يقول المثل الإفريقي: “إذا أردت أن تصل سريعاً فاذهب وحدك، وإذا أردت أن تذهب بعيدًا فاذهب مع جماعة“.
ولعل ذلك يجسد أهمية الوحدة والتعاون، الأمر الذي يُعد ضروريا ولازما لإفريقيا حتى تتمكن من مواجهة تحديات التدخل الخارجي وتحقيق الاستقرار والازدهار على المدى الطويل.
وفي ظل تحول ديناميات القوة العالمية، تواجه إفريقيا تهديدات متجددة بالتدخل الخارجي الذي قد يزعزع استقرار القارة ويقوض سيادتها. لقد أدت عودة التنافس الدولي على غرار الحرب الباردة الأولى، وخاصة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى، إلى خلق وضع محفوف بالمخاطر.
أصبحت إفريقيا بشكل متزايد نقطة ارتكاز محورية في هذا الصراع على النفوذ، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى مواردها الطبيعية الوفيرة وموقعها الجيوسياسي الاستراتيجي. ومع ذلك، فإن طبيعة الدولة الهشة وغياب القيادة صاحبة الرؤية تجعل إفريقيا عرضة لمناورات القوى الخارجية. ولحماية مصالحها، يجب على إفريقيا إعطاء الأولوية للوحدة وتعزيز المؤسسات الإقليمية وتبني نهج تعاوني لحل النزاعات الداخلية.
الحرب العالمية الإفريقية الأولى:
تُجسد جمهورية الكونغو الديمقراطية التحديات التي تواجه إفريقيا في سياق صراعات القوة العالمية. ومنذ عام 1996، انخرط شرق البلاد في صراعات أدت إلى مقتل ما يقرب من ستة ملايين شخص. بدأ العنف مع حرب الكونغو الأولى (1996-1997) في أعقاب الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، حيث قُتل حوالي مليون شخص من التوتسي والهوتو المعتدلين. في أعقاب ذلك، فر ما يقرب من مليوني لاجئ من الهوتو إلى شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، بما في ذلك بعض المتطرفين الذين شكلوا ميليشيات مسلحة. تصاعدت التوترات مع تدخل ميليشيات التوتسي والقوى الأجنبية، وهو ما جعل البعض يطلق عليها اسم الحرب العالمية الإفريقية الأولى. لقد تورطت 11 دولة إفريقية في حرب الكونغو الأولى والثانية وهو ما جعلها جزءًا من اتفاقية السلام الموقعة عام 2013 لإنهاء هذه الحرب الإقليمية الكبرى.
ومن المعروف أن جمهورية الكونغو الديمقراطية دولة غنية بالموارد الطبيعية، بما في ذلك المعادن مثل الكوبالت والنحاس والذهب، والتي تشكل أهمية أساسية للاقتصاد العالمي. كما أن موقعها الجغرافي، الذي تحده تسع دول، يزيد من أهميتها الاستراتيجية. ومع ذلك، وعلى الرغم من إمكاناتها، فإن جمهورية الكونغو الديمقراطية تعاني من عدم الاستقرار، وضعف الحكم، والانقسامات الداخلية. ولايزال شرق البلاد، على وجه الخصوص، بؤرة للصراع، حيث تنشط أكثر من 200 مجموعة متمردة مسلحة. وتستغل هذه المجموعات غياب سلطة الدولة للسيطرة على الأراضي، واستخراج الموارد، وإدامة العنف.
إن عجز الحكومة الكونغولية عن الحفاظ على السيطرة على أراضيها له آثار كبيرة على الأمن الإقليمي. فقد انجرفت دول مجاورة مثل أوغندا ورواندا وأنجولا إلى الصراعات الداخلية في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وكثيراً ما كان ذلك تحت ستار مواجهة التهديدات التي تشكلها الجماعات المتمردة التي تعمل عبر الحدود.
على سبيل المثال، اتُهمت أوغندا ورواندا بدعم الفصائل المتنافسة داخل جمهورية الكونغو الديمقراطية لحماية مصالحهما الأمنية والوصول إلى الموارد. وقد أدى هذا إلى خلق حلقة مفرغة من التدخل والتدخل المضاد، حيث تتورط القوى الإقليمية في الشؤون الداخلية لجمهورية الكونغو الديمقراطية، مما يزيد من تعقيد الوضع.
