التحوُّل من الدبلوماسية الاقتصادية إلى الهوية الإفريقية: دراسة التعاون بين نيجيريا وجنوب إفريقيا لتعزيز التكامل القارّي والتنمية في إفريقيا([1])
تأليف: صامويل أوجو أولورونتوبا
ترجمة: أسماء عبدالحفيظ خميس نوير
باحثة دكتوراه ومترجمة في تخصص فلسفة العلوم، كلية الآداب، جامعة أسيوط، مصر
الملخص:
تتمتع نيجيريا وجنوب إفريقيا بتاريخ طويل من العلاقات يعود إلى السبعينيات من القرن الماضي؛ حيث اتخذت الدولتان موقفًا مبدئيًّا ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
في عام 1994م، تم إنهاء حكم الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا، مما أتاح الفرصة لتشكيل حكومة تسيطر عليها الأغلبية السوداء. ومن بين أولى خطوات السياسة الخارجية للحكومة التي يقودها المؤتمر الوطني الإفريقي كانت إقامة علاقات مع الدول الإفريقية.
وبفضل التطور النسبي للاقتصاد الجنوب إفريقي، تمكَّنت الشركات من دخول الأسواق الإفريقية لاستغلال الفرص الكبيرة المتاحة. ونظرًا لكون نيجيريا أكبر سوق في القارة، ووجود طبقة وسطى متنامية؛ فقد شهدت وجودًا ملحوظًا للشركات الجنوب إفريقية؛ حيث يوجد اليوم ما لا يقل عن 134 شركة جنوب إفريقية تعمل في نيجيريا.
لقد ساهمت العلاقات السياسية للجهات الفاعلة الرئيسة في الحكومة في كلا البلدين بشكل كبير في تمكين عدد كبير من الشركات. وعلى الرغم من وجود مخاوف من أن نيجيريا لم تلقَ نفس الاستجابة من جنوب إفريقيا، يركز هذا البحث على النزاعات والتنافسات غير المبرَّرة، فضلًا عن العلاقة غير المثلى بين نيجيريا وجنوب إفريقيا على المستويين القاري والعالمي. وغالبًا ما كانت مواقف السياسة الخارجية للدولتين متباينة فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية والعالمية المهمة.
استنادًا إلى الأطر النظرية للاستقرار المهيمن hegemonic stability والوحدة الإفريقية Pan-Africanism، يطرح هذا البحث فكرة أن البلدين يجب أن ينتقلا من التركيز على المصالح المحلية الضيقة إلى إعطاء الأولوية للهوية الإفريقية والنهضة، وذلك لتعزيز التكامل والتنمية في القارة الإفريقية.
مقدمة:
تُعدّ نيجيريا وجنوب إفريقيا من أبرز الاقتصادات في قارة إفريقيا؛ حيث يُقدّر الناتج المحلي الإجمالي لكل منهما بحوالي 492.986 مليار دولار أمريكي و280.37 مليار دولار أمريكي على التوالي. ورغم التوترات والتعقيدات التي شابت العلاقات بين البلدين منذ عام 1960م، عندما حصلت نيجيريا على استقلالها، حتى بعد عام 1994م، حين انتقلت جنوب إفريقيا من نظام الحكم العنصري إلى حكم الأغلبية السوداء، فقد تؤدي الدبلوماسية الاقتصادية economic diplomacy دورًا أساسيًّا في تعزيز هذه العلاقات. وفيما يخصّ التجارة، تستورد جنوب إفريقيا من نيجيريا نفطًا بقيمة تتجاوز ملياري دولار، في حين تُصدّر إليها سلعًا تزيد قيمتها عن 400 مليون دولار.
فيما يتعلق بالاستثمار، يوجد في جنوب إفريقيا حوالي 134 شركة تعمل حاليًّا في نيجيريا، في حين تُعدّ شركة Oando Plc، وهي شركة نفط محلية، مُدرَجة في بورصة جوهانسبورغ. مؤخرًا، استثمرت مجموعة دانجوت([2]) Dangote نحو 400 مليون دولار أمريكي في صناعة الإسمنت في جنوب إفريقيا.
ومن الواضح من الأرقام المذكورة أن جنوب إفريقيا تعاني من عجز تجاري مع نيجيريا، لكنها تتفوق في تدفقات الاستثمار. ويُعزّز هذه الميزة وجود مجموعة متنوعة من الشركات ذات الأصول الجنوب إفريقية في نيجيريا. بالإضافة إلى مجموعة شبكة الهواتف المحمولة (Mobile Telephone Network Group) MTN، التي تُعدّ نموذجًا ناجحًا للاستثمار الجنوب إفريقي في نيجيريا، وهناك أيضًا استثمارات في مجالات مثل القطاع المصرفي، تجارة التجزئة، الهندسة، والعقارات، وغيرها من المجالات.
يشير أيوديل Ayodele فيما يتعلق بشبكة الهواتف المحمولة MTN، إلى أن حكومة جنوب إفريقيا اتبعت إستراتيجية تجارية في تعاملها مع شركة الاتصالات الكبرى من أجل الحصول على الموافقة لمنح الترخيص.
إضافةً إلى ذلك، فإن تحليل كيفية تعامل جنوب إفريقيا مع الدول الإفريقية الأخرى يكشف أن المصالح التجارية كانت لها الأولوية على القِيَم المشتركة للعروبة والهوية الإفريقية. ويكفي أن نلاحظ النزعة الإمبريالية sub-imperial التي تتبنَّاها هذه الشركات، بالإضافة إلى حوادث كراهية الأجانب ضد المواطنين الأفارقة، والتوترات مع الدول الإفريقية الأخرى حول القضايا العالمية الرئيسة، لنكتشف الفجوة في مختلف أشكال العلاقات. على الرغم من أن بعض الباحثين قد أبدوا قلقهم بشأن هذه القضايا، إلا أن هناك نقصًا في المعرفة حول كيفية إعادة تشكيل أنماط مشاركة جنوب إفريقيا مع دول إقليمية مهيمنة مثل نيجيريا، مما قد يسهم في تعزيز التكامل التنموي developmental integration في القارة.
ويؤكد أولورونتوبا Oloruntoba وجوميدي Gumede أن التعاون بين القوى الإقليمية في إفريقيا يمكن أن يُسهم في تحقيق مستوى أعلى من التكامل الإقليمي في القارة. ومع ذلك، لا يتطرق البلدان إلى الجوانب الثقافية والسياسية والجيوستراتيجية geostrategic التي ينبغي أن تُوجِّه هذه العلاقات. وينطلق هذا البحث من الأدبيات الحالية ليُقدِّم أُسسًا أكثر دقة وأيديولوجية للعلاقات بين نيجيريا وجنوب إفريقيا.
