تستقبل إريتريا عقدها الرابع خلال العام الجاري (2023م)، وسط سياق عام داخلي متأزم على كل المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية، والمستمر بكل حال على مدار العقود الثلاثة الأخيرة منذ نَيْل الدولة الإريترية استقلالها عن إثيوبيا في 24 مايو 1993م، وصعود الرئيس أسياس أفورقي إلى سُدَّة السلطة في البلاد التي لم تَعرف رئيسًا غيره.
فهي لم تشهد أيّ انتخابات عامة منذ ذلك اليوم. مما يعكس نجاح أفورقي في إحكام قبضته الشديدة وسيطرته على مفاصل الدولة والمجتمع الإريتري طوال السنوات الثلاثين الماضية. وهو ما أسهم في النظرة السلبية التي كوّنها المجتمع الدولي عن إريتريا؛ على أنها دولة هشّة في القرن الإفريقي لا يمكن الاعتماد عليها أو الوثوق بها، خاصةً أنها تخضع لعُزلة إقليمية ودولية منذ أكثر من عقد بفعل السياسات العدائية التي يتبنَّاها أفورقي تجاه الإقليم والمجتمع الدولي، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
ويظل التساؤل الأبرز خلال السنوات الأخيرة حول مرحلة ما بعد أفورقي في إريتريا: هل من الممكن أن تتجاوز إريتريا حقبة أفورقي وتتحول إلى دولة ديمقراطية منفتحة على الجميع ووجهة لعودة الشتات الإريتري من دول العالم المختلفة؟
أولًا: ملامح عامة حول الحقبة الأفورقية منذ الاستقلال
لم تكن تجربة إريتريا بعد الاستقلال -باعتبارها أحدث الدول الإفريقية التي نالت استقلالها قبل استقلال جنوب السودان في عام 2011م- ناجحةً؛ بسبب سياسات الرئيس أفورقي التي تحوَّلت إلى سياسة إقصائية مكَّنته من الاستيلاء شبه الكامل على الدولة الإريترية، بما في ذلك الأنشطة الاقتصادية على مدار السنوات الماضية.
ويمكن الإشارة إلى أبرز الملامح العامة للسياق العام الإريتري خلال العقود الثلاثة الأخيرة على النحو التالي:
1- سيادة الحكم الأوتوقراطي: عمد أفورقي منذ تولّيه السلطة في البلاد إلى تركيز جميع السلطات في يده، وتحديد سياسات البلاد بنفسه؛ مُرسِّخًا النظام الاستبدادي القائم على حُكم الفرد، مع الاستعانة بدائرة ضيّقة من المستشارين ومجلس الوزراء والقيادات الأمنية لتنفيذ قراراته.
وفي سبيل ذلك؛ استطاع أفورقي تهميش وإقصاء جميع الأطراف السياسية خوفًا من المنافسة، بما في ذلك المعارضة السياسية التي غابت تمامًا عن المشهد السياسي الإريتري؛ بفعل سياسات النظام الحاكم التي أسهمت في تجريف الحياة السياسية بإريتريا. حتى إن البلاد تَعيش فراغًا دستوريًّا منذ الاستقلال بسبب غياب الدستور الذي تم تجميده قبل إصداره في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، والاعتماد على إصدار مراسيم قانونية؛ إذا لزم الأمر.
2- هيمنة الحزب الحاكم على المشهد السياسي: لم يسمح أفورقي بالتعددية الحزبية في البلاد؛ باستثناء حزبه الحاكم “الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة”، وهو الحزب الوحيد المسموح به في الداخل الإريتري، والذي يسيطر بشكل تام على الجمعيات والنقابات المحلية. وهو ما حرم البلاد من ميلاد تجربة ديمقراطية في المنطقة، لدرجة أن هذا الوضع يَفرض على المواطن الإريتري إما الانضمام للحزب الحاكم أو السجن أو الهجرة غير الشرعية، مما يعكس انسداد الأفق السياسي في الداخل الإريتري.