ومع ذلك، فإن تورط القوى الخارجية، وخاصة الدول الغربية والمنظمات الدولية، أدى في كثير من الأحيان إلى تفاقم الصراع. على سبيل المثال، احتفظت الأمم المتحدة بقوة حفظ سلام في جمهورية الكونغو الديمقراطية لأكثر من عقدين من الزمان، لكن السلام لا يزال بعيد المنال. وقد أدى وجود القوات الدولية في بعض الأحيان إلى تهميش المبادرات التي تقودها إفريقيا والتي قد تكون أكثر ملاءمة لمعالجة التعقيدات الفريدة للمنطقة. وهذا يسلط الضوء على الحاجة إلى أن تأخذ الدول الإفريقية زمام المبادرة في حل صراعاتها ومقاومة فرض الحلول الخارجية التي قد لا تتوافق مع الحقائق المحلية.
مخاطر الحلول المفروضة من الخارج: حالة حركة “إم 23”
يطرح الصراع الذي تورطت فيه جماعة إم 23 المتمردة في جمهورية الكونغو الديمقراطية نموذجًا صارخًا لمخاطر الحرب بالوكالة والاعتماد على القوى الخارجية لحل المشاكل الإفريقية. ظهرت حركة “إم 23” كتهديد كبير في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما سيطرت على أجزاء من شرق الكونغو. وردًا على ذلك، نشرت مجموعة تنمية جنوب إفريقيا (سادك) قوة عسكرية بموجب تفويض من الأمم المتحدة لمحاربة الجماعة. وفي حين نجحت قوات مجموعة سادك في ابعاد وتهجير حركة “إم 23” مؤقتًا، إلا أن القضايا الأساسية التي أدت إلى نشوء الجماعة لم يتم معالجتها.
عاد الصراع إلى الظهور في عام 2022 عندما استأنفت حركة “إم 23” أنشطتها، مما أدى إلى تجدد عدم الاستقرار في المنطقة. وقد سهّلت مجموعة شرق إفريقيا، التي أدركت الحاجة إلى حل إقليمي، المفاوضات بين الحكومة الكونغولية وحركة 23 مارس. وأكد نهج مجموعة شرق إفريقيا على الحوار ودمج القوات المتمردة في الجيش الوطني كوسيلة لتحقيق السلام المستدام. ومع ذلك، تم تقويض هذه المبادرة عندما رفضت الحكومة الكونغولية من جانب واحد جهود مجموعة شرق إفريقيا ودعت قوات مجموعة (سادك) إلى إعادة الانخراط في العمليات القتالية ضد حركة “إم 23”. وطبقا لتقارير أممية شنت الحركة منذ بداية عام 2024 أكبر عدد من المعارك في تاريخها، واستولت على مساحات شاسعة من أراضي الشرق المتاخمة لكل من رواندا وأوغندة بشكل غير مسبوق.
إن هذا الاعتماد على التدخل العسكري الخارجي بدلاً من الدبلوماسية الإقليمية لم يفشل في حل الصراع فحسب، بل أدى أيضًا إلى تعميق الانقسامات داخل القارة الإفريقية. لقد خلقت حالة يُنظَر من خلالها إلى المنظمات الإقليمية باعتبارها طرفًا في الصراع وليس شريكًا في السعي إلى السلام. وعلاوة على ذلك، فقد سمحت للقوى الخارجية باستغلال هذه الانقسامات لتحقيق مصالحها الاستراتيجية الخاصة، سواء في شكل تأمين الوصول إلى الموارد أو إنشاء موطئ قدم عسكري في المنطقة.
دور المؤسسات الإقليمية: دعوة للتضامن الإفريقي:
نظرًا لتعقيدات الصراعات مثل تلك الموجودة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، فمن الواضح أن الدول الإفريقية يجب أن تعمل معًا بشكل أكثر فعالية لإدارة تحدياتها الأمنية. وهنا تبرز أهمية المؤسسات الإقليمية مثل جماعة شرق إفريقيا ومجموعة (السادك) وصندوق التنمية للجنوب الإفريقي والمؤتمر الدولي لمنطقة البحيرات العظمى، والاتحاد الإفريقي، باعتبارها آليات بالغة الأهمية في سبيل التوصل إلى تسوية دائمة وفقا لمبدأ “حلول إفريقية لمشكلات إفريقية”.. وتوفر هذه المنظمات منصات للدول الإفريقية للتعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك، من حل النزاعات إلى التكامل الاقتصادي.
