أ. عربي بومدين (*)
تظهر القارة الإفريقية، بما تحمله من إخفاقات في الماضي وتحديات مستقبلية، متأثرةً بمظاهر العولمة في مختلف تجلّياتها، وفي صورها المتمثلة في: (مجموعة الظواهر الاقتصادية، هيمنة القيم الأمريكية، ثورة تكنولوجية واجتماعية).
فمع التغيرات الاستراتيجية، على المستوى العالمي، كان الأمل كبيراً في استقرار القارة الإفريقية وخروجها من شبح الحروب الأهلية والنزاعات الإثنيّة والعِرقية، وساد الاعتقاد بأنّه يمكن لهذه القارة الاستفادة من مظاهر العولمة بغية تطوير قدراتها، غير أنّ التحديّات ظلّت المعرقل الأساس لاستفادتها من الفرص التي تتيحها، لكون هذه القارة مصدراً للتوسع الليبرالي.
وعليه؛ فإنّ هذه الورقة البحثية: ستبحث في الإشكالية الآتية:
كيف تأثرت إفريقيا بالعولمة؟ وما المداخل العمليّة لتتكيّف إيجابيّاً مع آليات العولمة ومظاهرها؟
المحور الأولمضامين العولمة.. محاولة في الفهم
تُعدّ الاقترابات المختلفة من موضوع العولمة معقدة إلى حدٍّ كبير، حيث سادها أنواعٌ مختلفة من التحيّزات الفكرية، إذ نجد تيارَيْن يسيطر عليهما الانحياز المسبق في تناول مفهوم العولمة(1):
التيار الأول: يتحيّز للعولمة، ويعتبرها قَدَراً حتميّاً، وضرورةً تاريخية في التقدّم البشري، ويناشد بقبولها كما هي من دون تحفظ.
التيار الثاني: يرفضها بإطلاق؛ لأنّها في حقيقتها إعادة إنتاج لنظام الهيمنة الرأسمالي القديم (الإمبريالية)، حيث ترتكز أساساً على فكرة الاستغلال وتحقيق أعلى معدلات الربح؛ على حساب الفقراء وشعوب دول العالم الثالث.
إلى جانب ذلك نجد تياراً ثالثاً: يكتفي بوصفها بأنها ظاهرة.
كما نجد تياراً رابعاً: يُعدّ من أبرز التيارات ضمن الخريطة المعرفية للعولمة، وهو التيار الذي يمارس النقد الموضوعي للظّاهرة، متمسكاً بالأدوات النظرية والمنهجية المتطورة لعلم الاجتماع المعاصر، وهدفه تبيان سلبيات وإيجابيات العولمة بكلّ أمانة علمية، وهو التيّار الذي سيعتمده الباحث في التحليل.
ترجع كلمة «العولمة»- في ترجمتها الحرفية- إلى كلمة Globalization الإنجليزية، التي تعني بالمفهوم الاقتصادي: جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من المحدود إلى اللامحدود. وبمفهوم آخر تعني: تعميم نمط من الأنماط الفكرية السياسية والاقتصادية، الذي تختصّ به «جماعة معيّنة»، على العالم كله.
ومن ثم؛ ستتناول هذه الورقة: الكشف عن فرص العولمة وتحديّاتها بالقارة الإفريقية؛ لفهم: لماذا تدفع إفريقيا ثمن استقرارها في سياق العولمة؟
المحور الثاني: العولمة وإفريقيا.. حدود العلاقة
تبرز- بشكلٍ جليٍّ- عددٌ من التصوّرات بشأن العلاقة بين إفريقيا والعولمة، تتوزع على ثلاث مجموعات، نشأت وتطورت من داخل القارة:
الأولى: تسعى للتوصل إلى حالة «حلٍّ وَسَط» بين إفريقيا والعولمة.
والثانية: تطالب بتضامن إفريقي جاد، وعلى أُسس صلبة وموضوعية، كوسيلة تهدف إلى الاستفادة من مزايا العولمة.
والثالثة: تُبرز بشكلٍ نقدي المخاطر التي تمثّل جزءاً لا يتجزأ عن العولمة في طورها الراهن.
وضمن هذه التصورات؛ فإنّ التفاعل بين إفريقيا والعولمة يرتبط- في جزءٍ منه- بدور وموقف ومدخلات المجتمع الدولي، وليس مجرد الإرادات السياسية للدول الإفريقية، منفردةً أو حتى مجتمعة، وذلك نتيجة التراكمات التاريخية التي عاشت فيها دول القارة، والتي كرّست منطق التبعية إلى حدٍّ كبير.
وعليه؛ سيتم تحليل هذه العلاقة وفق هذه النقاشات؛ بالاعتماد على بعض مظاهر ومؤشرات العولمة- وليس جميعها-، وهي منهجية يراها الباحث مفيدة لتحليل الموضوع من جوانبه المتعددة، وتوضيح هذه العلاقة المركبة والمعقدة.
أولاً: العولمة وإفريقيا: في تكريس التخلُّف:
لقد تمّ تحديد التأثير الأساسي للعولمة في إفريقيا في تآكل مسألة «السيادة»، وخصوصاً في المسائل الاقتصادية والمالية، نتيجةً لفرض نماذج واستراتيجيات وسياسات التنمية على البلدان الإفريقية من قِبل المؤسّسات المالية الدولية، كصندوق النقد الدولي، إضافةً لتأثيرها في الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية، وعليه؛ سيتم توضيح ذلك في المستويات الآتية:
المستوى الاقتصادي:
عزّزت العولمة- عموماً- التهميش الاقتصادي لإفريقيا؛ لأنّ جلّ الاقتصادات الوطنية تعتمد بشكلٍ كبير على التبعية للخارج، فضلاً على تفاقم حدّة الفقر وعدم المساواة الاقتصادية، وعدم قدرة عددٍ كبيرٍ من الأفارقة على المشاركة الفعّالة في الحياة الاجتماعية والسياسية لبلدانهم.