3- الاعتماد على دائرة ضيّقة لتسيير إدارة البلاد: وهي التي يثق بها أفورقي وتدير البلاد بناء على قراراته وتعليماته. وهي تتشكَّل من “يماني جبريب” الذي يُعدّ أكثر المسؤولين الإريتريين نفوذًا بعد أفورقي في البلاد، وهو يشغل منصب المستشار الخاص لأفورقي وكبير دبلوماسيي أفورقي الذي ينفّذ السياسة الخارجية له، بما يجعله وزير الخارجية بحكم الأمر الواقع.
إضافة إلى “هاغوس جيبريهويت” وهو رئيس الشؤون الاقتصادية للحزب الحاكم، ويشرف على الشركات المملوكة للدولة، كما أنه يشرف على وزارة المالية الإريترية. ويماني جبرميسكل الذي يُعدّ المسؤول الأكثر كفاءة في دائرة أفورقي الداخلية، وهو كبير البيروقراطيين في النظام الإريتري؛ حيث يضطلع بمهام التنسيق مع جميع المكاتب الوزارية والمؤسسات الحكومية. فضلًا عن “أبرها كاسا” الذي شغل رئيس جهاز المخابرات الإريترية. إلى جانب “زمهريت يوهانس” الذي يعتبر المنظّر الأيديولوجي لنظام أفورقي، فهو يُدير آلة الدعاية الحكومية باعتباره رئيسًا للبحوث والتوثيق في الحزب الحاكم.
4- غياب الانتخابات العامة في إريتريا: لم تشهد البلاد أيّ انتخابات عامة منذ استقلالها باستثناء الاستفتاء الذي أُجري عقب الاستقلال في 1993م، والذي يُعدّ بمثابة المشاركة السياسية الوحيدة للشعب الإريتري، لا سيما أن أفورقي يدّعي أنه بذلك يحافظ على الوحدة الوطنية للبلاد.
5- غلق تامّ للمجال العام: نجح أفورقي في التخلص من المعارضة السياسية في البلاد سواء من خلال التنكيل بها والزجّ بها في السجون الإريترية، أو التضييق عليها لإجبارها على الهروب خارج البلاد. ومن الواضح أن أفورقي لا يؤمن بالحوار لدرجة أنه قد ضاق ذرعًا بالمعارضة وأطاح بمعظمها خارج البلاد، إضافة إلى اعتقال أعداد كبيرة من الصحفيين واختفاء بعضهم قسريًّا منذ سنوات.
كما تعاني إريتريا من العزلة عن العالم الخارجي؛ حيث لا توجد وسائل إعلام مستقلة، في حين حظرت السلطات الصحافة الخاصة في البلاد منذ عام 2001م إلى جانب معظم المواقع الإخبارية، ولا تمتلك الدولة الإريترية سوى تليفزيون واحد وإذاعة واحدة وصحيفة واحدة تسيطر عليها الحكومة. وقد عزّز ذلك انتشار الشائعات التي يُطلقها النظام الحاكم كوسيلة من أجل نشر الخوف بين الرأي العام الداخلي وإسكات أصوات المعارضة والالتفاف على القضايا والأزمات الداخلية.
6- عسكرة المجتمع الإريتري: استطاع أفورقي توظيف المجتمع لخدمة أهدافه ومصالحه الشخصية في استمرار حُكمه لسنوات. فمن ناحية، يستمر التجنيد الإجباري في الجيش الإريتري لمعظم المواطنين الذين يخضعون لخدمة عسكرية مفتوحة، وينضمّون لمعسكرات التدريب في بعض المناطق مثل ساوا.
ومن ناحية أخرى، لدى أفورقي شعور بأنه لا يمكنه العيش إلا في حالة تعبئة عسكرية دائمة وحالة طوارئ مستمرة، خاصةً أنه لا يملك ونظامه السياسي قاعدة اجتماعية واسعة في المنطقة المركزية ذات الكثافة السكانية العالية في البلاد.