ومن أهم الأمثلة على التعاون الإقليمي الناجح الدور الذي لعبه الاتحاد الإفريقي في حل الأزمة التي أعقبت الانتخابات في كينيا في الفترة 2007-2008. ففي أعقاب الانتخابات المتنازع عليها توسط الاتحاد الإفريقي في التوصل إلى اتفاق لتقاسم السلطة بين الأطراف المتنافسة. ولم يمنع هذا التدخل المزيد من إراقة الدماء فحسب، بل أرسى أيضًا سابقة للحلول التي تقودها إفريقيا للمشاكل الإفريقية. وأثبت أنه عندما تعمل الدول الإفريقية معًا من خلال مؤسساتها الإقليمية، فإنها تستطيع تحقيق نتائج فعّالة ومحترمة من قِبَل المجتمع الدولي.
ومن الأمثلة الأخرى دور الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) في استعادة النظام الدستوري في غامبيا في عام 2017. فعندما رفض الرئيس يحيى جامع التنحي بعد خسارته الانتخابات الرئاسية، نشرت الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا قوة عسكرية للضغط عليه للتخلي عن السلطة. وقد أكد نجاح هذه المهمة على أهمية التضامن الإقليمي في دعم المبادئ الديمقراطية والحفاظ على الاستقرار في إفريقيا.
خاتمة والدروس المستفادة:
يقدم تاريخ إفريقيا دروسًا مهمة حول مخاطر الانقسام. في القرن التاسع عشر، استغلت القوى الاستعمارية الأوروبية الانقسامات بين الممالك والسلطنات الإفريقية لفرض سيطرتها على القارة. كان مؤتمر برلين سيئ السمعة في عامي 1884 و1885، حيث قسمت القوى الأوروبية إفريقيا فيما بينها دون مشاركة إفريقية، نتيجة مباشرة لعجز القادة الأفارقة عن التمسك بالوحدة لدرء التهديدات المشتركة. لقد استخدم المستعمرون مزيجًا من القوة العسكرية والتلاعب الدبلوماسي والإقناع الإيديولوجي لإخضاع المجتمعات الإفريقية، وكثيرًا ما كانوا يحرضون مجموعة ضد أخرى للحفاظ على السيطرة. اليوم، ربما تغيرت التكتيكات، لكن الاستراتيجية الأساسية تظل كما هي. تواصل القوى الخارجية استغلال الانقسامات الداخلية في إفريقيا لتعزيز مصالحها الخاصة سواء من خلال الضغط الاقتصادي، أو التدخل العسكري، أو الترويج لأيديولوجيات سياسية معينة، تسعى هذه القوى إلى التأثير على نهضة إفريقيا بطرق تعود بالنفع عليها، وغالبًا على حساب المصالح الإفريقية.
ولتجنب تكرار أخطاء الماضي، يجب على القادة الأفارقة إعطاء الأولوية للوحدة والاعتماد على الذات. وهذا لا يعني فقط تعزيز المؤسسات الإقليمية، ولكن أيضًا تعزيز ثقافة التعاون والدعم المتبادل بين الدول الإفريقية. يجب على القادة أن يدركوا أن استقرار وازدهار أي دولة يرتبطان ارتباطاً وثيقاً باستقرار وازدهار جيرانها. من خلال العمل معاً، يمكن للدول الإفريقية خلق قارة أكثر مرونة واكتفاء ذاتياً وأقل عرضة للتدخلات الخارجية.
وعلاوة على ذلك، يتعين على إفريقيا أن تستثمر في قدرتها على حل النزاعات وإدارة مواردها. وهذا يشمل بناء مؤسسات قوية وشفافة وخاضعة للمساءلة على المستويين الوطني والإقليمي. أضف إلى ذلك تطوير القدرات الاقتصادية والعسكرية اللازمة لحماية مصالح القارة دون الاعتماد على قوى خارجية.
وفي الختام، فإن التحديات التي تواجه إفريقيا اليوم هائلة، لكنها ليست مستعصية على الحل. ومن خلال التعلم من التاريخ والعمل معا، يمكن للدول الإفريقية أن ترسم مسارًا نحو مستقبل أكثر استقرارا وازدهارًا واعتمادًا على الذات. وعليه فإن الوحدة ليست مجرد ضرورة استراتيجية؛ بل هي ضرورة وجودية لإفريقيا في القرن الحادي والعشرين.