بعد هذه المقدّمة، يعرض القسم التالي السياق التاريخي للعلاقات الاقتصادية بين البلدين، خاصةً بعد عام 1994م. سيُسلّط هذا القسم الضوء على كيفية تأثير الجهات الفاعلة في الدولة على المشاركة الاقتصادية بين نيجيريا وجنوب إفريقيا. كما يتم تحليل النظام العالمي القائم على مبدأ “التكامل العالمي”، الذي يركز بشكل كبير على الاستثمار الأجنبي المباشر والتجارة الدولية، وكيف أسهم هذا النموذج في تشكيل نوع مُصطنع من التكامل، على حساب أشكال أعمق من التكامل في القارة. في القسم الثالث، يتم تقديم استجواب نظري انتقائي حول أشكال التعاون المرغوب فيها بين البلدين في سياقها.
تُستخدم الأطر النظرية المتعلقة بالوحدة الإفريقية([3]) والاستقرار المهيمن لتدعيم أشكال أكثر تكاملية وشمولية من التعاون بين نيجيريا وجنوب إفريقيا. وتشمل نظرية الوحدة الإفريقية الجوانب التاريخية والسياسية والثقافية للعلاقات بين البلدين. من جهة أخرى، تركّز نظرية الاستقرار المهيمن على الأدوار الحيوية التي يمكن أو ينبغي أن تؤديها الدول الإقليمية المهيمنة مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا في تعزيز سبل التنمية. يتضح ذلك بشكل خاص في قارة إفريقيا، التي تتمركز على هامش النظام الرأسمالي العالمي.
وعلى الرغم من أن تصور “ناي” لنظرية الاستقرار المهيمن يتناسب مع بناء نظام دوليّ ليبرالي، فإنه يمكن تطبيقه أيضًا في السياق الإقليمي الإفريقي؛ حيث تفرض الطبيعة الجزئية للدولة وطابعها الاتكالي على الدول الأكثر ثراءً أن تتحمل مسؤولية التكامل الإقليمي والوحدة القارية.
يتناول القسم الرابع تحليل كيفية تعزيز بناء علاقات أقوى بين الدولتين للتعاون التنموي والتنمية الاجتماعية والاقتصادية في القارة. بالإضافة إلى المزايا الاقتصادية المحتملة لهذا التعاون، فإنه يحمل أيضًا إمكانية تعزيز التكامل الثقافي، وإعادة تشكيل الهُوِيَّة الإفريقية، مما يُتيح لإفريقيا فرصة الحصول على صوت أعلى وأكثر تأثيرًا على الساحة العالمية. ويختتم القسم الخامس بالاستنتاجات والتوصيات.
العلاقات الاقتصادية بين نيجيريا وجنوب إفريقيا في سياقها التاريخي:
لقد تم تحديد وتيرة العلاقات الاقتصادية بين نيجيريا وجنوب إفريقيا بشكل كبير من خلال نوع التعاون القائم على المستوى السياسي. وقد جادل الباحثون بأن العلاقات بين البلدين اتسمت بالتناقض والتنافس والتعاون على مدى الخمسة عقود الماضية. وقد أشار أودوباجو Odubajo وأكينبوي Akinboye إلى أن التنافس بين البلدين يرجع بشكل رئيس إلى السعي لتحقيق المصالح الوطنية والحاجة إلى فرض الهيمنة في إفريقيا.
وتعود جذور التوترات الحالية بين البلدين إلى عمق التاريخ؛ حيث أصبحت إفريقيا محور السياسة الخارجية لنيجيريا بعد استقلالها في عام 1960م. وفي هذا السياق، بالإضافة إلى تبنّي ما يسميه “باخ Bach” مبدأ حق تقرير المصير الذي يدافع عن مصالح السود في جميع أنحاء العالم؛ كان إنهاء الاستعمار بشكل كامل أحد الأهداف الرئيسة.
ونتيجة لذلك، اتخذ القادة المتعاقبون في نيجيريا موقفًا حازمًا ضد نظام الفصل العنصري apartheid regime في جنوب إفريقيا. وصلت هذه القضية إلى ذروتها عندما اتخذت نيجيريا، تحت إدارة مورتالا/أوباسانجو في عامي 1975 و1976م، ونظام أوباسانجو/يارادوا في الفترة من 1976 إلى 1979م، إجراءات صارمة ضد المصالح البريطانية في البلاد، كعقوبة على الدعم الخفي الذي قدَّمته بريطانيا لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
على الصعيد المحلي، قامت نيجيريا بتأميم بنك باركليز Barclays Bank وشركة النفط البريطانية British Petroleum في عامي 1978 و1979م، وذلك ردًّا على الدعم السري والعلني الذي قدمته الحكومة البريطانية لنظام الفصل العنصري. ثم إن الدولة جمعت الأموال من خلال صندوق خاص يُعرَف بصندوق إغاثة جنوب إفريقيا South Africa Relief Fund (SARF) لدعم حركة التحرير التي يقودها المؤتمر الوطني الإفريقي.
على المستوى القاري، كانت نيجيريا جزءًا من دول خط المواجهة ولجنة مناهضة الفصل العنصري في منظمة الوحدة الإفريقية؛ حيث شاركت بنشاط في تعبئة الدول الأخرى ضد النظام الاستبدادي tyrannical regime في جنوب إفريقيا.
وقد أشار جو غاربا Joe Garba، الممثل الدائم السابق لنيجيريا في الأمم المتحدة، إلى أن الشركاء الغربيين لنيجيريا لا يمكنهم الادعاء بأنهم أصدقاء لها في حين يدعمون نظامًا يحتجز إخوة وأخوات نيجيريين في جنوب إفريقيا. إضافة إلى ذلك، كانت نيجيريا جزءًا من مجموعة “الشخصيات البارزة Eminent Persons “، وهي بعثة أرسلها الكومنولث بهدف إقناع نظام الفصل العنصري بالانخراط في عملية التحرر السياسي.
وقد قاد هذه المجموعة الزعيم أولوسيجون أوباسانجو Olusegun Obasanjo، الذي أفاد بعد جولتها غير المرغوب فيها في البلاد بأن رئيس الوزراء آنذاك، بوتا Botha، لن يقوم بأيّ إصلاحات أو تغييرات ما لم يفرض المجتمع الدولي عقوبات على نيجيريا. كما أدى الزعيم إيميكا أنياوكو Emeka Anyaoku، بصفته الأمين العام للكومنولث، دورًا حيويًّا في حشد الدعم ضد نظام الفصل العنصري حتى تم تفكيكه في عام 1994م.
