د. مُحَمَّد الأمين سيـلا (*)
أ. جبريل فابوري كروما (**)
لقد كان في وُسْع التاريخ أن يمرّ بمدينة فارانا، كما مرّ بملايين المدن والقرى، دون أن يتريّث عندها كما تريّث على مدينة فارانا التي تميّزت بأحمد سيكو توري، وقدّمته للعالم، مدينة فارانا منبع نهر النيجر الذي يعطي الحياة والماء لجميع دول المنطقة.
هناك الكثير من الشخصيات الذين سطّروا التاريخ، وتركوا بصمةً واضحةً على السّاحة التاريخية، ولا تزال ذاكرة التاريخ تسطّر أمجادَهم.
يرَى بعضُ المحلّلين أنّ الرئيس أحمد سيكو توريه، من أشهر تلك الشخصيات التاريخية في القارة السّمراء، ويرَون أنه كان شخصية ماندنكية غِينيّة وإفريقية وإسلامية متفرّدة، حاضرة الذهن، حادّة الذاكرة، صاحبة بصيرة نافذة، ورؤية مستقبلية ثاقبة، وصاحبة إيمانٍ قويٍّ بكلّ نَهْجٍ انتهجه.
انبثقت فكرة ثورته ورؤيته المستقبلية، من جدّه الإمام «سَامُوري تُورِيه»، وتتمثل في جعل القارة الإفريقية «الولايات المتحدة الإفريقية»، لقد سلك سيكو توريه هذا الطريق الوعر، وخاضَ غمارَه برغم صعوباته، وبرغم أنه نَهْجٌ شيّبَ الكثير، ولا يزال، فقد خرج توريه منتصراً بدولةٍ حديثةٍ باسم «غينيا».
من ناحيةٍ أخرى؛ يرى بعضُ المحلّلين أنه كان ديكتاتوراً وسفّاحاً، أخذ دولته من رياض الأمل إلى مستنقع الفقر، ومن أولئك الكاتب الغِيني، الموظف السابق في إدارة سيكو توريه، شارلز إ.سوري الذي شبّه سيكو توريه في كتابه Sekou Toure: L’Ange Exterminateur «سيكو توريه: ملاك الهلاك»، وأراد أن يثير الانتباه بعنوان الكتاب قبل مضمونه، فشبّه قصّة «ملاك العذاب» لدى اليهود، الذي كان يُرسَل لإهلاكهم على ارتكابهم الجرائم البشعة، بقصّة قائد الثورة وصانع الاستقلال القومي الغِيني الحديث أحمد سيكو توريه.
نشأة أحمد سيكو توري Sekou Toure Ahmed:
لم تكن نشأة سيكو توري مختلفةً عن بني جلدته، فكانت نشأةً بسيطةً، في جوٍّ محافظٍ دينيّاً وثقافيّاً، وُلد في 29 يناير 1922م، في مدنية فَارَانَا (Farana)، في أسرةٍ ريفيّةٍ ملتزمة دينياً، ويَنتسب أحمد سيكو توري بن «ألفا توريه» إلى قبيلة مانديكا (Mandinka)، التي كان لها دَوْرٌ نضاليٌّ كبيرٌ ضدّ الاحتلال الفرنسي، فجدّه هو «الإمام سَامُوري تُورِيه»، مؤسّس إمبراطورية وَاسُولُونْ (Wassoulou)، الذي قاد الحركة الوطنية ضدّ المحتل الفرنسيّ حتى نهاية القرن التاسع عشر.
أنهى سيكو توري دراسته القرآنية في مدينته فارانا وهو طفلٌ صغير، ثم انتقل إلى مدينة كِسِيدُوغُو ليلتحق بالمدارس الفرنسية عام 1936م، وسعى بعد ذلك- اضطراراً- إلى مواصلة دراسته الصناعية والتقنية في مدرسة (George Poiret) في كوناكري(1)، لكن تمّ فصله منها لتنظيمه مظاهرة إضراب عن الطّعَام فيها.
اطّلع في تلك الفترة على أعمال فلاسفة الشيوعية فانبهر بهم، وبخاصّة كارل ماركس وفلاديمير لينين، ثم حاول سيكو توري الدخول في غمار الوظائف، ولم يكن له حظٌّ إلا في وظائف تافهة، لكنه اسْتَطَاعَ من خلالها تمويل تعليمه وإكماله بدورات بالمراسلة، ولذا لم يحصل على مؤهّلٍ أكاديمي رسمي(2).
سيكو توري والاحتلال الفرنسي:
فتح سيكو توري عينَيْه على العالم ودولتُه تحت نِير الاستعمار الفرنسي، حيث كان لفرنسا في جنوب الصحراء الكبرى كتلتان كولونياليتان كبيرتان، هما:
1- مستعمرة غرب إفريقيا الفرنسية (Afrique Occidentale Française (L’AOF: التي اتخذت دَاكَار (السنغال) عاصمة لها، تبلغ مساحتها 4,633,985كم، تحولت إلى الدول الفرانكوفونية في غرب إفريقيا.
2- مستعمرة إفريقيا الاستوائية (Afrique Equatauriale Française (L’AEF: كانت عاصمتها برزافيل (عاصمة كونغو برزافيل حاليّاً)، وتبلغ مساحتها 2,510,000كم.
نظام إفريقيا الاستوائية الفرنسية:
كان النظام الفرنسيّ الكُولونيالي نظاماً إداريّاً مركزيّاً، ذاق الإفريقيون تحته الكثير من صنوف العذاب، مثل: سياسة العنف الفرنسية، والتفرقة العنصرية(3).
وبالإضافة إلى ذلك قام الفرنسيون باستخدام الأفارقة في الحربَيْن العالميتَيْن، على سبيل المثال تمّ تجنيد 15,000 رجل في 1930م، وتحويلهم إلى Tireilleurs Sénegalais، أي الرّماة السنغاليون، وهو النعت الذي كان يُنعت به الإفريقيون السود في الجبهة الفرنسية آنذاك، بين 1939-1940م، وتمّ إرسال حوالي 80,000 إفريقي إلى فرنسا، وبين 1943-1945م عَبَرَ نحو 100,000 إفريقي البحر المتوسط للقتال في إيطاليا وغيرها(4).
