يُعدّ “فرانز فانون” (1925-1961م) Frantz Fanon طبيبًا نفسيًّا ومنظِّرًا وفيلسوفًا ثوريًّا لعب دورًا رائدًا في الحركة الثورية لدولة الجزائر في خمسينيات وأوائل ستينيات القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من وفاته في سنّ مبكّرة إلّا أن أفكاره السياسية والاجتماعية تركت بصمات لا تُمْحَى على جميع الحركات الثقافية والسياسية في جميع أنحاء العالم منذ ذلك الحين.
وقد حظي كتابه الأخير “مُعذَّبو الأرض” بأهمية خاصة؛ حيث استطاع من خلاله أن يلفت الأنظار إلى التأثير القاسي على ضحايا الاستعمار والعنصرية. والأهم من ذلك أنه استطاع وضع رؤية قوية وجذرية للنضال من أجل إنهاء الاستعمار، واعتبارها ضرورية لمعالجة فقدان الاستعمار لإنسانيته؛ إذ رأى أن العمل الثوري هو السبيل الوحيد للخروج من المعضلة العرقية للرجل الأسود؛ والذي يستوجب تغيير المسار من صنع الأساطير والقوالب النمطية إلى مسار المقاومة السرية والنضال الذي لا هوادة فيه.
ومن خلال القراءة الدقيقة لمختارات من كتابي “فانون” الأكثر تأثيرًا؛ “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء”، و”معذو الأرض”، بالإضافة إلى كتاب “استعمار يحتضر” وكتاب “لأجل الثورة الإفريقية”؛ سوف يتم النظر في أهمية أفكار “فانون”، ومدى قابلية هذه الأفكار للتنفيذ على أرض الواقع. إذ لم يكن “فانون” رجلاً يلجأ إلى التنظير حصريًّا؛ لكنه كان كذلك رجل أفعال؛ فقد كان يطرح الفكرة ويدلّل عليها، ويحاول إسقاطها على الواقع. وبهذه الطريقة، ارتبطت حياته وشخصيته ارتباطًا وثيقًا بأفكاره.
أولاً: النشأة والسمات والخبرات الشخصية لـ” فانون”:
وُلِدَ “فرانز عمر فانون” Frantz Omar Fanon لأسرة زنجية في ثنايا الاستعمار الفرنسي في العشرين من يوليو عام 1925م بجزيرة “المارتينيك” Martinique إحدى جزر البحر الكاريبي، وهي نفسها الجزيرة التي وُلِدَ وعاش فيها رائد ومُؤسِّس “الزنوجة” المفكر “إيميه سيزار” (1913-2008م) Aimé Césaire. وقد كانت عائلة ” فانون” تنتمي إلى “الطبقة المتوسطة العليا”، وبسبب التركيبة العرقية المعقدة للجزيرة، انشغل “فانون” بجميع الأسئلة المتعلقة بالعرق واللون والطبقة.
وفي الثامنة عشرة من عمره التحق “فانون” بـ”الجيش الفرنسي الحر” Free French Army خلال الحرب العالمية الثانية؛ لاعتقاده بأن “حريته وحرية المارتينيك وحرية فرنسا ترتبط جميعها ببعضها البعض”. وبعد إصابته وتسريحه من الجيش الفرنسي، اختار دراسة الطب النفسي، والذي يمثل توليفة مميزة تجمع بين الطب وعلم النفس والفلسفة؛ فقد كان يعتقد أن دراسته ستمكّنه من متابعة اهتماماته المتزايدة بالآثار النفسية للعنصرية والاستعمار على كل من المستعمر والخاضعين للاستعمار.
درس أولاً في ” باريس” Paris ثم في “ليون” Lyon من عام 1947م حتى عام 1951م. وبعد الانتهاء بنجاح من امتحانات التأهيل، بدأ “فانون” التدرب في “سانت يلي” Saint Ylie بفرنسا، ثم في “بونتورسون” Pontorson، و”نورماندي” Normandy، وأخيرًا تعينه كرئيس لدائرة علم النفس بـ”مستشفى بليدة جوينفيل للطب النفسي” Blida-Joinville Psychiatric Hospital بالجزائر في عام 1953م، وذلك بعدما تزوج في عام 1952م من امرأة فرنسية بيضاء تدعى “ماري جوزيف دوبلي” Marie-Josephe Dublé.
وخلال سنوات عمله بالمستشفى استطاع ” فانون” اكتساب خبرة كبيرة، حيث شارك في تجارب نفسية أساسية مع 165 امرأة أوروبية و220 رجلاً جزائريًّا. كما كان لعمله في القارة الإفريقية عظيم الأثر على تطوير وعيه الناقد للاستعمار وآثاره الجسدية والنفسية على الجزائريين، واستطاع أيضًا أن يصقل أفكاره حول الأسباب الاجتماعية والسياسية والثقافية وأثرها على العديد من الأمراض العقلية للخاضعين للاستعمار.
وبعد أن حاول بنجاح محدود أن يطبق بعضًا من أفكاره الراديكالية لإصلاح المستشفى استقال “فانون” من عمله في عام 1956م بهدف الانضمام إلى “جبهة التحرير الوطنية” Front de Libération Nationale (FLN)، الممثلة للحركة الثورية المناهضة للاستعمار والتي خاضت بنجاح كفاحًا مسلحًا من أجل استقلال الجزائر عن الاستعمار الفرنسي. وفي رسالته للاستقالة كتب بدون تردد: “يأتي وقت يصبح فيه الصمت خيانة”؛ فقد كان عازمًا على استخدام تدريبه العسكري والطبي لصالح تحرير الجزائر وإنهاء كل أشكال الاستعمار في إفريقيا.
بدأ “فانون” ارتباطه الرسمي بـ”جبهة التحرير الوطني” في وقت مبكر من عام 1954م عندما قدم النصائح النفسية للعديد من المقاتلين الجزائريين الذين يعانون من “مشاكل نفسية” نتيجة للحرب. ويؤكد “ديفيد ماسي” David Macey كاتب سيرة “فانون”: “أن التزام [فانون] المتزايد بالحركة القومية اتخذ النمط الكلاسيكي للاتصال في البداية، ثم تقديم خدمات ثانوية لكسب الثقة لمزيد من الانخراط”. وسرعان ما اندمج “فانون” بشكل كامل في الجبهة، ليصبح طبيب ومناضل من أجل الحرية وكاتب ثوري وسفير وممثل للحركة في شتى المحافل.
وأثناء مشاركته في “المؤتمر الشعبي الإفريقي” All-African Peoples Congress الذي عقد في “أكرا” Accra عاصمة “غانا”، في الفترة من 8 إلى 12 ديسمبر 1958م، ألقى “فانون” كلمةً بصفته عضوًا في الوفد الجزائري المشارك، والتقى مع الثوار الأفارقة المعروفين مثل “باتريس لومومبا” Patrice Lumumba، و”توم مبويا” Tom M’Boya، و”روبرتو هولدن” Roberto Holden، وبالطبع رئيس “غانا” آنذاك “كوامي نكروما”Kwame Nkrumah.