وقد يتوقع البعض أن يتحوَّل دور نيجيريا في إنهاء الفصل العنصري إلى تعاون وتضامن سلمي بعد تولّي الأغلبية السوداء الحكم في عام 1994م. ومع ذلك، كانت نيجيريا في تلك الفترة تعاني من وطأة الديكتاتورية العسكرية military dictatorship للجنرال ساني أباشا .Sani Abacha بلغت العلاقات بين نيجيريا وجنوب إفريقيا ذروتها في عام 1995م، عندما قام الديكتاتور العسكري باعتقال كين سارو ويوا Ken Saro Wiwa، الناقد الأدبي والناشط البيئي، ورفاقه الذين كانوا يحتجون على التدهور البيئي في منطقة أوغونيلاند في دلتا النيجر. ورغم جهود مبعوث الرئيس نيلسون مانديلا Nelson Mandela والمجتمع الدولي آنذاك، أقدمت الحكومة العسكرية على إعدام كين سارو ويوا بوحشية في 10 نوفمبر 1995م. وقد أثار انعدام تمثيل قانوني مناسب في هذه العملية القضائية غضب المجتمع الدولي، مما دفع مانديلا إلى الدعوة لطرد نيجيريا من رابطة الأمم. كما ردّت نيجيريا برفضها المشاركة في كأس الأمم الإفريقية التي استضافتها جنوب إفريقيا في عام 1996م.
تزامنت الأحداث بشكل مثير؛ حيث أصبح الزعيم أولوسيجون أوباسانجو، الذي شغل منصب رئيس الدولة العسكري من 1976 إلى 1979م، رئيسًا مدنيًّا عندما عادت نيجيريا إلى الديمقراطية في عام 1999م. وفي الوقت ذاته، أصبح ثابو مبيكي Thabo Mbeki رئيسًا لجنوب إفريقيا. وكان مبيكي قد عاش في نيجيريا خلال السبعينيات كممثل للمؤتمر الوطني الإفريقي في المنفى. وبوصفهما صديقين قديمين، أسهم كلاهما في تعزيز العلاقات الوثيقة بين نيجيريا وجنوب إفريقيا خلال فترة ولايتهما. بالإضافة إلى الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية diplomatic relations على المستوى السياسي، تم إنشاء لجنة ثنائية القومية في عام 1999م لتعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين.
ووفقًا لسوجونلي؛ تهدف اللجنة، التي تم تشكيلها من كلا الطرفين، إلى تعزيز التجارة والاستثمار، بالإضافة إلى توفير منصة لبناء شراكة إستراتيجية ثنائية تتجاوز المصلحة المشتركة للبلدين، لتكون أيضًا وسيلة لتوحيد الأجندة الإفريقية African agenda. ومنذ عام 1999م، تشير الدلائل إلى أن اللجنة تؤدي دورًا مهمًّا في تعزيز مستوى تدفق التجارة والاستثمار بين البلدين. فقد ارتفعت عدد الشركات من أربع شركات في عام 1999م إلى حوالي مائة وأربع وثلاثين شركة تعمل حاليًّا في مختلف قطاعات الاقتصاد النيجيري.
كما يوجد متخصصون نيجيريون يعملون في مجالات متعددة في جنوب إفريقيا، خاصةً في مجالات التعليم والصحة. ويواصل عدد قليل من روّاد الأعمال النيجيريين العمل على نطاق صغير في البلاد، على الرغم من التحديات التي تواجهها مِن قِبَل سلطات جنوب إفريقيا.
وفي حين تسعى بنوك نيجيرية مثل بنك إفريقيا المتحدة United Bank of Africa إلى التوسع، تمكن بنك زينيث Zenith Bank وبنك غارانتي ترست Guarance Trust Bank من الوصول إلى دول إفريقية أخرى، وهو ما لم يكن ممكنًا في جنوب إفريقيا بسبب عدم موافقة السلطات. ثم إن العلاقات بين نيجيريا وجنوب إفريقيا خلال الفترة من 1999 إلى 2008م أسهمت في تعزيز الأجندة الإفريقية في كلا البلدين. وأسهم هذا التعاون المتميز في تشكيل الشراكة الجديدة من أجل التنمية في إفريقياNew Partnership for African Development (NEPAD)، وإعادة تسمية منظمة الوحدة الإفريقية إلى الاتحاد الإفريقي. ويمكن القول: إن هذه الفترة تمثل العصر الذهبي للأجندة الإفريقية في القارة، بعد حقبة نكروما.
وقد أسهمت الدبلوماسية الاقتصادية Economic diplomacy -التي تشارك فيها الجهات الفاعلة في الدولة- في تعزيز الجهود الدبلوماسية المكثفة لترتيب عقود تجارية أو إدارة النزاعات الناشئة عن انتهاك القوانين الوطنية، مما أدى إلى زيادة التدفقات التجارية والاستثمارية بين نيجيريا وجنوب إفريقيا. على سبيل المثال، بالإضافة إلى الدور الذي تؤديه الدبلوماسية في حصول شركة اتصالات الهواتف المحمولة MTN على رخصة مربحة للغاية في نيجيريا خلال الفترة من 2000 إلى 2001م، قام الرئيس السابق زوما Zuma بزيارة نيجيريا للتفاوض مع الحكومة الفيدرالية بعد أن فرضت غرامة كبيرة بقيمة 5.2 مليار دولار على الشركة بسبب عدم فصلها المستخدمين غير المسجلين على شبكتها. وقد أثمرت جهوده؛ حيث تم تخفيض الغرامة إلى ثلث المبلغ الأصلي. كما استعانت الشركة بإريك هولدرEric Holder، المدعي العام الأمريكي السابق، للتوسط في الأزمة المتعلقة بدفع الغرامات.
بوجه عام، من الضروري الإشارة إلى أن الدبلوماسية الاقتصادية في عصرنا الحالي تُعدّ امتدادًا للنظام التجاري السابق؛ حيث تقوم الدول بدور الوسيط لتوفير الفرص الاقتصادية لشركاتها. وتستمر الدول المتقدمة في الانخراط في الدبلوماسية الاقتصادية عبر مجموعة متنوعة من السياسات التجارية والصناعية، بهدف إقناع الدول الأخرى وأحيانًا تهديدها، من أجل خلق حوافز لشركاتها لتأمين العقود أو الحصول على موطئ قدم في الأسواق.