ولم يقتصر الاستغلال الفرنسي للأفارقة على استخدامهم في غمار الحرب، فقد كان الأفارقة يعملون في المناجم لتقديم المواد الخامّ لفرنسا، وفي المزارع، والأعمال الشاقّة القسرية اللاإرادية التي أكلت أرواح ملايين الإفريقيّين، والأدهى من ذلك كلّه والأمرّ، تقديم الإفريقيّين الضرائب للنظام الكولونيالي لتمويل الحربَيْن العالميتَيْن(5)!
بداية حياة سيكو توري العمليّة والسياسيّة:
كان سيكو توري من القلّة النادرة الذين لم يعرفوا ساحة المناجم والأعمال القسرية على التراب الإفريقي، ولا عرف ساحة حروب فرنسا، بل كان من الذين حصلوا على وظائف ذات سُمعة كبيرة، لكن بدراهم معدودة، لا تليق بالكرامة الإنسانية، كان الفرنسيون يزهدون فيها، ولكن كان الحاصل عليها من الأفارقة يعدّ كأنه أحد المبشّرين بالجنّة.
في عام 1940م؛ عمل أحمد سيكو توري محاسباً لشركة النيجر الفرنسية، وحاول أثناء عمله فيها، إكمال دورسه، واجتاز الاختبارات بجدارة، ما مهّد له الطريق للانضمام إلى قسم الاتصالات (البريد، والبرق، والهاتف) بالإدارة الفرنسية.
بدأ سيكو توري- خلال عمله في البريد- يشجّع زملاءَه على تنظيم إضرابٍ عن العمل لمدة شَهْريَن لأجل الحصول على صفقةٍ جيدة، فاندلع صراعٌ عنيفٌ بين معسكر سيكو وزملائه وبين الإدارة الفرنسية، فأدّى الأمر به إلى الاستقالة عام 1941م.
برغم فَصْله من العمل واصل مقاومَتَه وكفاحَهَ، وكانت تلك المظاهرات في العهد الكُولونيالي مثمرة، حيث نجح سيكو توري في تأسيس النقابة الغِينيّة الأولى، نقابة عُمال البريد والاتصالات في عام 1945م، وأصبح أمينها العام في عام 1946م.
وبعد التأسيس؛ قرّبها سيكو توري إلى الاتحاد النقابي العُمّالي الفرنسيّ الكونفيدرالي المنتمي إلى الحزب الشيوعي الفرنسي، وأسّس سيكو توري كذلك مركز النقابة الفرنسية الغِينيّة: (اتحاد نقابات العمال) في غينيا.
في عام 1946م؛ شارك سيكو توري في مؤتمر (CGT) في باريس، قبل أن ينتقل إلى وزارة الخزانة، ومن ثمّ أصبح الأمين العام لاتحاد العمّال بوزارة الخزانة.
حياة سيكو توري السياسية:
لقد كانت أوائل الخمسينيات من القرن المنصرم فترةً حاسمةً في حياة سيكو توري السياسية، حيث قاد العمّال إلى الإضراب العام، وفي 14 يونيو 1950م حُكم على توري بالسجن ستة أيام إثر دعوته إلى الإضراب، فأمضى يوماً أو يومَيْن في الحَبْس الاحتياطي قبل إصدار الحكم عليه، قبل أن تُعطّل محكمة كوناكري تنفيذ هذا الحكم.
لم يكن غرض سيكو توري الأساسي يصبّ في السياسة، بل كان غرضُه الحقيقي هو النقابة، وعندما توفي الشخصية السياسية المعروفة في غينيا آنذاك «ياسين جالو» عام 1954م؛ احتل سيكو توري مكانه؛ لأنه كان قد احتلّ مكاناً كبيراً في قلوب الشباب والنساء، تحت راية الحزب الديمقراطي الغِيني PDG/RDA في الانتخابات التي خاضها مع باري جوادو Barry Diawadou زعيم حزب الكتلة الإفريقية في غينياLe Bloc Africain de Guinée، وخسر فيها توري، وقد زعم أنّ خسارته تعود إلى تلاعب الفرنسيّين بصناديق الاقتراع، وفي العام نفسه تمّ اختياره عمدة لكوناكري.
وبعد خسارته أمام باري جوادو؛ انتُخب في يناير 1956م نائباً غينيّاً للبرلمان الفرنسي، مع رفيق دربه السياسي ديالو سيف الله.
سيكو توري في مجازفة الانفصال التام عن باريس:
قام الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول بزيارة لغينيا في 25 أغسطس 1958م؛ لإقناع الغينيّين وعمدة كوناكري سيكو توري بالبقاء تحت وصاية فرنسا، باختيار «نعم» في الاستفتاء المترقّب، كان ديغول يتوقّع استقباله بالورد احتراماً وتوقيراً له، إلا أنّ سيكو توري أراد يضع لهذه العادة حدّاً، فهيأ الشارع الغِيني، وأراد أن يدخل التاريخ من بابه الأَمامي، ومضى نحو حرب استعادة سيادة أرض وطنه المحتلة من قِبل باريس.
الخطبة الشهيرة لسيكو توري أمام ديغول:
لقد كان سيكو توري شخصية كاريزمية ديناميكية، وعلى قدرٍ كبيرٍ من العبقرية ورجاحة العقل، الذي من خلاله تمكّن أن يبعث الروح العاطفية المؤثّرة في النّاس فكريّاً وحسيّاً وانفعاليّاً، بواسطة مهاراته الخطابية الأخّاذة، الملامسة لحاجة النّاس.
فوجئ الجنرال ديغول بسلوك المستقبلين له بشوارع كوناكري، وهم يصرخون بكلمة (Independence)، وعندما وصل إلى القصر الشعبيّ؛ وقف البطلُ الغِيني الإفريقي على المنصّة، وهو ابن خمسةٍ وثلاثين ربيعاً، ليُلقي خطبةً تُكتب بماء الذهب، يردّدها جيلٌ بعد جيل، ومما قاله فيها: «السيد رئيس حكومة الجمهورية الفرنسية: إنّ هناك لحظات حاسمة في حياة الأمم والشعوب تحدّد مصيرهم، لحظات تاريخية نسجتها أيادي الأبطال بطريقتهم الخاصّة، طريقة تعبّر عن التطوّر البشري وعن جهاده…
الرئيس؛ نعلم أنكم كُلِفتم بمهمّة الحفاظ على وحدة المجتمع الفرنسي، هذا طموحٌ وجهدٌ نبيل، يُفترض من خلاله أن تفهم مطالب الشعوب الملتصقة بالمجتمع الفرنسي واحترام وَعْيها… في الواقع؛ يجب ألا تَكُون الأراضي [الإفريقية] الحالية AOF وAEF كيانات سرمدية، فسوف تتحولان إلى دولتَيْن قويتَيْن صديقتَيْن لفرنسا، ليسود الاحترام الإنساني والاجتماعي، وكذلك الاقتصادي والسياسي لدستور برلمانات هذه الدول وحكوماتها الديمقراطية.
