهاجرين غير الشرعيين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء. وبعد عام 2000م ظهرت طرق أخرى بديلة لقوارب الهجرة غير الشرعية تمثلت في (جزر لامبيدوزا أو صقلية أو جزر الكناري)([3]).
ورغم تطبيقه ظهرت أزمات متعددة, منها أزمة كايوكوس، التي حدثت عام 2006م عندما وصل أكثر من (31) ألف مهاجر لجزر الكناري في قوارب خشبية صغيرة تُعرَف باسم كايوكوس، وهو اسم يُطلَق على القوارب الصغيرة في كل من موريتانيا والسنغال. وعُرفت عن هذه الأزمة أنها واحدة من أكبر أزمات موجات الهجرة غير الشرعية في تاريخ إسبانيا، الأمر الذي دفَع الحكومة لمزيد من التعاون مع الحكومات الإفريقية في مجال مراقبة الحدود([4]).
وخلال الفترة من 2014-2016م بدأت موجة الهجرة غير الشرعية، حيث كان هناك زيادة ملحوظة في أعداد المهاجرين من دول غرب إفريقيا؛ بسبب تصاعد أعمال العنف والجريمة المنظمة؛ حيث كان الإرهاب قد بدأ يظهر في عدد من الدول بغرب القارة، مما دفع الكثير من الشباب للتفكير في الخروج من بلدانهم.
ثانيًا: لماذا تحركت إسبانيا نحو الدول الثلاث؟
أتت زيارة رئيس الوزراء الإسباني، “بيدرو سانشيز”، إلى موريتانيا والسنغال وجامبيا في إطار جهود إسبانيا لمواجهة تزايد الهجرة من غرب إفريقيا إلى جزر الكناري، ومِن ثَمَّ العبور للأراضي الأوروبية بعد ذلك. وبشكلٍ عام ترجع أهمية هذه الدول في قضية مكافحة الهجرة غير الشرعية بالنسبة لإسبانيا إلى:
1- الموقع الجغرافي على السواحل:
تتمتع البلدان الثلاثة بسواحل على المحيط الأطلسي، مما يجعلها قريبة نسبيًّا من الوجهات الأوروبية مثل جزر الكناري الإسبانية، وهي نقطة دخول مشتركة للمهاجرين. وعلى الرغم من هذا الموقع المتميز إلا أن هناك إشكالية تعاني منها هذه الدول تتمثل في صعوبة مراقبة السواحل البحرية الشاسعة بين الدول الثلاثة؛ حيث غالبًا ما يعتمد المهاجرون -حتى لا ينكشف أمرهم- على قوارب صغيرة أثناء العبور البحري بين هذه الدول، الأمر الذي جعلها منطقة عبور للبلدان المجاورة من (النيجر، مالي، بوركينافاسو)، بالإضافة إلى دول الجنوب الغربي من القارة، وهذا كما هو موضح بالخريطة (1) التي تكشف عن طريق الهجرة غير الشرعية نحو جزر الكناري. ومع ذلك فإن الدول الأوروبية لم تدرك خطورة هذا الطريق بشكل مبكر، وظلت دائمًا تُركز على الهجرة غير الشرعية عبر سواحل البحر المتوسط شمال القارة الإفريقية، على الرغم من أن طريق الهجرة غير الشرعية عبر غرب إفريقيا يُعدّ من الطرق الراسخة والقديمة.
( Source: Migrant children treated like adults as record influx overwhelms Canary Islands, Reuters, November 14, 2023,at: https://shorturl.at/9184s
2- تزايد أعداد المهاجرين غير الشرعيين من الدول الثلاث:
كما سبقت الإشارة بأن كلاً من موريتانيا وجامبيا والسنغال أحد الطرق الرئيسية التي يسلكها المهاجرون غير الشرعيين القادمين من دول الساحل والصحراء، فقد تصاعدت أهمية هذا الطريق كأحد الطرق المؤدية إلى أوروبا؛ خاصةً بعد أن تباطأت الهجرة غير الشرعية نحو إيطاليا في أعقاب التدابير الأمنية في البحر المتوسط؛ حيث سجل انخفاضًا في استخدام طريق البحر المتوسط نحو أوروبا بما يزيد عن (64%) خلال عام 2023م.
