مدخـل:
من العادات القديمة لأهل بلاد «الهوسا» إقامةُ مجالس التّفسير في شهر رمضان لمدارسة كتاب الله تعالى، وتذكير النّاس بربهم، ودعوتهم إلى تدبّر كلام الله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويُرجع بَعضُ المؤرِّخين ظهور هذا العمل إلى عهد أمير «كانو» «علي ياجي» الذي حكم في (1300م)، وذلك عند نزول وفد قبيلة «وَنْغَرا» حَيَّ «مدابو» بقيادة الشيخ عبد الرّحمن الزَّيتي(1).
وهو عمَلٌ حَسَن؛ لما فيه من تحقيق قوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَان﴾ [البقرة : 185]، والتأسّي برسوله صلى الله عليه وسلم الذي كان جبريل عليه السلام يلقاه في أيّام شهر رمضان ليدارسه القرآن كما ثبت في الصّحيحين(2).
غير أن هذه الظّاهرة الإيمانيّة العلميّة قد أصبحت في الأزمنة الأخيرة يعلوها غبارٌ من الجهل، ويحيط بها سورٌ من الهوى والتّضليل، وهو ما يُنذر بخطرٍ محدِقٍ على إيمان المجتمع واستقامته، إن لم يتداركه الله تعالى بلطفه وفضله.
لقد أصبحت ظاهرةُ مجالس التفسير في رمضان في بلادنا ميداناً رحباً لبثّ السّموم القاتلة، ونشر العقائد الفاسدة، والمذاهب المنحرفة، والأفكار الهدّامة، باسم تفسير كلام الله تعالى، وترجمة معاني القرآن العظيم، ويَتمّ ذلك بجرأةٍ عجيبةٍ، ومجازفةٍ غريبةٍ، فيها كثير من التنطّع في ترجمة الآيات دون أدنى معرفة بأقوال المفسِّرين وعلماء اللّغة، ودون اهتمامٍ بتمييز الرّوايات الصحّيحة من السّقيمة، إضافة إلى الجهل بتأويلات السّلف الصّالح من هذه الأمّة، وتصيُّد تأويلاتٍ فاسدةٍ لبعض المفسّرين والمؤلّفين.
وقد كتب الشيخ أبو بكر محمود جومي (عميد الدعوة السلفية في نيجيريا رحمه الله) قديماً مذكرة بعنوان (تهافت المفسرين)، حذّر فيها من هذا المنزلق الخطير، ونبّه على ما ينشره كثير من المتصدّرين للتفسير من الإسرائيليّات والقصص الواهيات، وفي بعضها نيلٌ من مقام النّبوة، وطعنٌ في رسل ربّ العالمين، فاستاء من هذه المذكرة بعضُ أولئك، وعدّوها نيلاً من كرامتهم، وانتقاصاً لعلمهم، فردَّوها ولم ينتفعوا بما فيها من الحقّ الأبلج الواضح(3).
أصناف المفسّرين في السّاحة الدّعوية النّيجيريّة ومصادر تلقِّيهم لهذ العلم:
لقد أصبحت إقامةُ مجالس التفسير في نيجيريا إحدى وسائل الدّعوة والتّذكير بالله، وتعليم النّاس أحكامَ الدّين، ومعالجة بعض المشكلات الاجتماعيّة، ومناقشة بعض القضايا السياسيّة.
