تتغير دلالات المصطلحات، وتنمو أو تتقلص، بحسب ما يُحيط بمستخدميها، وظروف ثقافية أخرى، أو بحسب ما يطرأ عليها من تحولات وتغيُّرات سياسية أو اجتماعية.
وللتاريخ والجغرافيا دور كبير في تشكيل المصطلحات وتطوّر دلالاتها، وذلك جزء لا ينفصل عن تطور الاجتماع البشري؛ فاللغة كائن حيّ ينمو ويتأثر بالبيئة المحيطة به، خاصةً إذا كان المصطلح اللغوي يحمل مضامين ثقافية.
ومن أكثر المصطلحات الجغرافية، ذات المحتوى الثقافي، التي طرأت على دلالاتها تغيُّرات خلال حِقَب التاريخ المختلفة، مصطلحَا «السودان» و«إفريقيا»، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن دلالات عرقية ولونية، إلى دلالات جغرافية، وأحيانًا دلالات ذات أبعاد سياسية.
وفي هذا المقال، نحاول أن نتتبَّع التطور الدلالي لهذين المصطلحين، وما يرتبط بهما من مصطلحات فرعية، أو إضافات اصطلاحية، مثل «بلاد الزنج» و«إفريقيا جنوب الصحراء»، نتتبع ذلك من خلال كتابات المؤرخين العرب، أو المستشرقين الأوروبيين؛ لأنه كثيرًا ما يقع الاشتباك عند قراءة كتب التاريخ، فلا يكاد القارئ يُميِّز بين المصطلح ومدلوله في الظرف التاريخي لدى الكاتب.
السودان:
مصطلح (السودان) من الأسماء القديمة التي استخدمها العرب، في بداية الأمر، للإشارة إلى جنس أصحاب اللون الأسود، من الأحباش والزنج، والنوبة، ولم يكن في أول الأمر مصطلحًا جغرافيًّا، بقدر ما كان مصطلحًا عرقيًّا، ولهذا نجد في كتابات المتقدمين، من يتكلم عن سودان الهند([1]).
ولكن المصطلح تطوَّر مع توسُّع حركة التواصل بين العرب والبلاد التي يشملها اليوم مسمى إفريقيا، تلك الحركة التي ازدهرت بعد الإسلام، وتجاوزت التجارة والسفر، إلى الهجرات، والفتح العسكري، والاستيطان، والتزاوج والتمازج.
ومع تعدُّد اتجاهات التدفق العربي على إفريقيا، واختلاف أشكاله؛ من هجرة ولجوء في شرقها، إلى حركة فتوح عسكرية في أجزائها الشمالية، إلى سفارة وتجارة وانتشار دعوي وعلمي في غربها، ظهرت التصنيفات العربية لأجزاء القارة؛ فأطلقوا اسم (بلاد الزنج) على الساحل الشرقي لإفريقيا، وأطلقوا (إفريقيا على الأجزاء الشمالية منها التي تقع بعد مصر، وسمّوا مصر باسمها، وأطلقوا اسم بلاد النوبة على الممالك التي تقع جنوبها. أما السودان فقد مرَّ بأطوار كثير حتى وصل إلى مدلوله الذي أصبح فيه امتدادًا جغرافيًّا يبدأ من سواحل المحيط الأطلسي في غرب القارة، وينتهي بالنيل الأبيض في شرقها.
وقد كان للرَّحَّالة العرب -أمثال ابن بطوطة، وابن حوقل، والسعدي-، وغيرهم من المؤرخين الذين جاؤوا في الفترة ما بين القرن العاشر والرابع عشر الميلاديين، أثر كبير في تبلور المصطلح بأبعاده الجغرافية، حيث استبعدوا منه سودان الهند([2]).
أما فيما يتعلق ببلاد الزنج، التي تشمل سواحل إفريقيا الشرقية؛ فقد حدث فيها اضطراب كبير، فمن المؤرخين مَن يُدْخِلها ضمن أقاليم السودان، ومنهم مَن يَستبعدها، ويجعل السودان قاصرًا على ما عُرف في المصطلح القديم، بـ(ببلاد النوبة)، و(بلاد التكرور)، وأحيانًا نجد بعض هؤلاء المؤرخين يُدْخِل الصومال والحبشة الحاليين.