وقد شكّلت مسألة الديون قضية جوهرية في تخلّف إفريقيا بداية الثمانينيات، حيث اضطرت بلدان إفريقيّة كثيرة إلى الاستدانة من الخارج لسدّ العجز في ميزان المدفوعات، وقد تجاوز حجم الاقتراض- بصورة غير مسبوقة- قدرات هذه الدول على السداد، وبفعل هشاشة اقتصاديات هذه الدول، وارتفاع معدلات الفائدة على القروض، أفضت الديون الخارجية إلى أزمات اجتماعيّة- اقتصادية عنيفة، رهنت مستقبل القارة، وتحكّمت في سياساتها وإصلاحاتها.
وفي مقابل ذلك؛ برهنت المشروطية السياسية على تبعيةٍ اقتصادية وسياسية، هدفت أساساً إلى فرض النّمط الغربي للتنمية على الدول الإفريقية، الأمر الذي كانت مخرجاته: الضغوط السياسية والاقتصادية؛ المتمثلة في التهديد بإيقاف المساعدات والمعونات والتسهيلات المالية؛ لإقامة نموذج الديمقراطية الغربي.
وتُقدّم العولمة نموذجاً معادِياً للمسألة التنموية في إفريقيا، بوجود دولة غير ذات صلة- أو هامشية- بالنسبة للجهد التنموي، نتيجة استراتيجيات التنمية والسياسات التي تركّز في تحقيق الاستقرار والخصخصة؛ بدلاً من النمو والتنمية والقضاء على الفقر، مدفوعةً من قِبل الجهات المانحة الخارجية؛ ممّا يؤدي إلى مزيدٍ من الفقر وعدم المساواة، وتقويض القدرة على المشاركة بفعالية في العمليات السياسية والاجتماعية.
يُعدّ نجاح مشروعات التنمية والنهضة المحلية الناشئة مقياساً لتأثيرات العولمة على المسيرة التنموية للبلدان الإفريقية، غير أنّ الواقع التنموي للدول الإفريقية يعكس مظاهر سلبية لتأثير العولمة، حيث كانت ولا تزال استراتيجيات وسياسات التنمية في إفريقيا خاضعةً للتخطيط الخارجي وتأثيراته، وممّا أصبح يُبرر فشل هذه السياسات والبرامج والمشاريع الإنمائية: أنها تُصنع وتُنفذ وتُقيّم دون أن يكون للسكّان المحليين فيها أي مشاركة تُذكر، وأصبحت هذه المشاريع الإنمائية لا توافق الثقافة والدّين ولا حتى القيم في البلاد الإفريقية، وهو الأمر الذي عُبّر عنه بمقولة: إفريقيا «مقبرة المشاريع الإنمائية»(2).
وعلى الرغم من ذلك؛ فإنّ عدّة نماذج تستحق الإشادة في النهضة المحلية، على غرار: (جنوب إفريقيا، كينيا، إثيوبيا، نيجيريا، رواندا، ناميبيا، سوازيلاند، السنغال)، في المجال الصناعي والزراعي، ونمو رأس المال المحلّي، حيث قامت صحيفة الإيكونومست، والتي وصفت إفريقيا عام 2000م بأنها «القارة اليائسة»، بتغيير هذه الفكرة بعد أكثر من عشر سنوات، من خلال تغطية خاصّة للقارة الإفريقية؛ تنظر إليها الآن بوصفها القارة الواعدة.
بَيْد أنّ المنافسة الأجنبية وغزو الأسواق الإفريقية أثّر بشكلٍ كبير على المنتج المحلّي، فعلى سبيل المثال: تستقبل (مصر، السودان، إثيوبيا، جنوب إفريقيا، نيجيريا، أنغولا، كينيا، تشاد، الغابون، زيمبابوي، إريتريا، غانا) 93% من إجمالي صادرات الصين إلى القارة، الأمر الذي يستوجب إعادة النظر في خلق تدابير للتحكم في الأسواق وحماية المنتج المحليّ(3).
لقد ساهمت العولمة في تقليص فرص النهوض بالقارة، وتحجيم نهضتها؛ بإفقار القارة، واستنزاف ثرواتها المادية والبشرية، وذلك في مجال التعليم والصحّة والأمن الغذائي، فانتشار الأمراض، ولا سيما الإيدز الذي تمثّل فيه إفريقيا 80% من الحالات عالميّاً(4)، والفقر 47%، والجوع وسوء التغذية 30%، والبطالة 70% في جنوب الصحراء، وتجاوز ديون القارة حاجز الـ400 مليار دولار(5)، هي ظواهر جليّة للعولمة الرأسمالية المتوحشة؛ بسبب استغلال القوى الغربية لثروات القارة، وإلحاق الضّرر بالبيئة من خلال التصنيع وردم النفايات، واستغلال اليد العاملة الإفريقية الرخيصة.
