كانت إفريقيا قبل مئات السنين تعيش آمنةً مطمئنةً، تبني حضاراتها التي -على بساطتها- يفتقر إلى مثلها العالم الآن، فأتاها المستعمر الأوروبي لا ليُعمّرها كما ادّعى، وإنما ليستنزف موارها ويستعبد أبنائها، ولما علت صيحات التحرُّر، بذر الأبيض بذور الفتن والصراعات في أرجاء القارة، وأجلى قوّاته وإدارته الاستعمارية التقليدية، لكنَّه ترك وكلاءَ ونُخبًا كمبرادورية احتكرت الثروة والسلطة، وظلت وفيَّة له تابعة له تبعيَّة العبد للسيد، وراح هو يبني في بلاده بثروات القارة المنهوبة، بأيدي الخونة والطماعين والأغبياء من أبنائها، الذين جعلوا اقتصاد بلادهم تابعًا لاقتصاد المستعمر، يضخّ فيه بلا هوادة، وتركوا شعوبهم تعيش على الفتات، وهو ما يجعلنا نُؤكّد على أن الاستقلال كان كذبةً كبرى، وأن إفريقيا لا تزال ترزح تحت نير الاستعمار المتحور، ولم تتحرّر، ولم تستقل جُلّ إن لم يكن كل بلدانها بعدُ.
ومع مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، انتفض ثُلّة من شبان غرب القارة العسكريين، وأطاحوا بحكام بلدانهم، كان أولهم “آسمي (عاصم) جويتا” Assimi Goita في مالي، ثم لحق به “ممادي (محمد) دمبويا” Mamady Doumbouya في غينيا كوناكري، ثم لحقهما “إبراهيم تراوري” Ibrahim Traoré في بوركينا فاسو، ومؤخرًا ظهرت بعض الرؤى وباتت المؤشرات الأولية تنبئ عن أن توافقًا جمع ثلاثتهم على تخليص بلدانهم من الاستعمار الفرنسي المزمن، ولا أدلّ على ذلك من قمة جمعت وزراء خارجية دول الترويكا([1]) الجديدة مؤخرًا.
وتثير هذه التطورات عدة تساؤلات؛ أهمها: ما الدوافع التي حَدَت بشباب العسكريين إلى سلوك هذا الطريق الشائك؟ وما أبرز المعوقات والمخاطر التي قد تُحبط طموحاتهم؟ وما أهم المآلات المحتملة لهذه التجربة التحررية؟
تجيب هذه الورقة عن هذه التساؤلات فيما يلي:
لمحة موجزة عن دول الترويكا الإفريقية الجديدة
1- مالي:
وصل الفرنسيون أراضي مالي الحالية أواخر القرن التاسع عشر، فأصبحت مستعمرة فرنسية، وعُرفت بـ “السودان الفرنسي”، وظلت تحت الاستعمار والإدارة الفرنسية حتى انفصلت (استقلت)([2]) عنها عام 1960م، وشهدت “باماكو” من حينها 10 عمليات انتقال للسلطة بين 9 رؤساء، جاء أربعة منهم عبر خمسة انقلابات عسكرية، والخمسة الباقين عبر 10 عمليات انتخابية، وكان لفرنسا يدٌ في جُلّ هذه الديناميات، باستثناء الانقلابين الذي قام بهما “جويتا” في أغسطس 2020م، ومايو 2021م، وبقدوم “جويتا” توترت علاقاته مع فرنسا، ثم تم إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في مالي، واختتم بقطع العلاقات الدبلوماسية تمامًا، فيما راح يمد جسور التعاون على نطاق واسع مع روسيا.([3])
2- غينيا كوناكري:
وصل الفرنسيون أراضي غينيا كوناكري الحالية منتصف القرن التاسع عشر، فأصبحت مستعمرة فرنسية وعُرفت بـ”غينيا الفرنسية”، وظلت تحت الاستعمار والإدارة الفرنسية حتى انفصلت (استقلت) عنها عام 1958م، وشهدت “كوناكري” من حينها 6 عمليات انتقال للسلطة بين 7 رؤساء، جاء أربعة منهم عبر 4 انقلابات عسكرية، والثلاثة الباقين عبر 10 عمليات انتخابية، وكان لفرنسا يد في جانب لا يستهان به من هذه الديناميات، غير أن “دومبويا” صاحب الانقلاب الأخير في سبتمبر 2021م، وفي ظل تصاعد مشاعر الكراهية الشعبية للوجود الفرنسي؛ اضطر لإعادة النظر في العلاقات الغينية الفرنسية، وراح يناور بالاتجاه شرقًا نحو روسيا.([4])
3- بوركينا فاسو:
وصل الفرنسيون أراضي بوركينا فاسو الحالية أواخر القرن التاسع عشر، فأصبحت مستعمرة فرنسية وعُرفت بـ”فولتا العليا”، وظلت تحت الاستعمار والإدارة الفرنسية حتى انفصلت (استقلت) عنها عام 1960م، وشهدت “واجادوجو” من حينها 13 عملية انتقال للسلطة بين 14 رئيسًا، جاء تسعة منهم عبر 9 انقلابات عسكرية، والخمسة الباقين عبر 8 عمليات انتخابية، وكان لفرنسا يد في جُلّ هذه الديناميات، غير أن “تراوري” صاحب الانقلاب الأخير في سبتمبر 2021م وفي ظل عدم استجابة فرنسا لمطالبه بتسليح متطوعين، وتصاعد مشاعر الكراهية الشعبية للوجود الفرنسي في ذات الوقت، أعلن أنه ليس هناك ما يمنع من تنويع الشراكات الخارجية، وبدأت علاقته مع فرنسا في التوتر، ثم شرع في التعاون التدريجي مع روسيا.([5])
التوافق الثلاثي على التَّحرُّر من قبضة فرنسا:
قديمة هي نظرية الاستعمار الجديد (المتحور)؛ فقد دشَّنها زعيم غانا التاريخي “كوامي نكروما” Kwame Nkrumah في كتابه “الاستعمار الجديد: آخر مراحل الإمبريالية” (1966م)، وأكَّدها بعده “جاك ووديس” Jack Woods في كتابه “مقدمة إلى الاستعمار الجديد: الإمبريالية الجديدة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية” (1967م)، ثم تواتر على تأكيدها من الشواهد الواقعية والدراسات والبحوث ذات الصلة ما يكفي للجَزْم بصحتها.
وقد ضاقت الشعوب الإفريقية ذرعًا باستنزاف المستعمر المستدام لموارد بلدانهم، وبحياتهم البائسة في كلّ أبعادها، وبدأت صيحات غَضْبتها تتصاعد، وموجات ثورتها تتتابع، فانبرى هؤلاء الشبان سواءٌ كان رثاءً لحال بلدانهم، أو تلبيةً أو إذعانًا لهَبَّاتِ شعوبهم، وأخذوا زمام المبادرة إلى التحرر -كلٌّ منفردًا، وكلٌّ على طريقته- من قبضة “استعمار” فرنسا، في تَحدٍّ واضح لها ولخاضعيها في المنظمة الإقليمية “المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا” “إيكواس” Economic Community of West African States “ECOWAS”، وتحمَّلوا الكثير من الضغوط، وواجهوا الكثير من المعوّقات.([6])
وكانت أولى الخطوات التي اتخذها قادة دول الترويكا الجدد، هي التحرُّر من قبضة “المستعمر” الفرنسي، فقررت مالي الاستغناء عن الخدمات الفرنسية، بما في ذلك إنهاء الوجود العسكري والدبلوماسي والقطيعة الشاملة، وأبلغت بوركينا فاسو السفير الفرنسي بأنه شخص غير مرغوب فيه، وطلبت استبداله، وكان ذلك مفاجأة لفرنسا التي لم تحمل الأمر على محمل الجد لأول وهلة، وحاولت امتصاص الصدمة؛ إلا أن بوركينا فاسو عاجلتها بإشعارها بفسخ اتفاق الوجود العسكري، وطلب سحب قواتها. فاستجابت فرنسا مضطرة، وحددت آخر فبراير 2023 موعدًا لإتمام الانسحاب، وسحبت سفيرها للتشاور حول الوضع الحالي، غير أن قرارًا نهائيًّا بقطع العلاقات الدبلوماسية لم يُعلَن بعدُ، وعلى الرغم من الفتور الذي يعتري علاقات البلدين، فَضَّلَت غينيا كوناكري عدم التصعيد مع فرنسا، وهو ما يُلْقِي بظلال من الشك حول نوايا “دومبويا”.([7])
وتمثلت ثاني الخطوات التي تَوافَق قادة دول الترويكا عليها هي التوجُّه شرقًا، باتجاه فتح مجال التعاون مع روسيا بدرجات متفاوتة، كان أكبرها تعاون مالي متعدّد الأبعاد واسع النطاق، وأوسطها تعاون بوركينا فاسو العسكري والاقتصادي المتنامي، والذي أفصح عنه الرئيس الغاني “نانا أكوفو أدو”Nana Akufo-Addo، وعلى الرغم من أن هذا الإعلان أثار توترًا دبلوماسيًّا بين “واجادوجو” “وأكرا”، إلا أنَّ “واجادوجو” لم تنفه ولم تقرّ به([8])، وأقلها مشاورات التعاون الغينية المحدودة مع روسيا، والتي لا يُعرَف حتى الآن ما إذا كان التعاون مقصودًا لذاته، أم التشاور بشأنه يجري على سبيل مناورة فرنسا.([9])