نَحْنُ الإفريقيّين في غينيا؛ على ثقةٍ بأنّ شجاعتنا وولاءنا وسعينا المتواصل المُنتِج للخير، وحبّنا للعدالة والتقدّم، سيقود- مع مرور الوقت- قوة مجتمعنا مستقبلاً نحو الازدهار والحرية… سوف يؤكد الاستفتاء في 28 سبتمبر أنّ الموقف الغِيني مواتٍ فقط لما ينصّ عليه الدستور:
1- الحقّ في الاستقلال والمساواة القانونية بين الشعوب المعنيّة، حقٌّ يعادل حرية هذه الشعوب لبناء مؤسّسات يختارونها، وممارستها في نطاقٍ واسعٍ في ولاياتهم وفي مجتمعاتهم، وإعطائهم قوة تقرير المصير والحكم الذاتي.
2- بدون قانون الانفصال؛ سوف تَكُون العلاقات الفرنسية الإفريقية في الوقت الراهن علاقة عشوائية، أو ضبابية، ومفروضة على الجيل الناشئ.
3- سيسّهل [الاستفتاء] التضامن الفعّال بين الشعوب والدول الحليفة تسريع تنميتها، ولقد قلنا لكم بصراحة، الرئيس، مَا مطالب الشعب؟… مطالبنا الأولى وحاجتنا الأساسية: كرامتنا، بحيث لن تكون هناك كرامة دون حرية، فنحن نفضّل أن نعيش بحريّتنا كفقراء على أن نعيش عبيداً بترف»(6).
وقعت هذه الخطبة على الجنرال ديغول وقوع الجمرة في الهشيم، لأنّ الحُلْم الفرنسيّ لمشروع المجتمع الفرنسيّ تحوّل إلى كابوسٍ في غِينيا، وربما في إفريقيا أجمع، وأجاب الرئيس الفرنسيّ في نبرةٍ غاضبة: «حسناً يمكنكم أن تحصلوا على استقلالكم، لن تعترض فرنسا، لكن سيكون هناك بالطبع عواقب»(7).
سيكو توري والاستفتاء:
بعد أن رجع ديغول خائباً من موقف الغِينيين وعمدتهم سيكو توري رئيس الحزب الديمقراطي الغِيني/ PDG/RDA الذي يتمتع بشعبيةٍ ساحقة، نجح سيكو توري في تهميش نفوذ الممثل الفرنسيّ في غينيا، وأحبط كذلك اللعبة الفرنسية التي كانت متوقّعة في صندوق الاقتراع، ومن ثمّ صوّت 95% من الغِينيّين ضدّ الخطة الفرنسية والمجتمع الفرنسيّ في 28 سبتمبر 1958م(8).
استقلال غينيا:
بعد تلك الخطبة الشهيرة في 25 أغسطس، والاستفتاء في 28 سبتمبر، أُعلنت غينيا دولة مستقلة في 2 أكتوبر 1958م، وأصبح أحمد سيكو توريه رئيساً لجمهورية غينيا، في وقتٍ ليس في هذه الدولة الحديثة سوى 200 خريج جامعي، ونسبة الأمية 95%، ومتوسط الدخل السنوي لمعظم الفلاحين حوالي 40$.
وبرغم كلّ هذه التحديات؛ فإنّه انتقد النُّخب الإفريقية المؤيّدة لفكرة الاندماج الإفريقي الفرنسيّ بقوله: «وإنه لسخفٌ كبيرٌ من جانب أولئك الزعماء الإفريقيّين المندفعين وراء أوهام الاندماج ونعيمه، التي لا يمكن أن يصلوا إليها بأفكار واقعهم العنصريّ الخاص، ونحن لا نقصد بالواقع العنصريّ مجرد الصفات البيولوجية، ولكننا نقصد الفروق الأساسية التي هي أكثر أهميّة، والتي لا يمكن أن تنصهـر في البوتقة الأوروبية الإفريقية التي يحلُم بها هؤلاء السّاسة».
سيكو توري والثقافة الوطنية:
كان سيكو توري يُدرك أهمية الثقافة في حياة الشعوب؛ لذا فقد اهتمَّ باللغة الوطنية، وكان من مقولاته: «يجب ألا تظلّ إفريقيا خاضعةً لأفكار وأساليب التعبير التي فرضتها فرنسا وإنجلترا والبرتغال، وغيرها من الدول الأوروبية، عليها إلى الأبد- إذا تبنّت هذه الدول لغاتها كلغات رسمية-، بل يتحتَّم على الدول الإفريقية استعادة تقييم لغاتها الوطنية الخاصّة، وتحويل اللغة الوطنية الغِينيّة إلى لغةٍ ثقافية؛ تسمح لها باستعادة أصالتها؛ بتحرّرها من أشكال التعبير الأجنبية التي غالباً ما تَكُون البرهان والدليل على النقص الفكري».
وأضاف أنّ «الكولونيالية حطّمت الشخصية القومية الإفريقية؛ إلى حدٍّ جعل بعضنا ينظر إلى قيمنا وتراثنا وتقاليدنا الأصيلة، وصور إنسانيتنا، بعين الازدراء، بأنها مظهرٌ لحياةٍ همجيةٍ بدائية، لكي يخلق فينا العُقَد التي تؤدّي بنا إلى اختيار أسلوب الفَرْنسة… لذلك يجب أن نسعى بجهودنا المتواصلة لإيجاد طريقنا الخاص للتفكير والتطوّر؛ إذا أردنا أن يتمّ تطوّرنا دون المساس بشخصيتنا الإفريقية، إنّ أيسر طريقٍ لحلّ مشاكلنا هو الذي ينبع من واقعنا الإفريقي، وكلّما كانت هذه الحلول صادرةً من صميم طبيعتها وتطوّرها النظري وهدفها العلمي؛ كان حلّ المشكلات أسهل وأبسط، لأنّ الذين يشتركون في وضعها لن يكونوا ضائعين في متاهات التفكير النظريّ المجرد، والبُعد عن واقعهم وظروفهم الخاصّة، هكذا يجب أن تعبّر صفاتنا المميزة عن إبداعنا الأصيل في التفكير والعمل».