كما يشير تشانج Chang إلى تناقضات الاقتصاد السياسي الدولي المعاصر؛ حيث “تعارض الدول المتقدمة تدخُّل الحكومة في الأنشطة الاقتصادية للدول النامية”، على الرغم أن تقدمها يعتمد بشكل كبير على الدبلوماسية الاقتصادية. ويُعدّ تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر وتحرير التجارة من العناصر الأساسية في العلاقات بين نيجيريا وجنوب إفريقيا، والتي تندرج أيضًا ضمن نظام العولمة أو النظام الدولي المفتوح. في حين أن الدول تشجّع بنشاط حرية حركة السلع ورأس المال، إلا أنها تُظهِر اهتمامًا أقل بتعزيز حرية تنقل الأشخاص والاندماج الثقافي cultural integration.
من جهة أخرى، تُعزى أزمة الهجرة العالمية global migration واللجوء إلى النزعة الشعبوية populism، خاصةً في الدول المتقدمة وإفريقيا أيضًا؛ حيث يتجلَّى هذا التناقض في إعطاء الأولوية للسلع ورأس المال على حساب البشر. وفي سياق العلاقات بين نيجيريا وجنوب إفريقيا، في حين شهدت التجارة والاستثمار نموًا، زادت مشاعر كراهية الأجانب أو رهاب الأفارقة؛ إذ ينظر الكثير من مواطني جنوب إفريقيا إلى النيجيريين كأشخاص محتالين أو تجار مخدرات أو مجرمين بوجه عامّ.
كما يُواجه المتخصصون الذين يعملون ضمن المؤسسات الرسمية أشكالًا متطورة من كراهية الأجانب في بعض الحالات، مثل انتهاك حقوقهم في العمل. ومن الأمثلة الأخرى على هذه الانتهاكات: حالات التعاقد على العمل والاستبعاد من المناصب الإدارية. ومع ذلك، لا يعتبر هذا هو الوضع السائد؛ إذ هناك نيجيريون شغلوا مناصب إدارية عليا في الأوساط الأكاديمية، خاصةً في الأيام الأولى من حقبة ما بعد الفصل العنصري.
وقد لا يكون هناك ضرر في تعزيز التجارة والاستثمار، إلا أن الأدوار الإستراتيجية التي حددتها الطبيعة والقدر لهذين البلدين كبيرة للغاية، مما يجعلهما غير قادرين على اتباع نَهْج يُعزّز أيّ أجندة تكاملية لا تشمل الشعب. كما يشير أولورونتوبا Oloruntoba، فقد أصبح من الضروري للأفارقة معالجة أزمة الهوية التي تفصلهم حاليًّا، ليس فقط من خلال الحدود المادية، بل أيضًا على الصعيدين العقلي والنفسي. وتتجلى أزمة الهوية في مشاعر الكراهية الذاتية والتشويه والمحو، التي تعود في الغالب إلى عدم الوعي بالقواسم المشتركة للثقافة والموقع في التسلسل الهرمي العالمي للسلطة. ويضع نيامجوه Nyamjoh هذه الأزمة في إطار المنافسة على الموارد المحدودة. وبالنظر إلى المواقع التي تحتلها البلدان في إفريقيا من حيث عدد السكان والموارد الطبيعية والبشرية، فإن أهدافهما المعلنة للسياسة الخارجية التي تُركّز على إفريقيا تتيح لهما فرصة طبيعية للتعاون مع دول إفريقية أخرى من أجل رسم مسار نحو تحقيق الهوية الإفريقية الشاملة والتكامل والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية.
وتتجلَّى أهمية بناء هوية الوحدة الإفريقية في حقيقة أن الكثير من الدول التي أنشأها الاستعمار في إفريقيا لن تتمكن من تحقيق التنمية المستدامة، وتلك نتيجة لاندماجها في النظام الرأسمالي العالمي، وما يترتب على ذلك من تناقضات داخلية تؤثر على وجودها. ومن الواضح أن نيجيريا وجنوب إفريقيا تواجهان تحديات داخلية قد تُعيق جهودهما في قيادة القارة الإفريقية نحو صياغة هوية إفريقية موحدة وتعزيز الاندماج في القارة. لذا، يتطلب فَهْم هذه التحديات اتخاذ إجراءات اقتصادية وسياسية تهدف إلى إحداث تغييرات إيجابية في كلا البلدين. وسيوضح القسم التالي هذه النقطة من خلال منظور نظرية الاستقرار المهيمن ونظرية الوحدة الإفريقية.
الركائز النظرية:
يستند هذا القسم إلى حجة نظرية تتعلق بنيجيريا وجنوب إفريقيا؛ حيث يتم الانتقال من التركيز على الدبلوماسية الاقتصادية إلى السعي نحو تعزيز الهوية الإفريقية كخطوة نحو تحقيق التكامل التنموي في القارة. وتُعدّ هذه الحجة مثيرة للاهتمام؛ نظرًا لأن العرق والواقعية لا يزالان يشكلان جزءًا أساسيًّا من الهوية في عالمنا المعاصر. وكان دو بوا Du Bois صائبًا عندما جادل بأن مشكلة القرن العشرين هي مشكلة خط اللون والعِرْق. من خلال تأكيده، كان يستشرف الدور البارز الذي يؤديه اللون والعرق في تلك الفترة، خاصة فيما يتعلق بتأثيرهما على التقدم الاجتماعي والقوى الاجتماعية التي ستؤثر على مجريات الزمن. يستند تبريره لهذا الرأي إلى واقع توزيع السلطة والموارد بشكل غير متكافئ في العالم؛ حيث تفوق العرق القوقازي في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا على حساب الشعوب الملونة.
يتفق دو بوا مع آراء آخرين مثل وولرشتاين Wallerstein ورودنيRodney، الذين يشيرون إلى أن العلاقات بين العرق الأبيض والآخرين تتسم بالهيمنة والاستغلال وتضييق الفرص. في سياق ما يُعرف بفن الحفاظ على القوة من منظور ويد Wade، استطاع قادة الغرب، تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، فرض هيمنتهم على المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية، بطرق تضمن توافق عمل هذه المنظمات مع مصالحهم الاقتصادية. ورغم أن البعض قد يدَّعي أن الدول الآسيوية تمكَّنت من التحرُّر من السيطرة الغربية وتحقيق مستوى معين من التنمية الاقتصادية؛ إلا أن وضع إفريقيا يظل مختلفًا بشكل ملحوظ عن تلك الدول.
