في رحلة جديدة ستكون مدتها سبع سنوات, فاز بول كاغامى في الانتخابات الرئاسية التي اتفق كل الاستطلاعات أنه هو الفائز فيها, لتكون النتيجة النهائية أن حصل على فترة ولاية ثالثة لقيادة الدولة الصغيرة الواقعة في شرق أفريقيا.
وقد شهدت شوارع رواندا احتفالات عارمة بعد إعلان السلطات الانتخابية أن بول كاغامي حصل على أكثر من 98 فى المائة من الأصوات بعد فرز 80 فى المائة من مجموع الأصوات.
أما كاغامي, فقد تحدث بدوره لمؤيديه في مقر حزبه وهو يحثّ الروانديين – بمن فيهم معارضوه، على العمل معا, مع استغلال الفرصة لردّ المنتقدين.
“هذه الانتخابات انتُقدت كثيرا لأنني أواصل قيادتكم و (تأتي هذه الانتقادات) خصوصا (من) الناس خارج البلاد لأنهم يعارضون إرادة الروانديين,” يقول كاغامي.
وأضاف “لكن الروانديين أظهروا أنه لم يتم التلاعب بها من قبل أي شخص إلا (إذا حصل التلاعب) في إرادتهم”.
فمن هو هذا الزعيم الرواندي الذي يجمع بين ثناء تطوير وبناء بلاده وبين التنديدات لإسكاته المعارضيه..؟
ولادة من أسرة ملكية:
ولد بول كاغامي في أكتوبر 1957، في “تامبو”، وهي قرية تقع في المنطقة الجنوبية الحديثة من رواندا. وكان والده، ديوغراتياس، عضوا في مجموعة التوتسي العرقية، التي كانت العائلة الملكية قد اشتقت منها قبل القرن الثامن عشر.
وعلى الرغم من أن لوالد كاغامي علاقات عائلية مع الملك موتارا الثالث (ملك رواندا من 1931-1959)، لكنه اختار مواصلة مهنة تجارية مستقلة بدلا من الحفاظ على اتصال وثيق بالحكم الملكي. كما أن والدة كاغامى، استيريا روتاغامبوا، تنتمي إلى عرقية التوتسي، وتنحدر من عائلة الملكة الرواندية الأخيرة، روزالي جيكاندا (زوجة الملك الرواندي موتارا الثالث).
جاءت ولادة كاغامي، في الوقت الذي كانت رواندا إقليما تابعا للأمم المتحدة؛ ولا تزال سلطة الاحتلال البلجيكية تحكم أراضيها بتفويض الإشراف على الاستقلال.
وكان الروانديون يتألفون من ثلاث مجموعات عرقية رئيسية: الأقلية التوتسية – وهي الطبقة الحاكمة تقليديا تحظى بدعم البلجيكيين، في حين أن الأغلبية الهوتو كانوا مزارعين.
أما المجموعة الثالثة، وهي “توا”، فكانت من “البيغمي” (مصطلح يستخدمها الأنتروبولوجيون للأفراد الذين لا يزيد طول قامة الذكر البالغ فيهم على 130 سم، والمرأة البالغة على 121 سم), وهم الذين ينحدرون من سكان رواندا الأوائل، وشكلوا أقل من 1 في المائة من عدد السكان.
تصاعدت حدة التوتر بين التوتسي والهوتو في الخمسينات، وبلغت ذروتها في الثورة الرواندية عام 1959. حيث بدأ نشطاء الهوتو يقتلون التوتسيين، مما أدى إلى نزوح أكثر من 100 ألف لاجئ إلى الدول المجاورة.
كانت عائلة كاغامي مضطرة إلى الفرار من رواندا بعد عامين من ولادته بسبب العنف الممنهج – رغم الصلات النخبوية الملكية. وكانت لهذه التجربة المبكرة آثارها في تكوين شخصية كاغامي وحياته حتى منتصف عام 1994. كما أن النزوح من رواند يعني أن كاغامى انفصل عن أشقائه طوال حياته المبكرة؛ حيث غادرت اثنتان من أخواته البلاد إلى إيطاليا بينما توفي شقيقه في حادث سيارة.
طفولة لاجئ:
بعد قضاء بعض الوقت في جمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي، فشلت محاولة الأسرة للعودة إلي رواندا بسبب التقلبات الطائفية السياسية والعنف. وفي البحث عن الاستقرار للحياة الطبيعية، أخذه والداه في عام 1960 إلى أوغندا، حيث وطنهم الجديد الذي مكثوا فيه فترة طويلة في منطقة “تورو” في مخيم “نشونجيريزي” للاجئين.