لمّا كانت الثقافة في أعلى سلّم اهتمامات الرئيس توري، حيث ربطها بسياسته الوطنية، لقد قال في الذكرى الأولى للاستقلال 2 أكتوبر 1959م: «إذا كانت الثقافة ظاهرةً غير منفصلة عن الإنسان؛ فيتحتّم على القادة السياسيّين، الذين اكتسبوا ثقة النّاس بطريقةٍ حرّة وديمقراطية، مسؤولية توجيه تلك الثقافة على النَّهْج الصحيح، فَهُم- في الوقت نفسه- الناطقون والممثلون أو المدافعون [الرسميّون] عن تطلّعات شعوبهم وقِيَمهم الثقافية»(9).
السياسة الخارجية الفرنسية وتحدياتها وآثارها على إدارة سيكو توري:
في الوقت الذي كانت فيه نيران حرب الاستقلال مشتعلةً في الجزائر؛ أراد ديغول منح الدول الإفريقية جنوب الصحراء استقلالاً ضمنيّاً، لتَكُون لفرنسا الكلمة العليا في السياسات الخارجية والداخلية والأمنية العسكرية والاقتصادية لهذه الدول.
وكانت فرنسا تحلُم بأن تستعيد قوتها وهيمنتها على غينيا؛ لِمَا وهبها اللهُ لها من الموارد الطبيعية والأراضي الزراعية الخلابة، فهناك تسعة أنهار إقليمية تنبع من غينيا، منها على سبيل المثال نهر النيجر.
ولقد سمّى الكاتب الفرنسيّ رولان بريه (Roland Pré) غينيا: «الانفجار الجيولوجي»Scandale Geologique ، وقال: «وتحتفظ غينيا الفرنسية باحتياطيات هائلة من المواد الخام على كامل أراضيها، ولكننا سوف ننظر بشكلٍ رئيسيٍّ إلى الودائع القريبة من البحر، التي من المرجّح أن تُستغل الآن: الإيداع الحديدي لشبه جزيرة كالوم، ويشمل جزيرة تومبو… يشكّل واحداً من أكثر الودائع العالمية المستوردة، متوسط محتوى الحديد من الخام الإيجابي المعترف به هو ما يقرب من 5%، والحمولة من هذا الخام الإيجابي المعترف بها هو 606,000,000 طن. أما بالنسبة للخام المحتمل؛ فيمكن تقدير حمولته بحوالي 2 مليار طن؛ بمتوسط 44% من الحديد»(10).
جازف سيكو توريه في خطبته المشهورة، فكانت كإحدى الموبقات السّبع آنذاك، وصارت غينيا الدولة الفرانكوفونية الوحيدة في القارة الإفريقية التي عارضت خطّة فرنسا؛ متيقنة بأنّها لا تضمن لإفريقيا استقلالاً حقيقيّاً، فحوّلت خطبة سيكو توريه الحُلْم الفرنسيّ إلى كابوس.
وجاء ردّ الفعل الفرنسي أشبه بانتقام الحبيب المهجور، فغادر ثلاثة آلاف فرنسيّ غينيا، حاملين معهم كلّ ما يستطيعون، ومدمّرين كلّ ما لم يستطيعوا نقله، فالمدارس ودُور الحضانة والمباني الإدارية العامّة حُطِّمَت، والسيارات والكتب والأدوية وأدوات المؤسّسات البحثية والجرارات خُرِّبت وسُحِقَت، والخيول والأبقار في المزارع قُتلت، والأطعمة حُرقت أو سمّمت(11).
واتخدت الاستخبارات الفرنسية عدة خطوات لتُبْركَ غينيا سيكو توريه على قَدْميها أمام فرنسا العظمى، في تلك الأثناء كان جاك فوكار- رئيس الاستخبارات الفرنسية(12)SDECE – موجوداً في دكار مع فريقه المكلّف بغينيا، وكان موريس روبرت Maurice Robert المسؤول عن غينيا.
ومن العمليات التي دبّرتها الاستخبارات الفرنسية لإسقاط حكم سيكو توريه:
– شنّ حربٍ اقتصادية ودبلوماسية على غينيا: اقترح هذه الفكرة الجنرال بول غرسون Paul Grossion، فقامت الخدمة السابعة بالاستخبارات الفرنسية بتنفيذها بقيادة غاي ماريانGuy Marienne ، حيث قام بطباعة ملايين من العملة الغينية المزوّرة بمطبعة SDECE، وإدخالها بين العملة الغينية الصحيحة(13)؛ لضرب اقتصاد غينيا الدولة الشابة؛ دولة سيكو توريه، ويقرّ موريس روبرت بحقيقة هذه الحادثة(14).
– التمركز على الحدود الغِينية، وبخاصّة السنغالية والإيفوارية: بغرض تنظيم الجيش الفولاني في منطقة فوتا جالون، كنقطة انطلاق لشنّ حربٍ أهليةٍ على إدارة سيكو توريه، بقيادة العقيد فريدي بويرFreddy Buer.
– التنصت على جميع الاتصالات الصادرة من غينيا عامّة، ومن إدارة سيكو توريه خاصّة، لصالح الاستخبارات الفرنسية: وكان المهندس كلورد باشيلاد Clould Bachelard هو منفذ عملية التنصت في غينيا، وقد لاذَ بالفرار إلى تونس عام 1959م.
– التجسّس المكثف داخل غينيا نفسها، وبخاصّة العاصمة كوناكري: وكان من اختصاص الكابتن- الجندي الفرنسي السابق في الحرب الجزائرية- Roger Boureau Mitreale، الذي كان يعمل بالسفارة الفرنسية في كوناكري بوظيفة مزدوجة، حيث كان ممثل الاستخبارات الفرنسية سرّاً، وملحقاً صحافيّاً بالسفارة علناً، وكان نشيطاً في تجنيد المعارضين للرئيس.