وتظهر هذه المجالسُ بكثرةٍ ملحوظةٍ في أيّام شهر رمضان، بل من الدّعاة والعلماء من لا يتطرّق إلى تفسير القرآن الكريم لعامّة النّاس إلاّ في رمضان، وكان يتصدّى لهذه المهمّة قديماً قلّةٌ من الدّعاة، وعلى الرغم من وجود بعض المتعالمين غيرِ المؤهّلين بينهم؛ فإن الأمر إذ ذاك لم يتّسع اتساعه الآن، ولم يستفحل فسادُه استفحاله الحالي، وقد كان منذ الأيام الأولى يوجد بعضُ أصحاب الاتجاهات المنحرفة يخوضون في تفسير كلام الله حسب أهوائهم، ويأوّلونه وفقاً لأغراضهم الفاسدة، يتبعون كثيراً من غُلاة المتصوّفة، لكن مع ذلك تجدُ أنّ كثيراً من النّاس يتورّعون عن الخوض في هذا الباب، ويخافون القول في كتاب الله بلا علم، فلا يُقدمون على مزاولة هذا العلم بجهلٍ، ولا يتجرؤون على تفسير كلام الله على غير مراده.
ويمكن أن نحصر أصناف المفسّرين في السّاحة الدّعوية والعلميّة في نيجيريا في الآتي:
الصّنف الأول: من لهم معرفةٌ بعلم التّفسير، ولهم بصرٌ بأحكام الدّين، درسوا العلوم الشرعيّة، وعرفوا اللّغة العربيّة، يتحدّثون بها، ويكتبون ما يكتبون بها، ويؤلفون بها، وهؤلاء نزرٌ يسير جداًّ، كان يمثّلهم في الجيل السّابق: الشّيخ أبو بكر محمود جومي، الّذي عُرف بعلمه وورعه وديانته، ودعوته السّلفيّة الإصلاحيّة، قدّم تفسير كتاب الله من أوّله إلى آخره غير مرّة، وأذيع في إذاعة نيجيريا «كدونا» خلال شهر رمضان، ويعاد في بقية أيام السّنة.
اهتمّ الشّيخ أبو بكر محمود جومي بالتّفسير اهتماماً كبيراً، وساءه ما يراه في قومه من القول على الله تعالى بغير علم، وتفسير كلام الله بالهوى والباطل؛ فكتب كتابه (ردّ الأذهان إلى معاني القرآن) باللغة العربيّة، رام بذلك تنقية ما شاب تفسير آياتٍ قرآنيّة كثيرةٍ من تفاسير باطلة، وتأويلات مضلِّلة، وما دخل كُتب التّفاسير من قصصٍ واهية، وإسرائيليات مزيّفة، يقول في مقدمته لتفسيره هذا: «فإنّ كثيراً من القصص الّتي أُدخلت في تفاسير القرآن أَذهلت العقول، فجعلت النّاسَ يقرؤونها للتفكّه بها لا للعمل بما جاء به القرآن من العبر والمواعظ والشرائع، وربما أدّى ذلك إلى [نسبة] ما لا يجوز شرعاً أو عقلاً إلى خيرة خلق الله الأنبياء والملائكة والصّالحين…. »(4).
وقد بنى تفسيره على (تفسير الجلالين)، يكاد يكون كلّه من هذا الكتاب إلاّ من زياداتٍ يسيرةٍ تتعلّق بما يشير إليه من الموضوع الرّئيس للسّور، لخَّصها تلخيصاً بليغاً من كتاب (في ظلال القرآن) لسيّد قطب، وقد نبّه إلى منهجه في آخر تفسيره فقال: «ولم أخالف ألفاظ الإمامين الجليلين: جلال الدّين المحلّي، وعبد الرّحمن السّيوطي إلاّ بما أشار إليه الإمام سليمان بن عمر العجيلي (الشّهير بالجمل) في حاشيته عليهما في كتابه (الفتوحات الإلهيّة بتوضيح تفسير الجلالين للدّقائق الخفيّة)؛ في أكثر المعاني الّتي ملت إليها في هذا الكتاب، ولذلك لم أحتج إلى إسناد أقوالٍ إلى قائليها الأصليِّين مما نقلت منه خوف التّطويل، ولسهولة مراجعة مواقعها في الكتاب المذكور.