وفي الفترة التي تمتد من القرن الرابع عشر حتى القرن العشرين، دخل عنصر آخر في تطور المصطلح، وهو آراء المستشرقين الغربيين، فأحدثت تلك الآراء تغييرًا في المصطلح؛ “حيث صار يُطلَق على بعض سودان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى([3])، بل حدَّده بعضهم جغرافيًّا بسواحل المحيط الأطلسي غربًا، حتى الهضاب الحبشية في الشرق، ومن الصحراء في الشمال، حتى الغابات الاستوائية في الجنوب، واستبعدوا الزنج والحبشة من الإقليم، ثم جعلوه إلى ثلاثة أقسام، هي (السودان الغربي) الذي يضم البلاد الواقعة في غرب إفريقيا، مثل السنغال وغامبيا، والبلدان التي يشملها إقليم نهر النيجر، و(السودان الأوسط)، ويشمل البلاد التي تقع حول بحيرة تشاد، ثم (السودان الشرقي) وهو سودان وادي النيل([4]).
والحقيقة أن الباحث في تاريخ هذا المصطلح يجد ارتباكًا كبيرًا في تحديده جغرافيًّا، بين المؤرخين جميعًا، سواء كانوا عربًا، أم غربيين، بالذات فيما يتصل بدخول الحبشة وأرض الزنج، وما يزال هذا الاختلاف حول المصطلح قائمًا حتى يوم الناس هذا.
ولكنّ الناظر في كتابات المؤرخين القدامى، الذين استبعدوا أرض الزنج من مصطلح السودان، وجعلوه محدودًا من ناحية الشرق بنهر النيل وروافده، يجد أن ذلك راجع إلى (تصوُّر) يعتبر أن أرض السودان، هي الأرض التي يجري عليها النيل، وكانوا يعتقدون أن (نهر النيجر) ما هو إلا الامتداد الغربي لنهر النيل، ولهذا أطلقوا عليه اسم (نيل النيجر)، ولذلك نجد أن رحالة مثل ابن بطوطة، يتكلم عن (النيل)، وهو يقصد نهر النيجر.
إفريقيا:
في المصادر العربية، تُطلَق كلمة إفريقيَّة (بكسر الهمزة، وتشديد الياء في آخرها)، للإشارة إلى الجزء من شمال إفريقيا الذي يضم ليبيا وتونس، وقد يتَّسع المفهوم ليضم إليه المغرب العربي الكبير، قال صاحب القاموس المحيط: “وإِفْريقِيَةُ: بِلادٌ واسعَةٌ قُبالَة الأَنْدَلُس”. وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان: “إِفْريقِيَة -بكسر الهمزة-: وهو اسم لبلاد واسعة ومملكة كبيرة قبالة جزيرة صقلية، وينتهي آخرها إلى قبالة جزيرة الأندلس، والجزيرتان في شماليها، فصقلية منحرفة إلى الشرق، والأندلس منحرفة عنها إلى جهة المغرب”([5]).
أما في اللغات القديمة، فإن أقوال المؤرخين تضطرب بين من يرى أنها فينيقية الأصل، استنادًا إلى أن الفينيقيين كانوا يُطلقون اسم (أفري) على العديد من البشر الذين كانوا يعيشون في شمال إفريقيا بالقرب من قرطاج، وهي لفظة متحدرة من كلمة (أفار)، التي تعني غبار.
ومنهم من يرى أنها جاءت من كلمة (أبريكا) اللاتينية التي تعني “مشمس”، أو أنها تحدرت من كلمة (أفريكا) اليونانية التي تعني “بلا برودة”. وهناك نظرية أخرى ظهرت في القرن التاسع عشر، تذهب إلى أن الكلمة ذات أصل أمازيغي، مشتق من كلمة (إفري، أو إفران)، وتعني الكهف، في إشارة إلى سكان الكهوف.
ويذهب البعض إلى أن إفريقيا إقليم أسَّسه الرومان بعد سقوط قرطاجنة، وأطلقوا عليه اسم (province africa)، وآخرون ينسبونها إلى الملك الحميري إفريقيش بن صيفي، الذي طرده الأشوريون، وطاردوه حتى مصر، فسار منها غربًا، وتغلب على أهل البلاد، فصارت تنسب إليه([6]).