وتمثلت ثالث الخطوات التحررية في بدء قادة دول الترويكا، التنسيق المشترك في لقاءات ثنائية بين غينيا ومالي، التقى فيها وزير خارجية مالي “عبدولاي (عبد الله) ديوب” Abdoulaye Diop والوفد الوزاري المرافق له، بالرئيس الغيني الانتقالي “دومبويا” في “كوناكري”، ثم زار “دومبويا” “باماكو” والتقى الرئيس المالي الانتقالي “جويتا”، وكذلك بين بوركينا فاسو ومالي، والتقى فيها الرئيس الانتقالي البوركينابي “تراوري” الرئيس المالي الانتقالي “جويتا” في “باماكو”، وتمخضت هذه المشاورات الثنائية عن عقد قمة مصغرة في “واجادوجو”، في 9 فبراير 2023م، ضمت “أوليفيا روامبا” Olivia Rouamba وزيرة خارجية بوركينا فاسو، و”عبد الله ديوب” وزير خارجية مالي، و”موريساندا كوياتي” Morissanda Kouyaté وزير خارجية غينيا.([10])
وقد أسفرت هذه القمة الوزارية، عن إدانة دول الترويكا للعقوبات المفروضة عليهم بشكل آليّ، دون أخذ الأسباب العميقة والمعقّدة للتغييرات السياسية في بلدانهم في الاعتبار، وعن اتفاقهم على تبادل الجهود بينهم، والقيام بمبادرات مشتركة؛ لرفع إجراءات تعليق عضوية بلدانهم، وتخفيف القيود الأخرى التي اتخذها الاتحاد الإفريقي، ومجموعة “إيكواس”. وفي إطار مكافحة ظاهرة انعدام الأمن في قطاع الساحل والصحراء، أكد المؤتمرون على ضرورة تضافر جهود بلدانهم، وكذا دول المنطقة، في مجال مكافحة هذه الآفة. كما تضمَّن البيان الصادر عن القمة إعلانًا عن قائمة طويلة من المشاريع المشتركة، بينها توريد المحروقات والكهرباء، وتطوير التجارة، والنقل من ميناء كوناكري، والتنظيم المشترك للتعدين، وبناء خط سكة حديد يربط بين العواصم الثلاث، وبناء طرق نقل بينية وداخلية جديدة، وهو ما ينبئ عن تصميم القادة الجدد على قطع طريق التحرر حتى منتهاه، وعن أنه قد يجمعهم لقاء قمة رئاسية قريبًا.([11])
أسباب ودوافع التحرر من قبضة “المستعمر”:
كانت موالاة وفساد النخب السياسية وكبار قادة الجيوش، في إفريقيا عمومًا، وفى دول الترويكا بوجه خاص، الضمانة الكبرى لاستمرار تحكم “المستعمر” في سياسات الدولة، بما يؤمّن مصالحه الاقتصادية التي تستهدف في نهاية المطاف: الاستحواذ على موارد وثروات الدولة بلا مقابل أو بأبخس الأثمان، والاستحواذ على السوق المحلية لتصريف منتجاته، واحتكار الفرص الاستثمارية لرؤوس أمواله بعقود جائرة وعوائد خيالية، فكانت فرنسا تدعم مثل هذه الفئة من السياسيين والعسكريين، وتساعدهم على تولّي المناصب، وتؤمِّن بقاءهم لأطول فترة ممكنة، وهو ما أثار حميةَ جيلٍ جديدٍ من صغار العسكريين، غير المتورطين في مثل هذه الأعمال، باتجاه تخليص بلادهم من هذه التبعية.([12])
ولقد كان من أسوأ مظاهر فساد النُّخب السياسية وكبار قادة الجيوش: محاباة وتمكين حاشيتهم وأقاربهم ومقرّبيهم، من مناصب السلطة ومصادر الثروة، وهو ما تسبَّب في تكوين طبقة من البرجوازية الـ “كمبرادورية” Compradorians الفاسدة([13])؛ الأمر الذي أدَّى كمحصلة نهائية إلى تبديد موارد الدول، والتفاوت الكبير في توزيع عوائدها، وانتشار الفقر بين الغالبية العظمى من سكانها، وهو ما أثار سخط الشعوب، وأثار تطلعات هذا الجيل الجديد من صغار العسكريين نحو تغيير هذه الأوضاع البائسة.