لذلك، يعتمد أفورقي في تطويق وتطويع المجتمع الإريتري بكافة أطيافه على مجموعة من القادة العسكريين ضمن دائرة سلطته الضيقة للسيطرة على أقاليم البلاد، وأطلق يدهم للتوغل في الصفقات الاقتصادية بهدف ضمان بقائه على رأس السلطة وعدم منازعتهم له في حكم البلاد.
7- زيادة معدلات الهجرة غير الشرعية في إريتريا: أضحت البلاد خلال العقود الثلاثة الأخيرة ضمن أكبر دول العالم في تصدير المهاجرين للخارج؛ هربًا من سياسات النظام الحاكم؛ حيث تشير بعض التقديرات إلى أن نصف عدد سكان إريتريا تقريبًا هم لاجئون في أنحاء دول العالم.
8- التدهور الاقتصادي في إريتريا: تواجه البلاد عددًا من الأزمات الاقتصادية على مدار العقود الثلاثة الماضية منذ الاستقلال، بما في ذلك نقص الموارد المالية. فهي لديها اقتصاد موجّه يخضع لسيطرة ورقابة مشددة من النظام الحاكم، وتستفيد منه بشكل أساسي النخبة الحاكمة ومسؤولي الحزب الحاكم وقادة الجيش الإريتري.
ويتسم الاقتصاد الإريتري بالضعف؛ حيث تنعدم التنمية الاقتصادية، في ظل غياب التكنولوجيا الجديدة والمصانع وتدهور القطاع الصناعي الذي يعتمد على الصناعات الخفيفة، والتي تفتقر إلى التقنيات الحديثة. إذ يعتمد الاقتصاد في إريتريا بشكل أساسي على الزراعة كمورد أساسي، ومن أبرز الأنشطة الاقتصادية في البلاد؛ حيث يعمل بها نحو 80% من إجمالي القوة العاملة.
فيما يرتبط استحواذ النخبة الحاكمة على الأنشطة الاقتصادية في البلاد بانتشار الفساد على نطاق واسع؛ حيث يستفيد النظام الحاكم من تهريب وبيع السلع مثل المواد الغذائية، كما تشير تقارير إلى استفادة بعض القادة العسكريين من تهريب الإريتريين إلى خارج البلاد.
9- توريط البلاد في حروب خارجية: وخاصة التورط في الحرب الإثيوبية على إقليم تيجراي في الشمال الإثيوبي منذ نوفمبر 2020م؛ حيث تورطت القوات الإريترية، ولا تزال موجودة في الأراضي الإثيوبية. وقد فسَّر البعض تورُّط أفورقي في هذه الحرب لخدمة أهدافه الشخصية بسبب تخوُّفه من انهيار نظامه الحاكم، مما دفعه للتحالف مع آبي أحمد من أجل القضاء نهائيًّا على جبهة تحرير تيجراي التي تمثل عدوًّا لدودًا لأفورقي في ضوء تخوفاته من انقضاضها على النظام الحاكم في أسمرة وإسقاطه.
كما أنه يحاول بناء تحالفات إقليمية مع جيرانه، وبخاصة إثيوبيا بعد اتفاق السلام بينهما، من أجل حمايته في وقت الأزمات ضد أيّ تحركات داخلية أو إقليمية، لا سيما من جانب جبهة تحرير تيجراي التي يعتقد أفورقي أنها لا تزال تتطلع إلى تحقيق حلم دولة تيجراي الكبرى -الذي أُعلن عنه في عام 1975م- التي تضم دولة إريتريا ضمن حدودها.
10- استعداء المجتمع الدولي: لدى الرئيس أفورقي شعور داخلي بالخيانة من جانب المجتمع الدولي، وخاصةً عقب الحرب الإثيوبية الإريترية التي اندلعت في الفترة بين عامي 1998-2000م، وما تلاها من رفض إثيوبي لتنفيذ الحكم النهائي الصادر عن لجنة الحدود الإثيوبية الإريترية، مما ولَّد شعورًا لديه أيضًا بعدم فاعلية القانون الدولي وإلزاميته.