– تخطيط عملية اغتيال الرئيس سيكو توريه في 1960م: دُبّرت على يد العقيد Triston Richard، أحد رموز المباحث والاستخبارات الفرنسية في الشؤون الإفريقية، وأخفقت عملية الاغتيال؛ لأنّ استخبارات جهمورية تشيكوسلوفاكيا أبلغت الرئيس توريه، وتمّ كشف جهاز التنصت من قِبل قوات الأمن التونسية(15).
الرئيس سيكو توريه في مواجهة المؤمرات الفرنسية:
بدأ سيكو توريه بتغيير العملة الوطنية بين حينٍ وآخر؛ تفاديّاً لتكرار عملية الأوراق المزورة التي دبّرتها فرنسا.
كما أوقف التجارة معها بشكلٍ شبه نهائي، وأجبر المواطنين على اختيار الاثنين يوماً للسوق الوطني؛ بدلاً من أن يكون لكلّ مدينة يوم سوق خاصٍّ بها، واستخدم أسلوب «أنّى لك هذا؟».
ولم يعد الرئيس سيكو توريه يرى حوله «سوى جواسيس وعملاء للكولونيالية القديمة والجديدة، وللإمبريالية العالمية، وللرجعية الإفريقية والغِينية»، وكان يحلو له أن يردد أنّ كلّ «ثورة تستتبع ثورةً مضادة؛ مثلما تستتبع الحياة والموت»، وأنّ «العنف الثوريّ هو ترياق العنف الرجعي والتآمري»، وأنّ «الثورة الغِينية لا بقاءَ لها ولا حياةَ؛ إلا بقدر ما تُفلح في أن تَكُون غينيا «مقبرة» للإمبرياليّين وعملائهم، وأذنابهم من الرجعيّين وخونة الأمّة والمرتدّين والمتخاذلين وأزلام الشيطان»(16).
وقد أدّت هذه السياسة إلى الاعتقالات والعنف، وخروج ملايين الغِينيين إلى الدول المجاورة، لأنّ الرئيس فَقَدَ الثقة في الجميع، ولم يعد يدري مَن معه ومَن العدو.
أحمد سيكو توري والعمل الإفريقي:
لما انسحبت غينيا من المجتمع الفرنسيّ لقيت ما لقيت من صنوف التهديدات، التي كادت الدولة تنهار بسببها؛ لولا التفاف الشعب الغِينيي حول رئيسهم سيكو توري، وبرغم ذلك؛ لم تحدّ هذه الأزمات من طموح سيكو توري.
– توحيد الدول الإفريقية المستقلة تحت لواءٍ واحد:
سعى سيكو توري إلى توحيد الدول الإفريقية المستقلة تحت لواءٍ واحد، وكان لزيارته للرئيس الغاني «كواميه نكروما» أثرٌ كبيرٌ في غرس البذرة الأولى لتأسيس مُنظّمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي حاليّاً)، حيث كوّنَا «اتحاد غينيا وغانا»، وانضمت إليهما مالي في 1960م، وسُمّي: «اتحاد الولايات الإفريقية المستقلة»، بالفرنسية (UEAI)، وبالإنجليزية (UIAS)(17).
انقسم الاتحاد بسبب الخلافات إلى وحدتَيْن متنازعتَيْن: وحدة مونروفيا، ووحدة الدار البيضاء، ولقد كان لكلٍّ من هاتَيْن الوحدتَيْن فلسفة متباينة في البحث عن حلول المشكلات الإفريقية.
ولم يستسلم سيكو توري لهذه المشكلات برغم تفاقمها وتشابكها، فاتصل بأقدم رئيسَيْن في القارة: الرئيس الإثيوبي «هيلي سيلاسي» والرئيس الليبيري «ويليام توبمان»، مقترحاً فكرة وحدة إفريقية تحت لواءٍ واحد، فاقتنع الرئيسان بفلسفة الرئيس توري، وبدأ كلٌّ منهما بإقناع نظرائهما بالفكرة، فاقتنعوا ووافقوا على إرسال وزراء خارجيتهم إلى العاصمة الإثيوبية لمناقشة سبل مَزْج الوحدتَيْن، وكلُّ هذه الأعمال كانت من أفكار سيكو توري.
– مساندته لجنوب إفريقيا في تحريرها دبلومسيّاً وماديّاً:
ساند سيكو توري جنوب إفريقيا في تحريرها دبلومسيّاً وماديّاً، وفي هذا يقول أحد رؤساء جنوب إفريقيا، في إحدى زياراته لغينيا كوناكري: «عندما قلتُ للرئيس مانديلا بأني ذاهبٌ إلى غينيا، فقال لي بأن أُبَلّغ تحيته الأخوية الحارّة إليكم- رئيس غينيا- وأن أقدّم إليكم الشكر على دعمكم ومساعدتكم لشعب جنوب إفريقيا في مقاومتهم لأجل التحرير»، فردّ الرئيس الغِيني قائلاً: «إنّ دولتنا صادقة لحُلْم القومية الإفريقية التي ظلّت جزءاً من سياستنا الخارجية»(18).
تقوية شوكة حكومة الرئيس نَكرُومَا:
ومن أعمال سيكو توري: تقوية شوكة حكومة الرئيس نَكرُومَا- رئيس غانا- في الانقلاب العسكري عام 1966م، وقد دعاه أحمد سيكو توري إلى تولّي منصب نائب الرئيس لحكومة غينيا، وهو مشهد لم يتكرر في تاريخ السياسة العالمية كثيراً إلا في غينيا في عهد سيكو توري.
أحمد سيكو توري وفكره الإسلامي:
رَفْض سيكو توري لنظرية فصل الدين عن الدولة:
رفض سيكو توري نظرية فصل الدين عن الدولة (أي فصل الإسلام عن الحياة الاقتصادية والسّياسيّة الاجتماعية)، ورأَى أنّ تلك دعاوى السياسيّين الذين يريدون تسخير السياسة لأهوائهم وطموحاتهم، فلم يجد الرئيس الفيلسوف في العِلْم تعارضا ًمع الدين، بل عدّ العِلْم أكبر برهان على وجود الله.