في هذا المؤتمر الحاسم للجامعة الإفريقية، جادَل “فانون” بقوة بأن النضال الجزائري من أجل الحرية كان في الواقع جزءًا لا يتجزأ من الحركة الشاملة للوحدة الإفريقية، وقدَّم ما أصبح لاحقًا وجهات نظره المثيرة للجدل حول العنف وإنهاء الاستعمار. وعلى الرغم من أن المؤتمر الذي ضم أكثر من مائتي مندوب، يمثلون خمس وعشرين دولة، أكدوا جميعهم على اللاعنف والتفاوض كقاعدة أساسية، ولا سيما “لومومبا”، و”مبويا”، و”نكروما”، لكن “فانون” صدم وأذهل جمهوره بالكلمات الحماسية، وخاطب الحضور بقوله: “لا تستبعدوا اللجوء إلى العنف”.
بعد فترة وجيزة من نجاحه المثير في مؤتمر أكرا، تم تعيين ” فانون” سفيرًا للحكومة الإقليمية للجمهورية الجزائرية (GPRA) في “غانا” في عام 1959م، واستمر في تمثيل الحكومة في العديد من المؤتمرات الدولية، بما في ذلك مؤتمر السلام والأمن في “أكرا” بغانا من 7-10 أبريل 1960م؛ و”المؤتمر الأفروآسيوي” في “كوناكري” بغينيا الفترة من 12-15 أبريل 1960م؛ والمؤتمر الثالث للدول الإفريقية المستقلة في “أديس أبابا” بإثيوبيا الفترة من 17-19 يونيو 1960م.
وأخيرًا في 6 ديسمبر 1961 م في سن السادسة والثلاثين من عمره مات الرجل الذي لُقِّب بـ”رسول العنف” the apostle of violence، بمرض سرطان الدم، في ولاية “ماريلاند” بالولايات المتحدة الأمريكية.
ثانيًا: السياق التاريخي المعاصر لـ”فانون”:
“فرانز فانون” هو مثال جيد للقول بأننا جميعًا نتاج وعينا الكلي وإدراكنا للعالم من حولنا؛ وأننا جميعًا في هذا الصدد ضحايا بيئتنا. لكنه أيضًا مثال مناسب على أن الإنسان المبدع لم ولن يكن أبدًا قانعًا بالبقاء ضحية للبيئة؛ ولكنه يستخدم إمكاناته الذاتية للإرادة والعقل لتغيير البيئة أيًّا كانت الظروف المحيطة.
وقد خاطب “فانون” من خلال كتاباته الكادحين المعذبين في الأرض، وبخاصة أصحاب البشرة السمراء منهم، وبالرغم من ذلك فإن أفكاره أصبحت حقائق يتداولها ويسترشد بها مفكرو اليوم ومنظري النخبة. ويرجع ذلك إلى أن أفكاره لم تكن أسيرةً لجغرافيا بعينها أو زمان بذاته، وإنما كانت نتاج دراسات وقراءات عميقة للاستعمار وأهدافه، وثمرة لرؤية وإدراك عميقين لمتطلبات إنهاء هذا الاستعمار والبحث عن مقومات لأجل نهضة حقيقية.
كان باستطاعة “فانون” أن يكون واحدًا من طبقة النخبة التي تشكلت من المثقفين السود الذين تلقوا تعليمًا جيدًا وتبناهم الاستعمار الفرنسي أنداك، لكن سماته الشخصية التي ميزته عن معاصريه دفعت به ليكون مفكرًا ثوريًّا ومناضلاً مستنيرًا، اختار أن يكون مكانه بين صفوف الثوار، وأن تكون أفكاره مرجعًا للمعذبين.
فقد كان “واحدًا من أهالي جزر المارتينيك التي كانت من أوائل الأقاليم التي سحقها الاستعمار بأقدامه وهو في طريقه إلى أمريكا”، فعانى مثلما عانى أقرانه المأساة الإنسانية الرهيبة. ثم تعلم في فرنسا متشربًا تراثها الغربي، فتأثر بوجودية “سارتر” (1905-1980م) Jean-Paul Sartre و”ميرلو بونتي” (1908-1961م) Maurice Merleau-Ponty و”كامو” (1913-1960م) Albert Camus، ثم عمل بالجزائر فشاهد الوجه الآخر للاستعمار وممارساته العنيفة.
عايش “فانون” كذلك في إفريقيا مرحلة الاستقلال الذي منحه الاستعمار لبعض الدول بعد أن وضع وكلاءه المحليين في سُدَّة الحكم؛ وفي شفق الاستقلال الإفريقي، ربما بدت مخاوف “فانون” مبالغًا فيها تمامًا. ولكن الأيام كانت كفيلة لتثبت لنا عدالة تقييمه وصدق تصوره. فلا يزال الملايين من الشعوب الإفريقية يتعرضون للقمع من قبل أنظمة الأقليات العنصرية؛ ولا يزال الملايين من الشباب والشابات يتذوقون تبعات الاستعمار من استنزاف للموارد ونهب للثروات؛ ويرى الملايين يوميًّا هروب الشباب والشابات مع تطلعاتهم إلى أوروبا متحملين الأهوال والصعاب أملاً في إيجاد فرصة للعيش أو العمل هناك، ويمتطون الأمواج العاتية وهم مجردون من الثقة والكرامة والشعور بقيمة الإنسان.
ثالثًا: المنطلقات والإسهامات الفكرية لـ”فانون”:
1- العنصرية والاستغلال الاقتصادي
إن أول لقاء حاسم لفانون مع بيئته كان من خلال إدراكه للونه الأسود في عالم يحكمه البيض، وبالتالي فإن قدرًا كبيرًا من إمكانياته وموارده طوال حياته سيكون مكرسًا للتصالح مع هذا الواقع غير المريح. لذا فخلال تجربته المبكرة في موطنه المارتينيك وأيضًا أثناء سنوات تدريبه الطبي والنفسي في العاصمة الفرنسية سيطرت حقيقة العنصرية تمامًا على كامل إدراكه للحياة فكرَّس لها قواه الفكرية الهائلة باعتبارها مسألة ذات أولوية يجب بحثها، وبحث ما يترتب عليها من تداعيات. فكان أول إسهامه الفكري كتاب “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء” (1952م) باللغة الفرنسية Peau Noire, Masques Blancs (والذي تم ترجمته إلى الإنجليزية باسم Black Skin, White Masks)، وقد صدر في العام الذي أعقب إكماله لدراساته الطبية.
واستطاع من خلال عمله الأول هذا أن يوثّق حقيقة العنصرية بشكل جيد؛ بما في ذلك كشفه للعديد من الأساليب الخبيثة التي تم من خلالها جعل السود يقبلون الخضوع والانصياع لفكرة الدونية العرقية داخل المستعمرات التي يهيمن عليها البيض.