لذلك اعتمد أفورقي على نفسه في حماية نظامه وسط سياق إقليمي ودولي ينظر إليه على أنه نظام مارق بسبب سياساته في المنطقة؛ حيث وجّه الغرب بمباركة إثيوبية اتهامات لأفورقي بتدعيم الإرهاب خلال العقدين الأخيرين، وهو ما ترتب عليه توقيع عقوبات أممية من جانب الأمم المتحدة على النظام الإريتري في عام 2009م بسبب مزاعم بدعمه لحركة الشباب المجاهدين الصومالية، وإيواء العديد من الحركات المسلحة في المنطقة.
وعلى الرغم من توقيع اتفاق السلام الإثيوبي الإريتري في عام 2018م، وقرار مجلس الأمن الدولي في نوفمبر من نفس العام برفع العقوبات الدولية على إريتريا بمساعدة روسية، إلا أن النظام الإريتري لا يزال يعاني من عزلة دولية تفاقمت منذ تصاعد الاتهامات الأمريكية والغربية بتورط القوات الحكومية الإريترية في الحرب الإثيوبية الأخيرة ضد جبهة تحرير تيجراي في شمال البلاد. وبرغم نظرة الغرب لأفورقي على أنه “الابن العاق” في القرن الإفريقي، وتشبيه إريتريا على أنها كوريا الشمالية في إفريقيا، إلا أن الغرب يتخوّف من الإطاحة بنظام أفورقي خوفًا من تداعيات كارثية بشأن زعزعة الاستقرار والأمن الإقليمي في القرن الإفريقي بما يهدّد المصالح الدولية الاستراتيجية للقوى الفاعلة هناك.
ثانيًّا: عوامل استمرار النظام الإريتري في الحكم
تبرز جملة من العوامل التي تلعب دورًا في استمرار نظام أفورقي على رأس السلطة في إريتريا، وتتمثل أبرزها في:
1- الاستمرار في الحكم دون إجراء انتخابات: وهو أحد العوامل الرئيسية لاستمرار حكم أفورقي في البلاد، فلا يوجد هناك مُنافِس قوي يمكنه الإطاحة به. الأمر الذي عزّز النفوذ الداخلي لأفورقي لتثبيت أركان حُكمه دون أيّ معارضة على مدار السنوات الماضية.
2- إخفاق محاولات الانقلاب على أفورقي: تشير تقارير غربية إلى فشل عدة محاولات انقلاب على نظام أفورقي خلال العقدين الأخيرين على الأقل، لكن يتم التعتيم عليها داخليًّا بفعل حالة الإغلاق التام للمجال العام التي يتبناها النظام الإريتري منذ الاستقلال في عام 1993م.
فقد شهدت البلاد عملية فورتو في عام 2013م، وهي عملية عسكرية قادها بعض المسؤولين العسكريين بقيادة علي حجاي -وهو أحد أبطال التحرير ولم يكن راضيًا عن سياسة أفورقي في إدارة البلاد- في محاولة انقلابية فاشلة أدَّت إلى اعتقال قيادات كبيرة في الحكومة الإريترية.
بينما أشارت تقارير إلى ضلوع أفورقي في تدبير المحاولة كذريعة للتخلص من بعض القيادات السياسية والعسكرية في البلاد؛ خوفًا من منافسة سياسية محتملة معه. وكان النظام الحاكم قد قام باعتقال 15 وزيرًا إريتريًّا في عام 2001م بسبب مطالبتهم بالإصلاحات السياسية في البلاد.
3- تشتت المعارضة الإريترية: نجح أفورقي في تقسيم المعارضة وتشتيتها بين مشروعات متباينة، وذلك بهدف استمرار إحكام سيطرته على الدولة الإريترية، وضمان بقاء نظام حكمه لأطول فترة زمنية ممكنة.
4- القبضة الأمنية الشديدة لنظام أفورقي: فقد تضخّم نفوذ الجهاز الأمني الإريتري في البلاد بهدف السيطرة على كافة أجهزة الدولة الأخرى، وإخماد أيّ محاولات لإسقاط أفورقي، إضافةً إلى قمع الشخصيات المُعارِضة للنظام، وإجبارها على الهروب للخارج. كما استطاع أفورقي من خلال التعبئة العسكرية والتجنيد الإجباري عزل البلاد عن الخارج، وإحكام السيطرة على الشعب والجيش، بما يخدم أهدافه ومصالحه السياسية الضيقة في الداخل.