لقد ساهمت الثورة الرواندية في عام 1959 في عملية التعريف بمجموعة من اللاجئين التوتسي – مثل كاغامي – الذين فروا إلى أوغندا وأصبحوا يعرفون باسم ” ers59″.
وفي أوغندا, التحق كاغامي بالمدرسة لتعلم اللغة الإنجليزية، ثم واصل تعليمه في مدرسة حكومية محلية في “نتاري” حيث نتائجه الدراسية عالية جدا ومتفوقة – ولكنه كَرُوانديّ في مجموعة ” ers59″ لم يمنح جنسية أوغندا، وبالتالي لم يكن مؤهلا للحصول على منحة للالتحاق بالمدرسة الثانوية. ومع ذلك فقد استفاد من مساعدة مالية من صديق عائلي مقيم في بلجيكا والذي مكنه من مواصلة دراسته.
وكما لخص بول كاغامي هذا الشعور بالاغتراب في المجتمع الأوغندي وقتذاك في مقابلة له قائلا: “التقدم المهني للروانديين مقيّد في أوغندا. كانت هناك قيود على تقدمنا,” وفق ما جاء في سيرة “كولن ووغ” بعنوان: “بول كاغامي ورواندا”. ولكن كاغامى أكّد أيضا أنه “لن يقبل أبدا الجنسية الأوغندية… أردت أن أكون روانديا”.
زيارات إلى أرض الولادة:
بعد الانتهاء من دراسته, قام كاغامي بزيارتين إلى رواندا في عامي 1977 و 1978. واستضافه في البداية أفراد من زملائه السابقين، ولكنه أجرى اتصالات مع أفراد أسرته بعد وصوله إلى كيغالي. وكان متخفيا في هذه الزيارات بسبب وضعه كمنفي من التوتسي والذي قد يؤدي – في أحسن الحال – إلى الاعتقال.
وفي زيارته الثانية, دخل كاغامي رواندا عن طريق زائير (الكونغو الديمقراطية) بدلا من أوغندا لتجنب التشكيك والقبض عليه. واستغل وقته في رواندا لاستكشاف البلاد، والتعرف على الوضع السياسي والاجتماعي، وإجراء اتصالات من شأنها أن تكون مفيدة له في أنشطته اللاحقة.
وعلى حدّ تعبير بول كاغامي في سنوات لاحقة عندما تطرق لغرض هذه الزيارات، أشار إلى أنه يبحث عن هويته كرواندي: “لم أكن متأكدا مما كنت أفعله، وأردت أن أعرف شيئا وربما البناء على ذلك الشيء”، بحسب ما نقله “ووغ” في كتابه.
تشكيل الوعي السياسي والتجنيد العسكري:
من خلال علاقته في مدرسة “نتاري”, التقى كاغامي بزميله في الدراسة والناشط الأوغندي المحلي “يويري موسيفيني” – الذي أصبح فيما بعد رئيسا لأوغندا في عام 1986. وكان لهذا الاجتماع دوره في تشكيل الوعي السياسي والتنمية العسكرية المهنية في كاغامي, حيث أقنع موسيفينى بول كاغامى بمظالم الحكومة الأوغندية حينها, ثم جنّده في نهاية السبعينيات لينضم إلى النضال ضد النظام في قاعدتهم بتنزانيا.
وفي أوائل عام 1981، قام جيش المقاومة الوطني (NRA) التابعة لـ”موسيفيني” بأول ضربة عسكرية ضد الدولة الأوغندية. وكان كاغامى من بين هذه الفرقة الصغيرة المكونة من 27 مقاتلا بالإضافة الى رواندي آخر – وهو “فريد رويجيما” الذى كان صديق كاغامي القديم من مخيمات اللاجئين. وعلى مدى عدة سنوات, كان كاغامي ضابط مخابرات في جيش المقاومة الوطني, وقام بجمع المعلومات في المناطق الريفية – وهو دور محوري في حرب العصابات مع عدد قليل نسبيا من القوات.
عند الاستيلاء على السلطة بأوغندا في عام 1986، شغل “كاغامي” و “رويغيما” مناصب عليا في جيش المقاومة الوطني، وفي عام 1987 أصبح “رويغيما” نائبا لوزير الدفاع في كمبالا، في حين عُيّن “كاغامي” رئيسا بالنيابة للمخابرات العسكرية لدى جيش المقاومة الوطني.
وكما قال أحد قادة الجبهة الوطنية الرواندية: “إذا تمكنتْ حركة المقاومة الوطنية (الجناح السياسي لجيش المقاومة الوطني) من تحرير أوغندا، بدأت الجبهة الوطنية الرواندية تسأل نفسها لماذا لا تستطيع هي أن تفعل الشيء نفسه في رواندا,” بحسب ما نقله المؤلف الأوغندي محمود مامداني في كتابه بعنوان: “عندما يصبح الضحايا قتلة: الكولونيالية, عداء للمهاجرين والإبادة الجماعية في رواندا”.