واعتمد “فانون” بدرجة كبيرة على تدريبه النفسي لفهم ردود الأفعال العقلية لدى المواطن الأسود تجاه الأساطير والقوالب النمطية العرقية التي يصنعها الأبيض لنفسه؛ محاولاً استكشاف العملية المعقدة التي نحاها المستعمر الأبيض في تدمير منهجي لإحساس المواطن الأصلي بقيمته الشخصية؛ مما يؤدي في النهاية إلى الإذعان الضمني للمواطن الأصلي للصورة المتسامية للرجل الأبيض واعتبار اللون الأسود رمزًا للخطيئة وانعكاسًا للوحشية.
وقد كان “فانون” حاذقًا بما يكفي لإثبات أن علم النفس يخضع للقضايا الأوسع والأكثر واقعية لكل من الاقتصاد والسياسة؛ لذا فإن وضع المستعمر الأبيض للشخصية السوداء تحت ضغط الركود الاقتصادي بشكل دائم هو مجرد حيلة إمبريالية لتدمير ثقة الرجل الأسود بنفسه، ولإبقائه خاضعًا باستمرار للرجل الأبيض، ولإعطاء الرجل الأبيض الحرية الكاملة في استغلال موارد الرجل الأسود من عمل وموارد اقتصادية. لذا فإن العنصرية تخدم الاستغلال الاقتصادي والاستعباد السياسي.
إن عملية “تبدُّد الشخصية” depersonalization ونزع الصفة الإنسانية عن الرجل الأسود استطاع “فانون” تفسيرها وتوصيفها بدقة في قوله: “يسيطر الرجل الأبيض على ممتلكات وثروات الرجل الأسود، ولكي يحافظ على سيطرته على المستعمرات، ولمزيد من الاستفادة بثرواتها يضع الرجل الأسود تحت سيطرته الاستعمارية، لذلك عليه أن يجرد الأسود الخاضع للاستعمار من إنسانيته وينزع منه سلاحه ويغرس فيه الدونية العرقية وإيهامه بأن لونه نتاج لعنة الخطيئة؛ ليصبح الرجل الأسود منذ ذلك الحين في وضع لا يسمح له بالدفاع عن نفسه وممتلكاته؛ وتضمن ديناميكيات الموقف أن يصبح الرجل الأبيض ويظل سيدًا ومتفوقًا على الرجل الأسود؛ وكونه سيدًا ومتفوقًا فبإمكانه السيطرة على كل ثروات الرجل الأسود وممتلكاته وانتزاع مواده الخام ومعادنه وعمله. هذا الإذعان الضمني حين بدأ في صورة استغلال اقتصادي استوعبه الرجل الأسود وكأنه ناتج عن لون بشرته فأصبح يقول: أنا عديم الفائدة ولا أستحق أي شيء جيد لأنني أسود ملعون”.
وما أن تكتمل معضلة الأسود الخاضع للاستعمار؛ حتى يسعى هذا الأسود جاهدًا ليصبح مثل الرجل الأبيض كضرورة بنيوية للبقاء على قيد الحياة في عالم يحكمه الرجل الأبيض، بينما رغبة الرجل الأبيض ومصلحته في الاستغلال ألا يتم منح المواطن الأصلي أبدًا شهادة الكفاءة التي ستعفيه من عقدة النقص. إنه نفس الرجل الأبيض الذي يمتلك وحده الحكم على مدى نجاح المواطن الأصلي في استيعاب ما يكفي من الحضارة البيضاء ليكون مستحقًّا للاندماج. وبهذا يظل المواطن الأصلي بحاجة دائمة إلى الحكم الحضاري للسيد الأبيض، أو في أحسن الأحوال، يصبح كطفل مطيع ينتظر الإرشاد من بالغ؛ وهو بالطبع الوصي الأبيض. وفي كلتا الحالتين، فإن فرضية عدم المساواة باتت متجذرة بقوة لتشكل أرضية خصبة تضمن استغلال الأبيض للأسود.
2- الزنوجة من وجهة نظر “فانون”
بعد تشخيصه لأسباب العنصرية، شرع “فانون” في اقتراح العلاجات المناسبة لها؛ وتساءل وهو يطرح وجهة نظره بمداولات هادئة ومنطق متوازن: كيف يمكن للرجل الأسود أن ينتزع اعترافًا بإنسانيته من عالم غير راغب في هذا الاعتراف وأهميته؟
ولكي يجيب “فانون” على هذا التساؤل يتعين عليه في البداية عزل عدد من الحلول الخاطئة التي طرحها بعض السود ذوي النوايا الحسنة وأحيانًا المضللة. كان على رأسهم “المتنازلون” الذين يسعون إلى إجراء حوار مع الرجل الأبيض من منطلق عدالة قضية الرجل الأسود؛ وإقناعه بمستقبل يعيش فيه الأبيض والأسود على أساس من المساواة العرقية والاحترام المتبادل. هذا النهج من وجهة نظر “فانون” محكوم عليه بالفشل منذ البداية؛ “فوجود الرجل الأبيض في مستعمرة يحكمها البيض يقترن على الدوام بالسلطة والمكانة والثروة والتفوق. وليس هذا الاقتران رمزيًّا بل هو يضرب بجذور عميقة داخل البنية الاجتماعية” في الوقت الذي يظل فيه الرجل الأسود مفتونًا بنفايات الليبرالية المكدسة التي تتشدق ببعض العبارات مثل: “نحو إنسانية جديدة”، و”التفاهم بين البشر”، و”أنا أؤمن بك”… وغيرها الكثير. ونسي الرجل الأسود أو تناسى أن صناع هذه العبارات الجميلة هم أول المستفيدون من استغلاله.
ويعتقد “فانون” أن بمجرد أن يرفع الرجل الأسود هذه الشعارات التي لا معنًى لها، فإنها تعمل على تفريغه من إرادة الفعل والدافع، فلا يستطيع أن يحقق وعيًا كاملاً لتدهوره التام. وبدون وعي كامل لا يوجد عمل؛ وبدون عمل لا خلاص؛ حتى نصل في النهاية إلى “الأسود المستسلم”، وعلى نفس القدر من الفاعلية، يدعوا إلى أيديولوجية “الزنوجة” Negritude التي وصفها “جان بول سارتر” بأنها: “العنصرية المناهضة للعنصرية”.
ويقر “فانون” بأن “الزنوجة” هي رد فعل مفهوم على الغطرسة العرقية والثقافية للرجل الأبيض، لكنه يثير شكوكًا جدية حول قابليتها للحياة. فبعد إنكار دوره التاريخي، وتجريده من الحضارة، ومحاصرته في سترة من الأساطير والصور النمطية التي قدمها البيض منذ قرون؛ فقد الرجل الأسود ثقته العرقية وحافزه للإبداع داخل ثقافته الأصلية. ولاستعادة هذه الثقة المفقودة؛ يفترض منظرو “الزنوجة” استقلالية ونزاهة وكفاية الحضارة السوداء. وهو ما تم ترجمته في شكل مصطلحات نفسية جمالية، مما أدى إلى تبني “ليوبولد سينجور” Leopold Singhor و”إيمه سيزير” Aime Cesaire الوعي الأسود والأدب السريالي والروحانية؛ وطرحوا أفكارًا مثلت انقلابًا على أساطير ونمطية الرجل الأبيض الذي ادعى بوقاحة وبلا خجل بدائية ودونية الرجل الأسود متطلعًا إلى الهيمنة من خلال الترسيخ للاعتقاد بأن لا وجود إلا لحضارة واحدة ؛ وهي حضارة الأوروبيين.