واتّبعت سيّد قطب في كتابه (في ظلال القرآن) في الإشارة إلى المواضيع الرّئيسة لدروس السّور، واختصرتُ كلامه بقدر الحاجة ومقتضى المقام، وكثيراً ما انتفعت بنفس ألفاظه في التّفسير بدون التّنبيه على ذلك؛ كما مرّ في (الجمل). ونقلتُ بعض الأحاديث أو الآثار المرويّة من تفسير الإمام إسماعيل بن كثير، ولم أقم بالتّنبيه عليه لقلّة ذلك عندي. ففي آيات الصّفات والأسماء اتبعت العقيدة السلفيّة، وانتفعت في ذلك بكتب شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهاب، وإرشادات الشّيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز؛ جزى الله الجميع عنّي وعن الإسلام خيراً».
ثمّ جاء بعده الشّيخ جعفر محمود آدم – رحمه الله تعالى -، فسار على منهجه في تفسيره، وزاد عليه باعتماد تفاسير أخرى من تفاسير السّلف، وكانت لدراسته في الجامعة الإسلاميّة بالمدينة النبويّة في كلية القرآن الكريم أكبر أثرٍ في اتجاهه هذا.
وكان منهجُه في التفسير قائماً على ما يأتي:
– إعداد تفسير الآيات الّتي يريد تدريسها بالاعتماد على بعض كتب التّفاسير: وأهمّها (تفسير القرآن العظيم) للحافظ ابن كثير، و (محاسن التّأويل) لجمال الدّين القاسمي، و (أضواء البيان) للشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي، و (التّحرير والتّنوير) للشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور، و (الجامع لأحكام القرآن) لأبي عبد الله القرطبي، وكتاب (الصّحيح المسبور من التّفسير بالمأثور) للدكتور حكمت بشير ياسين (أحد مشايخه في الجامعة الإسلامية).
وكان يقدم خلاصةَ ما قرأه من هذه الكُتب في تفسير الآية بإيجازٍ شديدٍ، ممزوجاً بإرشاداتٍ تربويّة وكلماتٍ وعظيَّةٍ تُناسب الحال والمقام، ناظراً في كتاب (ردّ الأذهان إلى معاني القرآن) للقاضي أبي بكر جومي غيرَ مقتصِرٍ عليه.
– تفسير القرآن بالقرآن: على ضوء ما كتبه الشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي في كتابه (أضواء البيان)، ورسالته (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب).
– تفسير القرآن بالسنّة الصّحيحة، والآثار السّلفيّة: معتمداً في ذلك كتابَ (تفسير القرآن العظيم) للحافظ ابن كثير رحمه الله.
– السّير في تفسيره على عقيدة سّلف الأمّة: فيُفسِّر آيات الصّفات وفقاً لمنهج أهل السنّة والجماعة، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تشبيه.
– تجنّب الإسرائيليّات والحكايات المكذوبة، والقصص الموضوعة: الّتي شابت كثيراً من كتب التّفاسير، وشوّهت من جمال كلام الله تعالى، ولم يسلم من تأثيرها كثيرٌ من المفسّرين.
– البُعـدُ عن الأحاديث الضّعيفة والموضوعة في بيان أسباب نزول بعض الآيات، وتفسيرها: وكانت عمدتُه في هذا كتاب (الصّحيح المسبور) لشيخه د. حكمت بشير ياسين.
– بيان بعض وجوه الإعراب للآية من غير إسهابٍ: ويعتمد في ذلك على كتاب (الجامع لأحكام القرآن) وكتاب (التحرير والتنوير) لابن عاشور.
– تلمّس الواقع، وربط بعض الآيات بالحياة اليوميّة للنّاس: وكلمات وعظيّة وإرشادات خلال تفسير بعض الآيات حيناً بعد حين.
وقد ترك الشيخ رحمه الله أكبر أثرٍ في السّاحة الدّعوية والعلميّة، وانتشر تفسيره المسجّل في الأشرطة المسموعة والمرئيّة، وعلى الأقراص الإلكترونيّة(5)، وصار كثير من الخائضين في هذا المجال يحفظون منه أشياء ثم يخرجون إلى الناس ليقيموا دروساً في التّفسير، ويحوزون الفضل بغير جهدهم، ويتجرؤون على كلام الله تعالى بغير علم.