وفقًا لما يراه بعض الباحثين مثل دالوز Daloz وشابال Chabal، تُعدّ الفوضى السمة الأساسية للدولة في إفريقيا. وهذا لا يقلل من تأثير القوى المعاكسة للتنمية التي تدعم النظام الرأسمالي العالمي الحالي. على الرغم من أن عددًا متزايدًا من هذه المؤسسات قد تمَّ تأسيسه قبل حصول الدول الإفريقية على استقلالها العلمي، إلا أن النقطة الأهم تبقى هي عدم تكافؤ القوى الذي لا يزال يهيمن على النظام العالمي. وينطبق هذا على قضايا مثل وضع قواعد التجارة والاستثمار، والسيطرة على الشركات متعددة الجنسيات، بالإضافة إلى إدارة القوى الجاذبة والمركزية التي لا تزال تتنافس ضد شرعية الدولة. لذا، إذا كانت إفريقيا ترغب في الاستجابة بفعالية للتناقضات والقوى المحلية والعالمية التي أبقتها في حالة من القيود، فإنه يتعين على الدول الإقليمية المهيمنة أن تتعاون بشكل منسَّق من خلال عملية مدروسة تتضمَّن التفكير والإجراءات الرامية إلى إنهاء الاستعمار. هذا من أجل تحقيق التكامل القاري، ليس فقط في الجوانب الاقتصادية والسياسية، بل أيضًا فيما يتعلق بالشعوب وهويتها وجوهرها الثقافي. النظرية الأولى التي ينبغي استكشافها في هذا السياق هي نظرية الوحدة الإفريقية.
وتُعدّ الوحدة الإفريقية بناءً أيديولوجيًّا ونظريًّا في آنٍ واحدٍ. من الناحية الأيديولوجية، كانت بمثابة نقطة تجمع للحركة المناهضة للاستعمار ومقاومة التمييز العنصري ضد السود في الولايات المتحدة الأمريكية. وتعود أصول الوحدة الإفريقية إلى الولايات المتحدة؛ حيث بدأها أمريكيون من أصل إفريقي مثل ويليام دوبوا William Dubois وماركوس جارفي Marcus Garvey وسيلفستر ويليامز Sylvester Williams ومجموعة أخرى. ووفقًا لبراون Brown، “استنادًا إلى الاعتقاد بأن الشتات يتشارك في مصلحة مشتركة تتعلق بتعزيز الحقوق المدنية وحقوق الإنسان، بما في ذلك حق تقرير المصير، وإنهاء الهيمنة الاستعمارية الأوروبية في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ومنطقة البحر الكاريبي؛ أثبتت الوحدة الإفريقية أنها أيديولوجية قوية للسود”.
تزايدت أهمية الوحدة الإفريقية مع انعقاد أول مؤتمر لعموم إفريقيا في لندن عام 1900م، الذي هدف إلى تعزيز الوعي والإدراك بمعاناة السود في مختلف أنحاء العالم. ومن الممكن أن تكون اللحظة الأكثر دلالة على دور النزعة الإفريقية كأداة أيديولوجية في النضال ضد الاستعمار هي مؤتمر مانشستر لعموم إفريقيا عام 1945م، الذي جمع بين الأفارقة من القارة ومن الشتات على حد سواء. في ذلك الوقت، تعاون قادة عموم إفريقيا مثل كوامي نكروما Kwame Nkrumah من غانا، وتوم مبويا Tom Mboya، وجوليوس نيريري Julius Nyerere، وننامدي أزيكيوي Nnamdi Azikiwe مع الأفارقة المغتربين للمطالبة باستقلال الدول الإفريقية من نير الاستعمار، وإعادة هيكلة النظام الاقتصادي الدولي لضمان تحقيق المساواة.
من حيث كونها أيديولوجية، كانت مليئة بالتناقضات فيما يتعلق بتحديد الهدف والنطاق والأبعاد. كما أشار ندلوفو-جاتشيني Ndlovu-Gatsheni، كانت هناك ست نُسَخ من الوحدة الإفريقية تظهر التجارب التاريخية المعقدة للشعوب الإفريقية. وهذه النسخ تشمل النسخة العابرة للأطلسي، والأطلسية السوداء، والقارية، وجنوب الصحراء، والعربية الإفريقية، والعالمية. ووفقًا لزيليزا Zeleza، فإن الأشكال المختلفة من النزعة الإفريقية المذكورة أعلاه تحمل تصورات متنوعة كما يلي:
“تصوُّر أنصار النسخة العابرة للأطلسي عالمًا إفريقيًّا يمتد من القارة إلى الشتات في الأمريكتين، في حين كانت النسخة الأطلسية السوداء تركز على المجتمع الإفريقي في الشتات في الأمريكتين وأوروبا، متجاهلةً الأفارقة القاريين. من جهة أخرى، كانت النسخة القارية تهدف بشكل أساسي إلى توحيد القارة الإفريقية. وقد اقتصرت النسختان المعنيتان بجنوب الصحراء الكبرى والعربية على شعوب القارة شمال وجنوب الصحراء، مع امتداد العروبة إلى غرب آسيا والشرق الأوسط. في حين سعت النسخة العالمية إلى استعادة الهوية الواحدة للشعوب الإفريقية المشتتة في مختلف أنحاء العالم”.
يشير تشينويزو Chinweizu إلى أن التوسع المفرط في مفهوم الوحدة الإفريقية قد أثَّر سلبًا على قدرتها في مواجهة تحديات العرق الأسود وتحريره من هيمنة القوى العالمية. يبقى أن نرى كيف سيتم معالجة هذه التناقضات في فهم المعنى والنطاق في مسعى لإعادة تشكيل الهوية الإفريقية. لنستشهد مرة أخرى برأي بندلوفو-جاتشيني.
لم يكن لدى أيّ زعيم إفريقي إجابات واضحة عن هذه الأسئلة المعقدة. فقد انطلق جميع القوميين في تجارب قائمة على مبدأ التجربة والخطأ، مدعومة بنظريات متنوعة تهدف إلى إعادة تشكيل الهوية الإفريقية. وفي الواقع، فإن المبادرات الإفريقية المتعلقة بصناعة الهوية، مثل الوحدة الإفريقية، والنزعة الإصلاحية Negritude، والتوافقية Consciencism، والأوبونتو ubuntu (الإنسانية الإفريقيةAfrican Humanism)، والشخصية الإفريقية، والنهضة الإفريقية، تفتقر إلى المعنى إذا نظرنا إليها خارج إطار البحث الإفريقي الأوسع عن تعريف الذات وإعادة بناء الهوية.
