استهلَّت القارة السمراء العام الجديد بإطلاق أكبر منطقة تجارة حرَّة في العالم بحجمٍ يبلغ 3.4 تريليون دولار، وتستهدف خدمة 1.3 مليار شخص في هذا التكتل الاقتصادي الجديد، الذي يعتبره المراقبون أكبر منطقة تجارة حرَّة في العالم منذ تأسيس منظَّمة التجارة العالميَّة، كما تهدف إلى انتشال عشرات الملايين من الفقر بحلول عام 2035م.
وكان من المقدَّر إطلاقها في شهر يونيو الماضي، ولكنَّ جائحة كورونا أدَّت إلى تأجيل الإعلان عن افتتاحها، وقد وقَّعت جميع الدول الإفريقيَّة على الاتفاقيَّة الإطاريَّة لمنطقة التجارة الحرَّة القاريَّة الإفريقية باستثناء إريتريا، كما صادقت عليها حتى الآن 34 دولة، وبالرغم من أهمية تلك المنطقة لخدمة سكان القارة إلا أنه لا تزال هناك العديد من التحديات بالرغم من وجود تلك الفرص، أمام ذلك المشروع الطموح.
وفي الرؤية الأصلية للاتحاد الإفريقيّ لعمل منطقة التجارة الحرَّة كانت هناك عدة أهداف؛ من أهمّها: السياسة التجاريَّة، وتسهيل التجارة، والقدرة الإنتاجيَّة، والبنية التحتية المتعلّقة بالتجارة، وتمويل التجارة، ومعلومات التجارة، وعامل تكامل السوق؛ وكل ذلك من أجل تعزيز التجارة البينية بين الدول الإفريقية، مقارنةً بالأقاليم الأخرى في العالم، ورفع الحواجز الجمركية والاعتمادية المتبادلة فيما يتعلق بالصادرات، وكذلك التنسيق بين الدول في تلك العملية المتبادلة، وسنّ القوانين المسهِّلة لتحرير التجارة، وكذلك حرية انتقال العمالة والبضائع بين الدول، ففي عام 2012م، كان معدَّل التجارة البينية في إفريقيا 8.12%، ما يُعدّ معدلاً منخفضًا جدًّا مقارنةً بالأقاليم الأخرى في العالم، كما يُشكّل نصيب إفريقيا من الصادرات الإجماليَّة في تدفقات التجارة العالمية 5.3% وفقًا لتقريرٍ نشرته منظمة الاتحاد الإفريقي، كما أن الحواجز الجمركية بين الدول الإفريقية تُعدّ عالية خاصة في المواد غير الزراعية التي تبلغ في المتوسط 8.7%، وهي نسبة أعلى مما يواجه نفس المُصَدِّر إذا صدَّر منتجاته إلى أوروبا والولايات المتحدة.
ومن أجل الوصول إلى ذلك الهدف ستعمل الدول الإفريقية على تخفيض، ثم إزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية تماشيًا مع أجندة 2063 للاتحاد الإفريقي، والتي من أهمّ بنودها: القضاء على الفقر والتأثير الإيجابي على حياة المواطنين الأفارقة.
وقد أطلقت الدول الإفريقية افتتاح المنطقة في الأول من يناير 2021م بصورة رمزية؛ إلا أنَّ الخبراء يقدّرون أن التطبيق الحقيقي والفعلي على الأرض سيستغرق عدة سنوات، من أجل تنفيذ بنود الاتفاقية وإزالة الحواجز الجمركية والتطبيع التامّ بين السياسات التجارية بين الدول.
وقد صرَّح رئيس غانا نانا أكوفو-أدو خلال مناسبة التدشين عبر الإنترنت قائلاً: “ثمة إفريقيا جديدة تبزغ مع شعور بالإلحاح والتصميم وطموح لأن تصبح معتمدة على الذات”.
ولكن بالرغم من ذلك فإن الطريق لن يكون مفروشًا بالورود لتحقيق تلك الأهداف الطموحة لتحرير التجارة داخل القارة السمراء، فلا تزال هناك الكثير من العراقيل التي تتمثَّل في البيروقراطية في مختلف الدول الإفريقية وكيفية المواءمة فيما بينها، وتوحيد معايير مخاطبة المشكلات، وكذلك ضعف البنية التحتية في معظم الدول الإفريقية لا سيما الطرق الممهَّدة التي يجب أن تربط بين أطرافها المترامية والشاسعة من أجل تقريب المسافات وسرعة وصول البضائع، وكذلك فيما يتعلق بالحوكمة الإلكترونية وسرعة التعامل مع البضائع وتوحيد أنماط العمل، وكذلك إزالة الحمائية التجارية التي تجنح إليها الكثير من الحكومات من أجل حماية صناعاتها الهشَّة، وكذلك القوانين المحلية التي تستهدف مَنْع بعض الدول من تصدير منتجاتها إليها بحجة حماية السوق المحلية بما يستتبعه من عمليات انتقام متبادلة بمنع سلع الدولة الأخرى، وكذلك سعر صرف العملات بين الدول، وكذلك الاختلاف بين الدول فيما يتعلق بأسعار الخدمات.