الصنف الثاني: دخلوا في التفسير من خلال كتاب (تفسير الجلالين)، واقتصروا على ما فيه دون إضافة من غيره، فتفسيرهم يكاد يكون ترجمة حرفيّة لعبارات الجلالين، وهو في بعض الأحيان أقرب إلى كتب (غريب القرآن)؛ من حيث الاقتصار على بيان بعض الألفاظ القرآنيّة دون التّطرق إلى شرح مضامينها وتحليل جُمَلِها.
وهذا الصنف من المفسرين أقل ضرراً من الصنف الذي يخوض في تفسير آيات الله بأهوائه في تأويلها وتحريف معانيها، وأقل نفعاً من الصنف الأول الذين أُعطوا نصيباً من معرفة الكتاب والسنّة، فأفاد منهم قومهم وانتفعوا بعلمهم.
وإذا رأيت واحداً من هذا الصنف وجدته لا يكاد يخرج عن (تفسير الجلالين)، ولا يكاد يقف مع الآيات إلاّ قليلاً، يترجم ألفاظ القرآن ترجمةً حرفية يُفهم منها المقصود في الجملة دون التّعمق فيها، ولا يعرّج على الإشارات النّحوية ولا النّكات البلاغيّة التي ترد عند (تفسير الجلالين).
الصّنف الثّالث: هم من دخلوا مجال التفسير من بوابة (تفسير الجلالين), وزادوا عليه ما في حاشية الصّاوي على الجلالين(6)، فتجد الواحدَ من أولئك المفسِّرين؛ كلّما جاء إلى آيةٍ للصّاوي حاشية عليها؛ وقف عندها وقرأ عليه قارئٌ من الحاشية المذكورة، وهو يترجم للنّاس، وغالباً ما تكون قصصاً واهيةً, وأحاديث موضوعةً، وأسباب نزول لا تصحّ، وبعضها فيها نيلٌ من كرامة الأنبياء، ومع ذلك لا يتنبّه هذا المفسر لها ولا يقف عندها موقف الناقد.
وهذا النمط من المفسّرين يكثر في الصّوفية ولا سيّما غلاتهم، ويتّخذون هذا الكتاب سلّماً للنّيل من عقيدة أهل السنّة، ونشر أباطيلهم، ودعوة النّاس إلى التّصوف الغالي، ويكثر هذا الصنف من المفسّرين في أتباع الشّيخ إبراهيم نياس السّنغالي.
الصّنف الرّابع: من اعتمدوا على (تفسير الجلالين) وجعلوه أصلاً، إلاّ أنهم يترجمون كلمات القرآن ترجمةً غامضةً لا يكاد السّامع يفهم منهم شيئاً سوى ألفاظ بلغة «الهوسا» تخرج من حناجرهم، يتغنون بها، ولا يقفون لتدبّر الآيات أو تأمّل المواقف، وإذا وقفوا فإنها وقفة هجوم على عقيدة أهل السنّة والجماعة، ودعوةٍ إلى التّصوف المقيت, ومن عجائب هؤلاء أنهم يُنهون تفسير القرآن كاملاً في ثلاثين يوماً في شهر رمضان لكلّ عام، أي بمعدلّ ترجمة جزءٍ كامل في كل يوم في حدود ساعتين من الزّمن!