كانت نزعة الوحدة الإفريقية، بوصفها نظرية، تمثل أساسًا فكريًّا لفهم العلاقات بين إفريقيا وبقية العالم. في هذا السياق، سعت هذه النزعة إلى تفنيد الروايات العنصرية التي تدعي أن إفريقيا تفتقر إلى التاريخ ولم تكن جزءًا من الحضارة الإنسانية، وهي آراء طرحها بعض الفلاسفة والأنثروبولوجيين الأوروبيين مثل هيجل Hegel. كما قدَّمت نزعة الوحدة الإفريقية إطارًا نظريًّا لإعادة تصوُّر الشعوب الإفريقية سواء في القارة أو في الشتات، مما أسهم في تفكيك الروايات الزائفة عن الآخر. ورغم أهميتها، لم تُركّز هذه النزعة على تقديم إفريقيا كموضوع رئيس في نظرية العلاقات الدولية. ومع ذلك، تظل هذه النزعة ذات صلة كنقطة انطلاق لفَهْم جوهر الوحدة والقومية الإفريقية unity and African nationalism؛ حيث تسهم في تشكيل هوية تضمن لإفريقيا صوتًا موحدًا في القضايا العالمية. كما كانت في الماضي، لا تزال هذه النزعة توفر أساسًا للتكامل والتنمية القارية في الوقت الحاضر.
نظرية الاستقرار المهيمن: تحليل الأهمية الإقليمية
تستند نظرية الاستقرار المهيمن Hegemonic stability theory في جوهرها إلى فرضية أن النظام الدولي المفتوح يعود بالنفع على المجتمع العالمي. وفقًا لسنيدال Snydal، تدعي النظرية أن وجود فاعل مهيمن واحد في الساحة الدولية يؤدي إلى نتائج إيجابية بشكل جماعي لجميع الدول ضمن النظام. ومع ذلك، فإن ذلك يعتمد على ما إذا كان هذا الفاعل المهيمن يتمتع بصفات قيادية خيّرة أو جبرية، وكيف تؤثر هذه العوامل على مصالح الدولة المعنية وقدرتها. المحور الرئيس في ورقة سنيدال هو أن نظرية الاستقرار المهيمن تواجه قيودًا في تطبيقها.
تعتمد النظرية على أن غياب القوة المهيمنة عالميًّا كان السبب وراء اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية. ويعتقد كراسنر Krasner أن كلاً من الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة الأمريكية تضطلعان بدور القوة المهيمنة منذ بداية القرن العشرين. ويُنْسَب الفضل في السلام النسبي الذي شهدته العالم منذ عام 1945م إلى صعود الولايات المتحدة كقوة مهيمنة عالمية. ويتصوّر هؤلاء المؤلفون نظامًا عالميًّا يعتمد على نظام دولي مفتوح؛ حيث تُعدّ التجارة الحرة عاملًا إيجابيًّا للنمو الاقتصادي. وقد أشار الباحثون إلى أن نظرية الاستقرار المهيمن تعاني من مشكلتين رئيسيتين، وهما التحديات الهيكلية وغياب الترابط بين العلاقات الاقتصادية والأمنية بين الدول المتقدمة بعد الحرب العالمية الثانية.
في هذا السياق، تشكَّلت العلاقات التجارية والنقدية الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بشكل رئيس من خلال تحالف شمال الأطلسي. وعلى هذا، يتجاوز دور الولايات المتحدة كقوة مهيمنة عالميًّا إلى الاستقرار الذي يقدّمه التعاون مع الحلفاء في أوروبا واليابان. وتشير سياسات الحرب الباردة ووجود قوى نووية أخرى بوضوح إلى أنه لا يمكن لأيّ دولة أن تتحمَّل بمفردها مسؤولية تحقيق الاستقرار والازدهار على مستوى العالم. وبالفعل، كما يبرز الصعود المتزايد للشعبوية populism والقومية الاقتصادية في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، فإن الحفاظ على الهيمنة ليس أمرًا دائمًا. فقد أظهرت تجربة الولايات المتحدة أن الهيمنة العالمية يمكن أن تتراجع وتتحول إلى مواقف قومية، خاصةً بعد الاستفادة القصوى من نظام مفتوح، ولا سيما عندما يقتصر هذا النظام على التجارة الحرة دون دمج عناصر التكامل الثقافي Cultural Integration.
مع أن نظرية الاستقرار المهيمن تُطبق بشكل أساسي في دراسة العلاقات الدولية، فإنه يمكن تطبيقها أيضًا في سياق النظام شبه العالمي مثل القارة الإفريقية. فقد واجهت جهود التكامل تحديات كبيرة بسبب عدم قدرة دول رئيسة مثل نيجيريا وجنوب إفريقيا على القيام بأدوار قيادية فعَّالة. كما يمكن فهم أهمية هذه النظرية من خلال انتشار المثل الليبرالية الجديدة neoliberal ideals التي تُعزّز التجارة والاستثمار كوسائل لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وهو ما شاركت فيه عدد من الدول الإفريقية.
وفي سياق متصل، يؤدي انتشار النزاعات والحروب في مناطق متعددة من إفريقيا إلى تجديد التزام الأفارقة بتقديم حلول إفريقية لمشكلات القارة، وذلك في ظل ازدواجية المجتمع الدولي في دوره كوسيط فعَّال في حالات النزاع. هذا الوضع يبرز الحاجة المُلِحَّة للهيمنة الإقليمية. فقد أسفر فشل المجتمع الدولي في إنهاء الإبادة الجماعية genocide في رواندا Rwanda، بالإضافة إلى التناقضات بين الولايات المتحدة وبريطانيا بشأن الحروب في ليبيريا Liberia وسيراليون Sierra، عن ضرورة اتباع نهج صارم للبحث عن حلول داخلية للتحديات الأمنية التي تواجه إفريقيا.