المستوى الاجتماعي والثقافي:
من أهمّ تحديات العولمة الاجتماعية في إفريقيا: المظاهر المتسبّبة في التسيّب والتفكك المجتمعي، وانعكاساتها التي تؤدّي إلى تحلّل دور الأسرة في التنشئة الاجتماعية، مع انشغال أفراد الأسرة بالفضائيات بدلاً من الواقع، ولا سيما تأثيراتها على الشباب التي تؤدّي إلى ازدياد الانحراف الاجتماعي، بسبب طبيعة الرسائل والمضامين الإعلامية التي يفرضها واقع الفضائيات الوافدة المتشبّعة بالقيم الغربية، والتي تُحرّض على العنف والمخدّرات والانحلال الأخلاقي والرعب وأساليب الجريمة؛ مؤدّية إلى ما يُسمّى: «الاستلاب والاغتراب الثقافي والحضاري».
ونتيجةً للهيمنة الثقافية مع العولمة؛ فإنّ البلدان الإفريقية تعرّضت بشكلٍ كبيرٍ وسريع لفقدان الهوية الثقافية، وفي كثيرٍ من الأحيان تساهم هذه الهيمنة الثقافية في عرقلة العملية التنموية داخليّاً؛ بشكلٍ يحمل على الاعتقاد أنّ الحمولة الثقافية الغربية أثّرت بشكلٍ عميق في النُّخب والجماهير على حدّ السواء، وهو ما يدفعنا للقول بأنّ المشكلة في إفريقيا ليست اقتصادية؛ بل ثقافية في الأساس.
ثمّة تأثيرٌ آخر أكثر خطورة، وهو تهديد الهوية عبر مدخل اللغة، نتيجةً للعلاقة الوثيقة بين اللغة والهوية القومية، فالعولمة الثقافية باتت واقعاً مفروضاً، من خلال تكنولوجيا الاتصالات والإعلام والسياحة وأنماط الاستهلاك، وهو ما يؤثّر في الواقع اللغوي الإفريقي، ويؤدي إلى فقدان الهوية اللغوية الأصيلة، والواقع يؤكد- بوضوح- اضمحلال واندثار اللغات الإفريقية لصالح اللغات الأجنبية، وهي وضعية ساهم فيها الاستعمار، وعمقتها النُّخب الإفريقية بعد الاستقلال، وترسخت ضمن آليات العولمة الاتصالية.
والقول بأنّ اللّغات المحلية غير ناضجة وغير ملائمة لدراسة العلوم- ضمن هذا الاتجاه، وفي اعتقاد كثيرٍ من النُّخب الإفريقية- هو أمرٌ منافٍ للحقيقة، فمعظم اللّغات الإفريقية، ومنها العربية ملائمة تماماً لدراسة العلوم.
وفي سياق ذلك؛ ليس أمام الدول الإفريقية إلا بناء سياسة لغوية تحافظ على اللغة الأمّ؛ كأحد المداخل الرئيسة في مواجهة العولمة الثقافية.
المستوى الأمني:
شجّعت العولمة في إفريقيا إلى حدٍّ كبير نشاطات الجريمة المنظّمة، كتجارة المخدرات، والدعارة، والمواد الإباحية، وتهريب البشر، والإغراق بالنفايات الخطرة، واستنزاف البيئة، من قِبل رجال الأعمال عديمي الضمير.
كما ساهمت العولمة في تنقّل اليد العاملة عبر الحدود، وتسهيل هجرة الأدمغة، ومن ثَمَّ إضعاف القدرة البشرية التي تُعد ركيزة التنمية المستدامة في البلدان النامية.
المسألة الأكثر تعقيداً على المستوى الأمني تظهر أيضاً في الهجرة غير الشرعية التي انتشرت مع التبشير بقيم العولمة، حيث يتطلع الشباب الإفريقي إلى مستوياتٍ معيشية أفضل، تأثراً بالمظاهر الثقافية في بلدان الشمال، مع الغزو الثقافي والإعلامي، وفي ظلّ غياب التنمية، وضعف أداء الحكومات الإفريقية.
فضلاً عن أنّ الهروب من التهديد قد حلّ الآن محلّ البحث عن فرصٍ أفضل في العيش الكريم، كدافعٍ للهجرة الدولية، بسبب مشكلات الفقر، وتغيّر المناخ، وارتفاع مستويات العنف الأهلي في الدول الإفريقية الأكثر فقراً.
ثانياً: العولمة وإفريقيا: استفادة مشروطة:
لا مراء في القول بأنّ إفريقيا استفادت كثيراً من الفرص التي أتاحتها العولمة، كونها مرحلة طبيعية في التطور البشري، بَيْد أنّ هذه الاستفادة كانت مشروطةً إلى حدٍّ كبير؛ نظراً لخضوع إفريقيا إلى آليات العولمة الاقتصادية، وفي كثيرٍ من الأحيان كانت هذه الفرص مقرونةً بالتنازل عن السيادة لصالح الشركات المتعددة الجنسيات التي تعمل في منظومة مؤسّسات العولمة المتوحشة.
ولعلّ من مزايا العولمة ما نشير إليه فيما يأتي:
الاستثمار الأجنبي وتدفق رأس المال:
توجّهت الكثير من الشركات العالمية للاستثمار في البلدان النامية، ومنها الدول الإفريقية، حيث جاء في تقرير الأونكتـاد عن الاستثمار العالمي لعام 2013م، أنّ تـدفقات الاستثمار الأجنـبي المباشـر المتجهـة إلى إفريقيا ارتفعـت بنسـبة 5%، فبلغـت 50 مليـار دولار في 2012م، حـتى في ظـلّ انخفـاض الاستثمار الأجنـبي المباشـر علـى الصعيد العالمي بنسبة 18%.