وشيئًا فشيئًا اتسعت الدلالة الجغرافية للمصطلح، حتى إن ابن خلدون أورد كلمة “إفريقيا السوداء”، بدلًا عن السودان، في أبيات نقلها عن شاعر مكناسي، يصف هزيمة بني مرين في القيروان بقوله:
أحجـاج بالنبي الذي زرتـم *** وقطعتم له كلاكل البيداء
عن جيش الغرب حيث يسألكم *** المتلوف في إفريقيا السوداء
ثم جاء الحسن الوزان (1483-1550م)، المعروف بـ(ليون الإفريقي)، فأحدث تحولًا واضحًا في المصطلح بكتابه “وصف إفريقيا”، وتأتي أهمية الوزان من كونه يمثل واسطة بين العرب والغرب، فهو مغربي الأصل أندلسي الموطن، وقد عمل في بلاط سلطان فاس، كما عمل لدى بابا الفاتيكان بعد وقوعه في الأَسْر.
وقد وسَّع “الوزان” حدود إفريقيا عما كان معروفًا عند العرب، فقال: “تُحَدّ إفريقيا، حسب رأي العلماء الأفارقة والجغرافيين، بالنيل من الناحية الشرقية، ابتداءً من روافد بحيرة كاوكا جنوبًا، إلى مصبّ هذا النهر في البحر المتوسط شمالًا، فتبدئ إفريقيا شمال من مصبّ النيل، وتمتد غربًا إلى أعمدة هرقل، ثم تمتد غربًا من هذا المضيق إلى نون، الذي هو آخر أجزاء ليبيا على ساحل البحر المحيط، ثم يبتدئ جنوب إفريقيا ليمتد على طول البحر المحيط، الذي يحيط بها كلها إلى صحراء كاوكة([7])،([8]).
ورغم كثرة النقاط غير المعروفة، إلا أنه من الواضح أنه يجعل النيل من المنبع إلى المصبّ، حدودًا شرقية لإفريقيا، التي تنتهي حدودها الغربية على طول ساحل المحيط الأطلسي، وهذا يعني أنه استوعب شمال إفريقيا، والسودان القديم.
ويوضح هذا المعنى أكثر في حديثه عن أقسام إفريقيا؛ حيث يقول: “يقسم مؤلفونا إفريقيا إلى أربعة أقسام، هي بلاد البربر، ونوميديا([9]) وليبيا، وأرض السودان”.([10])
وفي العصور المتأخرة في الغرب، ازداد مدلول إفريقيا اتساعًا ليشمل كل القارة المعروفة لدينا اليوم، ولكن وُلدت مصطلحات داخل هذا المدلول، للتفريق بين الأقاليم المختلفة داخل القارة، بعض هذه المصطلحات حملت مضامين ثقافية وعرقية. “فقد شاعت بين الكُتّاب الأوروبيين تسميات عديدة مثل (إفريقيا السوداء) و(إفريقيا البيضاء)، وتحوَّلت إلى (إفريقيا السوداء) و(إفريقيا العربية) أو (إفريقيا والعرب)، بل وأخذ بعضهم يرسم خطًّا بين الإفريقتين”([11]).
ويستند ذلك التقسيم المصطلحي، الذي يُفرّق بين المناطق التي يقطنها العرب في إفريقيا، وبين باقي إفريقيا، على النظرية العنصرية التي راجت في أوروبا خلال القرن التاسع عشر، ولكنها انهارت في الحِقَب اللاحقة عندما فقدت أساسها العلمي، كما فقدت سلطانها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، ليتم استبدالها بمصطلحات جديدة، صِيغَت بمنطق جغرافي بعيدًا عن المضامين العنصرية الواضحة، ولكنها تحمل ظلال الفصل الثقافي. فجاء مصطلح (إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى)، في مقابل (إفريقيا شمال الصحراء الكبرى) أكثر جزالةً ومنطقًا فيما يبدو للمتلقي البسيط، ولكنه يحافظ على الفصل بين العرب وغير العرب في إفريقيا.