استنادًا إلى ما تم ذكره، يمكن القول: إن نيجيريا وجنوب إفريقيا من الدول المهيمنة إقليميًّا؛ حيث أسهمتا بشكل كبير في تعزيز السلام والأمن، فضلًا عن تعزيز حركة التجارة في مناطقهما. ويظهر الدعم الذي قدمته هاتان الدولتان للمجموعات الاقتصادية الإقليمية، مثل الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي، أدوارهما البارزة في هاتين المنطقتين. وقد أظهرت الدراسات أن نيجيريا أدت دورًا حيويًّا في إنهاء النزاعات في كلّ من ليبيريا وسيراليون. فقدمت البلاد الدعم المالي والبشري لفريق الرصد التابع للمراقبة الاقتصادية ECOWAS Monitoring Group لدول غرب إفريقيا، بهدف احتواء النزاع وتحقيق السلام والاستقرار في البلدين. وعلى الرغم من القيود والتحفظات، قامت جنوب إفريقيا بدور معين في تعزيز الاستقرار في ليسوتو Lesotho وزيمبابوي Zimbabwe. كما أرسلت قوات إلى جمهورية إفريقيا الوسطى بهدف استعادة النظام، بالرغم من أنها لم تحقق النجاح في ذلك.
تعزيز الهوية الإفريقية والاندماج الإفريقي: دراسة دور نيجيريا وجنوب إفريقيا
تُعدّ نيجيريا وجنوب إفريقيا من أبرز الاقتصادات في القارة الإفريقية؛ حيث تحتلّ نيجيريا المركز الأول وجنوب إفريقيا المركز الثالث من حيث الناتج المحلي الإجمالي، كما تمت الإشارة إليه في مقدمة هذا الفصل. يتمتع كلا البلدين بوَفْرة من الموارد المعدنية، وتتميز نيجيريا بوجود كفاءات مهنية عالية التأهيل، مع وجود عدد كبير من المغتربين بينهم. ورغم هذه الموارد وإمكاناتهما في تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية socio-economic development في إفريقيا، إلا أن كلا البلدين يواجهان تحديات محلية خطيرة، خاصة فيما يتعلق بالبطالة والفقر. كما يشير أديباجو Adebajo إلى أن التنوع العرقي والعنصري يُعدّ سمةً بارزةً في جنوب إفريقيا.
وأسهم التعاون بين البلدين خلال فترة رئاسة ثابو مبيكي Thabo Mbeki وأولوسيجون أوباسانجو Olusegun Obasanjo بشكل كبير في تحقيق عدد من التغييرات الإيجابية في القارة. بالإضافة إلى الأدوار التي قام بها كلا الرئيسين في تحويل منظمة الوحدة الإفريقية المُنحلة إلى الاتحاد الإفريقي، فقد تعاونا أيضًا في صياغة “الشراكة الجديدة من أجل تنمية إفريقيا” New Partnership for Africa’s Development (NEPAD). ورغم وجود بعض التناقضات الداخلية في هذا المخطط الاقتصادي، فإنه يُعدّ نقطة تحوُّل تُظهر رغبة القادة الأفارقة في وضع مسار للتنمية الاقتصادية في القارة. وإذا تم إدارة الموارد المتاحة في البلدين بشكل جيد، يمكن توجيهها نحو تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية. كما يشير أولورونتوبا Oloruntoba، فإن الاعتراف بالهوية المشتركة للأفارقة يتطلب التفكير خارج الحدود المصطنعة الحالية من أجل صياغة سياسات واتخاذ إجراءات إيجابية تُعزّز التنمية. وفي هذا السياق، أكد الباحثون في مجال التجارة عبر الحدود على وجود إمكانات كبيرة لزيادة حجم التجارة البينية بين الدول الإفريقية إذا تم إزالة الحدود الحالية.
ويمكن لنيجيريا وجنوب إفريقيا أن يؤدوا أدوارًا حيوية في تعزيز جهود إنهاء استعمار العقل والتعليم في القارة الإفريقية، فضلًا عن اتخاذ خطوات نحو تعزيز التكامل الاقتصادي. وعلى الرغم من التباينات الداخلية في النقاشات الجارية حول إنهاء الاستعمار في جنوب إفريقيا، إلا أن هذه النقاشات تظهر آراء علماء مثل واثيوجو Wathiogo، الذي يؤكد على أهمية إنهاء استعمار العقل واللغة والمناهج الدراسية كخطوة أساسية نحو تحقيق الاستقلال الكامل والحرية المطلقة للشعوب الإفريقية. وقد بدأت نيجيريا في هذا الاتجاه من خلال مدرسة إبادان للتاريخ Ibadan School of History وجامعة أحمدو بيلو Ahmadu Bello University في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
ويشير أروسيجبي Arowosegbe إلى أن هذه الجامعات قدَّمت بدائل للركائز المعرفية لفهم ديناميات إنتاج المعرفة في إفريقيا قبل الاستعمار. ويرتبط السعي لإعادة تشكيل الهوية الإفريقية ارتباطًا وثيقًا بإنهاء استعمار المعرفة في القارة. وفي هذا السياق، ينبغي تدريس تاريخ الدول القومية والإمبراطوريات والعلوم والتكنولوجيا في إفريقيا قبل الاستعمار في جميع مستويات التعليم.
فضلًا عن ذلك، يُعدّ إنهاء الاستعمار خطوة ضرورية لمساعدة الأفارقة على فهم الفروق التاريخية الدقيقة التي تُشكّل التسلسل الهرمي الحالي للقوة على الصعيد العالمي، والأسس الواقعية للاختلافات في تقسيم العمل الدولي، والأهداف الإنمائية المتنوعة التي وضعها المجتمع الدولي. هذه النقطة مهمة؛ لأن القادة الأفارقة غالبًا ما يُضلِّلون أنفسهم بالاعتقاد بأن الغرب ينظر إلى القارة الإفريقية بوصفها شريكًا في السعي المراوغ نحو التنمية.
ويضع أديديجي Adedeji هذه النظرة الطفولية السطحية childlike في سياقه الصحيح عندما يشير إلى أنه: “توجد دائمًا ثمة نظرة طفولية سطحية لدى القادة وصانعي السياسات في إفريقيا، يتمثل في الاعتقاد بأن الخطاب والواقع متطابقان، وأن الادعاء بالملكية يعادل فعليًّا امتلاكها. يزعم الأفارقة أنهم يقيمون شراكة، لكنْ من المؤكد أن الطرف الآخر سيظل ينظر إلى هذه العلاقة على أنها علاقة بين المانحين والمنتفعين”.
يمكن أن يسهم إدراك الفروق المشار إليها بين الخطاب والواقع في التزام الغرب بتنمية إفريقيا في تشجيع القادة الأفارقة على اعتماد نهج جديد يركز على تعزيز الوحدة الإفريقية.