5- خلق عدو خارجي للنظام الحاكم والبلاد: وذلك بهدف الحفاظ على استمرار النظام الحاكم في أسمرة. فقد روّج نظام أفورقي خلال العقدين الماضيين بأن إثيوبيا هي العدو الإقليمي الأول لإريتريا، والتي تسعى إلى إسقاط النظام، وإعادة احتلال البلاد مجددًا للوصول للثروات والمياه الدافئة في البحر الأحمر حتى توقيع اتفاق السلام بينهما قبل خمس سنوات.
كما اعتبر أفورقي الولايات المتحدة الأمريكية هي العدو الأول لبلاده، مما شكَّل ذريعة للحفاظ على التعبئة العسكرية الدائمة واستمرار حالة الطوارئ في البلاد، وهو ما يضمن لأفورقي عدم التشكيك في نظام حكمه خلال أوقات الأزمات. ويدعمه في ذلك آلة الدعاية التابعة للنظام الإريتري، والتي تروّج بأن البلاد في حالة حرب مع واشنطن ووكلائها، فهو يصوّر باستمرار أنها عدو دائم للشعب الإريتري، وأنها أعلنت حربًا بالوكالة على أسمرة بتوظيف بعض دول الجوار الإقليمي لا سيما إثيوبيا قبل عام 2018م.
6- اللعب على المتناقضات الإقليمية والدولية: دائمًا ما يُجيد أفورقي قراءة التطورات الإقليمية والدولية؛ بهدف تحقيق مكتسبات ومصالح استراتيجية له. فقد قام بتوقيع اتفاق السلام مع إثيوبيا في عام 2018م، وحاول استغلال ذلك في تخفيف الضغوط الدولية والإقليمية بمساندة إثيوبية خاصةً فيما يتعلق باستمرار العقوبات الدولية من الأمم المتحدة منذ عام 2009م.
وفي ضوء توتر العلاقات الأمريكية الإريترية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، يتقارب أفورقي مع روسيا خلال الفترة الأخيرة؛ في محاولةٍ لموازنة النفوذ الأمريكي في المنطقة، لا سيما أن التنافس الروسي الأمريكي في القارة الإفريقية يشهد تصاعدًا لافتًا خلال هذه الفترة على خلفية تطورات الأزمة الأوكرانية في شرق أوروبا.
ثالثًا: هل إريتريا بصدد مرحلة ما بعد أفورقي؟
يرى البعض أن إريتريا بحاجة إلى طيّ صفحة أسياس أفورقي لبَدْء مرحلة جديدة من إعادة بناء الدولة الإريترية التي تُواجه العديد من المشكلات الهيكلية والبنيوية منذ استقلالها في تسعينيات القرن الماضي. وإن كان لا يبدو في الأفق أيّ تنبؤات بتحوُّلات جوهرية على صعيد التغيير في الساحة السياسية الإريترية، على الأقل في الوقت الراهن، وذلك في ضوء إمساك أفورقي بأطراف اللعبة السياسية في بلاده حتى هذه اللحظة.
وبالرغم من تزايد أعداد الشائعات التي انتشرت في البلاد خلال السنوات الأخيرة حول تدهور صحة الرئيس أفورقي مع تزايد التعتيم الحكومي، وعدم الرد على تلك الشائعات، إلا أن أفورقي كان يرد بنفسه عليها من خلال الظهور إعلاميًّا في لقاءات حوارية مع التليفزيون الرسمي الحكومي، أو جولات إقليمية لبعض دول الجوار الإقليمي مثل إثيوبيا لدَحْر تلك الشائعات.