ومـن حيـث مصـادر الاستثمار الأجنـبي المباشـر؛ يفيـد تقريـر الاستثمار العـالمي أنّ نشـاط الشـركات عـبر الوطنيـة الوافـدة مـن الأسـواق الناشـئة يتزايـد في إفريقيا، وبقيـاس الرصيد من الاستثمار الأجنبي المباشر؛ تكون: (ماليزيا، وجنوب إفريقيا، والصين، والهند (هي أكبر مستثمري البلدان النامية في إفريقيا.
كما ساهم انفتاح إفريقيا على الأسواق العالمية في رفع تـدفقات الاستثمار الأجنـبي المباشـر الخارجـة مـن البلـدان الإفريقية، إذ كـادت تتضـاعف ثلاثـة أمثـال في 2012م، فبلغـت 14 مليـار دولار. وبخـلاف التدفقات الداخلة؛ ارتفعت التدفقات الخارجة في جميع المناطق الإفريقية، مما أسفر عن تسجيل رقم قياسي لمجموعها، انظر: الشكل(1) (6).
الشكل (1): أكبر 5 بلدان متلقية لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الداخلة، 2011م و2012م- (مليار دولار):
وأظهر تقرير لشركة «ارنست آند يونغ» بعنوان «إفريقيا 2015م– اتخاذ القرارات» ارتفاع استثمار رأس المال في القارة إلى 128 مليار دولار، بزيادة قُدّرت بنحو 136%، ما ساهم في خلق 188400 وظيفة عمل جديدة، بزيادة 68%.
وتشير التقديرات إلى أنّ نيجيريا، التي تُعدّ الآن أكبر اقتصاد في إفريقيا، كانت قد جذبت نحو 49 مشروع استثمار أجنبي مباشر في 2014م، فضلاً عن دول إفريقيّة صاعدة بقوة، مثل أنغولا التي حازت استثمارات أجنبية قيمتها 16 مليار دولار، وحصلت موزمبيق على 50 مشروعاً للاستثمار الأجنبي المباشر في 2014م، متقدّمة مرتبتَيْن لتصبح المتلقي الخامس الأكبر لمشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر في إفريقيا، وفي 2014م برزت إثيوبيا في تصنيف المتلقي الثامن الأكبر(7).
انطلاقاً من ذلك؛ يمكن القول بأنّ تدفق رأس المال الأجنبي ساهم بشكلٍ واضح في عملية التنمية نسبيّاً، واستفادت إفريقيا من مشروعات في البنية التحتية والخبرة الأجنبية ومن التكنولوجيا العالية في مختلف المجالات.
إلا أنّ المعادلة بقيت قائمةً على النهب واستغلال خيرات شعوب القارة الإفريقية، وخصوصاً أنّ هذه الشركات تأخذ الحصّة الأكبر من الأرباح بقاعدة الاستثمار 49%؛ مقابل 51%، وهي القاعدة التي تُفقد الدول الإفريقية سيادتها في القرار، وسيتحول الاستثمار الأجنبي بهذه الصيغة (غير العادلة) من مُساهمٍ في عملية التنمية إلى معرقلٍ لها على المدى المتوسط والبعيد، وتصبح هذه الشركات، المتعددة الجنسيات المستثمرة في إفريقيا، من شريكٍ في التنمية إلى وكيل الاستعمار الجديد بأدوات اقتصادية؛ استمراراً لنظرية التبعية التي حكمت العلاقة بين الشمال والجنوب، وتصبح التنمية هنا ما هي سوى محاولة الانخراط في «التوسع الرأسمالي العالمي»- على حدّ تعبير سمير أمين(8).
انتشار التعليم والتبادل المعرفي:
على الرّغم من المستويات المتدنية في نسبة المتعلمين وجودة التعليم في إفريقيا مقارنةً بدول الشمال؛ فإنّ انتشار التعليم يُعدّ من أهم النتائج المهمّة التي ترتبت على العولمة، ففي الوقت الحاضر وفّرت العولمة فرصاً للطلبة الأفارقة للدراسة في أفضل الجامعات الأجنبية، والحصول على أفضل المعارف والخبرات، ومن ثمّ العودة لاستثمار تلك المعرفة في بلدانهم.
فعلى سبيل المثال: شهد التّعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث في البلدان الإفريقية ونظيراتها في الدول المتقدّمة طفرةً لا شك فيها في السنوات الأخيرة، وقد فتحت الصّين الباب لتوفير 18 ألف منحة دراسية للطلاب الأفارقة؛ حيث منذ 2009م مشروعاً ضخماً للمنح الدراسية، بلغ بمقتضاه عدد الطلبة الأفارقة في الجامعات الصينية حوالي 12 ألف طالب(9).
إنّ هذه النظرة المتفائلة تبقى ضمن حيّزٍ ضيّق، يتعلّق أساساً بكون إفريقيا استفادت من فرص العولمة في مجال التّعليم، لكن هذه الاستفادة مشروطة بمصالح الدول المانحة لخبراتها في مجال التعليم والبحث العلمي، فمظاهر الفقر والتأثّر بالنزاعات ما تزال ترهن مستقبل التعليم في القارة، فإفريقيا جنوب الصحراء هي المنطقة التي بها أكبر نسبة من الأطفال خارج المدرسة (31 مليون نسمة، بنسبة 52 %من المجموع)، والمراهقين خارج المدرسة (24 مليون نسمة، بنسبة 39%).
انتشار المعرفة التقنية ووسائل الاتصال الحديثة:
برغم محدودية التطوّر التقني في مجال الاتصال في إفريقيا مقارنةً بالدول المتقدّمة؛ فإنّ العولمة وفّرت فرصاً كبيرة في هذا المجال، ساهمت في اختصار المسافات، وعززت التنمية في هذه القارة، فقد بلغ عدد مستخدمي الإنترنت فيها 298 مليون مستخدم، شكّلوا نسبةً تصل الى 9.8% من إجمالي مستخدمي الإنترنت حول العالم، بناءً على ما ذكرته الإحصاءات العالمية لسنة(10) 2015م، وهي نسبة تتقارب مع اتجاهات الإنترنت عام 2017م، انظر: الشكل (2).