ووفقًا لتصريحات وزارة الداخلية الإسبانية، والتي أشارت إلى أن المهاجرين غير الشرعيين يأتون من وسط الساحل ودول غرب إفريقيا وخليج غينيا، بشكل متزايد، ثم يعبرون إلى مدينة نواذيبو شمال غرب موريتانيا، لبدء رحلتهم نحو جزر الكناري وأوروبا. وأضافت الوزارة أنه خلال الفترة من 1 يناير إلى 15 أغسطس 2024م، وصل إلى جزر الكناري والأراضي الإسبانية بشكل عام (22304) مهاجرين غير شرعيين، مقارنةً بـ (9864) في نفس الفترة من عام 2023م بزيادة قدرها (126%)([5]).
ويوضح الشكل التالي نِسَب المهاجرين غير الشرعيين القادمين من دول غرب إفريقيا الذين حصرتهم الحكومة الإسبانية خلال عام 2023م. كما تشير إلى أن هناك نحو (200) آلف شخص آخرين من المتوقع أنهم ينتظرون الانطلاق نحو جزر الكناري والدخول لأوروبا.
تكشف هذه النِّسب أن طرق الهجرة غير الشرعية من غرب إفريقيا أصبحت أحد الطرق الرئيسية للعبور نحو أوروبا، وتصاعد الأمر مع حالات عدم الاستقرار الأمني الذي تعاني منه دول الساحل والصحراء وإقليم غرب إفريقيا بشكلٍ عام.
وتنظر إسبانيا للتعاون مع الدول الثلاثة كجزء من جهودها نحو الحد من مواجهة تصاعد هذه الظاهرة، والتي كشفت عنها النسب السابقة. إذ يعتمد مواطنو (مالي ونيجيريا والنيجر والكاميرون والسنغال وجامبيا) على طريق الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا من خلال الدول الثلاثة. وتشير التقارير إلى أن الدول الثلاثة كانت مناطق عبور أكثر من (80%) من المهاجرين غير الشرعيين نحو أوروبا خلال عام 2023م([6]).
ثالثًا: المواجهة الإسبانية للهجرة غير الشرعية من غرب إفريقيا:
أدت ارتفاع معدلات الشيخوخة التي تعاني منها أوروبا، ومن بينها إسبانيا، إلى تفكير الدول الأوروبية مؤخرًا في كيفية الاستفادة من قضايا الهجرة؛ إذ تشير التقديرات إلى أنه بين عامي 2012 و2021م، ارتفع متوسط العمر المتوقع في إسبانيا من (41) إلى (45) عامًا. وتُشكل فئة كبار السن (20%) من السكان، ومن المتوقع أنه بحلول عام 2050م سيبلغ واحد من كل ثلاثة إسبان سن (65) عامًا أو أكثر. كما يشكل الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم أو كزوجين بدون أطفال 54% من الأُسَر الإسبانية، ويزيد متوسط أعمارهم عن 50 عامًا([7]).
تُشير هذه النسب إلى أن هناك تغيرات ديموغرافية واقتصادية واجتماعية كبيرة قد تحدث في إسبانيا. وبأن البلاد ستشهد زيادة في متوسط العمر المتوقع، وتقدم السكان في السن مع انخفاض في عدد الشباب منهم في سن العمل، مما يُشكِّل تحديًا لمستقبل الرفاه الاجتماعي والاقتصادي. وسيدفع ذلك نحو البحث عن أيدي عاملة خاصة في الحِرَف التي لا تجد إقبالًا كبيرًا من الإسبان.