اختار الرئيس موسيفينى بعد ذلك بول كاغامى للمشاركة في دورة تدريبية مدتها تسعة أشهر في كوبا, ثم أرسله في عام 1989 إلى ولاية كانساس الأمريكية ليشارك في دورة التدريب المشتركة التبادلية التي أقامها الجيش الأمريكي في “فورت ليفينوورث”. وقد تزوج كاغامي زوجته “جانيت نيرامونجي” في عام 1989, ورزقا فيما بعد بأربعة أطفال.
قيادة الجبهة الوطنية إلى الهزيمة ورئاسة رواندا:
حاولت الجبهة الوطنية الرواندية – التي شكلها كاغامى وثلاثة آخرين من القادة العسكريين الروانديين المغتربين – بشن هجوم على وطنهم في عام 1990، بينما كان كاغامي يتدرب في فورت ليفينوورث. وشارك في هذا الهجوم معظم قدامى المحاربين التوتسي في الجيش الأوغندي – لكنهم فشلوا في هذه العملية, وقتل فيها الأعضاء الثلاثة من قيادة الجبهة.
وتولى كاغامى توجيه الحرب الأهلية التي تم تعليقها في أغسطس 1993 بسبب اتفاق سلام يتعهد باقتسام السلطة، لكن هذا الاتفاق لم يحظَ بالتنفيذ.
وفي أبريل 1994، قُتل الرئيس الرواندي “جوفينال هابياريمانا” – وهو من الهوتو, وذلك عندما أُسقطت طائرته فوق كيغالى, مما أثار حملة إبادة جماعية ضد التوتسي وحلفائهم المعتدلين من الهوتو. وردًّا على ذلك، قاد كاغامى قوة تتراوح بين 10 آلاف و 14 ألف جندي من الجبهة الوطنية الرواندية ضد قوات الهوتو التى ارتكبت جريمة الإبادة الجماعية.
وبتجنب الهجمات المباشرة والاستفادة من الهجمات المدفعية الممتدة على معاقل العدو، تمكنت قوات كاغامي من التقليل من الإصابات واستعادة العاصمة كيغالي في أوائل يوليو. إلا أنه بحلول ذلك الوقت، قد قتل أكثر من 800 ألف شخص في الإبادة الجماعية.
شكلّت الجبهة حكومة جديدة برئاسة “باستور بيزيمونغو” – وهو من الهوتو، غير أن السلطة الحقيقية بيد كاغامي الذي تولّى في سن الـ 37 منصب نائب الرئيس ووزير الدفاع. وفى عام 2000 انتخب المجلس الوطني الرواندي كاغامي رئيسا للحكومة الانتقالية.
في عام 2003 خلال حملته الرئاسية، وصف كاغامي نفسه بأنه رواندي بدلا من توتسيّ, محاولاً التقليص من الصراع العرقي الموجود في البلاد. وحاز كاغامى – الذى أشارت التقارير إلى أنه لجأ إلى تكتيكات الحملة العدوانية ضد منافسيه الهوتو، واعتقال مؤيدي المعارضين وإجبار بعض المرشحين على الانسحاب من السباق – على فوز ساحق في أول انتخابات متعددة الأحزاب في البلاد.
وأدى اليمين الدستورية في منصبه في 12 سبتمبر عام 2003، لتنتهي بذلك فترة الحكومة الانتقالية التي استمرت تسع سنوات. وكان التركيز الأساسي لرئاسته بناء الوحدة الوطنية والاقتصاد – وقد نجح في ذلك نسبيا رغم التحديات.
منذ توليه للسلطة في عام 2003 إلى اليوم, توالت ادعاءات الاغتيالات والفساد ضد نظام كاغامي، وهي ادعاءات يقول بعض المحللين أن وراءها دوافع سياسية. كما أن المعارضة المحلية والأجنبية تتزايد بشكل كبير، بمن فيهم المنشقون عن الجبهة الوطنية الرواندية.
وعلى الرغم من أن كاغامي قد حارب ضد الصعاب، وتمكن من أن يقود فترة من السلام النسبي والاستقرار وإعادة البناء في رواندا بعد الإبادة الجماعية. إلا أن نجاح الفترة الجديدة التي فاز بها في هذه الانتخابات الأخيرة (انتخابات 4 أغسطس 2017) يتوقف على ما إذا كان بإمكانه الحفاظ على الاتجاه الإيجابي لسلطته ومدى استعداده للانتقادات الحادة القادمة وما ستقدمه الأيام المقبلة.