الشكل (2): نسبة مستخدمي الإنترنت في العالم حسب المناطق
وأشارت الأرقام إلى: أنّ نسبة انتشار استخدام الإنترنت في إفريقيا سجّلت حوالي 26.5% من إجمالي تعداد سكانها، المقدّر نهاية النصف الأول من 2015م، بأكثر من 1.1 مليار نسمة(11).
وتواصل المنصات والشبكات الاجتماعية تحقيق معدلات نموٍّ كبيرة من حيث نسبة الاستخدام، ويعدّ الفيس بوك أشهرها وأكثرها شعبية، حيث وصل عدد المستخدمين النشطين به إلى مليار و184 مليون مستخدم، كان نصيب إفريقيا من ذلك 7% من مجموع السكان في جانفي (يناير)(12) 2014م، الأمر الذي يؤكد أنّ استخدام الإنترنت في إفريقيا ما يزال ضعيفاً، والشكل (3) يوضح ذلك:
الشكل (3): انتشار استخدام شبكات التواصل الاجتماعي عبر المناطق في العالم
وتسجّل إفريقيا جنوب الصحراء أقلّ نسبة انتشار للهاتف المحمول: 73%؛ مقابل 98% في البلدان المرتفعة الدخل، ووصلت نسبة امتلاك الهواتف الذكية بالقارة خلال 2013م إلى 80%، ما يعادل 803 مليون مستخدم، وفق الأرقام التي نشرها موقع AfricaTelecom Market 2013، والتي تبيّن أنّ من بين كلّ 10 مواطنين في إفريقيا يمتلك 8 منهم هاتف محمول واحد على الأقل، وتعني أيضاً أنّ قارة إفريقيا أصبحت ثاني أكبر سوق للهواتف المحموله بعد آسيا(13).
تأسيساً على ذلك؛ يمكن القول بأنّ إفريقيا استفادت بشكلٍ كبير في مجال الاتصال بالتقنيات الحديثة، إلاّ أنّ ذلك يبقى مشروطاً ومرهوناً بالتكنولوجيا الغربية المستوردة، وتوطين التكنولوجيا يبقى أمراً بعيد المنال، ما يجعل النظام التقني في هذه القارة هشّاً مرتبطاً بشكلٍ أساسي بكبرى الشركات الأجنبية، وهي تحديّات تتطلب العمل على بناء مجتمع المعرفة، والتغلّب على الفجوة الرقمية في القارة، تحقيقاً للأهداف الإنمائية للألفية، بما يساهم في تعزيز التنمية، وبناء قدرات الحكم الراشد، وضمان مشاركة النّاس في الحياة العامّة.
المحور الثالث: في البحث عن البديل: هل تتخلص إفريقيا من قبضة العولمة؟
نحو تعزيز ثقافة التداول السلمي للسلطة:
تُطرح المسألة تداول السلطة بإلحاح عندما يتعلّق الأمر بالحديث عن إفريقيا، والواقع أنّ افتقاد دول القارة إلى تنمية سياسية حقيقية هو سبب التخلُّف السياسي.
وفي هذا السياق؛ تظهر نوعية الأنظمة السياسية (تسلطية) بما تحمله من تشوّهات في الممارسة الديمقراطية بوضوح، وتصبح أحد المسائل الجوهرية المعرقلة لعملية التحوّل الديمقراطي في القارة، والواقع يثبت بوضوح أنّ عوامل كتزوير الانتخابات، والانقلابات العسكرية، وهامشية المجتمع المدني، متأصلة في العمل السياسي لدى الدول الإفريقية.
وحتى يستقيم الوضع، في مواجهة مظاهر العولمة السلبية، ومعالجة تلك التشوهات لا ينبغي استنساخ التجارب الديمقراطية الغربية (المعولمة)، ولكن من خلال إيجاد نموذج (سياسي/ ثقافي) متسق مع الهوية الإفريقية ومكوناتها المجتمعية؛ من أجل فعلٍ سياسي راشد، ومن ذلك:
– التداول السلمي للسلطة وفق ما تقتضيه الآليات الديمقراطية.
– انفتاح الأنظمة السياسية، والقبول بالمعارضة السياسية.
– تعزيز سياسات الاندماج المجتمعي.
– آليات التحكيم وفض المنازعات.
– التخلُّص من القبضة الأمنية والعسكرة.
– إعادة النظر في دور المجتمع المدني وتعزيز أدواره.
إنّ أحد المعضلات الأساسية التي تقف في وجه التخلُّص من قبضة العولمة لدى إفريقيا هو الضعف السياسي، والتشوّه الديمقراطي، الذي أصبح أحد المداخل الرئيسة لتدخل القوى الكبرى عسكريّاً في دول القارة؛ بحجّة الهشاشة السياسية، والخوف من تصدير أزماتها الداخلية للغرب «المتقدّم»، والحقيقة أنّ المصالح الاقتصادية تؤدي الدور الأساس في التغلغل الأجنبي في القارة الإفريقية من هذا المدخل، وإن كان المظهر الاقتصادي أحد تجليات العولمة؛ فإنّ التدخل الأجنبي أصبح يأخذ أشكالاً أخرى في زمن العولمة غير الأشكال الكلاسيكية.