عوضًا عن ذلك، تواجه إفريقيا مجموعة من التحديات في علاقاتها مع بقية العالم، مثل الفقر والنزاعات والحرمان، فضلًا عن ضعف موقفها التفاوضي في مجالات مثل التجارة وحقوق الملكية الفكرية وتغير المناخ.
هذه التحديات تستدعي تبنّي نهجًا إفريقيًّا يرتكز على الهوية الإفريقية. وهذا الأمر يُعدّ ضروريًّا لعدة أسباب:
أولًا: الطبيعة الجزئية للدولة، وغياب نخبة مهيمنة ذات رؤية تنموية يعيقان إمكانية تحقيق التنمية الشاملة ضمن الهيكل الحالي للدولة.
ثانيًا: استمرت النخب الحاكمة في اعتماد الإستراتيجية الاستعمارية المتمثلة في “فَرِّق تَسُد” في دولها.
وباستثناء جوليوس نيريري Julius Nyerere، رئيس تنزانيا، الذي كان لديه رؤية لتوحيد الجماعات المتنوعة في دولة قومية مثل تنزانيا الحالية، فإن معظم القادة في القارة يستغلون العرق والدين لتفكيك النسيج الاجتماعي في بلدانهم.
وإن بناء هوية إفريقية شاملة يمكن أن يسهم في تجاوز هذه المعتقدات الضيقة، وما تتركه من آثار سلبية على تعزيز التنمية المستدامة في إفريقيا.
الاستنتاج:
يتناول هذا البحث العلاقات بين نيجيريا وجنوب إفريقيا منذ الماضي حتى الحاضر. فقد كانت العلاقة بين البلدين متصدعة نتيجة لعدة عوامل. ويشير بيلو Bello وهنجاري Hengari إلى أن معالجة هذا الخلل تتطلب فهمًا أعمق للصورة الذاتية self-image لكلٍّ من نيجيريا وجنوب إفريقيا، بالإضافة إلى دوافعهما وتوجهاتهما الخارجية.
يستكشف الإمكانات التي يمكن أن يُوفّرها التعاون بين البلدين لإحياء الهوية الإفريقية وتعزيز الاندماج في القارة. كما يبرز أنه رغم التباينات التي شابت العلاقات بينهما، إلا أن كلا البلدين يمتلكان الموارد اللازمة لتحمُّل مسؤوليات أكبر قوتين رائدتين في المنطقة الإفريقية.
تنبع الحاجة إلى بناء هوية إفريقية من الوضع المهمَّش الذي تعاني منه القارة في النظام الرأسمالي العالمي، فضلًا عن واقع سياسات الهوية والاتجاه المتزايد نحو الشعبوية في مختلف أنحاء العالم، وضعف قدرة عدد كبير من دول القارة على المنافسة في نظام عالمي يتَّسم بتزايد التنافسية.
ويمكن أن يسهم تعزيز التعاون بين نيجيريا وجنوب إفريقيا في دفع القارة نحو تحقيق مستوى أعلى من التكامل. ومع ذلك، فإن التنافس على النفوذ بين نيجيريا وجنوب إفريقيا في المنظمات الإقليمية والدولية مثل الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة قد يُعيق إمكانية تعميق التعاون والالتزام المشترك بالأجندة الإفريقية.
ومن أبرز التحديات في هذا السياق هي هيمنة فِكْر الفصل العنصري الجديد بين شريحة واسعة من النُّخَب والشُّعب في جنوب إفريقيا، الذين يشعرون بأنهم مختلفون ومتفوّقون بطريقة ما على الأفارقة في شمال ليمبوبو. إن استمرار سياسات الفصل العنصري والتمييز اللغوي في سياسات الهجرة يمثلان أمثلة واضحة على كيفية اعتبار الأفارقة كغرباء في جنوب إفريقيا.
يبدو أن مشاركة عدد من أعضاء دول جنوب إفريقيا في عدة منظمات إقليمية مثل بريكس وإيبسا ومجموعة العشرين، بالإضافة إلى دور البلاد داخل هذه المنظمات، يثير تساؤلات حول التزامها بالأجندة الإفريقية. ورغم أن الدولة تُعدّ الأصغر بين دول البريكس والإيبسا، إلا أنها تُظْهِر اهتمامًا كبيرًا بعضويتها، مما قد يُشير إلى تفضيلها لمصالحها الخاصة على قضية تعزيز مصالح إفريقيا. يتطلب هذا التناقض في الهوية والجغرافيا مزيدًا من النقاشات حول سياسات الهوية في البلاد.
على الرغم من كثرة التحديات الداخلية التي يواجهها كلا البلدين؛ إلا أنهما يؤكدان أن إفريقيا تشكل محور سياساتهما الخارجية. ورغم أن أجندة إفريقيا كانت هادئة خلال فترة رئاسة زوما، فإن جنوب إفريقيا تحت قيادة سيريل رامافوزا تواصل إصدار تصريحات في مجال السياسة الخارجية، مما يدل على أن إفريقيا ستظل في صميم أولويات الإدارة الجديدة.
كما تُولي نيجيريا أهمية كبيرة لإفريقيا؛ حيث ترى أنها محور سياستها الخارجية. وبالنظر إلى العوامل المذكورة، فإن البلدين في وضع مثالي للعمل كقوتين رائدتين إقليميًّا، قادرتين على تحمُّل المزيد من المسؤوليات في قيادة جهود التكامل في القارة. وينبغي أن يتجاوز هذا التكامل الجوانب الاقتصادية ليشمل أيضًا الجوانب الثقافية واللغوية والاجتماعية، وأخيرًا السياسية.
…………………………………………..
[1] Samuel Ojo Oloruntoba. “From Economic Diplomacy to Pan-African Identity: Exploring Nigeria-South Africa Cooperation for Continental Integration and Development in Africa”, In: Tella, O. (eds) Nigeria-South Africa Relations and Regional Hegemonic Competence. Advances in African Economic, Social and Political Development. Springer, Cham, 2018. https://doi.org/10.1007/978-3-030-00081-3_8
[2]– مجموعة دانجوت Dangote Group تعود ملكيتها للملياردير النيجيري أليكو دانجوت المعروف بأنه أغنى شخص في إفريقيا؛ وفقًا لمجلة فوربس لعام 2015م.
[3]– إن الوحدة الإفريقية ليست مجرد حركة، بل هي أساس شامل لفهم ظروف العرق الأسود في القارة وفي الشتات على حد سواء، فضلًا عن مقاومتهم لهيمنة العرق القوقازي.