ويُستخدم مصطلح (إفريقيا جنوب الصحراء)، لوصف تلك المنطقة من القارة الإفريقية التي تقع جنوب الصحراء الكبرى، وتضم 42 بلدًا تقع على البر الرئيسي للقارة، بالإضافة إلى ذلك، هناك ست من الدول الجزرية، وهي مدغشقر وسيشل، جزر القمر، الرأس الأخضر وساو توميه وبرينسيب.
ولاحقًا تطورت مصطلحات بديلة تحاول تجاوز التمييز الثقافي، وتُركّز على الإيكولوجيا الجغرافية، ومن أحدث تلك المصطلحات (إفريقيا المدارية) وإفريقيا (الاستوائية). كما قسمت القارة سياسيًّا إلى أربعة وحدات (شمال إفريقيا، وغرب إفريقيا، ووسط إفريقيا، وشرق إفريقيا، وإفريقيا الجنوبية).
وخلاصة تلك الرحلة الطويلة قطعها المصطلحان، أنها حددت عناصر للفصل المفاهيمي، فسياسيًّا أصبح (السودان) هو ذلك القُطْر الذي يقع جنوب مصر، وتَحُدّه من الشرق إثيوبيا وإريتريا، ومن الغرب ليبيا وتشاد وإفريقيا الوسطى، ومن الجنوب دولة جنوب السودان، التي تقاسمه الاسم مع الإضافة التي اقتضتها ظروف الانفصال.
وثقافيًّا ما يزال المصطلح القديم يحتفظ بنطاقه التاريخي الممتد، إلّا أن مصطلحًا جديدًا زاحمه الدلالة، وهو مصطلح (دول الساحل والصحراء)، الذي يسعى لفرض نفسه عبر أدوات سياسية تمثلت فيما يسمى بتجمُّع دول الساحل والصحراء.
كما استقر مصطلح (إفريقيا) عَلمًا كامل القارة، ومع استبعاد الضبط اللغوي العربي القديم (إفريقية) وصارت تُكتب وتُقرأ، حتى عند العرب، نقلًا تعريبيًّا للفظ الإنجليزي (Africa)، ولهذا فهي غالبًا ما تكتب (أفريقيا) مبدوءة بهمزة مفتوحة، بدلًا المكسورة، وتنتهي بياء مخفَّفة وألف مدّ بدلًا من الياء المشددة وتاء التأنيث. وما يزال مصطلح (إفريقيا جنوب الصحراء) (Sub-Saharan Africa) ماثلًا حتى اليوم، وإن كان يشيع استخدامه أكثر عند الأكاديميين والباحثين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1] – من هؤلاء؛ الطبري، والجاحظ، والمسعودي، وابن الجوزي.
[2] – د. محمد المصطفى أبو القاسم، مصطلح السودان في المصادر العربية والأجنبية، مقال منشور بمجلة الدراسات العليا، جامعة النيلين، العدد (14)، ص1.
[3] – المصدر السابق.
[4] – ومن هؤلاء: القس تيرمنجهام، في كتابه السودان؛ حيث زعم، في كتابه (الإسلام في السودان)، أن العرب كانوا يُطلقون مصطلح بلاد.
[5] – ياقوت بن عبد الله الحموي: معجم البلدان، دار صادر، بيروت، 1977م، ج1 ص 228.
[6] – د. محمد المصطفى أبو القاسم، المصدر السابق، ص (16).
[7] – (بحيرة كاوكا، ونون، وصحراء كاوكة)، لم أقف في أيٍّ من المصادر على معلومة تدل على مقابلات هذه المسميات، أو أماكنها الحالية.
[8] – الحسن بن محمد الوزان الفاسي، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي، محمد الأخضر، الطبعة الثانية، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1983م، ج1 ص 27-28.
[9] – نوميديا هي مملكة أمازيغية قامت في الجزائر الحالية، امتدت من غرب تونس الحالية إلى المغرب الحالي، أي إلى وادي ملوية وجزء من ليبيا الحالية حتى حدود إقليم برقة، وتُعتبر من أشهر الممالك القديمة للأمازيغ، وأكثرها قِدمًا
[10] – المصدر السابق ص 28.
[11] – نورا أسامة عبد القادر، مصطلحات ومفاهيم، موقع الجزيرة. نت:
http://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/FA7C3D6F-3CE8-42DB-8C4E-77B1FFE779E1