إنّ الأزمة السياسية في إفريقيا لا تعود إلى طبيعة الأفارقة، ولا إلى خصوصيتهم الثقافية والاجتماعية، بل هي أزمة في النظرية السياسية الليبرالية، ومكوّنها الرأسمالي، ذلك أنّ إفريقيا عرفت قبل الاستعمار حضارةً متميزة وأنظمةً سياسية تعتمد على الشورى، وهو ما عُرف بنظام «ديمقراطية الشجرة»(14).
وهناك تجارب سياسية حقيقية تستحق الإشادة، ومن ذلك: فكرة «المؤتمر الوطني» الذي يُعدّ من أبرز مناهج التغيير السّلمي للنُّظم التسلطية، ولعلّ المثال الأبرز ما حدث في دولة بنين عام 1991م، وفي خبرة «برلمانات الشوارع» التي أقامها الأفارقة بوصفها قنوات شرعية بديلة لمواجهة طغيان السلطة الحاكمة، وهذا ما حدث في جمهورية الكونغو الديمقراطية (زائير سابقاً)، وأسهم في الإطاحة بنظام الرئيس موبوتو. والانتخابات التعددية؛ كما حدث في زامبيا وغانا ونيجيريا، وهو ما جعل تجربة غانا تُعدّ إحدى قصص النّجاح الكبرى للتحوّل الديمقراطي في إفريقيا(15).
وفي السياق ذاته؛ ظلّت إفريقيا تحاكي الغرب، وتنقل تراثه السياسي وتطبيقاته، بالرغم من عيوبه الكثيرة، وعدم قدرته على تطويع الحالة الإفريقية منذ نشوء الدولة الوطنية في إفريقيا، حيث إنّ هذا «الاستنبات الديمقراطي الغربي» لم يصلح في البيئة الإفريقية التي ورثت زخماً وإرثاً تاريخيّاً سياسيّاً، واقتصاديّاً، واجتماعيّاً، ساهم في التكوين السوسيو-ثقافي والسوسيو-اجتماعي للإنسان الافريقي والحياة السياسة والاجتماعية له. وعليه؛ فإنّ هذا التعارض السلبي أنتج نموذجاً للتبعية
السياسية، وساهم في فشل التنمية، ممّا فسح المجال أمام الصراعات، كما هو الحال في الصومال وكينيا وزيمبابوي ورواندا وكوت ديفوار وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى وليبيريا وسيراليون.. وغيرها.
وضمن هذا الواقع؛ تظهر الحاجة إلى نموذج بديل في إطار التوافق السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي من شأنه إعادة صياغة عقد اجتماعي جديد، يتمّ فيه إعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس خصوصية كلّ مجتمع، بشكلٍ يتوافق وحاجات الإنسان الإفريقي المادية والإنسانية.
التنمية الاقتصادية المستديمة:
لا شكّ بأنّ نظريات التحديث والتنمية السياسية تنطلق من فرضية مفادها: أنّ الديمقراطية، بوصفها هدفاً نهائيّاً وحتميّاً للتنمية السياسية، لا يمكن أن تظهر إلا بتوافر عدد من الشروط الأولية، أهمّها: تحقيق معدلات مرتفعة من التنمية الاقتصادية، وهو معطى أساسي يُبرز مسألة التخلُّف الاقتصادي الذي تعيش فيه القارة الإفريقية، والذي يجد مصدره في التخلُّف السياسي.
إنّ المسألة الجوهرية التي تُطرح في هذا السياق؛ هي: كيف تسلم إفريقيا من تغوّل العولمة ومظاهرها السلبية؟
هذا التساؤل يجد إجابته المقنعة في الجانب الاقتصادي؛ عندما يتعلّق الأمر بوجود تنمية اقتصادية حقيقية، تكفل تحسّن الجانب الاجتماعي لدى السكان الأفارقة- أولاً، ومن خلال تحقّق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي، ومن ثمّ منافسة السلع الأجنبية التي تغزو الأسواق الإفريقية- ثانياً.
تُعدّ مسائل التنمية الاقتصادية أحد العوامل الأساسية في نهضة القارة الإفريقية، وخروجها من نفق التخلُّف والتبعية، والواقع أنّ الإمكانيات الطبيعية والمادية متوفرة إلى الحدّ الذي يمكّنها من أن تكون رائدة في مجال التصنيع والزراعة، ومن ثمّ التصدير وجلب رؤوس الأموال التي تحرّك عجلة التنمية، وتضمن مستويات عالية من الرفاه الاجتماعي، بعيداً عن الحرمان الاقتصادي الذي أثقل كاهل القارة الإفريقية، وأدخلها أتون حروب أهلية لم تجد لها مخرجاً، وذلك لأسباب بنيوية داخلية وأخرى خارجية.
إنّ أحد تجليات العولمة الاقتصادية هو المنافسة الاقتصادية الشرسة، وإغراق الأسواق المحلية، وإضعاف المنتج المحلّي، وبطبيعة الحال؛ فإنّ التنمية الاقتصادية المستديمة، وضبط الاستثمار الأجنبي، والتحكّم في حركة رؤوس الأموال، وتشجيع الصناعة المحلية، وفرض قيود على دخول السلع الأجنبية، من العوامل الأساسية للوقوف في وجه العولمة الاقتصادية المتوحشة.
الحفاظ على الخصوصية المحلية:
إذا تحدثنا عن أكلات مثل «البيتزا» أو «الهامبورغر»، أو الألبسة الأجنبية، فإنها مجرد أنماط معيشية، ولكنها في الحقيقة تحمل مدلولات ثقافية تسود العالم، وتعبّر بشكلٍ واسع عن فكرة تنميط العالم على القيم الغربية، والأمريكية تحديداً، وتحمل في طياتها نماذج تكريس قيم العولمة في شقّها الثقافي.