وفي السياق ذاته، عبَّرت وزيرة الضمان الاجتماعي الإسبانية “إلما سيز إن” عقب مرافقتها لجولة رئيس الوزراء بأن إسبانيا تحتاج إلى ما يصل إلى (250) ألف عامل مهاجر سنويًّا، وفي وقت سابق من هذا العام، أفادت الحكومة أن البلاد تحتاج إلى (24) مليون مهاجر إضافي بحلول عام 2053م([8]). لذلك، عكست الزيارة للدول الثلاث رؤية بلاده في التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين خاصة القادمين من غرب إفريقيا كالتالي:
1- تبني إصلاحات لإدارة تدفق المهاجرين غير الشرعيين:
أصبحت قضية الهجرة غير الشرعية محورًا رئيسيًّا في المفاوضات الحكومية الإسبانية، خاصةً بعد الزيادة الملحوظة في أعداد المهاجرين منذ عام 2015م. وظهرت تحديات تتعلق بكيفية التعامل مع هؤلاء المهاجرين، في ظل محاولات بعض الدول الأوروبية التراجع عن معالجة هذا الملف. الأمر الذي دفَع الحكومة الإسبانية إلى الإدراك بأنه ليس بمقدورها وحدها إيقاف عملية الهجرة غير الشرعية، خاصةً القادمة إليها من غرب إفريقيا، ولذلك تعمل إسبانيا على وَضْع أُطُر تنظيمية، وفقًا لمجموعة من الخطوات التي ترى أنها قد تكون إصلاحية:
- رفع الحد الأدنى للأجور: اتخذت الحكومة الإسبانية قرارًا برفع الحد الأدنى للأجور بالنسبة للعاملين الأجانب لديها من (1080) يورو إلى (1134) شهريًّا؛ وذلك كنوع من التشجيع على تقنين الأوضاع بالنسبة للعمالة غير القانونية في البلاد.
- دراسة قانون لمنح تصاريح العمل للأجانب الذين يعملون دون وثائق قانونية: فقد أعلن البرلمان الإسباني في أبريل 2024م موافقته على دراسة قانون يهدف إلى منح تصاريح الإقامة والعمل لآلاف الأجانب الذين يعيشون في إسبانيا بدون وثائق قانونية. تم تقديم هذا الاقتراح إلى مجلس النواب في مدريد من خلال مبادرة شعبية، بعد أن حصل على أكثر من (700) ألف توقيع ودعم حوالي (900) منظمة، تشمل جماعات حقوق المهاجرين والجمعيات الكاثوليكية([9]).
2- برامج استيعاب المهاجرين:
حرصت مدريد على تعزيز الشراكات مع الدول الثلاث عبر التعاون في مجالات اقتصادية وأمنية؛ حيث تعمل (440) شركة إسبانية بموريتانيا، إضافةً إلى أنه يوجد ما يزيد عن (10) آلاف موريتاني يعملون في الأراضي الإسبانية. إضافةً إلى تأكيدها على استمرارية التعاون الشرطي بين الشرطة الإسبانية والشرطة في جامبيا، خاصةً في مجال مراقبة الحدود البحرية. إضافةً لذلك عزَّزت إسبانيا من علاقتها مع السنغال في قضية الهجرة غير الشرعية؛ إذ تنبع أهمية السنغال بأنها تُعدّ المحطة الثانية للعابرين من جنوب القارة وتحتفظ البلدان بعلاقات طويلة من التعاون تعمَّقت بشكل كبير منذ عام 2000م عندما تم توثيق التعاون الأمني بينهم نتيجة لتدفق المهاجرين منها نحو الأراضي الإسبانية.
وترى الحكومة الإسبانية أنه حان الوقت لمزيد من التعاون مع هذه الدول في التصدي لهذه الظاهرة؛ حيث أبرم “سانشيز” في زيارته للدول الثلاث اتفاقيات لتعزيز التعاون في مجال مكافحة الهجرة غير الشرعية، شملت إجراءات تهدف إلى تعزيز الهجرة المنظمة، وهي:
- برامج (الهجرة الدائرية)(*): التي تُتيح للعمال السفر إلى إسبانيا لفترات قصيرة لتلبية احتياجات سوق العمل في الوظائف ذات الطبيعة الموسمية، ثم العودة إلى بلدانهم. وترى الحكومة الإسبانية أن هذه البرامج وسيلة مربحة لجميع الأطراف ومكافحة الهجرة غير الشرعية إلى جانب توفير ما تحتاج إليه البلاد من عمالة.
- وتقوم الحكومة الإسبانية وفقًا لهذه البرامج بمنح العمال عقود عمل غير دائمة وتراخيص لمدة 4 سنوات مع حق الإقامة 9 أشهر كل عام والعودة لبلاده ثلاثة أشهر أخرى، ثم العودة مرة أخرى إلى إسبانيا لاستكمال المدة([10]).
