يمثل الاقتصاد البرتقالي، والذي يُشار إليه أيضًا باسم الاقتصاد الإبداعي، قطاعًا ديناميكيًا يركز على الإبداع والثقافة والفنون، ويشمل مجالات عدة مثل: صناعة السينما والأدب والأزياء والهندسة المعمارية والفنون المسرحية والمحتوى الرقمي وتطوير البرمجيات.
ويقوم هذا الاقتصاد البرتقالي بدافع من الابتكار والملكية الفكرية والتعبير الثقافي بدور محوري في تعزيز التنمية المستدامة والتنويع الاقتصادي.
ومن الملاحظ أن هذا القطاع الإبداعي يبرز بسرعة كقوة تحويلية في إفريقيا، تدفع باتجاه النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل والتغيير الاجتماعي، في نفس الوقت الذي يعمل فيه كمنصة حيوية للحفاظ على التراث الثقافي الغني للقارة وتعزيزه.
ولا شك أن هذا القطاع الحيوي، يسلط الضوء على إمكانات إفريقيا كقوة إبداعية عالمية.
ويسعى هذا المقال إلى التعريف بماهية الاقتصاد البرتقالي واهميته بالنسبة لإفريقيا وما يقدمه من فرص وتحديات لمستقبل التنمية المستدامة في الدول الإفريقية.
أولًا: التعريف بالاقتصاد البرتقالي
ليس بخاف أن القرن الحادي والعشرون يطرح تحديات واستقطابات عالمية بالغة التعقيد والتشابك. وربما يُعزى ذلك إلى التفاوتات في السياقات الداخلية والدولية. وتعتبر استراتيجيات التنمية التي تطلق العنان للإمكانات الإبداعية للأفراد استجابة للتغيرات الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية الواسعة النطاق في عصرنا بالغة الأهمية للاستدامة الاقتصادية.
وعلى الصعيد العالمي، يتوسع مفهوم الاقتصاد الإبداعي والثقافي لأنه يعمل كنقطة التقاء بين الثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا. وتعد التقاليد البريطانية في طليعة تعزيز أجندة المحفز الاقتصادي هذه، والتي تهدف ظاهريًا إلى تعزيز الشمول الاجتماعي والتنوع والتنمية.
وقد زعم منتقدو هذا النموذج أنه يرتبط أيديولوجيا بأفكار حزب “العمال الجديد” لتعزيز “مبدأ توني بلير”، الذي جمع بين أفكار السياسة الاقتصادية المحافظة من ناحية و الليبرالية الجديدة التي تعبر عن روح ما بعد الحداثة من ناحية أخرى[1].
وفي هذا السياق تحولت السياسة الثقافية لحزب العمال الجديد بدورها من تعزيز قبول الفن والتنوع إلى تأييد المفهوم النيوليبرالي للمواطن باعتباره معتمدا على الذات وذو طابع مبدع وريادي.
وفي السنوات الأخيرة، تم تصنيف أشكال الفنون الإبداعية التي تشكل الاقتصاد الإبداعي والثقافي على أنها الاقتصاد البرتقالي، وإن كان ذلك بدون إجماع عام بين المؤسسات والباحثين. وبدون تعريف عالمي موحد للاقتصاد البرتقالي، تُستخدم مصطلحات مثل الصناعات الثقافية وصناعات الترفيه والاقتصاد الثقافي والاقتصاد الإبداعي على أنها مترادفات.
وتعكس التسميات المستخدمة وجهات النظر التحليلية المتميزة والمصالح الإيديولوجية للباحثين. وعلى أي حال فإن مصطلح الاقتصاد البرتقالي للإشارة إلى مجموعة من الأنشطة الاقتصادية التي تشملها الصناعات الثقافية والإبداعية. ولعل الهدف من وراء ذلك كله هو الترويج والدعاية للسلع والخدمات والأنشطة الثقافية أو الفنية أو التراثية (أنظر الجدول 1)
جدول رقم 1
أشكال الاقتصاد البرتقالي
المصدر:
Solutions for Youth Employment. (2020, September). Orange Economy: As a Driver of Jobs
for Youth https://www.s4ye.org/node/3725
ثانيًا: أهمية الاقتصاد البرتقالي بالنسبة لأفريقيا
إذا كان هذا الاقتصاد يعتمد – كما بينا آنفًا- على الابتكار والملكية الفكرية والتعبير الثقافي، فإنه يصبح قطاعًا حيويًا للتنمية المستدامة والتنويع الاقتصادي في إفريقيا. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى عدد من الاعتبارات الهامة:
- الثراء الثقافي والتأثير العالمي
تُعد إفريقيا موطنًا لعدد كبير من الثقافات واللغات والتقاليد الفنية. وقد وضعت هذه العناصر المبدعين الأفارقة كمساهمين مؤثرين في الموسيقى والأفلام والأزياء العالمية. على سبيل المثال، حظيت موسيقى أفروبيتس وأفلام نوليوود باهتمام دولي كبير وحققت إيرادات مرتفعة، مما يبرز إمكانات إفريقيا في الاقتصاد الإبداعي. لقد حققت الشركات الناشئة في مجال الترفيه أفضل عائدات لها في عام 2020، حيث جمعت ما مجموعه 13.9 مليون دولار – أي 116 ضعف أرباحها المجمعة في عام 2018. وقد أدى هذا النمو إلى تعزيز تطوير التقنيات الجديدة، بما في ذلك البث عبر الهاتف المحمول ونشر المحتوى الرقمي. وعلاوة على ذلك، أثبت اقتصاد الترفيه مرونته وتحمل صدمات جائحة كوفيد وغيرها من الاضطرابات.
- النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل
أصبحت الصناعة الإبداعية محركًا رئيسيًا للنمو الاقتصادي والتشغيل في إفريقيا. وفقًا لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، قُدِّر الاقتصاد الإبداعي العالمي بنحو 985 مليار دولار في عام 2015 ومن المتوقع أن ينمو بسرعة، علما بأن إفريقيا تسهم بدور متزايد الأهمية فيه. ومن المرجح أن تقود الاقتصادات الأكثر ابتكارًا في إفريقيا الطريق في مجال التكنولوجيا وريادة الأعمال والتنمية الاجتماعية والاقتصادية. وتضع دول مثل موريشيوس وجنوب إفريقيا وكينيا أقدامها على الطريق الصحيح من خلال السياسات والاستثمارات التي تعزز الإبداع والنمو. ومع إعطاء المزيد من الدول الأولوية للابتكار، سيستمر دور القارة في الاقتصاد العالمي في الصعود. كما أنه مع ظهور قطاعات ناشئة مثل التكنولوجيا المالية والطاقة المتجددة والتحول الرقمي، فسوف تصبح إفريقيا نقطة جذب للتكنولوجيات الجديدة والحلول المستدامة.
- إشراك الشباب والابتكار
مع وجود أكثر من 60% من سكان إفريقيا تحت سن 25 عامًا، يوفر الاقتصاد الإبداعي وسيلة حيوية لتشغيل الشباب وريادة الأعمال. وبالفعل يستفيد العديد من الشباب الأفارقة من التكنولوجيا لإنشاء وتوزيع المحتوى، مما يعزز الاقتصاد الإبداعي الرقمي. وقد مكنت منصات مثل يوتيوب وسبوتيفاي وخدمات البث المحلية المبدعين من الوصول إلى الجماهير العالمية.
- التنمية الاجتماعية والاقتصادية
يمكن للاقتصاد البرتقالي تعزيز التنمية الشاملة من خلال دمج الفئات المهمشة والحفاظ على التراث الثقافي وتشجيع الابتكار. كما تساهم الصناعات الإبداعية أيضًا في السياحة من خلال عرض الأصول الثقافية لإفريقيا، مثل: المهرجانات الموسيقية والمعارض الفنية وعروض الأزياء. إن تأثير الاقتصاد البرتقالي يمتد إلى ما هو أبعد من مجرد المقاييس الاقتصادية. فهو يعمل كمحفز للتغيير الاجتماعي، ويوفر الفرص للمجموعات المهمشة ويعزز الشعور بالانتماء الثقافي والهوية. وعليه فإن هذا الدور المزدوج من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية يجعل القطاع الإبداعي عنصرًا حاسمًا في استراتيجية التنمية في أفريقيا.
ثالثًا: “نوليوود” نموذجًا
تجسد نوليوود، صناعة السينما المزدهرة في نيجيريا، الإمكانات التحويلية للاقتصاد البرتقالي في إفريقيا. وباعتبارها ثاني أكبر منتج للأفلام على مستوى العالم، لا تولد نوليوود قيمة اقتصادية كبيرة فحسب، بل تعمل أيضًا كوسيلة قوية للتعبير الثقافي والسرديات المعادية للاستعمار. كما تعكس أفلامها المشاهد الثقافية واللغات والموضوعات المجتمعية المتنوعة في نيجيريا، وتستعيد الهوية الإفريقية وتواجه وجهات النظر الغربية المهيمنة.
ومن الناحية الاقتصادية، تساهم نوليوود بنحو 2٪ في الناتج المحلي الإجمالي النيجيري، بإيرادات سنوية تتراوح بين 500 مليون دولار ومليار دولار، مما يجعلها قطاعًا غير نفطي مهمًا في اقتصاد البلاد. ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن إيرادات شباك التذاكر ليست سوى جزء واحد من القيمة الإجمالية لنوليوود. وتقدر القيمة المالية الإجمالية للصناعة بأنها أعلى من ذلك بكثير:
1- تقدر قيمة صناعة السينما النيجيرية بأكثر من 6.4 مليار دولار اعتبارًا من عام 2021.