كما تسبب انشغال النخب السياسية بالوصول إلى السلطة، ثم تثبيت دعائمها وتأبيدها في أيديهم، عن تحقيق الأمن الوطني والإنساني، في ترسيخ حالة مزمنة من الانفلات الأمني، وانتشار الفوضى، والعنف، والإرهاب، والجريمة المنظمة، في الوقت الذي تعاني الجيوش من إهمال التسليح، والتدريب، والتطوير، والتحديث، باستثناء ما يتصل بحفظ أمن الأنظمة، ما ألقى عبئًا كبيرًا على أفراد المواجهة من هذه الجيوش، من الجنود وصغار الضباط والقادة، وكبَّدهم خسائر فادحة في الأرواح في مواجهاتهم العملياتية، ناهيك عن إهمال كافة وظائف الدولة، ومِن ثَم تدنّي كافة الخدمات الحكومية، من صحة وتعليم وطرق ومرافق … إلخ، وهو ما زاد من حالة الغضب والتذمُّر لدى الشعوب، وحدا بالجيل الجديد من صغار العسكريين إلى البحث عن مَخْرج يُوقِف هذا التدهور الكبير المزمن.
ومن أهم دوافع وأسباب مسلك القادة الجدد -سواء كان رغبةً واختيارًا أو دفعًا واضطرارًا-: تنامي الشعور العام بعدم الرضا والسخط والغضب، لدى شعوب دول الدراسة، وخروجها عن صمتها، وتصاعد احتجاجاتها في موجات ثورية متتالية، اتَّسم بعضها بالحِدَّة والشدة، بل والعنف أحيانًا، وهو ما يُنْذِر بانفجار الأوضاع، والوصول إلى ما وصلت إليه أحوال بعض دول الربيع العربي الموءود.([14])
ولم يكن ما تقدم سوى غيض من فيض الدوافع والأسباب، التي حَدَت بالجيل الجديد من صغار العسكريين، إلى الانقلاب على النُّخَب السياسية الخاضعة للغرب، فلا يتَّسع المقام هنا إلى بسط التأثيرات السلبية متعددة الأبعاد، والتي ترسَّخت عبر الزمن، كنتيجة حتمية لاستمرار “الاستعمار” الغربي لإفريقيا، في أشكاله غير التقليدية، وبصفة خاصة في دول الترويكا محل الدراسة، والتي فقدت أو كادت أن تفقد بسببها مقوّمات الدولة، وكانت سببًا رئيسيًّا في اختيار القادة الجدد خوض تجربة التحرر.