- واستفاد من هذه البرنامج وفقًا لإحصائيات الحكومة الإسبانية لعام 2023م أكثر من (17400) عامل من دول عديدة؛ منها: (كولومبيا وهندوراس والإكوادور والأرجنتين وأورجواى). وسيتم إضافة موريتانيا وجامبيا والسنغال لهذا البرنامج. وبموجب هذا البرنامج ستعمل المديرية العامة لإدارة الهجرة التابعة لوزارة الإدماج مع إدارات العمل والهجرة والضمان الاجتماعي المعنية في السفارات في موريتانيا وجامبيا والسنغال لإرسال عروض العمل العامة التي يمكن لهذه البلدان الاستجابة لها.
- تحالف (النهضة الإفريقية): أعلن “بيدرو” عقب وجوده في السنغال عن تعزيز التعاون المشترك بين إسبانيا ودول القارة الإفريقية؛ من خلال إعلانه عن تدشين (تحالف النهضة الإفريقية) بهدف دعم عملية التنمية المستدامة بالقارة بدعم ومساعدة إسبانية. وأعلن عن أن التجربة الأولى للبرنامج ستتم في الدول الثلاثة، وتشمل التدريب المهني للشباب مع توفير فرص عمل لها في الشركات الإسبانية.
يهدف التحالف، إلى إنشاء إطار دائم للتعاون بين الدول الثلاثة، لدعم الاستثمارات الإسبانية وتنفيذ مشاريع استثمارية من جانب شركاتها في القطاعات ذات الإنتاجية العالية أو توليد فرص العمل أو القدرة على الابتكار، في قطاعات مثل (الاتصالات، أو التمويل، أو الزراعة، أو السياحة، أو البنية الأساسية). وستستضيف السنغال، باعتبارها دولة مشاركة في المشروع، مقر الأمانة العامة للتحالف وستكون هي الدولة الأولى من بين الدول الثلاث التي ستبدأ فيها مشروعات الاستثمار والتدريب ([11]).
رابعًا: تحدّيات الحكومة الإسبانية للتعامل مع قضية الهجرة غير الشرعية من غرب إفريقيا:
على الرغم من أن زيارة “بيدرو سانشيز” إلى إفريقيا جاءت في إطار محدد للغاية، إلا أنها وجدت تزايدًا في الضغوط المتعلقة بالهجرة، وسط هجوم من اليمين والمتطرفين الذين يُروّجون لخطاب مناهض للهجرة. متهمةً إياها بالمساهمة في “أزمة الهجرة” من خلال سياسات تُعتَبر “تحفيزية”. ويمكن بشكل عام الإشارة إلى التحديات التي تُواجه الحكومة الإسبانية في التعامل مع قضية الهجرة بشكلٍ عام، ومن دول غرب إفريقيا بشكل خاص كالتالي:
1- المواقف السياسية:
يمكن للمناخ السياسي في إسبانيا أن يؤثر بشكل كبير على سياسة الحكومة في التعامل مع قضايا الهجرة. في حين أن هناك دعمًا واسع النطاق للسياسات الشاملة بين العديد من الأحزاب السياسية، وبخاصة اليسارية التي تؤيد فتح الباب أمام التعامل مع اللاجئين وملف الهجرة، وتتفق هذه الأحزاب في أنها ترى أن السبب وراء تزايد قضية الهجرة بشكلٍ عام هي السياسات الإمبريالية الرأسمالية التي أثَّرت على مجتمعات هؤلاء المهاجرين، بينما ترفض أحزاب اليمين السماح لهم بالدخول إلى البلاد بسبب الأعباء الاقتصادية من جهة، ومن جهة أخرى بسبب الرؤى الثقافية التي تسيطر على أصحاب هذا التيار.
لذلك أثارت قرارات رئيس الوزراء انتقادات الأحزاب اليمينية كحزب “فوكس”، الذي ادَّعى أن هذه الإجراءات ستُشجّع المزيد من المهاجرين على محاولة دخول البلاد بشكل غير قانوني في وقتٍ تكافح فيه جزر الكناري للتعامل مع تدفق المهاجرين. بل تم توجيه انتقادات بأن رئيس الوزراء يروّج لأجندته الاشتراكية “بأن إسبانيا دولة مضيفة للمهاجرين”([12]).