المسألة الفارقة في هذا الإطار؛ تنصرف إلى اندثار الخصوصية المحلية الإفريقية وانصهارها في القيم الغربية، وذلك بفعل تآكل مفهوم «السيادة الوطنية».
والأكثر من ذلك: ساهم التطور التقني في مجال الإعلام والاتصال في إحداث ثورة ضدّ كلّ ما هو خصوصي، بشكلٍ ألغى المسافات، وأذاب الثقافات، ويبدو أنّ انصهار ذلك أنتج- بشكلٍ محضّر له سلفاً- معدن الثقافة الغربية التي ستحمل مدلول الحديث (اللغة)، والتفكير، وأسلوب العيش على الطريقة الغربية، ولن يقف عند هذا الحدّ؛ بل سينعكس ذلك على المستوى الأفقي والعمودي، عندما يشمل الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لدى الشعوب الإفريقية قاطبة.
إنّ مواجهة العولمة تستوجب إنتاج نماذج جديدة تتماشى والخصوصية المحلية الإفريقية، نابعةً من عمق التراث الثقافي والمكوّن الحضاري الإفريقي، مع مراعاة التنوّع والتعدّد الذي يطبع هذه القارة، وهي أدوات جديرة بالتحصين الثقافي ضدّ الوافد، والأصحّ هنا أن يتم الاحتفاظ بالموروث الثقافي الإفريقي، والاستفادة في الوقت نفسه من الوافد النافع.
ويبدو أنّ التنميط الثقافي رافدٌ للسيطرة الثقافية، التي لا محال تنتهي مخرجاتها عند السيطرة السياسية والاقتصادية، بشكلٍ يرهن مستقبل الشعوب الإفريقية المتطلعة إلى الاستفادة من إيجابيات العولمة، ومثال ذلك فرنسا في استعمارها لشعوب القارة الإفريقية- أولاً، واستمرارية السيطرة الثقافية من خلال «المنظّمة الدولية للفرنكوفونية» للدول الناطقة باللغة الفرنسية- ثانياً.
إن صحّة هذا المقترح، وكونه خياراً لمواجهة العولمة، تتعزز عندما تقدّم لنا الشواهد المادية أدلةً واضحةً على التخبّط الذي تعيش فيه إفريقيا، فشكل تنظيم الدول سياسيّاً وإداريّاً، ومحتوى الدساتير الناظمة للحياة السياسية والمجتمعية، حتى فلسفة بناء الدول، كلّها نماذج وقوالب مستوردة من النموذج الغربي، وهي الرؤية التي حكمت تطوّر دول القارة بعد الاستقلال، وحكمت فيها نموذج التنمية القائم على التغريب.
ولن يستقيم الحال إلا بإعادة النظر في الأُطر الثقافية الناظمة للمواطن الإفريقي، الذي يجب أن يتكيف مع العولمة بأدواتٍ يكون قد تلقاها في بادئ الأمر من التنشئة الاجتماعية التي تجعل الموروث الحضاري الإفريقي أحد مصادرها.
في البحث عن الاستقرار وتفكيك المعضلة الأمنية:
لقد حملت العولمة معها الكثير من التغيّرات، من ذلك التغيُر في مفهوم «الأمن» الذي لم يعد مقتصراً على جانبه العسكري، حيث حدّد التقرير الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 1999م بعنوان: «عولمة ذات وجه إنساني»: سبعة تحديات تهدّد الأمن الإنساني في عصر العولمة، وهي: عدم الاستقرار المالي، غياب الأمن الوظيفي وعدم استقرار الدخل، غياب الأمن الصحّي، غياب الأمن الثقافي، غياب الأمن الشخصي، غياب الأمن البيئي، كذا غياب الأمن السياسي والمجتمعي.
وقد أصبح الأمن مطلباً ملحّاً، وإحدى القضايا دائمة الحضور في أجندات المنظمات الإقليمية في إفريقيا، أو ضمن القضايا التي يتمّ التباحث بشأنها بين إفريقيا والمجتمع الدولي، مثل: الصراعات المسلحة والحروب الأهلية، فقد تمّ تسجيل 39 صراعاً داخل الدول في 2014م، 13 منها- أي ما يعادل 33%- تمّ تدويلها، وشملت الصّراع في: (مالي، نيجيريا، الصومال، جنوب السودان، وأوغندا)(16) ، فضلاً على قضايا أخرى كغياب الأمن الصحّي، وانتشار الأمراض والأوبئة، وتدهور الأمن الغذائي وسوء التغذية.
انطلاقاً من ذلك؛ فإنّ الأمن يُعدّ المدخل الأساسي للتنمية السياسية والاقتصادية في إفريقيا، وسبيل ذلك هو إصلاح العملية الديمقراطية، ونبذ العنف السياسي
وضمن هذا المعطى، المتعلق أساساً بغياب رؤية إقليمية ودولية في التصوّر الأمني في إفريقيا، فإنّ التحدّي الأبرز يكمن في التفكير في وضع استراتيجية مشتركة في إطار الاتحاد الإفريقي، بتعبئة الموارد المتاحة، والحلول الإفريقية؛ لأنّ أيّ تدّخل أجنبي يُعدّ اختراقاً لفلسفة الأمن الوطني، ويبدو أنّ «الأمن» بتصوّره الشامل لن يتحقّق إلا بدعامتَي «التنمية» و «الديمقراطية»، وهي ثلاثية تضمن الاستقرار السياسي الذي ينشده كلّ نظام سياسي في إفريقيا؛ تحقيقاً للاستدامة التي تكفل التطور والازدهار والرقيّ لشعوب القارة.