ويعامل “فانون” الزنوجة بازدواجية؛ إذ يعترف بأساسها النفسي، ولكنه يرى كذلك أنها وسيلة عجزت عن التعامل مع اضطهاد الرجل الأبيض للزنجي. فالزنوجة من وجهة نظره حالة من التصوف يصفها بسلاح الضعيف ووسيلته للهروب من خلال العودة إلى الأصول والتأكيد على الحضارة السوداء؛ فمن الجيد أن يمتلك حضارة موغلة في القدم لا يمتلكها الرجل الأبيض.
ويرى “فانون” أن “الزنوجة” ما هي إلا نرجسية جرداء لا تكفي على الإطلاق لخلاص الرجل الأسود من العنصرية؛ فهي تتعامل مع العنصرية البيضاء عند مستوًى لا يسمح بالحصول على نتيجة؛ فهي تميل إلى الالتفاف حول السبب الحقيقي لهذه العنصرية، وهو رغبة الرجل الأبيض في استغلال الرجل الأسود اقتصاديا.
فلا عجب إذن أن الرجل الأبيض، الذي يعرف الطبيعة المضللة لأيديولوجية الزنوجة، أن ينهض بها وبنشاط كبير، ويقيم محافل دولية لنشرها، ويستثمر في دعاتها ويضعهم في مصاف رجال الدولة والفكر. فبينما يظهر العنصري الأبيض في مظهر القبول بالافتراضات الثقافية للزنوجة، يمضي قدمًا بلا هوادة كما كان دائمًا نحو الهيمنة على الحياة الاقتصادية للرجل الأسود واستغلالها. وبينما يعبّر الرجل الأسود عن أفكاره ويحتفل بعودته إلى ماضيه في مهرجاناته الفنية والثقافية، يقوم الرجل الأبيض “ببصيرة اجتماعية مزعومة” بنقل معادن الأول والمواد الخام والموارد الاقتصادية الأخرى إلى منزله الحضري من أجل تحسين مستوى معيشة شعبه المرتفعة بالفعل.
واستطاع فانون من خلال هذا التحليل أن يصل إلى نتيجة من وجهة نظره حتمية صاغها في قوله: “مهما يكن الأمر مؤلمًا بالنسبة لي لقبول هذا الاستنتاج، فأنا مضطر للقول: إنه بالنسبة للرجل الأسود، هناك مصير واحد فقط؛ هو أن يصبح رجلاً أبيض”.
إن استنتاج “فانون” لا يقصد به أن يظل الأسود حبيس سواده أو أن يسعى لإثبات أنه جيد مثله مثل الرجل الأبيض أو حتى أفضل منه في إنجازاته الثقافية. لكن بدلاً من ذلك، يجب على الرجل الأسود أن يدرك بعض الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والعلاقة المتبادلة بينهما؛ حيث يقول “فانون”: “يجب على الرجل الأسود أن يستعين بالآلات والمهارات والتقنيات التي طوّرها الرجل الأبيض واستخدمها للسيطرة على العالم. وعليه أن يفهم ديناميكيات الموقف الذي يواجهه. ويتحتم عليه كذلك أن يتعامل مع مشكلة تخلف مجتمعه الذي جعله مستباحًا على مدار قرون لاستغلال البيض”.
وهكذا، حث “فانون” أتباع “الزنوجة” على ضرورة إحداث تحول سريع في عالم الرجل الأسود بهدف إزالة الاضطهاد الذي يتعرض له؛ ووضعه في المكانة التي تسمح له بلعب دور إيجابي على المسرح العالمي؛ يقول “فانون”: “أحتاج الزنوجة التي تجعلني أتلمس بأصابعي كل ألم اتشح بالسواد”. وأكد في موضع آخر: “أعتقد أن الثقافة الحقيقية لا يمكن أن تتحقق في ظل الظروف الحالية؛ فسوف يحين الوقت للحديث عن العبقرية السوداء عندما يستعيد الرجل الأسود مكانه الصحيح”.
3- الحاجة إلى العمل الثوري
كانت حياة “فرانز فانون” نموًّا مستمرًّا، وامتدادًا وتعميقًا لأكثر أنواع الوعي الاجتماعي أهميةً وتأثيرًا في الفرد والجماعة؛ فقد رفض أن يكون أول أعماله “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء” منغلقًا على رقعة عرقية بعينها؛ واختار بدلاً من ذلك تبنّي قِيَم كونية مثل الحرية والإنسانية الحقيقية، فحين تحرّر من الجغرافيا الضيقة وخرج إلى الفضاء الواسع الفسيح؛ فهم أن الخطوة الأولى نحو التحرر الحقيقي للرجل الملون يجب أن تكون من خلال سعيه لإزالة الآثار المترتبة على العصاب العنصري للرجل الأبيض؛ من خلال سبر أعماق انحطاطه واضطهاده للرجل الأسود؛ لتكون المرحلة التالية معنية ببدء نضالات لسحق قوى الظلم والعنصرية.
وبعبارة أخرى، رأى “فانون” أن العمل الثوري هو السبيل الوحيد للخروج من المعضلة العرقية للرجل الأسود؛ من خلال الانتقال من مرحلة صنع الأساطير والقوالب النمطية إلى مرحلة المقاومة السرية والنضال الذي لا هوادة فيه. وقد منحت حرب الاستقلال الجزائرية “فانون” فرصة مدى الحياة لاختبار حقيقة هذه الأطروحات الثورية المبدئية.
ومن خلال تكليفه مِن قِبَل الإدارة الفرنسية برئاسة قسم الطب النفسي في مستشفى “بليدا جوينفيل”، بالقرب من “الجزائر” العاصمة، في عام 1953م؛ عاصر اندلاع الحرب الثورية الجزائرية في عام 1954م. ومع زوبعة العمل الثوري للشعب الجزائري ضد الأعمال الوحشية والقمع التي قام بها المستوطنون الفرنسيين أعاد إلى “فانون” الصورة النمطية للعنف الإمبريالي، وكذلك جمال وروعة نضال المضطهدين من أجل الكرامة والحرية. لتصبح الثورة مدرسة لإشباع فضوله النهم، ليصل إلى استنتاج سجَّله بأمانة في عمله الثاني المهم “استعمار يحتضر” L’An Cinq de la Revolution Algerienne (1959م) ترجم إلى الإنجليزية بعنوان: A Dying Colonialism.