2- مواقف المنظمات الحقوقية:
تنظر المنظمات الحقوقية في أوروبا إلى تعامل الحكومات مع قضايا الهجرة غير الشرعية بنوع من الشكوك والريبة؛ حيث سبق وأن وجَّهت منظمات حقوقية للسياسات الإسبانية السابقة انتقادات قوية بعد ترحيل المهاجرين غير الشرعيين من أوروبا إلى موريتانيا ودول إفريقيا جنوب الصحراء، معتبرةً أن ما تقوم به الحكومة “غير إنساني”، بخاصة بعد ترحيل مئات المهاجرين الماليين وإعادتهم إلى بلدهم عام 2017م؛ حيث انتقدت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ الأجراء الإسباني، ووصفتها بأنها انتهكت الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان عندما قامت بترحيل هؤلاء المهاجرين، وتقدمت الحكومة الإسبانية في ذلك الوقت باستئناف ضد هذا الحكم، بحجة أنه “لم يكن هناك طرد، بل منع من الدخول”([13]).
3- إستراتيجيات إدارة الحدود غير الفعّالة
تنطوي طرق الهجرة من غرب إفريقيا إلى إسبانيا على شبكات دولية معقدة. وعلى الرغم من الجهود الكبيرة في مراقبة الحدود مِن قِبَل الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك إسبانيا، إلا أنه لا يزال العديد من المهاجرين قادرين على التنقل عبر هذه الطرق. وقد نفَّذت إسبانيا تدابير مختلفة لمراقبة الحدود؛ ومع ذلك، لم تكن هذه الإستراتيجيات فعَّالة تمامًا في الحد من الهجرة غير الشرعية.
ويزعم المعارضون لزيارة رئيس الوزراء الإسباني أنه في حين توجد جهود مثل المراقبة البحرية والاتفاقيات مع دول العبور، فإن هذه التدابير لا تُعالج بشكلٍ كافٍ الأسباب الجذرية للهجرة أو توفّر حلولاً شاملة. وهي من النقاط التي تتشبث بها المعارضة بأن السياسات التي تقوم على توقيع الاتفاقيات والتعاون المشترك والدعم الاقتصادي للدول في غرب إفريقيا، وعلى رأسها (موريتانيا، السنغال، جامبيا)، لم تسهم في حلّ المشكلة مستشهدين بذلك بالاتفاقيات التي وُقِّعت مع هذه الدول؛ حيث سبق وأن وقَّعت إسبانيا وموريتانيا “اتفاقية مدريد”، والتي تنص على اعتراض المهاجرين المتجهين من شواطئ نواذيبو إلى جزر الكناري على بُعد (600) ميل بحري(*). ومنذ عام 2006م، يوجد في موريتانيا تشكيلان عسكريان إسبانيان؛ أحدهما من الحرس المدني، والآخر من الشرطة الوطنية، لمراقبة المنطقة البحرية بين نواذيبو وجزر الكناري. وكذلك الأمر في جامبيا التي تشهد تعاونًا أمنيًّا في مجال مراقبة السواحل البحرية.
وختامًا:
يمكن القول: إن قضية الهجرة غير الشرعية من غرب إفريقيا إلى إسبانيا تتَّسم بتعقيدات تتطلب حلولاً شاملة ومتكاملة. تستدعي هذه القضية تعزيز التعاون الدولي والإقليمي، وتنفيذ سياسات هجرة مستدامة، وتوفير فرص اقتصادية في دول المنشأ، بالإضافة إلى تعزيز حماية حقوق المهاجرين.
وتسعى إسبانيا إلى تقديم رؤية جديدة للتعامل مع الهجرة غير الشرعية من غرب إفريقيا؛ من خلال تعزيز التعاون الثنائي مع دول العبور نحو جزر الكناري، وبناء الثقة بين الدول المعنية، وتطوير آليات مشتركة لإدارة الهجرة. كما تؤكد على أهمية الجمع بين السياسات الأمنية والتنموية، والتركيز على معالجة الأسباب الجذرية للهجرة. بالإضافة إلى ذلك، يُعتَبر الاستثمار في التنمية البشرية والبنية التحتية في غرب إفريقيا، وتعزيز الحوار بين المجتمعات المضيفة والمهاجرين، أمرًا حيويًّا لتحقيق استقرار طويل الأمد. ومع ذلك، يعتمد نجاح هذه الجهود على التزام جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الحكومات والمنظمات الدولية والمجتمع المدني.