يرى أنّ مصطلح «السياسة الإسلامية» أدقّ من «الإسلام السياسي»:
ورأَى سيكو توري أنّ مصطلح «السياسة الإسلامية» أدقّ من مصطلح «الإسلام السياسي»، بمعنى أنّ السياسة تعمل في نطاق ومحدّدات الإسلام، لا أن يكون الإسلامُ مُسخّراً للأهداف السياسية، فيأتي التمسّح بالدين لجعل السياسات مقبولة.
نجح في وضع صورة للإمام المسلم العادل القُدْوَة:
وقد نجح في وضع صورة للإمام المُسلم العادل القُدْوَة، حتى إنه قد أعطى كلّ إمامٍ أرضاً زراعية لزراعتها، ليأكل من عمل يده، ويشعر بمعاناة النّاس والفلاحين.
أحمد سيكو توري وجهوده الإسلامية:
مشاركته في تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي:
كان لهذا المناضل الإفريقيّ باعاً طويلاً في تسيير القضايا الإسلامية، وتوحيد صفوف قادة المسلمين في مواجهة التحديات، ولعلّ من أبرزها تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي ( OCI/OICمنظمة التعاون الإسلامي).
فقد اقترح سيكو توري فكرة تأسيس المُنظّمة على الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود عند لقائه بجلالته عام 1964م؛ ليكون همزة وصلٍ تجمع الدول الإسلامية، وتكون بهواً لعرض وحلّ مختلف مشكلات المجتمعات الإسلامية، وتحقّقت الفكرة في 25 سبتمبر 1969م في العاصمة المغربية الرباط.
دفاعه عن فلسطين ومقدّساتها الإسلامية:
تزامن تأسيس مُنظّمة المؤتمر الإسلامي مع العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وحرق الأقصى الشريف في 21 أغسطس 1969م، لقد كان سيكو توري من أصحاب الصوت العالي في الدفاع عن فلسطين ومقدّساتها الإسلامية، منذ ذلك الوقت قطعت غينيا علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل، وقد اتجّه لعددٍ من الدول الإفريقية ساعياً لقطع علاقاتها بإسرائيل، قال Victor Levineو Timothy lake: «كان الإسلام- آنذاك- أداة التقارب الدبلوماسيّ بين الدول الإسلامية»(19).
نجاحه في إعادة عضوية مصر إلى منظمة المؤتمر الإسلامي:
ولمّا جُمّدت عضوية مصر في جامعة الدول العربية، ومُنظّمة المؤتمر الإسلامي، عقب توقيع اتفاقيات السَّلام المصرية الإسرائيلية، عمل سيكو توري جاهداً لإعادة مصر، فقد قال في اجتماع مُنظّمة المؤتمر الإسلامي عام 1984م بالدار البيضاء: «لقد اتّضح لنا جميعاً: بأنّ مشاكلنا لن تُحلّ بتجميد عضوية مصر، بل على العكس، فقد ازدادت [مشكلاتنا] تعقّداً؛ لأننا صرنا أكثر ضعفاً، فبعد إبعاد مصر وتعليق عضويتها ضمّت إسرائيلُ القدسَ، وأصبحت حركة التحرير الفلسطينية (فتح) مهدّدة بالإبادة، وأصبحت سوريا تتعرض لاستفزازٍ متواصل، وهكذا دفعنا ثمناً غالياً لفُرقتنا»، وبعد هذه التصريحات الواضحة من الرئيس الغِيني تمّت إعادة عضوية مصر إلى منظمة المؤتمر الإسلامي(20).
ومن جهود سيكو توري خارج قارة إفريقيا:
محاولته حلّ الأزمة العراقية الإيرانية:
ولم تكن الأزمة العراقية الإيرانية غائبةً عن دائرة اهتمام سيكو توري، فقد بَذَلَ ما كان في وُسْعِه من المحاولات لوقف نزيف الدم بين الدولتَيْن المسلمتَيْن، وكان الرئيس الغِيني رئيس «لجنة السَّلام الإسلامية» التّابعة لمنظّمة المؤتمر الإسلامي، وقد ذكر أنه «سيكون صعباً جدّاً على المنظّمة أن تلعب دَوْر المحكمة للفصل بين الظالم والمظلوم، ولكن يجب أن تنتهي هذه الأزمة من خلال التدابير العادلة (الدبلوماسية) والشريعة؛ لأنّ الشيطان يفرّق بين النّاس، والإسلام يوحّدهم».
إلى أن قال: «لسنا هنا للإجابة على أسئلتكم، ولكن جئنا حاملين السَّلام إليكم، ولأجل وضع حدٍّ لهذه الحرب، ونتوسل إليكم أن نركّز على حلّ المشكلة، وإنّ القيام بأيّ تضحيةٍ وجهدٍ في سبيل الإسلام ليس خيانة، لا شكّ بأنّ هذه الحرب لن تقتصر على إيران والعراق؛ بل ستتجاوزهما إلى دولٍ أخرى…»(21).
إنتاجات سيكو توري العلمية:
أحمد سيكو توري؛ كان رئيساً محبوباً على الساحة الإفريقية، وذلك لجهوده من أجل سلام الدول الإفريقية واستقلالها، ولم يفوّت ملتقًى أو محفلاً دوليّاً إلا دافع فيه بالحجّة والمنطق عن القضايا الإفريقية والعربية أيضاً.
وقد خطّ تجاربه وأفكاره في عدة مؤلفات، منها: (إفريقيا والثورة)، (إفريقيا في مسيرة النهضة)، (الثورة والدين)، (التجربة الفنية والوحدة الإفريقية)، (لائحة الحزب الديمقراطي الغِيني)، (الجماعات العِرْقية والحزب والمسألة القومية)، (تاريخ الحزب الديمقراطي الغِيني)، (الشعب والثقافة والثورة).
بعض الجوائز التي حصل عليها سيكو توري:
حصل سيكو توري على عددٍ من الجوائز، اعترافاً بدَوْره المتميّز في القارة السمراء، منها: «جائزة لينين للسلام» في مايو ١٩٦١م، و «قلادة النيل» من الرئيس الراحل عبدالناصر أثناء زيارته لمصر في ١٩٦١م، و «الدكتوراه الفخرية في التاريخ الإسلامي» من جامعة الأزهر؛ تقديراً لدَوْره وكفاحه ضدّ المستعمر في القارة الإفريقية.
