سارة عبد العزيز الأشرفي
صحفية وكاتبة متخصصة في القضايا الدولية والإقليمية وباحثة دكتوراه في جامعة مونستر بألمانيا
أكَّد مؤتمر “القيم الثقافية المتعلقة بالتراث الثقافي الإفريقي المائي: البحار والأنهار والبحيرات“، أن قضية الماء وإفريقيا تحتل محورًا مركزيًّا وأساسيًّا للبحث والنقاش على كافة المستويات، وفي كافة المجالات في كل مكان وزمان، مع الإشارة إلى أن العلاقة بين الماء وإفريقيا علاقة تاريخية ذات أبعاد دولية وإقليمية ترتبط وتؤثر في مجالات عديدة شديدة الصلة بالتراث والتاريخ والتنمية المستدامة، وغيرها من القضايا الإستراتيجية.
وأضاف أن الحديث عن الماء وإفريقيا ليس بجديد فهو موضوع وقضية تاريخية، وتمثل المياه محورًا ورمزًا للحياة في القارة السمراء، وهذا ما يؤكده التراث والتاريخ وأبرز معالمه وآثاره وملامحه، كما أن الماء يُشكّل ملمحًا أساسيًّا في القارة التي تحيط بها المياه والبحار والمحيطات وتقع بداخلها أيضًا، وتمثل عاملاً طبيعيًّا مهمًّا للغاية، يتعلق بمحاور إستراتيجية مهمة بمقدرات وحياة شعوب دولها، بالإضافة إلى ارتباطه بقضايا المناخ والتنمية والاستدامة على المستويات الإقليمية والدولية.
وأضاف الخبراء المشاركون في المؤتمر الدولي -الذي نظَّمته مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع جامعة سنجور والوكالة الجامعية الفرنكوفونية والمعهد الفرنسي للآثار الشرقية- أن إفريقيا قارة مائية تحيط بها البحار والمحيطات والأنهار والبحيرات، كما يحتل المحور المائي معلمًا جوهريًّا في القارة السمراء ويحيط ببلادها بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتتعدد وتتنوع محاور الحديث عنه في جوانب التبادل الثقافي والتجاري والفكري والعقائدي .
وشهد انطلاق المؤتمر رئيس جامعة سنجور الدكتور “تيرى فاردال”، ومدير قسم الثقافة بجامعة سنجور “ريبيو نازازا”، والأستاذ المشارك بجامعة سنجور والمتخصص في التراث الدكتور “جان فرانسوا فاو”.
وانطلقت فعاليات المؤتمر بمشاركة المئات من الطلبة والمتخصصين الأفارقة والدوليين، والذي ركَّز على قضية الماء وصلتها بالتراث الثقافي في المدن الإفريقية عبر العصور القديمة.
مدى قدسية الماء في القارة السمراء:
ومن جانبه، أوضح الخبير الدولي والإقليمي في مجال التراث الدكتور “أحمد منصور” مدير مركز دراسات المخطوطات في مكتبة الإسكندرية -في حديثه لقراءات إفريقية- أهمية الترابط بين الماء أو “المسطحات المائية” والتراث المائي، ومدى قدسية الماء في القارة السمراء، وكيف كان يُعبَّر عنه في التراث الثقافي الإفريقي، ويتجسد ذلك في الرواية التاريخية لها، فعلى سبيل المثال: كانت القارة تقدّس المياه، وكان هناك بعض الطقوس الخاصة لاستجلاب المياه، وبعض الممارسات الخاصة بالسيطرة على المياه وكمياتها، مشيرًا إلى أن وجود مثل تلك الطقوس وارتباطها بالمياه في أحواض الأنهار، سواء نهر النيجر، أو نهر الكونغو، أو نهر النيل، أو بحيرة تشاد أو بحيرة كيفو .
وأكد على انتشار التراث الثقافي الإفريقي في بلاد ما وراء المحيطات أو ما وراء البحار، وهناك ثقافة مشتركة تجمع بين المجتمعات الإفريقية سواء الموجودة داخل إفريقيا أو التي توجد في بلاد وراء المحيط أو البحر؛ ففرنسا لها مستعمرات وراء البحر في اتجاه الكاريبي، وتلك المجتمعات البشرية تتقاسم التراث الثقافي مع المجتمعات الإفريقية.
