ترجمة: أ.ناصر كرم رمضان
تُوفي يوم الاثنين الموافق 22 أبريل 2025م الفيلسوف والمؤرخ الثقافي والروائي الأمريكي الكونغولي “فالنتين موديمبي” Valentin-Yves Mudimbe (1941 -2025م)، في “تشابل هيل” Chapel Hill، بولاية “كارولاينا الشمالية” N.C. عن عُمرٍ يناهز ثلاثة وثمانين عامًا؛ وهو فيلسوف إفريقي أعلن رفضه للصورة الذهنية التي روَّج لها الغرب لتعزيز استعماره للقارة الإفريقية؛ وذلك من خلال تفكيك ما أسماه “المكتبة الاستعمارية” وأدواتها الفكرية، واصفًا إياها بأنها جزء مما اعتبره جهازًا استعماريًّا.
وقد أعلنت وكالة الأنباء الرسمية لجمهورية الكونغو الديمقراطية Democratic Republic of Congo عن وفاته في إحدى دور الرعاية الخاصة بالولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث كان يشغل عند وفاته منصب أستاذًا فخريًّا للأدب في “جامعة ديوك” Duke University في “دورهام” Durham، بولاية “كارولاينا الشمالية”.
“موديمبي” هو مؤلف كتاب “اختراع إفريقيا” ذائع الصيت؛ والذي تم إصداره عام 1988م. والذي يُعدّ الآن مرجعًا أساسيًّا في دورات الدراسات الإفريقية، وقد فكَّك من خلاله ما أسماه “المكتبة الاستعمارية”: روايات القرنين التاسع عشر والعشرين عن إفريقيا التي كتبها علماء الأنثروبولوجيا والمستكشفون والمبشرون الأوروبيون الذين كان هدفهم، من وجهة نظر “موديمبي”، تعزيز الاستعمار. فقد كان طموحه هو التشكيك في أُسس الفهم الأوروبي لإفريقيا.
وعن هذا الكتاب كتبت الفيلسوفة “سيفيرين كودجو-جرانفو” Séverine Kodjo-Grandvaux في صحيفة “لوموند” Le Monde، في تقييمها للكتاب عام ٢٠٢١م: “إن الكتاب كان كلاسيكيًّا منذ نشأته. فقد مثَّل انقطاعًا مماثلًا للذي أحدثه كتاب “الاستشراق” Orientalism، لـ”إدوارد سعيد” Edward Said في حقل دراسات ما بعد الاستعمار.
في وقتٍ مبكر؛ منذ أكثر من أربعة عقود؛ غادر “موديمبي” مسقط رأسه “الكونغو”، باحثًا كغيره من المثقفين الأفارقة، عن فضاءٍ أوسع يعرض من خلاله أفكاره الناقدة لتصور الغرب عن القارة، وعوضًا عن هذا التصور المغلوط قام بتقديم رواية إفريقية تعتمد على منهج علمي سليم.
حيث كان المنعطف الأبرز في حياته في عام ١٩٨٠م، عندما طلب منه رئيس الجمهورية “موبوتو سيسي سيكو”، Mobutu Sese Seko رئيس دولة “زائير” سابقًا الانضمام إلى لجنته المركزية، ثاني أعلى سلطة سياسية في البلاد. معتمدًا على شهرة “موديمبي” في الأوساط العلمية ككاتب وروائي ومؤلّف أكاديمي حاز على عدة جوائز، فقد كان في ذلك الوقت يقوم بتدريس الأدب في “الجامعة الوطنية بزائير” National University of Zaire في “لوبومباشي” Lubumbashi.
ولكنه -غير عابئ برد الفعل-، رفض عرض “موبوتو”، وبدلًا من ذلك ذهب إلى الولايات المتحدة عن طريق “منحة فولبرايت” fulbright fellowship. ليقضي هناك بقية حياته، مُدرّسًا في “كلية هافرفورد” Haverford College في “بنسلفانيا” Pennsylvania، و”جامعة ديوك” Duke University، و”جامعة ستانفورد” Stanford University على التوالي. ليستقر به المقام في نهاية مسيرته المهنية في “جامعة ديوك” مرة أخرى.