الصنف الخامس: من لا يسترشد بكتاب، ولا يعتمد في تفسيره على أصل، بل يقول ما تملي عليه نفسه الأمّارة بالسّوء، يضرب الآيات بعضها ببعض ليخرج بمعان في تفسير كلام الله تعالى لم يقل بها أحدٌ من العلماء، ولا سطّرها يراعُ أحد من الكتّاب، غايتُه الدّعوة إلى طريقته الباطلة بتحميل كلام الله ما لا يحتمله، وتحريف الكلم عن مواضعه، ومع ذلك تراه يتفاخر بأنّه لا يعتمد كتاباً ولا ينظر في أصلٍ، ولا يدري أنّه بذلك ينادي على نفسه بالجهل، وعدم اعتماده على الكتاب هو اللاّئق بحاله؛ إذ كيف يجد كلّ تخبّطاته وأفكاره المنحرفة في كتابٍ؟!
ويمثّل هذا النّمط الشّيخ طاهر عثمان بوشي، الشّيخ المتصوّف الباطني، الذي لا يألو جهداً في الدعوة إلى العقائد الباطنية، يفسّر القرآن حسب هواه، ويفاخر بأنه لا يعتمد أصلاً، ولا ينظر في كتاب، مع أنّ هذا قصور ونقص؛ إذ لا تكاد تسمعه ينقل أقوال المفسرين في الآية، ولا يذكر تفسير الصحابة والتابعين؛ فكل أولئك يخالفهم في نهجه وطريقته.
وعلى منواله يسير القصّاصون الذين يقيمون مجالس التفسير في الأسواق والأماكن العامة، غالبهم (قرآنيّون) لا يؤمنون بأيّ كتاب إلاّ القرآن، ويترجمون القرآن ترجمةً خاطئة.
شدَّةُ تَخوّف السّلف من تفسير كلام اللّه بغير علم:
كان كثيرٌ من السّلف الصَّالح من الصحابة والتابعين يَهابون الخوض في تفسير كلام الله، ويُعظِّمون القولَ فيه خشيةَ القول على الله بلا علمٍ، عن ابن أبي مُلَيْكَة قال: «إن ابن عباس سُـئل عن آية لو سُـئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها»(7)، وأخرج الطبري في تفسيره بسندٍ صحيح عن الوليد بن مسلم، قال: جاء طَلْق بن حبيب إلى جُنْدُب بن عبد الله، فسأله عن آية من القرآن, فقال: «أحرِّج عليك إن كنت مسلماً إلا ما قمتَ عني. أو قال: أن تجالسني»(8).
وقال الليث، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: «إنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن»(9)، وقال شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، قال: «سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن، فقال: لا»(10)، وأخرج ابن جرير الطّبري بسندٍ صحيح عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: « لقد أدركتُ فقهاء المدينة وإنهم ليُعظِّمون القولَ في التّفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيّب، ونافع»(11)، وقال يزيد بن أبي يزيد: «كنا نسأل سعيد بن المسيّب عن الحلال والحرام – وكان أعلمَ النّاس -، فإذا سألناه عن تفسير آيةٍ من القرآن سكتَ كأن لم يَسمع»(12)، وعن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: أنه كان إذا سُـئل عن تفسير آية من القرآن، قال: «إنا لا نقول في القرآن شيئًا»(13)، وقال هشام بن عروة بن الزبير: «ما سمعت أبي يتأوّل آيةً من كتاب الله قطّ»(14)، وهؤلاء كلّهم من كبار تابعي أهل المدينة، ومن الفقهاء السّبعة الذين اجتمعت الأمّة على تقدّمهم وإمامتهم.
وأمّا أهل الكوفة، فقد أسند إليهم إبراهيم بن يزيد النّخعي قوله: «كان أصحابنا – يعني علماء الكوفة – يتّقون التّفسير ويَهابونه»(15)، وعن محمد بن سيرين قال سألت عَبِيدة السّلماني عن تفسير آيةٍ؛ قال: «اتّق الله، وعليك بالسَّداد وبالصواب، ذهب الذين كانوا يَعلمون فيما أُنزل القرآن»(16)، وهذا عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216هـ) – إمام في اللغة العربية – يَسلك مسالك الحذر، ويتوقّى تبيينَ معنى لفظةٍ وردت في القرآن الكريم(17).