وأضاف أن المؤتمر خلال النسخة الثالثة التي عُقِدَت فعاليتها بمشاركة إفريقية إقليمية ودولية موسعة تحت عنوان: “من الحجر إلى الورق”، بينما اهتمت النسختان السابقتان بتوثيق اللغات والنقوش والأرشيف، أما النسخة الحالية فتركز على التراث المائي وإفريقيا، وكافة ما يتعلق بالتراث الثقافي الخاص بالمياه، وفِكْر المياه في القارة السمراء، خاصةً أن القارة يُحيط بها البحر المتوسط والبحر الأحمر والمحيطان الأطلسي والهندي.
وقال: إن هذا يطرح أسئلة عديدة تتعلق بالبحار والموارد المائية التي تحيط بالقارة السمراء، وتعامل الشعوب الواقعة عليها مع الماء وتراثها المائي، وتعامل دول وشعوب إفريقيا مع البحر المتوسط، ودول الشرق مثل مصر والسودان وإريتريا وجيبوتي والصومال مع البحر الأحمر، وكذلك الأمر بالنسبة للمحيط الأطلسي والهندي، ما هو التراث الثقافي المرتبط بالتعامل مع الأنهار والبحيرات، وما هي الشواهد الأثرية أو الشواهد التراثية المرتبطة بالتراث الثقافي المائي في إفريقيا وارتباطها بالبحار والأنهار والبحيرات، وكذلك آثارها على الجماعات والشعوب التي تعيش بالقرب من المياه، وكذلك الأساطير الخاصة بالتراث الثقافي المائي في القارة السمراء في كل مكان ودولة .
ترابط مصر بإفريقيا منذ أقدم عصور التاريخ:
أضاف الخبير الدولي والإقليمي في مجال التراث أن مصر تمتلك موانئ طبيعية تطل على البحر الأحمر، وكان هناك رحلات تجارية وثقافية متعددة تتم من خلالها، وهذا ما تؤكده المعالم والشواهد الأثرية في التاريخ المصري القديم، وتحديدًا في عهد الملك “خوفو” الذي بنى الهرم الأكبر وابنه “خفرع” الذي بنى الهرم الأوسط، وهناك مجموعة من الموانئ الطبيعية كانت تُستخدم للإبحار عبر البحر الأحمر، وتحديدًا للوصول إلى بلاد ما يسمى بـ “بلاد بونت”، مؤكدًا أن هناك العديد من الشواهد الأثرية التي تؤكد التعاون والتبادل مع إفريقيا منذ عهد الدولة القديمة، وتحديدًا في عصر الأسرة السادسة من خلال إرسال موظف يدعى “حرخوف” الذي استقدم مجموعة من المنتجات الإفريقية الجديدة إلى مصر، بما يؤكد أن مصر دائمًا على تواصل مع إفريقيا منذ عهد الدولة القديمة، وهي تعزز التعاون والتبادل الثقافي والتجاري، وغيرها من المجالات المتبادلة مع الدول الإفريقية، كما أن هناك شواهد أثرية تعود إلى عصر الدولة الوسطى في حوالي عام 2040 قبل الميلاد في مرسى جواسيس كانت تنطلق منها البعثات تجاه إفريقيا للحصول على المنتجات الإفريقية، وأهمها البخور وبخور المر وخشب الأبانوس والمنتجات الإفريقية والحيوانات الإفريقية وجلبها إلى مصر.
أما في عصر الدولة الحديثة فكانت تجري رحلات الذهاب هذه عن طريق البحر الأحمر، وفي العودة عن طريق نهر النيل، وتم تصويرها على جدران معبد “حتشبسوت” في الدير البحري في البر الغربي، ورحلات العودة سالمة غانمة، كما تشير الشواهد الأثرية والمناظر في الدير البحري إلى استقبال وفد بلاد بونت للوفد المصري وإقامته مأدبة عشاء وخروج رئيس القبيلة لمقابلة الوفد المصري على شاطئ البحر الأحمر، بما كان بمثابة زيارات دبلوماسية بين مصر والدول الإفريقية منقوشة على الجدران منذ أقدم عصور التاريخ، وكذلك في العصر الروماني في التاريخ المصري تشير الشواهد إلى أن كثيرًا من الأفارقة قدموا إلى جزيرة “فيلة”، وطلبوا استعارة تمثال الإله إيزيس لإقامة بعض الطقوس والاحترام لهذه الآلهة المصرية الموجودة، بما يؤكد الترابط بين التأثير المصري مع الدول الإفريقية، وأن التبادل الثقافي المصري كان تبادلاً ثقافيًّا حضاريًّا منذ أقدم العصور.