ويحرص أفورقي منذ توليه السلطة على عدم وجود قيادات أو كوادر سياسية يمكن الاعتماد عليها في مستقبل البلاد، لا سيما في ظل غياب منصب نائب الرئيس منذ صعود أفورقي للسلطة، كما أنه لا يوجد منصب رئيس البرلمان الإريتري. وإن كان بعض الإريتريين في الشتات قد روَّجوا خلال السنوات الأخيرة بشأن تجهيز النظام الحاكم وتلميع أبراهام أفورقي -وهو ابن الرئيس أفورقي- لخلافة والده مستقبلًا. وقد فسروا ذلك بتصاعد نفوذه الداخلي؛ حيث إنه يتولى منصب المستشار السياسي للرئيس في مكتبه الخاص، فضلًا عن ظهوره الإعلامي في مناسبات رسمية عدة خلال السنوات الأخيرة. ومع ذلك لم ترد الحكومة الإريترية على تلك الادعاءات؛ خاصةً أنها تُصرّ على استمرار أفورقي في الحكم لأبعد فترة زمنية ممكنة.
وإذ يتوقع البعض انهيار النظام الإريتري بعد رحيل أفورقي، إلا أن هناك بعض السيناريوهات المحتملة حول مستقبل الحكم في إريتريا خلال الفترة المقبلة. يشير السيناريو الأول إلى احتمالية وقوع انقلاب عسكري في إريتريا يطيح بنظام أفورقي، ويستند هذا السيناريو إلى وجود منافسة قوية بين القيادات العسكرية والأمنية في الداخل، ربما تتطور إلى صراع أجنحة داخل المؤسسات العسكرية والأمنية، إضافة إلى اتساع نفوذ بعض القيادات الأمنية في البلاد مثل جايم تسفانكنيل، رئيس جهاز المخابرات الإريترية، وأبرها كاسا رئيس جهاز الأمن الإريتري.
بينما يشير السيناريو الثاني إلى احتمالية تدخل أجنبي من الخارج بمساعدة إقليمية للإطاحة بنظام أفورقي، مع مراعاة الحفاظ على الاستقرار الأمني في المنطقة. ويستند هذا السيناريو إلى استمرار انتقادات الغرب للسياسات التي ينتهجها الرئيس أفورقي الذي يعادي الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما قد يدفع الأخيرة لمحاولة فك الارتباط بين آبي أحمد وأفورقي؛ تمهيدًا لإطلاق يد جبهة تحرير تيجراي للانتقام من أفورقي بسبب تورطه في الحرب الإثيوبية الأخيرة على إقليم تيجراي، والسعي نحو الإطاحة به من الحكم في أسمرة.
فيما يشير السيناريو الثالث إلى اندلاع حرب أهلية إريترية؛ بسبب السياسات القمعية للنظام الإريتري، بالرغم من القبضة الأمنية الحديدية التي يفرضها أفورقي على شعبه. وربما يسهم الدعم الخارجي الإقليمي والدولي في إعادة ترتيب صفوف المعارضة وبعض القوميات المتضررة من حكم أفورقي للانتفاضة ضد أفورقي والإطاحة بحكمه من البلاد، والبدء في التوافق على عقد اجتماعي وسياسي بين الإريتريين لبناء دولة جديدة بعيدًا عن أوتوقراطية أفورقي والوضع المتردي الذي عاشته البلاد منذ تسعينيات القرن الماضي.
وإجمالًا، سوف يُخلّف أفورقي إرثًا ثقيلًا للغاية في إريتريا بعد تركه للسلطة، فهي دولة بلا مؤسسات حكم قوية تؤهلها لعبور أزمات فراغ السلطة، كما أنها دولة ضعيفة اقتصاديًّا بدرجة كبيرة. وهو ما يؤهّلها لتصبح ساحة صراعات داخلية وإقليمية مستقبلًا. الأمر الذي يُنذر بمصيرٍ مُشابه لمصير صومال ما بعد انهيار نظام سياد بري في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وإن كان ذلك بإمكانه أن يزيد مخاوف وقلق الغرب على مصالحه الاستراتيجية في المنطقة، لا سيما أن إريتريا تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي على البحر الأحمر، الأمر الذي يمكن القول معه بأن إريتريا ربما ينتظرها مستقبلًا أكثر تعقيدًا في مرحلة ما بعد أفورقي.