معوقات ومخاطر التحرر من قبضة “المستعمر”:
ليس بخافٍ على أحد ما يمكن أن تنطوي عليه تجربة التحرر الناشئة، وخاصةً إذا كانت كما في حالتنا على غير مثال سابق، فلا يمكن -وإن كان بعضه متصورًا- توقع رد فعل الغرب، وفي القلب منه فرنسا في حالة دول ترويكا التحرر، وهي دُوَل هشَّة بطبيعة الحال، ويسهل العبث فيها على أصعدة وعلى مستويات متعددة، فأقل ما تُوصَف به أنها لا تبسط سلطانها على كامل أراضيها، ولا تملك من الإمكانيات المادية، ولا اللوجستية، ولا العسكرية، ولا التكنولوجية، ولا الاستخباراتية التي تُمكّنها من مواجهة فرنسا، إذا ما قررت -وقد فعلت- أن تَعِيث في أرجاء البلاد تخريبًا وتدميرًا، بغرض إخضاع الأنظمة الناشئة غير الموالية لها، ناهيك عن المعادية لها. ولا غرو في اعتبار ذلك عداءً صريحًا، فلا نبالغ إذا ما اعتبرنا أن مصدر قوة وتقدُّم الغرب يعتمد بأكثر من 75% على ثروات وموارد وأسواق إفريقيا، فاستمرار علاقاته بإفريقيا على حالها من التبعية والخضوع، يُمثّل بالنسبة له مصالح حيوية بل مصيرية في عدة أحوال.([15])
ومن أجل هذا؛ فمن المرجّح أن تلجأ فرنسا -ولها باعٌ طويلٌ في ذلك- إلى استخدام الكثير من الأساليب والأدوات، لتحمل القادة الجدد على العودة بدولهم إلى حظيرة الاستعمار، ومن ذلك الانقلابات العسكرية، فدُول الترويكا مهيَّأة لها تمامًا، فقد شهدت 18 انقلابًا بخلاف المحاولات التي لم تكتمل، وكان لفرنسا يد طولى في كثير منها، بل وتتحدث تقارير -وبحق- عن أنها دعمت جُلّ انقلاباتها، بما في ذلك انقلاب بعض هؤلاء القادة الجدد، قبل أن تظهر توجهاتهم([16]).
وكذلك تأجيج الصراعات الإثنية الملتهبة أصلاً في هذه الدول. ومن أوضح الأمثلة على ذلك: تأليب الحركات الأزوادية في شمال مالي ضد السلطات الجديدة، وتحريضهم على الانسحاب من الحوار الوطني، بل وحمل السلاح ضد الدولة، ومن ذلك أيضًا دعم وتنشيط التنظيمات الارهابية، والتي لا تنفك تقارير عديدة عن الحديث عن ارتباطها بالوجود الفرنسي في غرب إفريقيا والساحل([17]).
وعلى نفس المنوال زيادة نشاط شبكات الجريمة المنظمة التي تخترق أرجاء ومؤسسات هذه الدول، ومن جانب آخر سوف تدفع فرنسا بما لها من ثقل استراتيجي في أروقة الاتحاد الإفريقي والـ”إيكواس”، باتجاه استخدام كل أدوات الضغط على تلك الأنظمة الناشئة، بذرائع مشروعة، لكنها لا تراعي خصوصية الحالات محل الدراسة، كما يرجح أنها سوف تستخدم سلاح الديون، وسعر الصرف، وبخاصة في ظل الارتباط النسبي بين الفرنك الفرنسي والعملات المستخدَمة في غرب ووسط إفريقيا([18]).
وقد تؤدي الحاجة المُلِحَّة إلى مواجهة هذه المخاطر، إلى الوقوع في مخاطر من ذات النوعية أو أشد خطرًا، وهي الاتجاه شرقًا والوقوع في قبضة مستعمر آخر مثل روسيا والصين، وهما لا يَختلفان ألبتة في أهداف التعاطي مع الدول الإفريقية عن الغرب، وإن اختلفا في الأساليب والوسائل والأدوات، ولنا فيما حدث من سوابق في الستينيات مثال، فمع تنامي مشاعر الكراهية للاستعمار، وابتهاجًا بالجلاء الزائف، اندفعت جُلّ إن لم يكن كل الدول الإفريقية، نحو الاشتراكية والاتحاد السوفييتي، وتبنَّت مقاربات سياسية واقتصادية لا تلائم البيئة الإفريقية، فكان نتاجها مزيجًا ومزيدًا من الاستبداد والتخلف والفقر، ومِن ثَم قرّر الأفارقة الفرار مرة أخرى نحو الغرب، وما نَصبه من فخاخ الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي ([19]).