وتابع: هذا الترابط التاريخي الوثيق مستمر حتى العصر الحالي، فقد قامت مصر بإنشاء متحف يسمى “متحف النيل” سابقًا، أو “المركز الثقافي الإفريقي”، ويوجد في مدينة أسوان، ويُجسِّد تفاصيل الدول الإفريقية من خلال المنتجات الزراعية، وأهم السمات السكانية الموجودة في كل دولة، بالإضافة إلى أنه يُوثِّق مجموعة الأسماك الموجودة في نهر النيل، وهي نفس الرسومات الموجودة على جدران معبد الدير البحري في رحلة بلاد بونت عند العودة، بما يؤكد على الترابط التاريخي بين مصر والدول الإفريقية منذ أقدم عصور التاريخ وحتى العصر الحاضر والترابط المستقبلي .
توثيق التراث المائي والبحري في إفريقيا:
وأوضح أنه جرى توثيق التراث المائي في إفريقيا أثريًّا وتاريخيًّا، كما أن هناك العديد من الإصدارات البحثية، منها دورية “أبجديات” التي يُصدرها مركز دراسات الخطوط بمكتبة الإسكندرية، ومنها أعداد خاصة بالبحر الأحمر، وطرق أخرى للتوثيق عن طريق ما يُسمَّى بتوثيق الرحلة البحرية من خلال إعادة بناء إحدى سفن الملكة حتشبسوت وتجربة الإبحار بها في البحر الأحمر، وجرى ذلك خلال العقد الماضي.
وأكد أن هناك شواهد عديدة تشير إلى الترابط بين الفنون والماء في إفريقيا؛ فهناك ما يسمى موسيقى الأنهار وموسيقى أحواض المياه، والتي ترتبط بها مجموعة من الأساطير والقصص الخيالية غير الشعبية، كما كان في مصر القديمة أسطورة “سينيفرو”، والتي تروي أنه أخذ مجموعة من المراكب للتنزه في البحيرات، فكان الاهتمام بالتراث المائي ينعكس في الفنون بكافة أنواعها وأشكالها.
المياه لعبت دورًا محوريًّا في القارة السمراء وحياة شعوبها
كما أكد رئيس جامعة سنجور الدكتور”تيرى فاردال” أهمية المؤتمر الدولي الذي يشارك فيها الباحثون والخبراء، ويركز على قضية مهمة تتمثل في الماء وإفريقيا، والتي تحتل محورًا مهمًّا، ويجري مناقشته من خلال المناقشات الثرية واللقاءات المتخصصة.
كما أشار الأستاذ المشارك بجامعة سنجور والمتخصص في التراث الدكتور “جان فرانسوا فاو” إلى أهمية المؤتمر الدولي، مشيرًا إلى أن الماء قضية مهمة في إفريقيا، وتربطها بمحاور عديدة، ولعبت المياه دورًا محوريًّا في القارة السمراء وحياة شعوبها وترابطها واتصالها مع العالم الخارجي.
كما أوضح مدير قسم الثقافة بجامعة سنجور “ريبيو نازازا” أهمية المؤتمر الذي عُقِدَت نسخته الثالثة في مؤسسات معرفية مرموقة، منها مكتبة الإسكندرية وجامعة سنجور، كما ركزت النسخة الثالثة على المياه وإفريقيا، وتضم لقاءات ومناقشات حول الماء وإفريقيا والبحار والمحيطات والأنهار والتراث المائي في القارة السمراء.
وتضمَّنت الفعاليات عروضًا وغناء لمقطوعات وأعمال من التراث الثقافي الإفريقي المميز لدول شعوب القارة السمراء التي طالما ارتبطت حياتها وتاريخها بالماء، وعبّر عن الحياة على مر العصور وفي الحاضر والمستقبل.