ومن الناحية السياسية؛ فإن من أهمّ التحديات كذلك عدم الاستقرار السياسي الذي يعصف بالكثير من البلدان الإفريقية وحالات الانقسام المجتمعي والحكومات الهشَّة وغياب الأمن وما يتبعه من تعاظم دور المليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية، بالإضافة إلى الفساد الحكومي والإدارة البيروقراطية التي تصل إلى حد الإفراط بين بعض الدول لا سيما في التعاملات الحدودية والإجراءات الجمركية، كما تُعدّ شهادات المنشأ إحدى أهمّ التحديات كذلك، والتي تتطلب التوحيد المعياري لأنظمة الصناعة والتجارة من أجل إثبات النسب الأصلية المنتجة إفريقيًّا في السلع والمستلزمات التي سيتم تصديرها بين الدول، ومِن ثَمَّ تحديد جداول الرسوم والجمارك المناسبة لذلك.
كما أن هناك التكتلات التجارية الكبرى من أصحاب المصالح في بقاء الوضع الراهن، والتي يصل نفوذها إلى السيطرة على الكثير من الحكومات، ومِن ثَمَّ التلاعب بالقرار السياسي من أجل الاستمرار في نَهْب ثروات الدول، ومِن ثَمَّ فإنَّ مشكلة تزاوج السلطة برأس المال، والتي تنتشر بصورة كبيرة في القارة السمراء، ستعدّ كذلك من أهمّ العوائق من أجل التنفيذ الفعليّ والجادّ لمنطقة التجارة الحرة. كما أن مشكلة تصدير إفريقيا للسلع الأولية تُعدّ كذلك عائقًا أمام الاستفادة المتبادلة بين الدول؛ حيث إنَّ تلك السلع ستعتمد بصورة كبيرة على سلاسل الإمداد العالمية وأسعار العملة أمام الدولار، ومِن ثَمَّ فستظل تلك السلع الأولوية مرتبطة ارتباطًا عضويًّا بتلك السلاسل العالمية صعودًا وهبوطًا.
كما يجب على القارة السمراء أن تبدأ في إنشاء مشروعات طموحة للسكك الحديدية، واستخدام المجاري المائية؛ من أجل سهولة التنقل، وتصدير البضائع بين الدول على غرار طريق الحرير الصيني “الحزام والطريق” الحالي، والاستعانة بالقطارات فائقة السرعة لنقل البضائع والأفراد، كما يجب على الدول الأعضاء أن تبدأ فورًا في عمل الجداول الزمنية المناسبة لخفض الرسوم والجمارك، وقد قدمت بالفعل 41 دولة من الدول الأعضاء جداولها الزمنية لذلك من بين إجمالي 54 عضوًا، وحتى الآن يشير الخبراء إلى أن المنطقة يمكن أن تبدأ في جني ثمارها ومضاعفة التجارة في القارة بحلول عام 2025م، ومبدئيًّا تتطلب الاتفاقية من الدول الأعضاء إزالة 90% من التعريفات على السلع، بما يتيح حرية الوصول إلى السلع والخدمات عبر القارة، وتقدر لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا أن تلك الاتفاقية يمكنها تعزيز التجارة بين دول إفريقيا بنسبة 52% بحلول عام 2022م.
وبالرغم من أن التخطيط الأوليّ للمنطقة الإفريقية الحرة بدأ في عام 2013م، إلا أن الطريق الطويل يبدأ بخطوة، وتلك الخطوة بدأتها إفريقيا بالفعل في تدشين المنطقة رسميًّا تزامنًا مع بداية العام الحالي، ويجب على كافة الدول الأطراف أن تعمل على تذليل الصعاب أمام تنفيذ هذه الاتفاقية، التي من المتوقَّع أن تمثل نقلة جديدة ونوعية للتجارة الإفريقية، كما أن الاعتمادية المتبادلة بين دول القارة ستعمل كذلك على تعزيز التعاون السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ، وستعمل التجارة على تقريب الثقافات بين الدول وكذلك التفاهم بينها، كما كانت الاتفاقية المؤسّسة للاتحاد الأوروبي الهدف الرئيس منها هو منظمة الفحم والصلب، فكانت الأهداف التجارية -بالرغم من أن لها أبعادًا سياسية أيضًا- هي التي قادت قاطرة توحيد القارة الأوروبية التي تتحدث عشرات اللغات واللهجات، ويجب الوضع في الحسبان أن مشروع الاتحاد الأوروبي قد نجح بوجود عمالقة داعمين له، وعلى رأسهم ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، ومِن ثَمَّ فإنَّ الحُلم الإفريقي، ومن أجل تحقيقه في المستقبل القريب؛ يجب أن تتبنَّاه الدول الكبرى في القارة بالتعاون مع الاتحاد الإفريقي من أجل أن يرى النور قريبًا، ويبدأ في إرسال عوائده إلى جنبات القارة السمراء.