أصواتٌ معارضة لسياسة سيكو توري:
من الناحية الأخرى؛ فقد كانت هنالك أصواتٌ معارضة لسياسة سيكو توري الداخلية والخارجية، ومن الذين ناضلوا بأقلامهم ضدّ سياساته: الكاتب الغيني إبراهيما بابا كاكية، وشارلز إ.سوري، وغيرهما.
ولعلّ هجوم الكاتب شارلز إ.سوري على شخصية سيكو توري ونظامه وسياسته كان مثيراً للجدل ولاذعاً جدّاً، جمع سوري انتقاداته لزعيم الثورة الغِينية في كتابه: Sekou Toure- L’Ange Exterminateur
يروي الكاتب شارلز إ.سوري أنّ سيكو توري اكتسب رمزيته الوطنية الكبرى من خلال الـ«لا» المشهورة التي رماها، في 28 أيلول سبتمبر 1958م، في وجه ديغول الذي كان في حينه ممثلاً لفرنسا النيو-كولونيالية؛ الساعية إلى إبقاء مستعمراتها السابقة تحت هيمنتها، لكن هذا الفعل البطولي– على حدّ قول سوري- لم يطل كثيراً، فلم يلبث أن تحوّل إلى ميلادِ أشرس الديكتاتوريات العالَمثالثيّة، التي حوّلت غينيا إلى سجنٍ كبيرٍ قضى فيه الآلاف من الغِينيّين نَحْبَهم تحت التعذيب، وأخذ الآلاف غيرهم طريقهم إلى المنفى طَوْعاً أو قَسْراً، وقَبَعَ مئات الآلاف من سكّان المدن والأرياف في فقرٍ مدقع، وفي حالة مطاردة دائمة للقمة العيش، في ظلّ نظامٍ من التقنين المعيشي وهيمنة الدولة التي بسطت قبضتها، باسم التحويل الاشتراكي، لكلّ كبيرةٍ وصغيرةٍ في دائرتَي الإنتاج والاستهلاك، وفي التجارة الخارجية والداخلية؛ على حدٍّ سواء.
يروي الكاتب أنّ معظم ضحايا نظام أحمد سيكو توري كان من إثنية الفولانية، وأشهر هؤلاء الضحايا على الإطلاق: «جالو تيلي» الذي شغل لمرتَيْن على التوالي منصب الأمين العام لمُنظّمة الوحدة الإفريقية، بين 1964م و1972م، قبل أن يزجّ به سيكو توري في السجن، حيث مات بالتعذيب والتجويع في شباط فبراير 1977م(22).
والواقع أنّ «جالو تيلي» اعتُبر في حينه المدبّر لما سُمّي بـ«مؤامرة البول»، وهذه لم تكن إلا المؤامرة السادسة في سلسلةٍ كان يكتشفها، أو يخترعها بالأحرى، النظام؛ لتكون مبرّره إلى ممارسة «العنف الثوري» الذي كان- على حدّ تعبير سيكو توري- «أوكسجين الثورة» الذي مِن دونه يكون مآلها إلى اختناق(23).
اتخذ سيكو توري وعائلتُه وعشيرتُه وإثنيتُه غِينيا مزرعةً خاصّة، ومعظم الطاقم الحاكم في نظام سيكو توري كان يحمل مباشرة اسم «توري»، أو اسم عائلة زوجته «كيتا»، كأخيه إسماعيل توري شقيقه الأصغر، وكاباسا كيتا. أما الوزراء وكبار ضباط الجيش وكبار الموظفين؛ فجميعهم تقريباً من إثنية «السوسو»، وعلى رأسهم تويا كونديه، الأمّي الذي رقّاه سيكو توري إلى منصب قائد أركان الجيش(24).
وبعد فترةٍ انتقالية، استولى فيها الجيش على مقاليد السُّلطة، حاولت أُسرتا توري وكيتا استعادة الحكم بالانقلاب، فأخفقت المحاولة، وتمّ إعدام أبرز أفراد الأسرتَيْن: عمارة توري، وإسماعيل توري، وسياكا توري، وعبدالله اللاي توري، ومامادي كيتا، وسيدو كيتا.
ثروة سيكو توري:
187 مليون دولار؛ في مصارف سويسرا – 844 مليون دولار؛ في مصارف إنجلترا – 158 مليون سيليس؛ في غينيا – قصران؛ في الرباط والدار البيضاء بالمغرب، وقصر؛ في إسبانيا – مزرعة و42 فيلا؛ في مدينة فاس – وبناية من 16 طابقاً؛ في باريس.
وفاته:
تُوفي أحمد سيكو توري عام 1984م، خلال عملية جراحية أُجريت له في كليفلاند (أوهايو/ الولايات المتحدة)، وهو رئيس لجنة السَّلام الإسلامية التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
الخاتمة:
ثلاثة وثلاثون عاماً على رحيل زعيم دولة، له ما له وعليه ما عليه، جاء سيكو توري حين جاء منعطفاً حاسماً في التاريخ الإفريقي الحديث، واعداً بالكثير في عالَمٍ يبحث عن الهوية.
بعد فترةٍ وجيزةٍ من رحيله؛ بدأ الشعب الغِيني، والإفريقي، يُدركون حقيقة الرجل الذي صاغ ملامح دولته حتى اليوم، ويتباكون على رحيله حين يرون رؤساء آخرين يدفنون رؤوس شعوبهم في التراب.
هذا هو سيكو توريه، حفيد «ساموري توريه»، الذي أخرج الاستعمار الفرنسي من أرضه دون حربٍ ولا دمٍ مهراق، وأجبر الفقراء على حبّه، وأجبر أعداءَه على احترامه، حتى بعد مماته، وجعل لشعبه قيمةً بين الشعوب، وفتح آفاق الوحدة في العالَمَيْن الإفريقي والإسلامي.
الهوامش والاحالات :
(*) محاضر بجامعة الأمير سونكلا/ بكلية الدراسات الإسلامية، جنوب مملكة تايلاند، فرع فطاني– من غينيا كوناكري.
(**) باحث في الشؤون الدولية، من غينيا كوناكري، مقيم في بريطانيا.
(1) George Poiret: مدرسة فنية صناعية يرسل عليها المواطنون من الدرجة الثانية تحت الحكم الكولونيالي.