وهذا ابن مجاهد يقول: قال رجل لأبي: أنت الذي تُفسِّر القرآن برأيك؟ فبكى أبي، ثم قال: «إني إذن لجريء، لقد حملتُ التفسير عن بضعة عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم».
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله معلقاً على هذه الآثار ومبيناً جهتها: «فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تحرّجهم من الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه، فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعاً فلا حرج عليه؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سُـئل عنه، مما يعلمه، لقوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَه﴾ [آل عمران : 187]، ولما جاء في الحديث الذي جاء من طرق: «من سُـئل عن علم فكتمه؛ أُلجم يوم القيامة بلجام من نار»… »(18).
من أدوات المفسِّـر:
ولعظيم خطر هذا الباب، وجلالة موقعه من العلوم الشرعيَّة؛ لم يسمح العلماء لكل واحدٍ أن يتصدَّر لمعالجته، ويتصدّى للخوض فيه، بل نصبوا لذلك أدواتٍ لا بدّ من استكمالها، وشروطاً يجب استيفاؤُها.
ومن أهم هذ الشروط:
1 – العلم بتفسير القرآن بالقرآن.
2 – معرفةُ الرِّوايات الصَّحيحة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في التفسير: فقد فسّر النبي عليه الصلاة والسلام كثيراً من الآيات القرآنية بأقوالِه وأفعاله، واعتنى بها المحدِّثون، وذخرت بها كُتبهم، فهي أولى ما يُفسَّر به كلام الله؛ إذ تبيينه منوطٌ به صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل : 44].
3 – معرفةُ أقوال الصحابة وتفاسير التّابعين وأتباعهم: فالصّحابة رضي الله عنهم أعلم النّاس بكلام الله تعالى بعد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم قد لازموا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حضراً وسفراً، سِلْماً وحرباً، وسألوه عن معاني بعض الآيات، وشهدوا مواقع التّنزيل، ووقفوا على أسبابه، ومعرفة السبب مما يُورث العلم التّام بالمسبّب، كما تميّزوا بنقاء اللّغة وصفاء الفهم والمعتقد.
والتّابعون – وإن كانوا دون الصحابة في ذلك – إلاّ أنّهم أدرى بالتّفسير ممن بعدهم؛ لقرب عصرهم من مشكاة النّبوة، وسلامة لغتهم العربيّة، وتمكنهم من ناصية العلوم الشرعيّة، مع صحّة المعتقد، والبعد عن البدع والأهواء.
4 – معرفةُ كلام العرب: فقد نزل القرآن بلسانٍ عربي مبين: ﴿إنّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياَّ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف : 2]، وكلّ من يتصدّر لتفسير كلام الله فلا بدّ له من تمام العلم بألفاظه العربية، وأساليبه البيانيّة؛ من علم الإعراب، والاشتقاق، والتّصريف، والبلاغة، وكيفية النّطق بالقراءات؛ ليتمكّن من ترجيح الرّاجح من الوجوه المحتملة في تفسير آياته.
وقد حذّر العلماء كلَّ من يتصدّى للتفسير وهو جاهل بلغة العرب، من ذلك قول مجاهد بن جبر التّابعي المفسِّر الجليل: «لا يحل لأحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلّم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب»(19)، وقال مالك بن أنس رحمه الله: «لا أوتى برجلٍ غيرِ عالِمٍ بلغة العرب يفسِّر كتابَ الله إلا جعلتُه نكالاً»(20).
5 – معرفةُ النّاسخ والمنسوخ: ليتبيّن له المحكَم من غيره، ومعرفة أسباب النّزول؛ لفهم تفسير الآيةِ على وجهها، يقول أبو عبد الرّحمن السّلَمي: انتهى عليّ بن أبي طالب إلى رجلٍ يقصّ، فقال: «أعلِمتَ الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكتَ وأهلكتَ»(21).
6 – مطالعةُ تفاسي