في البداية تلقّى “موديمبي” تعليمه على يد “الرهبان البينديكتين” Benedictine monks؛ حيث كان يرغب في السير على خطاهم، وقد أتاحت له هذه الفترة الاطلاع على الفلسفة والأدب الغربيين والاستغراق في دراستهما، وخاصة الأفكار الفرنسية التي روّج لها “ميشيل فوكو” Michel Foucault وآخرون حول العلاقة بين المعرفة والسلطة، هذه الأفكار التي جعلته منزعجًا من صورة إفريقيا في العقل الغربي، وكيفية تشكُّلها. يقول “موديمبي” في مقاله “رائحة الأدب” L’odeur du pere: “إن ميشيل فوكو، بسبب تأثيره، وأصالته، وأهمية أعماله، يمكن اعتباره رمزًا بارزًا لسيادة الفكر الأوروبي الذي نرغب في تحرير أنفسنا منه”.
واستطاع من خلال طرحه للتساؤلات الفلسفية حول إفريقيا تقديم أحد أهم الكتب في الفكر السياسي الإفريقي وهو كتاب: “اختراع إفريقيا” The Invention of Africa (1988م)، ومن بعده كتاب “فكرة إفريقيا” The Idea of Africa (١٩٩٤م). فبعد نشر الكتاب الأول، انضمّ إلى “جامعة ديوك” بمبادرة من الباحث في الأدب الماركسي “فريدريك جيمسون” Fredric Jameson، الذي تُوفّي العام الماضي. ليمضي “موديمبي” جزءًا كبيرًا من مسيرته المهنية اللاحقة في شرح هذين العملين.
أوضح “موديمبي” عبر مجلة “كالالو” Callaloo المتخصصة في دراسة الأدب الإفريقي والأفروأمريكي عام ١٩٩١م أن “الأوروبيين كانوا على اتصال بإفريقيا منذ نهاية القرن الخامس عشر. ومنذ ذلك الحين أدركوا إفريقيا والأفارقة، وكتبوا عنهم”. وتابع: “وبعد أن تمكّنّا من قراءة قصصهم وأوصافهم لها، نستطيع أن نقول: حسنًا، هذه تصوراتٌ وُضعت في لحظة معينة من التاريخ، واليوم يمكننا ابتكار تصوراتٍ أخرى. وكما اخترع الأوروبيون إفريقيا، فإن أفارقة اليوم، يخترعون إفريقيا أخرى خاصة بهم”.
ومن خلال كتابه “اختراع إفريقيا” ذي الأسلوب النثريّ المُعقّد؛ ناقش “موديمبي” هذه الأفكار بشكلٍ أكثر شمولاً، فهو كتابٌ زاخرٌ بمعرفةٍ واسعةٍ اكتسبها “موديمبي” من جامعاتٍ في ثلاث قارات.
في ذلك الكتاب، كشف “موديمبي” الستار عن العلاقة بين المعرفة الغربية والهيمنة الغربية في علاقتها بإفريقيا. وفي ذلك يقول “موديمبي”: “في روايات المستكشفين للقارة، يُصبح الخطاب حول “المتوحشين”، ولأول مرة، هو خطاب صادر عن سلطة سياسية، فقد كان من المفترض أن يكون صادرًا عن سلطة علمية، والعكس صحيح… فقد كان هذا التوظيف يلزم تلك المرحلة لإضفاء الشرعية على المشروع الاستعماري، ويمكن اعتباره كذلك تكرارًا وتحقيقًا لسلطة الخطابات الغربية حول الأنواع البشرية”. “فعلماء الأنثروبولوجيا الذين شكّلوا وجهات النظر الغربية حول إفريقيا لم يكونوا سوى مستشارين علميين للمستعمر”.