وها هو التاريخ يُعاد في عصرنا الراهن، بعودة روسيا وبقوة إلى الفضاء الإفريقي، مع التخلّي عن الأدوات الأيديولوجية، فدُوَل الترويكا -كما مر معنا- فتحت الباب بدرجات متباينة للتعاون مع روسيا، لملء الفراغ الناشئ عن التحرر من قبضة فرنسا، وهو ما يُنذر بأن تصبح هذه الدول -إن لم تنتبه جيدًا- كالمستجير من الرمضاء بالنار.
نظرة مستقبلية: مآلات التوجهات التحررية لدول الترويكا
من المبكر جدًّا محاولة استشراف مآلات التوجهات التحررية لدول الترويكا محل الدراسة، ذلك بأن مستقبل التجربة يعتمد على أربعة متغيرات رئيسية: أولها سلوك فرنسا ورد فعلها حيال استشعارها الخطر، جراء فقدانها السيطرة على دول الترويكا، وبالتأكيد فهي لن تقف مكتوفة الأيدي، وخاصةً أن الفرص مهيأة لانتقال عدوى التحرر الجديد إلى دول أخرى. وثانيها قدرة القادة الجدد، على مواجهة المخاطر المحتملة لتحرُّرهم من الهيمنة الفرنسية، وتعاونهم مع روسيا، وهي أمور يصعب تقديرها الآن، وثالثها قدرة روسيا على ملء الفراغ الناشئ عن التحولات الجديدة، وقدرتها على تبديد المخاوف من التعاون معها وتحقيق نتائج أفضل، وهي مسائل يصعب تقديرها الآن أيضًا، ورابعها موقف الولايات المتحدة وباقي الدول الأوروبية، والقوى الدولية والإقليمية الصاعدة، والتي لن تقف يقينًا في موقف المتفرج من هذه التحولات الجذرية.
ومن نافلة القول يؤكد الباحث: أن التحمُّس لهذا التوجه التحرري، لا يعني بالضرورة الترحيب بالتغيير غير الدستوري للسلطة، وأن الانفكاك من بين أنياب الغرب لا يعني بالضرورة القبول بالوقوع في براثن الشرق، فكل ذلك كالميتة للمضطر ولمن يدفع عن نفسه خطر الهلاك.
([1]) مصطلح سياسي يشير إلى اجتماع ثلاث دول على رأي سياسي واحد تجاه قضية معينّة.
([2]) يرى الباحث أن استقلال الدول الإفريقية على اختلاف أسبابه، كان استقلالاً شكليًّا لم يتعدَّ جلاء القوات العسكرية وطواقم الحكم والإدارة الاستعمارية، مع استمرار تبعية الدولة الناشئة للمستعمر سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا بصورة أو بأخرى.
([3]) حامد فتحي، “لماذا قطع الحكام العسكريون في مالي العلاقات مع فرنسا؟”، على موقع حفريات، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023 الساعة 12:05م على الرابط: https://2u.pw/sEG8Li
([4]) صلاح خليل، “التنافس خارج المجال: أهداف توسيع النفوذ الروسي في إفريقيا، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023 الساعة 12:10م على الرابط:
https://ecss.com.eg/32740/
([5]) بتول دياب، “بوركينا فاسو تطرد قوات فرنسا.. ما مكامن القوة في القرار والتنفيذ؟”، على موقع الميادين، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 12:15م على الرابط: https://2u.pw/zLvelL
([6]) موقع البيان، 3 دول إفريقية في مرمى عقوبات «إيكواس»، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023 الساعة 12:20م على الرابط: https://www.albayan.ae/world/global/2022-07-03-1.4469103
([7]) محمد صالح عمر، “تناقصت مساحة نفوذها.. هل تتحرك الرمال في إفريقيا تحت أقدام فرنسا؟”، على موقع الجزيرة نت، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023 الساعة 12:25م على الرابط: https://2u.pw/geTYm1
– يورو نيوز العربية، ” فرنسا تستدعي سفيرها لدى بوركينا فاسو وسط توترات”، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 12:25م على الرابط:
https://arabic.euronews.com/2023/01/26/france-recalls-its-ambassador-to-burkina-faso-amid-tensions
([8]) وكالة مدار، “هل تنجح بوركينافاسو في إقامة تعاون مشترك مع روسيا وفرنسا؟”، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 12:30م على الرابط: https://madar.mr/topics/22977.html
– وكالة الأناضول، “بوركينا فاسو.. ما حقيقة تعاقد المجلس العسكري مع فاغنر؟”، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 12:35م على الرابط: https://2u.pw/fv3GaK