وتحول ولاء “فانون” من العاصمة الفرنسية الإمبريالية إلى الشعب الجزائري المضطهد الذي اتخذ الطريق الثوري؛ الأمر الذي يبرر فرضيته المركزية القائلة بأن الرد على مشكلة القهر البشري تكمن ليس في الاحتجاجات المجردة للغضب الأخلاقي؛ ولكن في الانخراط المباشر في التدافع لإزاحة الظالم عن موقعه. ففي خطاب استقالته إلى الوزير الفرنسي في الجزائر، انتقد بشدة الإدارة وجهودها لتدمير إرادة الشعب الجزائري من خلال التشريعات القمعية والإرهاب؛ فكانت النتيجة إنشاء العديد من المستشفيات التي تقوم على العلاج النفسي للخاضعين للاستعمار؛ ورأى أنه من الحماقة ومن غير المجدي الاستمرار في محاولة علاج هذا العصاب. وعلق على ذلك قائلًا: “إن المجتمع الذي يدفع أفراده إلى الحلول اليائسة هو مجتمع غير قابل للحياة، مجتمع يجب استبداله”، وقال أيضًا: “إن أحداث الجزائر نتيجة منطقية لإجهاض محاولة كانت تهدف إلى تجريد الشعب من شخصيته”.
واستمر “فانون” في تسجيل انطباعاته عن تلك الحقبة الخطيرة والعاصفة في كتاب “استعمار يحتضر”، والذي يمثل أحد أكثر الكتب حيوية في مادته التي تشهد على واحدة من أسمى المساعي البشرية للنضال من أجل الحرية والكرامة الإنسانية. وبشكل مختصر يسجل الكتاب حقيقةً مفادها أن الاضطهاد الإمبريالي يمكن أن ينزل إلى أدنى مراتبه حتى يكون أدنى من مستوى البهيمية، وأن الأداة الرئيسية للإمبريالية هي العنف والإرهاب. وفي تناقض تام مع القدرة الشاملة والسلبية للقمع والعنف الإمبرياليين كانت هناك مقاومة منظمة لا هوادة فيها من قبل الشعب الجزائري؛ حيث تناقضت الإنسانية والكرم النبيل للمقاتلين من أجل الحرية بشكل حاد مع الوحشية اللاإنسانية للمستعمرين. ويستمر إسهاب “فانون” في التفاصيل الإيجابية للنضال الثوري للشعوب المضطهدة.
ويعطي “فانون” عددًا من الحقائق قدرًا أكبر من التركيز؛ حيث شدّد على حقيقة أن المقاومة الثورية في حالة الشعب الجزائري لها تأثير على تحرير موارده وطاقاته الكامنة؛ بعد أن عانى من الاستغلال والقهر. وأن تحرير الوعي من تبعات الخوف والألم والخرافات الفكرية يمهّد الطريق للشجاعة والتدافع والثورة المسلحة لتجعل تاريخ حركة المقاومة يُقرأ كما تُقرأ الملاحم البطولية التي تم تدوينها في العصور القديمة البعيدة.
ويدلي “فانون” بشهادته في كتابه “استعمار يحتضر” على عدم قابلية إرادة الجماهير للتدمير بمجرد تشكيلها وتثبيتها في النضال لأجل تطوير جميع آليات البقاء؛ إنها حركة مُعدية لكل شعب يخوض معركته ضد الاستعمار فيؤيدها ويتضامن معها. فالكفاح المسلح في رأيه يجنّد الجماهير على هدف واحد فيمتلئ وجدان كل فرد بالقضية المشتركة والمصير الواحد لتصبح مرحلة بناء الأمة هي الهدف الأسمى في مواجهة مستعمر يسعى إلى تجزئة وتمزيق المجتمع وبث الفرقة والخلافات الطائفية والإقليمية لتوطيد سيطرته واستدامة بقائه.
في كتابه “استعمار يحتضر”، وصل تصور فانون السياسي إلى مرحلة النضج، وهو الأمر الذي أهَّله للتحدث بسلطة عن موضوع الثورة؛ فقد كان شاهدًا على ذلك الارتباط العميق والثابت بين المضطهدين والخاضعين للاضطهاد، وهو السمة المميزة لجميع الثوريين الحقيقيين. لقد أقام علاقة روحانية كاملة مع الجماهير الجزائرية، بحيث أصبحت أحزان الجزائر أحزانه، ومخاوف الجزائر وقلقها مخاوفه وقلقه. كما أصبحت انتصارات الجزائر انتصاراته. ورأت فيه الجماهير الجزائرية الصديق الحقيقي والابن المتبنى؛ وردت على حبه وولائه بثقتها المطلقة بجعله كبير منظريها وسفيرها وصوتها في المحافل القومية.
4- الوحدة والتضامن القاري
كان “فانون” مهتمًّا للغاية بتحرير ليس الجزائر فحسب، بل تحرير القارة الإفريقية بأكملها أيضًا؛ فقد أخبرته غريزته الثورية أنه طالما بقي أيّ جزء من القارة تحت الحكم الأجنبي؛ فإن أي إنجازات تحققت في القارة عن طريق استقلال الدول يجب أن تمتد إلى الأجزاء الأخرى؛ حيث يقدم التاريخ الحديث لأوروبا دليلاً لا جدال فيه على انتصار السعي من أجل الحرية مِن قِبَل كل أولئك الذين أخذوا على عاتقهم بجدية تحدّي قوى القهر والإمبريالية. فقد أثار النظام النازي الخوف والكراهية في أوروبا من خلال قسوته الغادرة، بما في ذلك الإرهاب الجماعي والإبادة الجماعية؛ فلم تدمر الإرادة المشتركة لشعوب أوروبا الحرة النازية فحسب، بل حطمت أيضًا الأنظمة التي دعمتها. وبنفس الطريقة، رأى “فانون” الأمل في أن يتخلص الأفارقة من القيود الإمبريالية الفرنسية والإنجليزية والبرتغالية من خلال تدافع مشترك وحازم مِن قِبَل كل القارة، بل ومن خلال تضامن القوى البشرية التقدمية مع هذا التدافع.
وقد استحوذت وحدة القارة الإفريقية وتضامنها على اهتمام “فانون” عن كثب؛ فبحلول عام 1960م بدأت تظهر العديد من العلامات المزعجة؛ حيث بدأت التوجهات الانقسامية والشوفينية التي صاحبت استقلال عدد من البلدان في وحدة القارة والشعور بالهدف المشترك. إذ رأى “فانون” بقلق متزايد أن السياسيين من الطبقة الوسطى من مختلف البلدان الإفريقية حين ينتزعون الاستقلال يشرعون على الفور لعزل أنفسهم والتقوقع في غياهب النسيان التام لمحنة بقية القارة التي لا تزال تحت السيطرة الاستعمارية. ورأى “فانون” أنه ما لم تخلق القارة أفكارًا قويةً بما يكفي لتوحيد جهود الحكام الجدد في مسعى مشترك؛ فإن القارة ستكون ملزمة بخوض سلسلة من الحروب والاضطرابات القومية كالتي عصفت بغانا والسنغال، والصومال وإثيوبيا، والمغرب وموريتانيا، والكونغو بشقيها الديمقراطي والجمهورية.