في مقابلة مع مدير “معهد الدراسات الإفريقية بجامعة كولومبيا” Columbia University’s Institute for African Studies، قال “مامادو ضيوف” Mamadou Diouf: إن تحليل “موديمبي” تأثر “بإتقانه الاستثنائي لعقلية الفكر الأوروبي”. فقد استطاع “الانخراط في النقاش المعرفي من زوايا مختلفة: فإلى جانب منظوره الإفريقي عن إفريقيا، تأمل كذلك في كيفية تصورها من منظوري أوروبي”.
وبعد أن طرَحه لأول مرة؛ بات مفهوم “المكتبة الاستعمارية” colonial library مصطلحًا مميزًا استطاع “موديمبي” توظيفه بشكل يُدلّل به على وجهة نظره، فقد أثر على تقديره للأدب الأوروبي الواسع حول إفريقيا منذ أن تطرق إليه. وكتب مشيرًا إلى ذلك في “موسوعة الأديان والفلسفة الإفريقية” Encyclopedia of African Religions and Philosophy مؤكدًا أن هذه الكتب كانت هي حجر الأساس “للعقلية الاستعمارية”، وكان لها الدور الحاسم في “محو الاختلافات الإفريقية ودوافعها”. وأضاف أنه في ظل هذه الهيمنة الفكرية، أصبحت “الأدلة تنتمي إلى الحس المشترك الغربي”، أو الفطرة السليمة، “المدعومة والمبررة بمجموعة من المعرفة المبنية على المكتبة الاستعمارية”.
وعلى الجانب الآخر لم يخلُ نهج “موديمبي” من توجيه بعض الانتقادات إليه. الأمر نفسه ينطبق على أسلوبه الكتابي الصعب، فلا تكاد تخلو صفحة من صفحاته إلا وقد أحال القارئ إلى أقوال وآراء الفلاسفة من أمثال “فوكو” Foucault، “مالينوفسكي” Malinowski، “إيفانز-بريتشارد” Evans-Pritchard، “سارتر” Sartre، “ليفي-ستراوس” Lévi-Strauss، وآخرين أقل شهرة.
وقد عاب عليه بعض الفلاسفة اعتماده المفرط على أنماط التفكير والمفاهيم الفكرية الغربية ذاتها التي بدا أنه يريد تحرير الأفارقة منها؛ حيث كتب الفيلسوف الكاميروني “جان جودفروا بيديما” Jean-Godefroy Bidima في كتابه “الفلسفة الإفريقية السوداء” La Philosophie Négro-Africaine (1998): “إن مشروع “موديمبي” أشبه بحلقة مفرغة؛ ففي الوقت الذي انتقد فيه الخطاب الغربي حول إفريقيا، كان يستخدم نفس الخطاب في كتاباته”.
وفي مقابلة معه؛ قال “ستيفن سميث” Stephen Smith، الأستاذ الفخري للدراسات الإفريقية في “جامعة ديوك”: “بأن هناك ثمة تناقضًا ملموسًا في كتب موديمبي”. وأضاف “إذا قلت إن حقيقة إفريقيا تكمن في عين الناظر، فعليك أن تسأل: لماذا يعتقد كثير من الناظرين بهذه الحقيقة؟”
وفي المقابل لم يُبدِ “موديمبي” أي تراجع عن آرائه؛ وصرح لـصحيفة “كالالو” بأنه “فيما يتعلق بسؤال ما هي إفريقيا؟ أو كيف نُعرّف الثقافات الإفريقية؟ فلا يسع المرء اليوم إلا أن يُشير إلى مجموعة من المعارف التي اندمجت فيها إفريقيا مع التخصصات الغربية مثل الأنثروبولوجيا والتاريخ واللاهوت، أو أي خطاب علمي آخر. وهذا هو المستوى الذي أضع عليه مشروعي”.