([9]) موقع مصر وإفريقيا، “غينيا كوناكري تعزز تعاونها العسكري مع روسيا”، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 12:40م على الرابط: https://2u.pw/YhagSe
– محمد قواص، “فرنسا تترنح في إفريقيا.. والأفارقة يكتشفون قارتهم”، على موقع سكاي نيوز عربية، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023 الساعة 12:45م على الرابط: https://2u.pw/4neo5s
([10]) بانا برس، “وفد مالي أدى زيارة لغينيا، أمس الاثنين، لتعزيز علاقات التعاون بين البلدين”، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023 الساعة 12:50م على الرابط: https://2u.pw/43p79m
– وكالة أنباء الأخبار الموريتانية، “دومبويا يبدأ زيارة لمالي هي الأولى له منذ الإطاحة بكوندي”، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 12:55م على الرابط: https://alakhbar.info/?q=node/42954
– وكالة أنباء الأخبار الموريتانية، “بوركينافاسو: تراوري يزور مالي كأول وجهة خارجية له منذ الانقلاب”، على الموقع الإلكتروني، https://alakhbar.info/?q=node/43846
– وكالة الأنباء الإفريقية “أبا”، “بوركينا فاسو.. زيارة رسمية للوزير الأول إلى مالي، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 1:00م على الرابط:
http://apanews.net/ar/news/borkyn-fso-zyr-rsmy-llozyr-laol-l-mly
([11]) العين الإخبارية، “عسكر باماكو وكوناكري وواغادوغو.. محور طموح لكنه صعب”، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023 الساعة 1:05م على الرابط:
https://al-ain.com/article/mali-guinea-burkina-faso-axis-ambitious-difficult
([12]) موقع تي آر تي عربي، “فرنسا وإفريقيا.. ”استعمار” متواصل ونهب مستمر للثروات”، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023 الساعة 1:10م على الرابط: https://2u.pw/GFnW2c
([13]) الكمبرودايون هم طبقة من أصحاب رؤوس الأموال المتحالفين مع رأس المال الأجنبي تحقيقًا لمصالحهم وللاستيلاء على السوق الوطنية. تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 1:15م.
([14]) بول ميلي، “لماذا لم تعد فرنسا محل ترحيب في غرب إفريقيا؟”، على موقع بي بي سي نيوز عربية، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 1:17م على الرابط:
https://www.bbc.com/arabic/world-59541641
([15]) أحمد المريني، “نهب للثروات ودعم للمستبدين.. ماذا تعرف عن علاقة أوروبا بإفريقيا؟”، على موقع الجزيرة، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 1:20م على الرابط: https://2u.pw/KiPHDJ
([16]) عبد القادر بن مسعود، “«عرّابة الانقلابات في إفريقيا» .. هل تقود فرنسا قريبًا انقلابًا في الجزائر؟”، على موقع ساسة بوست، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 1:25م على الرابط:
https://www.sasapost.com/will-france-lead-a-coup-in-algeria-soon/
([17]) موقع هسبرس، فرنسا تتورط في تمويل “داعش” ومساندة التنظيمات الإرهابية بالقارة السمراء، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 1:25م على الرابط: https://2u.pw/YBgClA
– موقع الغد، “رئيس وزراء مالي: فرنسا تدعم جماعات انفصالية وتسعى للإطاحة بالحكومة”، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 1:30م على الرابط: https://2u.pw/DDrfgb
([18]) موقع الميادين، “الفرنك الإفريقي في خدمة فرنسا .. عن آخر عملة استعمارية في العالم”، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 1:35م على الرابط: https://2u.pw/aXYQP9
([19]) د. حمدي عبد الرحمن، “عودة الدب الروسي: روسيا وإفريقيا واقترابات القوة البديلة”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، على الموقع الإلكتروني، تحققت آخر زيارة في 15 فبراير 2023م الساعة 1:40م على الرابط: https://2u.pw/3RSgQl