ويرى “فانون” أن الكارثة الحقيقية التي قد تأتي في أعقاب الاستقلال الإفريقي تكمن في غياب الوحدة القارية والأيديولوجية المشتركة؛ وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى شل حركة القارة، ووقف أيّ جهد إضافي لإنهاء الاستعمار، وتشجيع القوى الإمبريالية السابقة على تنظيم نفسها للعودة إلى استعمار القارة من جديد.
ويعتقد “فانون” أن الأمل الوحيد للقارة هو “تبنّي الأيديولوجية الاشتراكية التي من شأنها أن تمنح القارة إطار عمل للوحدة وخلق شعور بالهدف المشترك والتضامن بين مختلف الشعوب والدول”؛ واعتبر أن “البديل للاشتراكية هو الصراع الداخلي المدمر وتفكك الثقة بين الطبقات الوسطى مصحوبًا بإضعاف تام للجماهير. ففي حالة أوروبا الشرقية في ظل عدم استقرارها المستوطن مثال حيّ؛ حيث وجدت أوروبا الشرقية الاستقرار فقط عندما تبنت مجموعة من الأفكار قوية بما يكفي لجذب مختلف الشعوب إليها للتفاهم والتعاون المشترك”؛ واعتبر أن “الاشتراكية في إفريقيا كما هو الحال في أوروبا الشرقية؛ ستوفر الزخم نحو الاستقرار والوحدة”. وإليكم تقييم فانون” للوضع في عام 1960م:
“لا يشكل الاستعمار ومشتقاته -في واقع الأمر- الأعداء الحاليين لإفريقيا؛ وإلا ففي وقت قصير سيتم تحرير هذه القارة. فمن ناحيتي؛ كلما تعمقت في الدخول في الثقافات والأوساط السياسية، كلما تأكدت من أن الخطر الأكبر الذي يهدد إفريقيا هو غياب الأيديولوجيا. فقد عانت أوروبا القديمة من الكد لعدة قرون قبل أن تكمل الوحدة الوطنية للدول… ومع انتصار الاشتراكية في أوروبا الشرقية، نشهد اختفاء مذهل للمنافسات القديمة للمطالبات الإقليمية التقليدية. فإن نواة الحروب والاغتيالات السياسية التي حدثت في بلغاريا والمجر وإستونيا وسلوفاكيا وألبانيا قد مهَّدت الطريق لعالم متماسك هدفه بناء مجتمع اشتراكي”.
ويعتقد فانون “أن الأمل الوحيد للقارة يكمن في أن تتعامل شعوب إفريقيا مع مشكلة الوحدة والتضامن من خلال السعي بشكل جماعي وثابت لتحقيق المصالح التي تتعلق برفاهية الشعوب الإفريقية؛ ومن أجل تحررهم الكامل: “لذا يجب أن يكون التضامن الإفريقي تضامنًا واقعيًّا في العمل، وتضامنًا ملموسًا في الرجال وفي المعدات وفي المال”.
“وإذا كانت إفريقيا تسعى إلى التحرر؛ فيجب عليها أن تعمل، ولا يغيب عن بالها وحدتها”. وبهذه الروح تم تبنّي واحدة من أهم النقاط في المؤتمر الأول للشعوب الإفريقية في أكرا عام 1958م؛ حيث نص على أن “الشعوب الإفريقية تتعهد بإنشاء ميليشيا يكون عليها واجب دعم الشعوب الإفريقية التي تكافح من أجل الاستقلال”.
وفي عام 1960م، قبل موته بدا “فانون” أكثر إلحاحًا في دعوته إلى الوحدة القارية والعمل المنسق ضد الاستعمار والإمبريالية؛ وظل يدعو إلى التعبئة الفورية، والضغط بلا هوادة في ظل تراجع الاستعمار. لكنَّ الموت كان أسرع إليه من أمنياته؛ وبعد عقد من الزمن، ذهب “فانون” وتلاشى الشعور بالإلحاح؛ فعاد المستعمرون بثوب جديد في صورة الحاملين “للمساعدات الاقتصادية”، و”المستثمرين الأجانب”، و”الخبراء والمستشارين” في وجود حكام أفارقة يرحبون بالمنتج الجديد من الاستعمار؛ فإذا حاولوا إظهار شيء من الاستياء سيتم جرفهم وإزاحتهم بانقلاب يستبدل دمًى بدمى أكثر مرونة. وأما بالنسبة لرؤية الوحدة القارية والتحرر، فكيف يمكن لها أن تستمر في حين أن أولئك الذين يحكمون القارة ليسوا حتى أسيادًا داخل أوطانهم. ومنذ ذلك الحين تم إنشاء “منظمة الوحدة الإفريقية” The Organization of African Unity بالطبع، ولكن مثلها مثل “مجلس العموم الألماني” pan-German assembly في القرن التاسع عشر؛ لم تكن أكثر من “بيت للتصريحات”؛ يستمر في إصدار أطنان من القرارات في مؤتمرات القمة السنوية للمنظمة، وإنتاج جبال من الخطب من قبل جميع أنواع الخطباء في المؤتمرات، والتي يذهب معظمها لإثبات عجز القارة.
وإيمانًا بأفكار “فانون” الثورية التي دعت إلى ثورة إفريقية جامعة، تم تجميع تأملات فانون وأفكاره حول هذا الموضوع في عام 1961م في كتاب تحت عنوان “لأجل الثورة الإفريقية” والذي تم ترجمته إلى اللغة العربية في عام 1964م.
5- التعبئة العسكرية (إعادة تنظيم الصفوف)
توفّي “فانون” وقد أرهقته مجهوداته الفكرية وعمله النضالي؛ ربما نجا من الموت في ميادين القتال، لكن السرطان باغته من حيث لا يدري؛ وربما كتب له النجاة إذا تلقى علاجًا طبيًّا سريعًا؛ لكن التزاماته الجسدية والفكرية تجاه الثورة لم تسمح له بالتفكير في نفسه. وبصفته سفيرًا متجولاً للثورة، كان منشغلاً بمشكلة فتح طريق جنوبي لتزويد مقاتلي الحرية الجزائريين؛ حيث شدد الفرنسيون دورياتهم على الحدود بين الجزائر والمغرب وتونس. وعلاوة على ذلك، كان “فانون” يعمل باجتهاد لإكمال كتابه “مُعذّبو الأرض” Les Damnes de la Terre )المترجم إلى الإنجليزية بعنوان The Wretched of the Earth ، الذي جمع فيه أطروحاته الثورية معًا ووطدها. ويحتوي هذا الكتاب على أكثر التصريحات موثوقية حول موضوع الثورة المناهضة للاستعمار، وينظر إليه أحيانًا على أنه “إنجيل الثورة الإفريقية” و”صوت العالم الثالث”.
كانت أطروحة “فانون” الافتتاحية في كتابه “مُعذّبو الأرض” هي: “أن العنف والقوة المنظمة ضروريان في النضال ضد الاستعمار. والبديل الذي يحول دون وقوع مقاومة مسلحة هو في نظره خدعة وخيال”.