وأمام حاجة إسبانيا للعمالة؛ فإن هذا الأمر ربما يؤدي مستقبلًا لمزيد من الهجرة غير الشرعية، خاصةً أنها قريبة من القارة الإفريقية؛ حيث (يبعد مضيق جبل طارق أكثر من سبعة أميال بحرية من البر الرئيسي الإفريقي إلى إسبانيا)، كما أن زيادة حاجة القطاعات الزراعية لمزيد من العمالة سيؤدي إلى تصاعد الرغبة في الهجرة إليها؛ خاصةً أن هذه الوظيفة من الوظائف التي لا يُفضِّلها الكثير من الإسبان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قائمة المصادر
[1] Joseph Kof Teye, “Migration in West Africa: An Introduction”, in Joseph Kofi Teye (eds.), Migration in West Africa,( Springer, IMISCOE Research Series, 2022)p.4.
[2] – محمد عثمان، الهجرة غير الشرعية بين الموقف الإسباني والإيطالي وتداعياتها الأمنية، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 5 يوليو 2019م، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/I0c8y
[3] Linguère Mously Mbaye,” “Barcelona or die”: understanding illegal migration from Senegal” ,IZA Journal of Migration,) Bonn: University of Bonn, Article(3), number, (21), 2014)p.3
[4] Walter Kemp, Learning from the Canaries: Lessons from the “Cayucos” Crisis“, Desperate Migration Series ( New York: International Peace Institute, May 2016( p.3
[5] Spain addresses migration crisis, signs new bilateral agreements with Gambia, Mauritania, La Croix International, September 3rd, 2024,at: https://shorturl.at/8x8BM
[6] – موريتانيا.. طريق المهاجرين الجديد من إفريقيا صوب أوروبا، دويتشه فيله، 2024/6/16، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/gKczA
[7] Spain: A country for “The Old” but no country for the young, The Ipsos Almanac ,6 December 2023,at: https://shorturl.at/ujhlr
[8] Spain seeks immigration solutions amid ‘humanitarian drama’ on Canary Islands, The Irish Times, Aug 30 2024,at: https://shorturl.at/QD6yy
[9] Spanish parliament will consider a bill to grant residency to undocumented immigrants, The Associated Press, April 9, 2024,at: https://shorturl.at/B46Z1
*– تعمل إسبانيا في مجال برامج الهجرة الدائرية منذ عام 2000م، عندما تم إدراج هذا المفهوم ضمن حقوق وحريات الأجانب في إسبانيا ودمجهم الاجتماعي. وقد ترسخت هذه المقاربة في منذ عام 2022م، وخاصةً بعد إصلاح لائحة الأجانب في العام نفسه؛ حيث تم تعديل القضايا المتعلقة بتحديد وضع العمالة والأرقام المتعلقة بتصاريح الإقامة المؤقتة (للتدريب).
[10] The Government of Spain signs agreements with Mauritania, The Gambia and Senegal to reinforce safe and regular migration channels and protect workers’ rights, La Moncloa, 2024.8.29,at: https://shorturl.at/nTz1b
[11] Spain and Senegal launched the ‘Alliance Africa Avanza’ to promote investments that generate growth and jobs, Thursday daily bulletin, Aug 29, 2024,at: https://shorturl.at/uW5yu
[12] Spain seeks immigration solutions amid ‘humanitarian drama’ on Canary Islands, op.cit.
[13] – محمد عثمان، مرجع سبق ذكره.
* – يبنى الاتفاق على أساس تقليص عدد المهاجريين غير الشرعيين القادمين من موريتانيا إلى الأراضي الإسبانية، وجرى تعزيز هذا الاتفاق مرة أخرى عام 2019م تحت اسم “الرأس الأبيض”، وبموجبه تعمل دورية مشتركة مع حرس الحدود في المياه الموريتانية والمناطق المتاخمة، للسيطرة على تدفق القوارب المشتبه بها والهجرة غير الشرعية.