2- تشير التوقعات إلى أن نوليوود قد تولد ما يصل إلى 14.82 مليار دولار بحلول عام 2025.
وتُظهر أفلام بارزة مثل (حفل الزفاف) ربحية الصناعة، حيث حقق الجزء الثاني منه أكثر من مليون دولار في شباك التذاكر. وتسهم نوليوود أيضًا بدور حيوي في عولمة الثقافة الأفريقية، وتعزيز القوة الناعمة النيجيرية وتعزيز السرديات الإفريقية المتنوعة في جميع أنحاء العالم.
وعلى الرغم من التحديات مثل الحماية المحدودة للملكية الفكرية والاعتماد على الأعمال منخفضة الميزانية، فقد رسخت نوليوود نفسها كقوة عالمية، مستفيدة من المنصات الرقمية لتوسيع نطاقها وإعادة تعريف دور الاقتصاد الإبداعي في التنمية المستدامة.
رابعًا: التحديات والفرص
على الرغم من إمكاناته الكبيرة، يواجه اقتصاد إفريقيا البرتقالي تحديات مثل التمويل غير الكافي، وحماية الملكية الفكرية الضعيفة، والبنية الأساسية المحدودة. وعليه فإن معالجة هذه القضايا من شأنها أن تفتح فرصًا كبيرة للنمو الاقتصادي، والحفاظ على الثقافة، والتأثير العالمي. وتدرك الحكومات والقطاع الخاص هذه الإمكانات بشكل متزايد، مع وجود مبادرات مثل خطة عمل صناعة السينما الإفريقية التابعة لليونسكو والاستثمارات في المراكز الإبداعية المحلية . كما يهدف برنامج “اقتصاديات الموضة في أفريقيا” التابع للبنك الأفريقي للتنمية إلى تعزيز سلاسل قيمة الأزياء في القارة وتحسين فرص الحصول على التمويل لرواد الأعمال المبدعين.
وباختصار، يمثل الاقتصاد البرتقالي حدودًا حيوية للتحول الاقتصادي في إفريقيا، والاستفادة من ثروتها الثقافية ومواهبها الشبابية لتعزيز التنمية المستدامة والقدرة التنافسية العالمية.
وختامًا: فإن الاقتصاد البرتقالي في إفريقيا يمثل مخزنا للفرص، حيث يوفر مسارًا تحويليًا للقارة لتحقيق التنمية المستدامة مع الاعتزاز بثرائها الثقافي. إنه أكثر من مجرد استراتيجية اقتصادية، فهو يمثل النهضة الإبداعية لأفريقيا – وهو بمثابة مقاربة تتماشى مع الجدوى الاقتصادية والأصالة الثقافية. ويمكن للدول الإفريقية من خلال معالجة المجالات الحرجة مثل التعليم وحقوق الملكية الفكرية والبنية الأساسية والوصول إلى السوق العالمية، أن تطلق العنان للإمكانات الكاملة لصناعاتها الإبداعية. ولا يخفى أن هذا القطاع يتمتع بالقدرة على معالجة التحديات الملحة مثل البطالة بين الشباب والتنويع الاقتصادي وخلق فرص العمل وتعزيز الإبداع وتمكين الأفراد. كما يحافظ في الوقت نفسه على التراث الثقافي الفريد لأفريقيا ويعرض إبداعها الديناميكي على الساحة العالمية. يعني ذلك أنه يمكن للاقتصاد البرتقالي أن يصبح حجر الزاوية في المستقبل الاقتصادي لإفريقيا. ومع نهضة إفريقيا، سوف ترسم صناعاتها الإبداعية صورة للرخاء والمرونة والقدرة التنافسية العالمية. واليوم حان الوقت لكي يدرك صناع السياسات والمستثمرون والشركاء الدوليون هذه الإمكانات ويرعونها لكي تتحول إلى إرث دائم من التحول الاقتصادي والثقافي.
…………………………………
[1] يشير هذا المبدأ إلى الأيديولوجية السياسية المرتبطة بتوني بلير، الزعيم السابق لحزب العمال ورئيس وزراء المملكة المتحدة، والتي تتميز بنهج وسطي يمزج بين السياسات الاجتماعية من يسار الوسط والمبادئ الاقتصادية من يمين الوسط. وتؤكد على قبول رأسمالية السوق الحرة، والاستثمار في الخدمات العامة مثل التعليم والرعاية الصحية، والحراك الاجتماعي دون فرض ضرائب عالية. ويشير هذا المبدأ أيضًا إلى سياسة خارجية تعاونية، وعلاقات قوية مع الولايات المتحدة.