ويتجلى منطق هذه الأطروحة فيما تبنَّاه “فانون” بأن الوضع الاستعماري قد تم إنشاؤه واستدامته من خلال تطبيق منهجي ومتواصل للقوة والعنف الجسدي؛ وهو ما أشار إليه “فانون” بقوله: “استغل المستعمرون تفوقهم الحصري للقوة التكنولوجية والعسكرية للتغلب على السكان الأصليين وإخضاعهم؛ واستخدموا في سبيل ذلك القوة والإكراه الجسدي لتهدئة الأراضي الاستعمارية؛ وبعد التهدئة، استخدمت الإدارة الاستعمارية احتكارها للقوة المتفوقة (الجيش الاستعماري النظامي، وقوات الشرطة، وحراس السجون، والميليشيات الاستعمارية) لإبقاء الشعب الخاضع للاستعمار محبطًا لضمان السيطرة السياسية والاقتصادية باستمرار”.
ويصف “فانون” هيمنة العنف بلغة درامية بقوله: “العالم الاستعماري هو عالم مقطوع إلى قسمين. الخط الفاصل والحدود موضحة بالثكنات ومراكز الشرطة؛ في المستعمرات يكون الشرطي والجندي هم المسؤولين، والوسطاء، والمتحدثين باسم المستوطن وحكمه القمعي”. ورأى أن لزعزعة النظام الاستعماري الذي تم التحوط عليه بالمعاقبة بالقوة والعنف الجسدي، فلا شيء يبدو منطقيًّا في التعامل معه أكثر من تلك القوة والعنف الجسدي”.
ويسخر “فانون” من مدرسة الفكر التي تدعو إلى ثورة غير دموية من أجل نيل الاستقلال “على طبق من ذهب”. حيث الحصول على الاستقلال بعد حوار سريع ومحدود بين المستعمرين والسياسيين الوطنيين من الطبقة الوسطى، كما هو الحال في معظم البلدان الإفريقية، لكن النتيجة كانت بمثابة كارثة على القارة. فالحقيقة أنه باستثناء الكفاح المسلح، فإن النمط الذي تطور في إفريقيا هو مجرد سيطرة الطبقات الوسطى على السلطة السياسية؛ حيث شرعت في إدارة الدولة بالطريقة نفسها التي فعلها الإمبرياليون المغادرون من قبلهم، مسلحين بدعم التشريعات القمعية الاستعمارية نفسها، ومستخدمين نفس أدوات الإكراه لضمان دوام مناصبهم، ومتحاشين اضطراب الهيكل البيروقراطي قدر الإمكان، فلم تتغير المقاصد والأهداف الإمبريالية ولكن الذي تغير هو لون الحكام، فاستبدل الأبيض بغيره أسود.
وفي مواجهة ذلك شدد “فانون” على ضرورة التعبئة الكاملة للشعب بكل فئاته أثناء النضال ضد الاضطهاد، وفي عصر البناء الوطني الذي يليه؛ ورأى أن التعبئة الكاملة هي النهج السياسي المعقول والوحيد في إفريقيا، وواقعيا في العالم الثالث بأسره. أو بعبارة أخرى؛ يجب على الحركة الثورية، أن تكون تجسيدًا لكل فئات الشعب. لكن هذا لا يمنع وجود قيادة واضحة المعالم؛ تشارك الشعب في رسالته وتطلعاته ويزودون الحركة بالتوجيه والإرشاد.
لكنه عاد وأكد على معارضته القوية وبشكل قاطع تشكيل برجوازية وطنية وطائفة متميزة؛ ودعا في مواجهة ذلك إلى تثقيف الجماهير سياسيًّا لتشكيل أمة حقيقية يتساوى فيها كل فئات المجتمع؛ وليصبح تاريخ الأمة جزءًا من التجربة الشخصية لكل من مواطنيها.
رابعًا: الدلالات الفكرية لـ”فانون”:
على الرغم من التقليل من شأنه في كثير من الأحيان من قبل منتقديه الأوروبيين، إلا أنه من السهل التأكد من خلال نشاطه وحضوره للمؤتمرات وانشغاله بالقضايا القارية أنه من أتباع الوحدة الإفريقية. ومع ذلك، كانت نزعته الإفريقية في كثير من الأحيان على خلاف مع العديد من القادة الأكثر توجهًا نحو القومية في عصره. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن “فانون” لم يكن من الشخصيات المولعة بأيديولوجية معينة، إلا أنه كان على استعداد لتكريس حياته لنضال تحرير هدفه النهائي تخليص القارة من الاستعمار والعبودية.
ولكن من الأمور التي يمكن ملاحظتها؛ هي أن “فانون” كان شخصية معقدة ومركبة، جعلت البعض يتجاهل مشاركته الدقيقة في نشاطات الجامعة الإفريقية، وإشاراته الإيجابية في كتاباته للاشتراكية الإفريقية، وتبنيه للقومية الجزائرية؛ لكنهم على العكس من ذلك ذهبوا إلى قولبة “فانون” بخبث في المركزية الأوروبية، أو التركيز على تبنّيه للعنف كآلية من آليات التغيير.
وتكشف كتب “فانون” الأربعة – “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء” Black Skin, White Masks، و”استعمار يحتضر” A Dying Colonialism، و”مُعذّبو الأرض” The Wretched of the Earth، و”لأجل الثورة الإفريقية” Toward the African Revolution عن مفكر ديالكتيكي ومنظّر نقدي يتمتع بعمق ورؤية غير عادية، لا سيما فيما يتعلق بالقضايا التي تنطوي على التفوق المفترض لأوروبا والبيض والدونية المزعومة للسود؛ والعنصرية والتمييز على أساس العرق والاستعمار، والاستعمار الجديد؛ وتقرير المصير الثوري والإنهاء الثوري للاستعمار؛ وطبيعة القومية الثورية وترابطها مع الإنسانية الثورية؛ والعنف الاستعماري والعنف المناهض للاستعمار؛ والوعي القومي والثقافة الوطنية والتحرر الوطني؛ وسيكولوجية كل من المستعمر والخاضع للاستعمار، وآفاق وإشكاليات الدولة الإفريقية ما بعد الاستعمار.