خاتمة:
لعلّ من نافلة القول- ختاماً لما سبق- أنّ فحص ظاهرة العولمة وفقاً لتمثلاتها الواقعية بإفريقيا؛ كشف عن حالات من الهوّة الملازمة لطبيعة المكوّن السياسي والاجتماعي في علاقته بمظاهر العولمة، خصوصاً على المستوى الاقتصادي والثقافي، فحاجة إفريقيا اليوم إلى بناء استقرارٍ رصين ومتعدّد الأبعاد؛ لا ينفصل عن ضرورة تمحيص بنية الدولة، والتي هي بحاجةٍ اليوم إلى التوجّه بخُطى ثابتة ومتسارعة نحو الإصلاح السياسي، والاجتماعي.
لقد تركت العولمة آثارها السلبية على إفريقيا أكثر من الفرص التي أتاحتها، ذلك أنّ العولمة والسياسات الليبرالية الجديدة أثبتت فشلها في الاستجابة لحاجيّات البشر في القارة، ومثّلت أداةً من أداوت الاستغلال الرأسمالي المتوحش؛ من خلال زيادة الحروب، والمجاعات، وانتشار الفقر، وتدمير البيئة، واستغلال البشر، واستنزاف الخيرات والثروات.
وضمن هذه الحقيقة؛ فإنّ (التصور الأول في محاولة فَهْم العولمة) الذي تسعى فيه مجموعته للتوصّل إلى حالة «حلّ وَسَط» بين إفريقيا والعولمة- الذي سبق ذكره في بداية المحور الثاني-، له قدرة تفسيرية أكبر؛ نظراً لكون العولمة مرحلةً تاريخية لا يمكن لإفريقيا أن تعيش على هامشها؛ شرط أن يكون لها قدرة على للتكيّف مع المراحل المتقدمة في عالم العولمة وما بعدها، والذي قد تُشكّل فيه هذه القارة عصب النشاط الإنساني مستقبلاً؛ نظراً لإمكانياتها البشرية والماديّة.
ومن آليات هذا التكيّف: فكرة الفضاءات التي يمكن أن تخفّف من الآثار السلبية للعولمة والليبرالية المتوحشة في جميع أبعادها، وضمن هذا الطرح يمكن للفضاء (العربي- الإفريقي) امتلاك مناعة المقاومة، وأن يكون إطاراً إقليميّاً في سياق الإقليمية الجديدة، وحلاّ وسطاً بين عزلة المحليّة ومخاطر العولمة، وتتحقّق بذلك نبوءة المفكر «علي مزروعي» للتعاون (العربي- الإفريقي) تحت مسمّى «أفرابيا» Afrabia.
الهوامش والاحالات
(*) أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، كلية الحقوق والعلوم السياسية- جامعة حسيبة بن بوعلي- الشلف/ الجزائر.
(1) السيد يسين، “نحو خريطة معرفية للعولمة”، في: التقرير الاستراتيجي العربي 1998م، القاهرة: مؤسسة الأهرام، ص (24-39).
(2) الأمم المتحدة، تقرير لجنة السياسات الإنمائية عن أعمال دورتها الثالثة، المجلس الاقتصادي والاجتماعي، 29 ماي 2001م، ص10.
(3) راجع: عبد الرزاق آدم، الصين في إفريقيا.. حسابات الربح والخسارة، السودان: شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، 2014م.
(4) ديفيد ج. فرانسيس، إفريقيا السلم والنزاع، ترجمة: عبد الوهاب علوب، القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010م، ص307.
(5) عبد الرزاق آدم، مرجع سابق.
(6) مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، الاستثمار الأجنبي المباشر المتجه إلى إفريقيا يتزايد، متحديّاً الاتجاه العالمي لعام 2012م، نشرة صحفية، 26 جوان 2013م، ص (1-3).
(7) تقرير: إفريقيا تستقطب استثمارات بـ 128 مليار دولار في 2015م، دبي- مباشر، (18/1/2016م).
(8) سمير أمين، الاقتصاد السياسي للتنمية في القرنين العشرين والواحد العشرين، بيروت: دار الفارابي، ط1، 2002م، ص40.
(9) عبد الكريم حمودي، “الصين تغزو إفريقيا اقتصادياً”، تقرير خاص، موقع الخليج أنلاين، (19/11/2015م).
(10) أسيد كالو، قارة آسيا تستحوذ على 46% من مستـــخدمي الإنترنت في العالم، موقع عالم التقنية، (12/3/2015م).
(11) المرجع نفسه.
(12) عماد بن يحي، تقرير: إحصائيات عن الشبكات الاجتماعية والإنترنت في 2014م، عالم التقنية، (14/1/2014م).
(13) أيمن عبد الله، أصبحت ثاني أكبر سوق للهواتف المحمولة في العالم: 80% نسبة استخدام الجوال في قارة إفريقيا، الجديد في عالم التقنية، (5/12/2013م).
(14) جون محمد امباكي، “أزمة النظم السياسية في إفريقيا”، ليبيا: أكاديمية الفكر الجماهيري، 2006م، ص34.
(15) حمدي عبد الرحمن حسن، “جدلية العلاقة بين الربيع العربي وإفريقيا”، الجزيرة نت، (9/4/2012م).
(16) Therése Pettersson, and Peter Wallensteen, “Armed conflicts, 1946– 2014”, Journal of Peace Research, Vol. 52, No. 4, 2015, p.537