وُلِدَ “فالنتين إيف موديمبي” في 8 ديسمبر من عام 1941م، في “ليكاسي” Likasi، بمقاطعة “كاتانجا” Katanga فيما كان يُعرف آنذاك بـ”الكونغو البلجيكية”، لأبوين هما “جوستاف تشيلويلا” Gustave Tshiluila، والذي كان يعمل موظفًا حكوميًّا، و”فيكتورين نجالولا” Victorine Ngalula. وقد ذكر أنه في سن مبكر عام 1991م، “بدأ العيش مع الرهبان البينديكتين بوصفه راهبًا” في كاكاندا Kakanda، في “الكونغو” قبل الاستقلال. ولم يكن لديه خلال هذه الفترة “أي اتصال بالعالم الخارجي، حتى مع عائلته، فلم يكن لديه أيّ عطلات”.
ويتذكر “موديمبي” أنه عندما كان في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة من عمره، قرر أن يصبح راهبًا، هذه المرة بين “الآباء البيض” البيندكتين في “جيهينداموياجا” Gihindamuyaga، في “رواندا”. ولكن في أوائل العشرينيات من عمره، بعد أن أصبح بالفعل “فرنكوفونيًّا تمامًا”، تخلى عن الحياة الدينية والتحق بـ”جامعة لوفانيوم” Lovanium University في “كينشاسا” Kinshasa، ليتخرج عام 1966م متخصصًا في فقه اللغة الرومانسية.
وفي عام 1970م، حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة والأدب من “جامعة لوفان الكاثوليكية” Catholic University of Louvain في “بلجيكا”. ليعود مرة أخرى إلى “الكونغو” للتدريس.
وفي السبعينيات، نشر “موديمبي”، من بين كتابات أُخرى، ثلاث روايات، تُرجمت جميعها إلى الإنجليزية: “بين المياه” Entre les Eaux (1973م)، وقد نُشرت بالإنجليزية تحت عنوان Between the Waters؛ و”قبل ميلاد القمر” Before the Birth of the Moon (1976م)؛ و”الصدع” (The Rift، ١٩٧٩م). وقد علّقت الباحثة “نادية يالا كيسوكيدي” Nadia Yala Kisukidi في صحيفة “لوموند” بأن الشخصيات الرئيسية في رواياته “تجد صعوبةً في ربط نفسها بأيّ شيءٍ ثابت”.
وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي، عندما عُرض عليه من الرئيس “موبوتو” أن يكون “مسؤولاً حزبيًّا”، كما قال “موديمبي” لصحيفة “كالالو”: “لم أكن أعتبر نفسي، ولا زلت لا أعتبر نفسي سياسيًّا”. وبعد أن استقر به المقام في الولايات المتحدة، تحوَّل تركيزه إلى كتابة المقالات وتدريس وجهة نظره الفلسفية؛ ومن بين كتبه الأخرى، كتاب “رائحة الأب” L’Odeur du Père (1982م)، وكتاب “الأمثال والخرافات” Parables and Fables (1991م)، وكتاب “حكايات الإيمان” Tales of Faith (1997م).
وفي الختام يقول “ضيوف”، الباحث في “جامعة كولومبيا”: “إن مأساة المفكرين الأفارقة تكمن في عدم قدرتهم على الخروج من المكتبة الاستعمارية”. وأضاف: “وعلى الرغم من بحثه عن سُبل للتفكير في إفريقيا خارج المكتبة الاستعمارية”، لكنه ربما، “لم يُراعِ المكتبات الأخرى بما فيه الكفاية”.
……………………………………..
رابط المقال:
Nossiter, Adam . Valentin-Yves Mudimbe, 83, Dies; African Scholar Challenged the West, in “The New York Times”. Retrieved from https://www.nytimes.com/2025/04/27/world/africa/valentin-yves-mudimbe-dead.html, Published April 27, 2025,Updated April 28, 2025.