(2) أبعد الحكم الكولونيالي أحمد سيكو توريه عن مواصلة دراسته في المدارس الأكاديمية التي تخرّج الكوادر الذين سيُمسكون بزمام القيادة مستقبلاً، وقطعوا أمامه جميع طرق الموصلة للدراسة الأكاديمية، لأنه كان مشاغباً، ينتقد الحكم الكولونيالي في إفريقيا، وينتقد كذلك مادة التاريخ الإفريقي الذي اصطنتعه فرنسا لتقول للمستعمرات الإفريقية بأنها لم تكن شيئاً قبل مجيء الرجل الأبيض، وخصوصاً أن هذه المواد كانت تنتقد رجال المقاومة، وتصوّرهم بأنهم كانوا بربريين وسفّاحين، ولم تكن تصوّرهم أبطالاً، مثل الإمام ساموري توريه جدّ سيكو توريه.
(3) Ali Mazrui (1999:68-73) General History of Africa VIII, Africa since 1935. UNISCO. Paris .
(4) A.Abu Boahen (1990:164-7) General History of Africa, VII Africa under Colonial Domination 1880-1935, UNISCO, Paris.
(5) Basil Davidson (1983) Modern Africa : A social and political history, Routlodge, London, P.70.
(6) Sekou Toure(1959) L’experience Guineenne et L’Unite Africaine, Impremerie Lemasson Saint-Lo (Manche). P 74-81.
(7) Sekou Toure (1959) L’experience Guineenne et L’Unite Africaine, Impremerie Lemasson Saint-Lo ( Manche). P 82.
(8) Basil Davidson (1983 :127) Modern Africa: A Social and Political History, Longman, London, New York.
(9) Sekou Toure (1959) L’experience Guineenne et L’ Unite Africaine, Impremerie Lemasson Saint-Lo, (Manche). P109.
(10) Roland Pré (1951 : 90) L’Avenir de la Guinée française, Imprimerie. de Lescaret, Paris.
(11) Bram Posthumus, (2016 :70-71) Guinea: Masks, Music and Minerals, Hurt & Co. ltd, London.
(12) Service de Documentation Extérieure et de Contre-Espionnage (SDECE).
خدمة التوثيق الخارجية والاستخبارات المضادة.
(13) أقرّ موريس روبرت، الجاسوس الفرنسي المكلف بشؤون غينيا، وكان دائماً على الخط المباشرة مع جاك فوكار كبير الجواسيس الفرنسيين، في كتابهMinistre de l’Afrique ، وفي مقابلة أجراها أندريه رينوت Andre Renault، بأن هذه العملية كانت ناجحةً جدّاً، وأن الأوراق المزيفة صُنعت بمعرفة الاستخبارات الفرنسية، وسُربت بواسطة الغِينيّين في المنفي في السنغال.
Andre Lewin, (2009:67-68) Ahmed Sekou Touré (1922-1984) Tome 4, L’Harmattan, Paris.
Roger Faligo (2012: 45-50) Histoire politique des Service Secret Français: de la seconde Guerre Mondiale a nos jours, La Découverte, Paris
(14) وهناك شهادات كثيرة تُلقي الضوء على قضية الأوراق النقدية المزيقة، منها مقتطفات من عمل الجنرال Aussaresses: «لم أقل كلّ شيء، السرّ النهائي في خدمة فرنسا»؛ قاله الجنرال في مقابلة مع Jean–Charles Denia:
جان: قد يبدو بأنّ قصة الأوراق النقدية المزيفة في الستينيات كانت معروفة لدى الجميع، لأجل إسقاط النظام في غينيا؟
الجنرال: لقد كانت الفكرة جيدة، إنها كانت فكرتنا، ولكنها لم تكن من اختصاص خدمة العمل(Service Action) ، لم أطلع على تفاصيل العملية، فالذي أعرفه فقط هو أنّ مورفان Morvan مدير الخدمة السابع (من الاستخبارات) هو الذي طبع الملايين من العملة الغينية المزيفة وإقحامها في اقتصاد غينيا من خلال قنوات مختلفة…، واعتقد أنّ هذه العملية سوف تكون ضربة خطيرة للاقتصاد الغيني.
(15) Roger Faligo (2012 : 45-50), Histoire politique des Service Secret Français: de la seconde Guerre Mondiale a nos jours, La Découverte, Paris.
(16) جورج طرابيشي (2001:20): أنظمة الاستبداد العقائدي: غينيا سيكو توري نموذجاً، جريدة الحياة, العدد 13847، ص 20.
(17) جبريل فابوري كروما:
http://afrikaar.com/7337/تأريخ-االاتحاد-الإفريقي
(18) جبريل فابوري كروما: http://www.alquds.uk/?p=383582
(19) www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/00064246.1974.11431439
(20) http://www.tandfonline.com/doi/abs/10.1080/00064246.1974.11431439
(21) Abdullah Al-Ahan (2017: 199) Conflict Resolution in Muslim Societies: the rule of the OIC. Qur’anic Guidance for Good Governance: A Contemporary Perspective. Islamic University of Malaysia.
(22) توفي بوبكر بوبكر جالو تيلي في 1 مارس 1977م، في «الخلية 52» من معسكر بويرو.
(23) في الحقيقة؛ كان معالي الوزير بوبكر تيلي جالو متوّرطاً في المؤامرات المنسوبة إليه، فاعتقله نظام سيكو توريه للتحقيق في القضية، ولكن الرئيس لم يأمر بتعذيبه وقتله، وبالعكس تأسّف لفَقْده، وقد كشف معالي السفير ورئيس البرلمان الغِيني السابق أبوبكر سومباريه، فيLe Grand Debat في 21 سنتمبر 2016م، أنّ سيكو توري كان يكلّف في كثيرٍ من الأحايين كو توريه بعمليات، فيتمّ إنجازها وتحقيقها قبل إخباره بها، «اتهامه (سيكو توريه) بقتل بوبكر جالو تيلي ليس صحيحاً، لمّا جاء كريم بانغورا لإبلاغه بوفاة جالو تيلي، قال له الرئيس: قتلتموه؟!!، لقد ارتكبتم هراء، سأتحمّل المسؤولية أمام الناس والتاريخ، ولكنكم ستجيبون أمام الله- يوم القيامة- حول كيفية وفاته».
(24) Charles E. Sorry (2000 :60) Sékou Toure- L’Ange Exterminateur, L’Harmattan. Paris.