وانطلاقًا من إصراره على أن “المناضلين من أجل الحرية والقادة الوطنيين يجب أن يتبنوا كل أشكال النضال، حيث لا يمكنهم الاعتماد على المفاوضات السلمية وحدها؛ وُلِدَ مشروع “الفيلق الإفريقي” African Legion؛ والذي غالبًا ما يتم التغاضي عن ذكره في التعليق -النقدي وغير ذلك -على “فانون”، لكن “ماسي” أكد على أن “فكرة الفيلق الإفريقي تعني الكثير بالنسبة لـفانون”. وهي الفكرة التي تؤكد تبنّيه لمقاومة الظلم والقهر أيًّا كان موضعه أو زمانه؛ وأن العنف الذي قصده كان بهدف الرد على استعمار الأرض واغتصاب الحق بالقوة مِن قِبَل المستعمر والقوة الغاصبة؛ ففي مقال له بعنوان “أكرا: إفريقيا تؤكد وحدتها وتحدد استراتيجيتها” “1958م” Accra : Africa Affirms Its Unity and Defines Its Strategy، كتب: “في المستعمرات الاستيطانية مثل كينيا والجزائر وجنوب إفريقيا، هناك إجماع بأن الكفاح المسلح وحده هو الذي سيؤدي إلى هزيمة الاستعمار. وأن الفيلق الإفريقي الذي تم تبنّي مبدأه في أكرا، هو استجابة ملموسة لإرادة الشعوب الإفريقية في مواجهة الهيمنة الاستعمارية للأوروبيين”. وعند اتخاذ القرار بإنشاء فريق من المتطوعين في جميع الأراضي، فإن الشعوب الإفريقية تعني بوضوح إظهار تضامنها مع بعضها البعض، مما يعني إدراك أن التحرر الوطني مرتبط بتحرير القارة”.
ومما لا شك فيه أن “فانون” قد أثَّر بعمق في الفكر الإفريقي في القرنين العشرين والحادي والعشرين بشأن العنصرية والاستعمار، بصرف النظر عما إذا كان قراءه يفهمون أنه كان كاريبيًّا أو إفريقيًّا أو فرنسيًّا -أو بعض التوليفات لكل مما سبق ذكره- فمن المهم للغاية التأكيد على أنه أراد قبل كل شيء أن ينظر إليه على أنه مجرد إنسان.
ومع ذلك “فإننا أبناء الجغرافيا والتاريخ” كما يقول الفيلسوف الإثيوبي “تيودروس كيروس” Teodros Kiros. فبغض النظر عن مكان مولده أو المكان الذي عاش فيه يظل “فانون” إفريقيًّا أسود. لكنه يظل كما وصفه “كيروس” بأنه: “كاتب بارع، وأحد أعظم المفكرين الثوريين في القرن العشرين”. ولا يزال يحتل مكانةً خاصة في قلوب وعقول الراديكاليين السود والقوميين الثوريين وألبان أفريكانيزم فقد كان حسبما وصفه “كيروس”: “إفريقيّ لم يقسم إفريقيّا إلى شمال وجنوب، وعلى العكس من ذلك كان يذكر الجزائريين بإفريقيتهم، وغيرهم من الأفارقة من شمال القارة. كما كانت أنشطته وكتاباته بمثابة المرشد والموجّه لرواد الجامعة الإفريقية”.
إذاً؛ لم يكن فانون ضد استعمار الشعوب الإفريقية والقارة الإفريقية فحسب، بل كان أيضًا ضد استعمار الفكر الإفريقي، وهو ما أسماه في كتابه “مُعذّبو الأرض” بـ”عنصرية الفكر”. لذا فهو الكاتب الرئيسي الوحيد الذي حاول التعامل مع مشاكل التحرُّر الوطني والثورة الاجتماعية من وجهة نظر علم النفس المرضي. هذا وحده يميزه عن غيره من المنظرين السياسيين المعاصرين له؛ حيث حاول أن يخرج عن المسارات الموضوعة مسبقًا لإشكاليات اللون والعرق والقومية من خلال دمج هذه القضايا مع النفسانية الاجتماعية للمجتمعات الخاضعة للاستعمار؛ وهو ما يَخْلُق صعوبات كبيرة في تفسير أعماله.
وختامًا:
كان “فرانز فانون” محللاً نفسيًّا استخدم كلاً من أبحاثه السريرية وتجربته الحية لكونه رجلاً أسود في عالم عنصري لتحليل آثار العنصرية على الأفراد -لا سيما على الأشخاص الملونين– وكذلك الآثار الاقتصادية والنفسية للإمبريالية. وهو مفكر مهم كذلك في الفكر ما بعد الاستعمار وفكر الاستعمار، وكان لعمله تأثير واسع النطاق عبر العلوم الاجتماعية والإنسانية.
وقد استطاع كرجل أسود -رفض أن يرتدي أي أقنعة بيضاء- تحليل سيكولوجية الاستعمار لكيفية استيعاب الاستعمار من قبل الخاضعين له والأيديولوجيات المصاحبة له، وكيف تستوعب الشعوب الخاضعة للاستعمار بدورها فكرة الدونية وتتجه في النهاية إلى محاكاة مضطهديهم؛ حيث تعمل العنصرية هنا كآلية تحكم تستطيع أن تحافظ على العلاقات الاستعمارية كأحداث طبيعية.
ورأى في رفض الشعب الجزائري الاستسلام والتحول إلى الصدام، واستخدام القوة المسلحة إلى جعل الاستعمار يحتضر؛ وهو الأمر الذي أضعف الحكومة الاستعمارية في نهاية المطاف. واستطاع بهذه المناقشة الفلسفية أن يشرح معنى وطبيعة الصراع وما قد يأتي بعده.
ومع وضع نضال الجزائر من أجل الاستقلال في الاعتبار؛ استطاع أيضًا أن يقدم تحليلاً اجتماعيًّا نفسيًّا للاستعمار، محاولاً التأكيد على أن هناك ثمة علاقة عميقة بين الاستعمار والعقل، وكذلك بين الحرب الاستعمارية والأمراض العقلية، فطالب كلّ مُعذَّبي الأرض من المظلومين بتبنّي ثورة مسلحة ضد السيطرة الاستعمارية؛ مطالبًا بالجمع بين هذه النضالات وإعادة بناء الثقافة الوطنية، وبهذا المعنى يُعتبر فانون قوميًّا إفريقيًّا ناضل الاستعمار بقلمه وواجهه في الميدان.
__________
أهم المراجع المستخدمة في البحث:
Drabinski, John, “Frantz Fanon”, The Stanford Encyclopedia of Philosophy (Spring 2019 Edition), Edward N. Zalta (ed.)
Macey, David. Frantz Fanon: a biography. Verso Books, 2012.
“Frantz Fanon (1925—1961),” by Tracey Nicholls, The Internet Encyclopedia of Philosophy, ISSN 2161-0002, https://iep.utm.edu/fanon/, 13/12/2021.
McCulloch, Jock. Black soul, white artifact: Fanon’s clinical psychology and social theory. Cambridge University Press, 2002.
Obiechina, Emmanuel. “Frantz Fanon.” Ufahamu: A Journal of African Studies 3.2 (1972).
Fanon, Frantz. A dying colonialism. Grove/Atlantic, Inc., 1994.
Fanon, Frantz. Black skin, white masks. Grove press, 2008.
Fanon, Frantz. The wretched of the earth. Grove/Atlantic, Inc., 2007.
Fanon, Frantz. Toward the African revolution: Political essays. Grove Press, 1988.
Fanon, Frantz. “Accra: Africa Affirms Its Unity and Defines Its Strategy.” Toward the African Revolution (1964): 153-157.